بحوث في علم الأصول - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٢

طلب الطبيعة ، وهذا واضح الفساد لوضوح عدم وحدتهما في المدلول.

وفيه ـ انه مبني على ان النهي طلب الترك مع انه ليس كذلك بل هو الزجر والمنع المتعلق بالطبيعة أيضا التي هي مفاد المادة من دون أخذ العدم ولا الوجود في جانب المدلول.

وأيا ما كان فهذه أقسام خمسة للأعراض ، وهناك قسم سادس وهو الأعراض الذهنية التي تكون حالة لكيفية لحاظ الشيء الخارجي من قبيل عنوان أحدهما ومجموعهما وجميعهما ، فان هذه العناوين وإن كان يوصف بها الشيء الخارجي لا الذهني فليس من قبيل الأعراض الذهنية التي تكون معقولات ثانوية عند المناطقة أعني القسم الأول المتقدم ، ولكنه مع ذلك يختلف عن الأقسام الأخرى أيضا في انها لا تكون إضافة شيء إلى الموضوع الموصوف بها فان زيدا الّذي يتصف بأنه أحدهما لا ينضاف إليه شيء زائد على نفسه حتى في عالم الاعتبار والذهن فضلا عن الخارج ، وانما هذا العنوان تعبير عن كيفية لحاظ الذهن وتصوره للموضوع وانه ملحوظ بنحو غامض مجمل مثلا أو بنحو مجتمع أو غير ذلك فهي حدود للحاظ والتصور الّذي يتمكن منه الذهن البشري في مقام التعبير عن الخارج والإشارة إليه.

هذه هي المقدمة التي أردنا تمهيدها للدخول في بحث تعلق الأحكام بالطبائع أو بالأفراد.

والواقع ان بحث تعلق الحكم بالطبيعة أو بالفرد قد أغلق فهم ما كان يقصده منه الأقدمون من علماء الأصول عند ما أدرجوه في هذا العلم ولذلك اختلفت تفسيراتهم في اتجاه وصياغة هذا البحث ، ونحن نذكر فيما يلي الصياغات المتصورة لهذا البحث.

الصياغة الأولى : ان النزاع المذكور انما هو في تحديد ان الواجبات الشرعية التي يجب فرد منها على سبيل البدل وبنحو التخيير هل يكون التخيير فيها عقليا أو شرعيا فعلى القول بتعلق الأحكام بالطبائع يكون التخيير عقليا إذ لا يكون كل فرد من الأفراد مأمورا به بعنوانه بل هناك حكم واحد متعلق بالطبيعة التي تكون نسبتها إلى الأفراد على حد واحد والترديد فيما بينها عقلي.

وهذا هو المراد بالتخيير العقلي في المقام. وعلى القول بتعلقها بالأفراد تكون هنا لك

٤٠١

أحكام عديدة بعدد الأفراد ولكن على سبيل البدل وهذا هو التخيير الشرعي في المقام.

إذن فالقائل بتعلق الأحكام بالأفراد يقصد بذلك نفي التخيير العقلي في باب الأحكام.

وقد استبعد الميرزا ( قده ) أن يكون هذا غرض الأصوليين القدماء من عقد هذا البحث ، وذلك لوضوح عدم المحذور في التخيير العقلي وعدم الكلام فيه وانما الكلام بينهم في التخيير الشرعي (١).

ونحن نضيف على ذلك انه لا يمكن إنكار التخيير العقلي حتى لو قيل بتعلق الحكم بالأفراد والحصص على سبيل البدل ، وذلك باعتبار أن العنوان تارة : يؤخذ مشيرا إلى حصة معينة وفرد في الخارج مفروغ عنه ، وأخرى : لا يؤخذ كذلك. فعلى الأول لا يمكن تعلق الأمر به ، لما تقدم من انه تحصيل للحاصل وان متعلق الأمر لا بد وأن يكون المفهوم بما هو هو لا بما هو مشير إلى واقع خارجي مفروغ عنه. وعلى الثاني يكون متعلق الأمر مفهوما كليا مهما ضيق وحصص وقيد بقيود مختلفة إذ يبقى مع ذلك كليا ما لم يفرغ عن وجوده الّذي يكون به التشخص الحقيقي.

نعم لو فرض اختيار المسلك القائل بعروض الوجود على الماهية الشخصية الّذي يعني تعقل التشخص في الماهية بغير الوجود أمكن تعلق الحكم بالفرد بمعنى الماهية الشخصية دون أن يلزم تحصيل الحاصل ولا يكون تخييرا عقليا حينئذ إلا أن هذا المسلك غير مقبول في نفسه على ما حقق في محله.

الصياغة الثانية ـ ما أفاده الميرزا ( قده ) من ان البحث عن تعلق الأحكام بالطبائع أو الأفراد مربوط بالمسألة الفلسفية في تشخيص معروض الوجود والإيجاد الخارجي وانه هل يعرض على الماهية الشخصية أو على ذات الماهية والطبيعة ويكون التشخص بالوجود نفسه ، فعلى الأول يلزم أن يكون الحكم متعلقا بالفرد لا الطبيعة لأن الإرادة التكوينية دائما سوف تتعلق بإيجاد الماهية الشخصية فلا بد للإرادة التشريعية أن يتعلق بها أيضا ، لأنها انما تتعلق بما يتعلق به الإيجاد والإرادة

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٢١٠.

٤٠٢

التكوينية وتكون على وزانها ، واما إذا قيل بعروض الوجود على ذات الماهية كانت الإرادة التكوينية متعلقة بها لا محالة ومعه لا مانع من تعلق الإرادة التشريعية والحكم بالطبيعة. وفرع على ذلك ثمرة حاصلها : انه بناء على تعلق الحكم بالماهية الشخصية لا يمكن اجتماع الأمر والنهي لأن العنوانين وإن فرض تغايرهما عنوانا ومفهوما غير انه لا إشكال في أن كل واحد منهما من مشخصات الآخر فيتحد متعلق الأمر مع النهي وهو مستحيل ، وهذا بخلاف ما إذا قيل بذات الماهية والطبيعة إذ يكون متعلق الأمر طبيعة ومتعلق النهي طبيعة أخرى وإن تصادقا في واحد (١).

أقول : في هذا الكلام مواقع للنظر نقتصر على ذكر واحد منها. وهو انه لا ترتب بين هذه المسألة والمسألة الفلسفية ، إذ ليس من الضروري على من يقول في المسألة الفلسفية بأن الوجود يعرض على الماهية المشخصة وان المشخصات مأخوذة في موضوع الوجود أن يقول بلزوم تعلق الإرادة التشريعية بالماهية الشخصية أيضا بل يمكن أن يلتزم مع ذلك بتعلقها بذات الماهية. ودعوى : لزوم كون متعلق الإرادة التشريعية هو متعلق الإرادة التكوينية أول الكلام ، إذ البرهان انما قام على أن الإرادة التشريعية للمولى لا بد وأن تكون متعلقة بشيء يعقل صدوره من المكلف خارجا لكيلا يلزم التكليف بغير المقدور ، ومن الواضح ان ذات الماهية في المقام يمكن صدورها وتحت قدرة المكلف وليس التكليف بها تكليفا بغير المقدور.

الصياغة الثالثة ـ ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) في المقام وحاصله : ان البحث المذكور مرتبط بالمسألة الفلسفية المعروفة لوجود الطبيعي في الخارج وعدم وجوده ، فعلى القول بوجوده يكون تعلق الحكم به أيضا معقولا ، وعلى القول بعدم وجوده في الخارج وان الموجود في الخارج الفرد دائما لا يمكن تعلق الحكم به لأنه تكليف بغير المقدور.

ولا يخفى أن هذا التوجيه لهذا البحث مشترك مع التوجيه السابق الّذي أفاده الميرزا ( قده ) من حيث ربط المسألة الأصولية بالمسألة الفلسفية وان الوجود متعلق

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

٤٠٣

بذات الطبيعة أو الطبيعة المشخصة ، إلا أنهما اختلفا في بيان كيفية تأثير تلك المسألة في المقام ووجه استلزام القولين هنا للقولين هناك.

وأيا ما كان يرد على هذا التفسير : ان النزاع حول وجود الطبيعي في الخارج وعدم وجوده انما هو في الوجود بالذات والحقيقة لا في مطلق الوجود ولو بالعرض ، إذ لا إشكال في ان الطبيعة يكون لها نحو وجود في الخارج ولو بالعرض ، ببرهان صحة حملها على الوجود الخارجي بالحمل الشائع فيقال « زيد إنسان » ولو لا الاتحاد لما صح الحمل فهذا يكشف عن وجود نحو اتحاد في الوجود بين الطبيعي والفرد الخارجي ، وهذا يكفي لتعلق الأمر والإرادة التشريعية بها ويطلب إيجادها بهذا النحو في الخارج ولا يلزم منه التكليف بغير المقدور كما هو واضح.

بل قد عرفت انه لا يعقل تعلق الأمر بالأفراد لأن التشخص والفردية انما يكون بالوجود فلو كان متعلق الأمر هو الطبيعة المشار بها إلى وجود حقيقي مفروغ عنه كان تحصيلا للحاصل وإلا كان متعلقه كليا لا محالة.

الصياغة الرابعة ـ ان التشخص الحقيقي وإن كان بالوجود إلا انه مع ذلك بحسب النّظر العرفي تكون المشخصات الخارجية التي هي في طول التشخص الحقيقي ، من قبيل اللون والطول والعرض والكون في مكان معين وزمان معين وغير ذلك هي المشخصة للفرد رغم كونها بالدقة ضمائم عرضية ومصاديق لماهيات أخرى كلية ، فحينما يسأل أحد من هو زيد؟ يستعان بهذه المشخصات لتعيينها وبضمها إلى الوجود المحور لهذه المشخصات يتحقق ما نطلق عليه اسم الفرد ونطلق على ذات الوجود اسم الحصة ، فالفرد عبارة عن ذاك الوجود المنضم إليه تلك المشخصات العرفية والحصة عبارة عن ذات ذاك الوجود المتشخص مع غض النّظر عن مشخصاته العرفية. إذا اتضح هذا فنقول : يمكن أن يكون المقصود من مبحث تعلق الأمر بالطبائع أو الأفراد ان الأمر هل يسري بحسب جعله أو بحسب التطبيق إلى الأفراد أي إلى الوجود بما له من ضمائم أو لا؟ فمعنى تعلق الأمر بالأفراد السريان والتوسع في دائرة التطبيق بلحاظ هذه الضمائم أو السريان والتوسع بلحاظها بحسب عالم الجعل أو على الأقل بحسب عالم

٤٠٤

الحب فلا يبقى الحب على ذات الصلاة بل يسري إلى الضمائم من قبيل أن تكون في مكان ما أو زمان ما ونحو ذلك لاحتياج الصلاة إليها فلئن كان لا يعقل السريان بحسب التكليف فباعتبار لا بدية وقوع هذه المشخصات وحتميتها لا أقل من السريان بحسب روح التكليف وهو الحب.

وفي مقابل ذلك القول يتعلق الأمر بالطبيعة أي انه لا يسري إلى تلك الضمائم لا بحسب الجعل ولا بحسب روحه ولا بحسب التطبيق ، لأن الجعل تابع لملاكه والملاك انما هو في ذات الطبيعة ولو فرضت لا في زمان أو مكان ، ومجرد الملازمة لا يوجب سريان الحب إلا بناء على وحدة المتلازمين في الحكم. واما بحسب التطبيق فلأن مطبق الماهية انما هو الحصة والعوارض كل واحد منها مطبق لماهية أخرى فلا معنى للسريان إليها. والأثر العملي لذلك انه لو قلنا ان الحرام هو الكون في المكان المغصوب ، وقلنا ان هذا الكون من العوارض لماهية الصلاة فبناء على تعلق الأمر بالطبيعة لا بأس باجتماع الأمر والنهي ولا يلزم من ذلك اجتماع الضدين على مصب واحد ، اما بناء على تعلقه بالفرد فالكون في المكان صار مصداقا للواجب أو للمحبوب فيلزم الاجتماع وقد اتضح من خلال هذا البيان ان الحق هو تعلق الأمر بالطبائع.

٤٠٥
٤٠٦

الواجب التخييري

قد عرف الواجب التخييري : بالواجب الّذي يجوز تركه إلى بدل في قبال الواجب التعييني الّذي لا يجوز تركه إلى بدل.

وقد أثير حول هذا التفسير للواجب التخييري إشكال اشتماله على ما يبدو تناقضا ، حيث ان وجوب شيء يستبطن عدم جواز تركه مع انه افترض فيه جواز الترك وهذا تناقض.

وحلا لهذا الإشكال طرحت عدة نظريات :

النظرية الأولى ـ تفسير الواجب التخييري بأنه عبارة عن إيجاب الفرد الّذي يختاره المكلف من البدائل فما سوف يختاره المكلف خارجا واقعا يكون هو الواجب على المكلف تعيينا دون غيره ، وبذلك يرجع الواجب التخييري إلى الواجب التعييني.

وقد أخذ السيد الأستاذ على هذه النظرية بعدة مؤاخذات :

الأولى ـ انه خلاف قاعدة الاشتراك الدالة على وحدة الأحكام بالنسبة إلى المكلفين واشتراك المسلمين جميعا فيها إذ يستلزم أن يكون الواجب في حق من يختار العتق مثلا غير ما هو الواجب في حق من اختار إطعام ستين مسكينا أو ما هو الواجب

٤٠٧

في حق من اختار صيام شهرين متتاليين (١).

الثانية ـ انه غير معقول ثبوتا لأنه يرجع إلى إيجاب الفعل الّذي يختاره المكلف والأمر بما يختاره المكلف مساوق مع تحصيل الحاصل فيكون محالا (٢).

وهاتان المؤاخذتان متهافتتان فيما يفترض لكل منهما فلا يمكن الجمع بينهما وتوضيح ذلك : ان عنوان ما يختاره المكلف تارة : يجعل بنحو الموضوعية : بأن يكون هو مركز التكليف ومصب الإيجاب. وأخرى : يجعل مشيرا إلى واقع ما يختاره المكلف فيكون الفعل بعنوانه الواقعي هو مركز التكليف ، فعلى الأول : لا مجال للمؤاخذة الأولى إذ سوف يكون التكليف متعلقا بعنوان ما يختاره المكلف وهو مشترك بين الجميع ويكون كل من البدائل مصداقا لما هو الواجب لا انه الواجب كما هو واضح.

واما المؤاخذة الثانية فسوف يأتي ما يمكن أن تدفع به على هذا التقدير أيضا.

وعلى الثاني : لا مجال للمؤاخذة الثانية إذ ليس الواجب إلا واقع الفعل الّذي اختاره المكلف غاية الأمر ان المولى استغنى عن جعل أحكام عديدة بعدد المكلفين بهذا العنوان المشير.

الثالثة ـ انه يلزم في فرض العصيان وعدم إتيان المكلف بشيء من البدائل اما ارتفاع الوجوب وبالتالي ارتفاع العصيان وهو غير معقول إذ الوجوب الّذي لا يكون له عصيان لا يكون معقولا واما بقائه بلا متعلق وهو محال أيضا (٣).

وهذه المؤاخذة يمكن دفعها بالالتزام بأن متعلق الوجوب ليس هو ما يختاره بالفعل بل ما يؤثره المكلف من البدائل إذا شاء أن يختار أحدها وهذا محفوظ حتى في فرض العصيان ، نعم لو افترضنا حالة لا يوجد أي امتياز وترجيح من قبل المكلف لأحد البدائل بناء على إمكان الترجيح بلا مرجح في الأفعال الاختيارية فلا يوجد تعين للمتعلق إلا أن هذا رغم معقوليته ثبوتا ليس واقعا إثباتا بمعنى انه لا يمنع عن عقلائية التكليف بالنحو المذكور.

__________________

(١) يمكن دفعها أيضا بأن دليل الاشتراك ليس فيه إطلاق أكثر من هذا المقدار لأنه دليل لبي.

(٢) نفس المصدر السابق ، ص ٢٦ ـ ٢٧.

(٣) ويمكن دفعها أيضا بأن ما يختاره المكلف مأخوذ بنحو قيد الواجب لا قيد الوجوب فالعصيان متحقق وبذلك يظهر اندفاع المؤاخذة الثانية أيضا ، نعم هذا موقوف على أخذ عنوان ما يختاره المكلف لا واقعه فالمولى يوجب مختار المكلف من البدائل.

.

٤٠٨

وهذا الجواب بنفسه يدفع المؤاخذة الثانية فان إشكال تحصيل الحاصل انما يرد إذا كان المتعلق هو ما يختاره المكلف بنحو القضية الفعلية واما إذا كان المتعلق هو ما يختاره المكلف بنحو القضية التعليقية فلا يكون من تحصيل الحاصل كما لا يخفى.

الرابعة ـ ان هذا خلاف ظاهر دليل الواجب التخييري إثباتا فان ظاهرها ان نسبة التكليف إلى البدائل كلها على حد واحد لا ان الوجوب لخصوص ما يختاره المكلف فقط.

وهذه المؤاخذة أيضا غير منهجية فانه إذا افترضنا موافقة ما جعل تفسيرا للواجب التخييري مع الوجدان والارتكاز المعاش لدى العقلاء والموالي العرفية كان ظاهر الدليل محمولا عليه لا محالة ، كما هو شأن كل ارتكاز عقلائي يحكم على ظاهر الدليل ، وإلا كان الإشكال ثبوتيا حينئذ.

والصحيح في إبطال هذه النظرية ان وجوب ما يختاره المكلف لو أريد به جعل الوجوب على واقع ما يختاره بعنوانه الأولي الواقعي فهذا خلاف الوجدان الواضح لدى الموالي العقلانية في مقام جعل الوجوب التخييري الحاكم بأن نسبة الوجوب إلى كل من البدائل على حد واحد من حيث المكلف والمكلف به ، وإن أريد به جعل الوجوب على عنوان ما يختاره بنحو الموضوعية ويكون ما يختاره مصداقا لمتعلق الوجوب فعنوان ما يختار عنوان جامع بين البدائل نظير عنوان أحدها فإذا فرض ان الوجوب التخييري الشرعي كان عبارة عن إيجاب الجامع الّذي هو التخيير العقلي فلا موجب لتطويل المسافة وأخذ عنوان ما يختار بل يقال من أول الأمر ان متعلق الوجوب هو عنوان جامع بين البدائل كعنوان أحدها.

النظرية الثانية ـ ما ذكره صاحب الكفاية ( قده ) من أنه يمكن أن يفترض الواجب التخييري عبارة عن وجوبين تعيينيين على العدليين كل منهما مشروط بعدم الإتيان بالآخر وذلك باعتبار التضاد في الملاك التعيني في كل منهما وهو يقتضي الأمر بكل منهما مشروطا. بعدم الآخر (١).

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٤٠٩

وقد أورد جملة من المحققين ومنهم السيد الأستاذ على هذه الفرضية بعدة مؤاخذات : (١) الأولى ـ ان هذا خلاف ظاهر الأمر التخييري « بصم » أو أعتق مثلا ، فانه ظاهر بحسب عالم الإثبات في انه خطاب واحد وأمر واحد لا أمران مشروطان وهذه المؤاخذة غير متجهة على المحقق الخراسانيّ ( قده ) لأنه انما أراد تصوير فرضية من الواجب التخييري ولم يدع انه كذلك دائما حتى إذا أفيد إثباتا بمثل اللسان المذكور في الإشكال ، وواضح أن طريق استفادة الواجب التخييري في الفقه ليس منحصرا بذلك بل يمكن أن يفترض ان دليل وجوب كل من العدلين منفصل عن الآخر غاية الأمر يفترض عدم الإطلاق لهما لما إذا جاء المكلف بالآخر ، اما لكونه دليلا لبيا لا إطلاق له ، أو لأنه وإن كان لفظيا لكنه لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة كي يتم فيه الإطلاق ، واما للعلم من الخارج بعدم وجوبهما معا المستوجب لاستفادة وجوب كل واحد منهما مشروطا بعدم الآخر اما كجمع عرفي بين الدليلين على ما اختاره السيد الأستاذ في مثل ذلك وناقشنا فيه في أبحاث التعادل والتراجيح ، أو لتساقط إطلاق كل منهما في حال الإتيان بالآخر ، فيبقى إطلاق كل منهما في حال ترك الآخر على حاله. إذن فالفرضية المذكورة من الناحية الإثباتية غير متوقفة على اللسان الّذي افترض في المؤاخذة.

والثانية ـ ان الملاكين المتضادين إن فرض حصولهما معا فيما إذا جاء بالعدلين معا بأن كان التضاد بين وجوديهما بنحو متعاقب لا ما إذا جاء بهما دفعة واحدة كان اللازم حينئذ إيجاب الجمع بينهما حفظا لكلا الملاكين التعيينيين ، وإن كانت المضادة موجودة بينهما في مطلق وجودهما في عمود الزمان حتى بنحو التقارن ، لزم منه أن لا يقع امتثال أصلا لو جاء بهما معا وهذا خلاف الضرورة في باب الواجبات التخييرية.

وهذه المؤاخذة واضحة الفساد إذ يمكن ردها على أساس فرضية صاحب الكفاية بأحد تقريبين على الأقل :

الأول ـ أن يقال بأن أحدهما ملاكه موقوف على عدم تقدم الآخر عليه وعدم

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٤ ، ص ٣٣ ـ ٣٩.

٤١٠

مقارنته أي مطلق وجود الآخر في عمود الزمان مانع عنه واما العدل الآخر فيكون الوجود المتقدم للأول بالخصوص مانعا عنه لا الوجود المقارن ، وهذا بحسب الحقيقة تلفيق بين الحالتين المفترضتين في المؤاخذة وبناء عليه ، لو وجدا معا كان الموجود أحد الملاكين لا محالة وهو ملاك ما افترض عدم مانعية وجود الآخر عنه في حال الاقتران.

وبذلك يكون الامتثال حاصلا به والتكليف بالجميع غير متجه أيضا لعدم انحفاظ أكثر من ملاك حتى لو جمع.

الثاني ـ أن نفترض ان الوجود السابق لكل منهما مؤثر في المنع المطلق لملاك الآخر واما الوجود المقارن فهو يمنع عن نصف الملاك في الآخر بحيث يكون مجموع النصفين الحاصلين على وزان الملاك الكامل في أحدهما من حيث اهتمام المولى به ، فانه على هذه الفرضية أيضا سوف لا يؤمر بالجمع ويكون الجميع امتثالا إذ يكون هناك بحسب الحقيقة ثلاثة بدائل كل منهما منفردا عن الآخر ومجموعهما معا.

فهذه المؤاخذة غير متجهة أيضا.

الثالثة : ان لازم هذه الفرضية أن يصدر من المكلف معصيتان فيما إذا ترك العدلين معا لأن شرط كل من الوجوبين المشروطين متحقق حينئذ فيعاقب بعقابين وهذا خلاف ما هو المفروض في الواجبات التخييرية من عدم حصول أكثر من معصية واحدة واستحقاق عقاب واحد فيما إذا ترك البدلين معا.

وهذه المؤاخذة أيضا غير واردة إذا التفتنا إلى أن شرائط الوجوب على قسمين شرائط الاتصاف بالملاك وشرائط وجود الملاك الفعلي على كل حال ، وانه في موارد التنافي والتضاد بين الواجبين ذاتا كما في باب التزاحم ، أو ملاكا كما في المقام بناء على فرضية المحقق الخراسانيّ ( قده ) إذا كان ترك كل منهما شرطا في اتصاف الآخر بالملاك كان تركهما معا مستلزما لحصول خسارتين للمولى لا محالة لفعلية كلا الملاكين حينئذ مع عدم تحصيل شيء منهما فيكون معاقبا بعقابين لأنه كان قادرا على دفع كلتا الخسارتين والألمين عنه ولم يدفع شيئا منهما ، واما إذا كان ترك كل منهما شرطا في وجود الملاك الآخر كان ترك أحد الملاكين وحصول إحدى الخسارتين ضروريا فما يحصل من ترك المكلف للفعلين باختياره إحدى الخسارتين دائما واما الأخرى فلم يكن دفعها

٤١١

ممكنا على كل حال ، وحينئذ إن كان مناط الثواب والعقاب هو دفع ألم المولى وخسارته وعدم دفعه فلا محالة لا موجب لاستحقاق أكثر من عقاب واحد وإن كان المناط مخالفة الإنشاء بما هو إنشاء وبقطع النّظر عن مبادئه فهناك مخالفتان لإنشاءين كان يمكن للمكلف المنع من تحققهما فيستحق عقابين لا محالة. إلا أن الصحيح ان مناط العقاب والثواب انما هو بلحاظ مبادئ الحكم وملاكاته لا بلحاظ الإنشاء بما هو هو ولذلك لا فرق وجدانا في ترتب العقاب بين ما إذا كان الملاك قد أبرزه المولى بنحو الإنشاء أو بنحو الاخبار.

وعليه فالصحيح في موارد التضاد الذاتي أو الملاكي بين الواجبين هو التفصيل بين ما إذا كان عدم كل منهما شرطا في اتصاف الآخر بالملاك وبين ما إذا كان شرطا في وجود الملاك الآخر ، ففي الأول يلتزم بتعدد العقاب والمعصية فيما إذا تركهما معا ، وفي الثاني يلتزم بوحدة العقاب رغم انهما من حيث الإنشاء على حد سواء.

وبذلك يتضح اندفاع هذه المؤاخذة عن فرضية المحقق الخراسانيّ ( قده ) حيث انه قد افترض التضاد بين الملاكين في الوجود لا في أصل اتصاف الواجبين به ، كما يظهر ان فرضية المحقق الخراسانيّ ( قده ) لتصوير الواجب التخييري صحيحة في نفسها لو لا انها ليست مطردة بل موقوفة على أن يكون الواجبان متضادين في الملاك وجودا لا ذاتا ، واما إذا لم يكن بينهما التضاد بالنحو المذكور فالفرضية قاصرة عن تصوير الوجوب التخييري والمحقق المذكور ( قده ) أيضا لم يدع أكثر من ذلك.

النظرية الثالثة ـ ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) من ان الوجوب التخييري عبارة عن وجوب كل من العدلين والبدلين لوجود الملاك فيهما معا غير أن تحصيل ملاكهما معا يعارض مصلحة التسهيل وملاكه على المكلف ولذلك يرخص المولى في ترك أحدهما على سبيل البدل ، ولذلك فلو تركهما معا كان معاقبا بعقاب واحد لأنه لم يكن مرخصا في ترك الآخر ، وإن فعل أحدهما أو كلاهما كان ممتثلا للواجب لا محالة. وفرق هذه النظرية عن سابقتها انه يستغنى عن افتراض التضاد بين الملاكين في العدلين (١).

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٢٥٤.

٤١٢

وقد أشكل على هذه النظرية السيد الأستاذ بعدة اعتراضات : (١)

الأول ـ إن هذا يستلزم وجود وجوبين مستقلين لكل من العدلين وهذا خلاف ظاهر الدليل.

وهذا الاعتراض يدفعه ما تقدم في النظرية السابقة حيث كان قد أورد عليها الأستاذ بنفس هذا الاعتراض وحاصله : انه لم يظهر من كلام صاحب النظرية أكثر من تصوير فرضية معقولة للوجوب التخييري ثبوتا ، واما استفادته إثباتا فيمكن ان يفترض ذلك في موارد تعدد الخطاب بالنحو المتقدم. نعم لو فرض عدم معقولية أي فرضية أخرى في تصوير الواجب التخييري لتعين حمل الخطاب الواحد أيضا عليه ولا يبقى مجال للإشكال الإثباتي بأنه خلاف ظاهر الدليل.

الثاني ـ انه موقوف على استفادة وجود ملاكين تعيينيين في كل من الواجبين ولا طريق لنا إلى إثبات الملاك غير الخطاب والمفروض ظهوره في وحدة الحكم لا تعدده.

وهذا الاعتراض أيضا راجع إلى الأول ، حيث يعتمد على ان الظاهر من الدليل بحسب عالم الإثبات وحدة الجعل لا تعدده ، واما إذا افترضنا استفادة تعدده بالصيغة المتقدمة فلا مجال له بل يتعين الكشف عن تعدد الملاك لتعدد الجعل.

الثالث ـ انه موقوف على استفادة وجود مصلحة التسهيل في حق المكلفين واستفادته من الدليل أيضا خلاف الظاهر إذ لا مثبت له ولا قرينة عليه.

وهذا الاعتراض أيضا راجع إلى الأول ومعتمد عليه ، إذ لو فرض استفادة تعدد الوجوب فلا محالة يدل الدليل على وجود ترخيص في ترك كل واحد منهما إلى البدل لأن أصل الدلالة على عدم لزوم الجمع بينهما مفروغ عنه وانما الكلام في كيفية تخريجه ثبوتا.

الرابع ـ ان الوجوب لا يسقط إلا بالامتثال أو العصيان أو ارتفاع الموضوع وفي المقام لا بد وأن يفترض على تقدير تعدد الوجوب ان فعل كل منهما رافع لموضوع الآخر

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٤ ، ص ٣٣.

٤١٣

وإلا لم يكن وجه لسقوطه بل وجب الجمع بينهما ، وهذا خلاف ظاهر الدليل.

وهذا الاعتراض أيضا يرجع إلى الأول وان استفادة تعدد الوجوب بنحو مشروط خلاف ظاهر الدليل.

فكان ينبغي أن يجعل هذه الاعتراضات كلها اعتراضا واحدا محصله مخالفة هذه الفرضية مع دليل الواجب التخييري الظاهر في وحدة الجعل لا تعدده ويكون جوابه حينئذ ما تقدم.

الخامس ـ ان لازم هذا التفسير تعدد العقاب لو ترك المكلف كلا العدلين لأن الترخيص انما كان على ترك كل منهما بدلا عن الآخر والترك الحاصل في فرض تركهما معا هو الترك الجمعي لكل منهما لا الترك البدلي وهذا لم يكن هو المرخص فيه فيعاقب على ترك كل من الواجبين ، وهذا خلاف المفروض في موارد الوجوب التخييري.

وهذا الاعتراض له صورة فنية لا بد من البحث حولها فنقول : ان الترخيص في المقام يتصور بأحد أنحاء :

١ ـ ان يرخص ترخيصا مطلقا في ترك كل منهما ولكنه يقيد متعلق الترخيص بترك كل منهما المقرون بفعل الآخر ، فيوجد ترخيصان مطلقان متعلقان بترك كل منهما مقرونا بفعل الآخر.

وعلى هذا التقدير قد يقال : انه يتحقق عصيانان إذا ما تركهما معا بناء على ان الميزان في المعصية بمخالفة الإنشاء لا الملاكات وإلا فلا إشكال في ان الفائت أحد الملاكين حيث لم يصدر منه الترك المرخص فيه وانما صدر منه الترك غير المرخص فيه.

٢ ـ أن يرخص في ترك كل منهما ولكن مشروطا بفعل الآخر فيكون فعل الآخر شرطا في الحكم بالترخيص لا في المرخص فيه.

وعلى هذا التقدير أيضا قد يقال : انه يتحقق عصيانان بتركهما معا إذ يتحقق شرط فعلية شيء من الترخيصين في الترك ، فالترك الواقع لكل منهما لم يكن مرخصا فيه فيعاقب بعقابين بناء على ان ميزانه مخالفة الإنشاء والجعل كما تقدم.

٣ ـ أن يرخص في ترك أحدهما الجامع الانتزاعي ، وعلى هذا التقدير لا يتحقق

٤١٤

أكثر من عصيان واحد بتركهما معا لأن أحد التركين كان مرخصا فيه بحسب الفرض ، نعم على هذا التقدير يقال بأنه لو فرض تعقل تعلق الحكم الترخيصي بعنوان انتزاعي جامع بينهما فليقل بتعلق الوجوب بأحدهما ابتداء بلا حاجة إلى تطويل المسافة.

٤ ـ أن يكون الترك المرخص فيه هو ترك المجموع نظير الأمر بالمجموع الّذي لا كلام فيه ، وبناء على هذا التقدير أيضا لا يلزم إلا معصية واحدة لأن ترك الجميع لا يزيد على ترك المجموع بأكثر من ترك واحد لا تركين.

والتحقيق في الجواب على هذه النظرية : انا إذا سلكنا مسلك مدرسة الميرزا ( قده ) من ان الوجوب ليس مفاد الأمر وانما هو بحكم العقل المنتزع من طلب الفعل وعدم الترخيص في الترك فالفرضية المذكورة معقولة جدا كتصوير للواجب التخييري ، فان المولى تارة : يطلب شيئين من دون أن يرخص في ترك شيء منهما وهذا معناه وجوبان تعينيان وأخرى يطلبهما مع الترخيص في ترك كل منهما وهذا معناه استحباب كل منهما ، وثالثة : يطلبهما مع الترخيص في ترك أحدهم ـ ولو لمصلحة التسهيل ـ وهذا هو الواجب التخييري.

واما إذا سلكنا المسلك القائل بأن الوجوب هو مدلول الأمر والمنشأ به ، أو افترضنا ان المولى بنفسه أنشأ الوجوب في مورد حتى على مسلك الميرزا ( قده ) فلا محالة يكون هناك تهافت عقلائي بين الوجوبين التعينيين المطلقين في كل من الطرفين مع الترخيص فانه نظير إيجاب شيء والترخيص في تركه فلا محالة لا بد وأن يكون الترخيص المذكور مقيدا لوجوب كل منهما بما إذا ترك الآخر فيقترب إلى نظرية المحقق الخراسانيّ ( قده ).

النظرية الرابعة ـ ان يقال بأن الواجب التخييري معناه إيجاب الفرد المردد بين العدلين أو البدائل بخلاف الواجب التعييني الّذي هو إيجاب الفرد المعين. وهذه النظرية قد اعترض عليها المحقق الأصفهاني ( قده ) بأنه إن أريد إيجاب الفرد المردد بالحمل الأولي أي مفهوم الفرد المردد فهو ليس بمردد بل معين ويكون جامعا بين الفردين ، وان أريد الفرد المردد بالحمل الشائع أي المردد المصداقي فهو مستحيل لأن

٤١٥

الفرد المردد يستحيل ثبوته وتحققه لا في الخارج ولا في الذهن إذ يستلزم التناقض ، إذ لو كان ثابتا بنحو يحمل عليه أحد العنوانين فقط فهذا معين لا مردد وإن كان بنحو يحمل عليه كل من العنوانين فمعناه انه يصح حمل كل من العنوانين عليه وسلبه عنه وهذا تناقض مستحيل (١).

وهذا بيان في غاية المتانة والجودة بل هو أولى مما قيل في دفع تصوير الفرد المردد المصداقي من ان الوجود مساوق مع التعين والتشخص فيستحيل وجود الفرد المردد مصداقا ، فان هذا البيان موقوف على ملاحظة فلسفة الوجود وفهم حقيقته ليرى هل يعقل فيه التردد أم لا؟

النظرية الخامسة ـ أن يكون الواجب التخييري بمعنى إيجاب الجامع بين العدلين أو البدائل ، إما الجامع الحقيقي بناء على قانون ان الواحد حتى النوعيّ لا يصدر إلا من واحد وتطبيقه على ملاك كل من العدلين والكشف عن ان المؤثر والمطلوب في كل منهما انما هو الجامع الذاتي بينهما ـ كما أفاده صاحب الكفاية ـ وبذلك ادعى ضرورة وجود الجامع الحقيقي بين العدلين.

وإما الجامع الانتزاعي أي عنوان أحدهما الّذي يصدق حتى على ما لا جامع ذاتي بينهما بل يكون من قبيل النقيضين كما في التخيير بين القصر والتمام الّذي يرجع روحا إلى التخيير بين الإتيان بالركعتين وعدمهما. وبناء على كلا هذين التقديرين يرجع التخيير الشرعي إلى العقلي أي إلى إيجاب الجامع.

وهكذا يتضح ان تصوير الواجب التخييري لا ينحصر في صيغة وفرضية واحدة بل يمكن أن تكون بنحو الوجوبين التعيينيين المشروطين كما إذا كان هناك ملاكان تعينيان متضادان ، أو بنحو وجوب واحد متعلق بالجامع الحقيقي أو الانتزاعي بين الفعلين فيما إذا كان هناك ملاك واحد يحصل بكل منهما.

وهناك أثر عملي لاختلاف صياغة الواجب التخييري يظهر في موارد الشك والدوران بين أن يكون الفعل الواجب تخييريا أو تعيينيا ، كما لو شك في ان صوم شهرين في

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٢٥٥.

٤١٦

كفارة الإفطار عمدا تخييري أو تعييني ، فانه على فرض أن يكون الوجوب التخييري عبارة عن الوجوب المشروط بعدم العدل الآخر يكون الشك في أصل التكليف بنحو الشبهة البدوية ، حيث يشك في وجوب الصيام لو أعتق رقبة مثلا فيجري الأصل المؤمن عنه ، بينما على افتراض أن يكون الوجوب التخييري بمعنى وجوب الجامع الذاتي الحقيقي بين العدلين تكون الشبهة من موارد الدوران بين الأقل والأكثر ، إذ يعلم بتعلق الوجوب بالجامع ويشك في تعلقه زائدا على ذلك بخصوصية الصوم ؛ فيتوقف جريان الأصل المؤمن فيه على أن يقال به في موارد الدوران بين الأقل والأكثر التحليليين أي الدوران بين المطلق والمقيد.

وعلى افتراض أن يكون الوجوب التخييري بمعنى إيجاب الجامع الانتزاعي وهو عنوان أحدهما يدخل المقام في موارد الدوران بين التعيين والتخيير حيث يتشكل علم إجمالي بوجوب عنوان الصوم أو عنوان أحدهما وهما متباينان مفهوما فيكون إجراء البراءة عن التعيين أعني وجوب الصوم مبنيا على القول بعدم معارضته مع البراءة عن الطرف الآخر للعلم الإجمالي وهو وجوب أحدهما ـ كما هو الصحيح ـ باعتبار ان مئونته قطعية على كل تقدير وانما المئونة والكلفة الزائدة في طرف وجوب الصوم فقط.

بقي بعد هذا البحث عن إمكان التخيير بين الأقل والأكثر وعدمه حيث انه استشكل في إمكانه ، وذلك : اما إذا كان الأقل والأكثر تدريجيين في الوجود فلأنه بحصول الأقل يسقط التكليف بالامتثال ومعه يستحيل أن يقع الأكثر مصداقا للواجب ، واما إذا كان الأقل والأكثر دفعيين فلأن التكليف وإن كان محفوظا في آن حصول الأكثر إلا أن المقدار الزائد في هذا الحال باعتبار انه يجوز تركه لا إلى بدل فلا يعقل أن يكون واجبا لأن الواجب لا يجوز تركه لا إلى بدل.

وقد أجاب عن الإشكال المحقق الخراسانيّ ( قده ) بصياغتين مختلفتين لا بد من ذكرهما وملاحظة انهما هل يسلمان عن النقد على كلا التفسيرين الّذي تعقلناهما للواجب التخييري ، وهما إيجاب الجامع الّذي كان يجعل التخيير عقليا وإيجاب كل منهما مشروطا بعدم الآخر أولا؟.

الصياغة الأولى : ( انه إذا فرض أن المحصل للغرض فيما إذا وجد الأكثر هو الأكثر

٤١٧

لا الأقل الّذي في ضمنه بمعنى أن يكون لجميع أجزائه حينئذ دخل في حصوله وإن كان الأقل لو لم يكن في ضمنه كان وافيا به أيضا فلا محيص عن التخيير بينهما إذ تخصيص الأقل بالوجوب حينئذ كان بلا مخصص فان الأكثر بحده يكون مثله على الغرض ، مثل أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخطّ مترتبا على الطويل إذا رسم بماله من الحد لا على القصير في ضمنه ومعه كيف يجوز تخصيصه بما لا يعمه ومن الواضح كون هذا الغرض بمكان من الإمكان ) (١).

وهذه الصياغة ذكرها فيما إذا كان الأقل والأكثر كل منهما وجودا مستقلا واحدا للطبيعة ، كالخط الطويل والخطّ القصير ، لا ما إذا كان الأكثر عبارة عن وجودات متعددة للطبيعة كدوران الأمر بين تسبيحة واحدة وتسبيحات ثلاثة.

وقد أوضح المحقق الأصفهاني هذا الجواب في كلام أستاذه بما محصله : ان المسألة مرتبطة بمسألة التشكيك الخاصي في الوجود من الفلسفة.

بيان ذلك : ان الأفراد المتفاوتة والمختلفة للطبيعة الواحدة قد تكون فوارقها بامتيازات خارجة عن الماهية عارضة عليها كالفرق بين الإنسان العالم والإنسان الجاهل ، وأخرى : يكون فوارقها بامتيازات داخلة في الماهية وإنما تختلف باختلاف المراتب والحركة من الضعف إلى الشدة ومن النقصان إلى الكمال ، كما في الماهيات المشككة كالخط الطويل والخطّ القصير وعدد الثلاثة وعدد الأربعة ونحو ذلك.

والفوارق التشكيكية لماهية واحدة يوجد في تفسيرها نظريات فلسفية مختلفة فهناك من جعلها على حد الفوارق من النوع الأول القائمة على أساس اختلاف خصوصيات عرضية خارجة عن ذات الماهية فيكون ما به الامتياز في كل وجود للماهية غير ما به الافتراق ، وهذا يصطلح عليه عندهم بالتشكيك العامي.

وهناك من جعل ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك فيها بلحاظ الماهية بأن افترض الامتياز بينها في مرحلة الذات والماهية ، فماهية الأربعة كم عددي تختلف عن ماهية الثلاثة على حد اختلاف الأنواع لجنس واحد ، وإن كان ما به الامتياز فيهما من

__________________

(١) كفاية ج ١ ، ص ٢٢٧ ، ط ـ مشكيني.

٤١٨

سنخ ما به الاشتراك وهو العدد إذ تختلف الأربعة عن الثلاثة في العددية نفسها لا في شيء آخر ، وكذا الخطّ الطويل والخطّ القصير. واصطلح على هذا الاتجاه بالتشكيك الخاصي الماهوي ، وهناك من جعل ما به الامتياز في كل منها عين ما به الاشتراك ولكنه في الوجود لا في الماهية بمعنى ان الماهية المنتزعة عن الفردين المختلفين في المرتبة واحدة ذاتا وانما الاختلاف بين الفردين في الوجود الّذي هو الأصل في الخارج ـ بناء على أصالة الوجود ـ فما به امتياز الخطّ الطويل عن الخطّ القصير حقيقة الوجود الكامل للخط الطويل الّذي يختلف في كما له الوجوديّ لا الماهوي عن وجود الخطّ القصير رغم انه من سنخه مع كون كل منهما مصداقا مستقلا واحدا لماهية واحدة وهو الكم أو الجسم التعليمي. وهذا ما يسمى بالتشكيك الخاصي الوجوديّ.

في هذا الضوء يقال : بأنه إذا افترضنا أن كل واحد من الأقل والأكثر فرد واحد مستقل للماهية كما في الخطين لا ان الأكثر افراد عديدة كما في التسبيحات الثلاث ، فان افترض ان التفاوت بينهما كان عرضيا بأن كان الأكثر يشتمل على خصوصية زائدة على أصل الماهية المشتركة بينهما لما أمكن التخيير بينهما ـ مع قطع النّظر عن الجواب الآتي ـ إذ لا محالة يكون الملاك في ذات الماهية الجامعة بين الفردين فهو الواجب تعيينا والخصوصية الزائدة لا تكون دخيلة في ملاك الحكم لأن الواحد لا يصدر إلا من واحد في الأنواع.

وإن فرض ان الفارق بينهما كان ذاتيا وقيل بالتشكيك العامي فائضا الأمر كذلك وكذلك لو قيل بالتشكيك الخاصي الماهوي إذ سوف لا يكون هناك جامع ماهوي بين المرتبتين بل تكون المرتبة الشديدة تمتاز في نوعها وماهيتها عن المرتبة الضعيفة فلا يعقل أن يكون كل منهما بحده موجدا للملاك فان الواحد لا يصدر إلا من الواحد ، واما إذا قيل بالتشكيك الخاصي الوجوديّ ـ كما هو مختار من يتأثر بهم المحقق الخراسانيّ ( قده ) ـ فلا محالة يتعين التخيير بين الأقل والأكثر ، لأن الأكثر بحده المستقل في وجوده عن الأقل لا يختلف عن الأقل في الماهية بل كلاهما وجود لنوع واحد وطبيعة واحدة وانما الفرق بينهما في الوجود والفارق الوجوديّ أيضا من سنخ ما به الاشتراك لا من سنخ آخر فلا يلزم من تأثير كل منهما بحده في ذلك الملاك صدور الواحد من المتعدد بالنوع ،

٤١٩

بل وحدة النوع والماهية محفوظة فيهما وليس الأكثر عبارة عن وجودين وجود للأقل ووجود للزيادة كي يقال انه لو لم يؤخذ الأقل بشرط لا عن الزائد كان به الامتثال وكان الزائد يجوز تركه لا إلى بدل فلا يعقل أن يكون واجبا ، لأن المفروض ان الأكثر وجود واحد مستقل للماهية وليس وجودات عديدة لأن الشيء ـ كما قالوا ـ ما دام متحركا ولم يقف في حركته لا يكون له وجود مستقل وإلا للزم حصر اللامتناهي بالفعل بين حاصرين وهو مستحيل. وهذا الجواب كما قلنا مخصوص بما إذا كان الأكثر ضمن وجود واحد للطبيعة لا وجودات متكثرة.

كما انه ربما يورد عليه : بأن المكلف عند ما تبرع في الامتثال ورسم أصل الخطّ فان فرض حصول الغرض والملاك بذلك أي بأصل وجود الخطّ ولو غير مستقل في الوجود بعد فلا محالة لا بد وأن يسقط التكليف فلا يكون الأكثر بحده امتثالا وإلا بأن كان هناك غرض للمولى في استقلالية الوجود فائضا لا معنى لبقاء الأمر الّذي يعنى طلب الاستقلالية في الوجود ضمنا. لأن الاستقلالية حاصلة على أي حال في ضمن أحد الوجودين فيكون الأمر به تحصيلا للحاصل.

وهذا الإيراد ـ لو تم بأن افترضنا ان المقيد اللبي العرفي للخطاب بالمقدور يقتضي مقدورية متعلق كل وجوب ضمني مستقلا ـ فهو لا يرد فيما إذا كان الواجب موقتا مقيدا بزمان معين بأن يجب وجود مستقل للطبيعة في ذلك الزمان اما إذا استمرت حركته إلى أن مضى وانقضى ذلك الزمان فاستقل الوجود في الزمان الثاني فلا يكون مصداقا للواجب فانه في مثل ذلك لا تكون الاستقلالية في الوجود في ذلك الزمان أمرا حاصلا على كل تقدير.

وهكذا يتضح : ان هذه الصياغة لتصوير الأمر بالجامع بين الأقل والأكثر معقولة في الجملة سواء افترض أمر واحد بالجامع أو أمران مشروطان ، كما إذا كان هناك ملاكان لا ينافي ذلك صدور الكثير من واحد بالنوع فان هذا انما يستحيل في الواحد البسيط واما غيره فباعتباره مركبا دائما فلا مانع من صدور الكثير من فردين لنوع واحد.

الصياغة الثانية ـ وقد ذكرها فيما إذا كان الأكثر متحققا ضمن مصاديق متعددة

٤٢٠