بحوث في علم الأصول - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٢

خالف المكلف وترك الضدين معا ، مع انه لم يكن للمكلف قدرة إلا على أحد الفعلين فيكون أحد العقابين على أمر غير اختياري والعقاب على ما ليس بالاختيار كالتكليف من غير اختيار قبيح عقلا.

وقد أجاب عن هذا الإشكال المحقق النائيني ( قده ) بجوابين نقض وحل.

اما النقض : فبالواجب الكفائي إذا ما كان لا يتحمل التكرار كقتل حيوان مفترس مثلا فانه في مثل ذلك أيضا لا يكون صدور الفعل من الكل مقدورا إلا مشروطا بترك الآخرين ـ في حين انه لا إشكال في معاقبة الجميع إذا عصي الواجب الكفائي. وهذا النقض يمكن دفعه بإبراز الفرق بين المورد المنقوض به ومحل الكلام فانه يمكن أن يبرهن على وجود قدرات متعددة بعدد المكلفين في الواجب الكفائي ، غاية الأمر : ان إعمال كل منهم لقدرته فرع عدم المزاحم الخارجي الّذي منه سبق غيره إلى امتثال الواجب الّذي لا يقبل التكرار ، لأن القدرة إذا كانت واحدة فهي من الأعراض التي بحاجة إلى محل تقوم به فما هو المحل الّذي تحل فيه؟ إن كان هو أحد المكلفين تعيينا كان ترجيحا بلا مرجح ، وإن كان الجامع بينهم فالجامع لا وجود له بحده الجامعي في الخارج ومثله الفرد المردد فلا محيص من أن يقال بقيام القدرة بكل واحد منهم الّذي هو معنى تعددها خارجا ، ومثل هذا البرهان نفتقده في محل الكلام إذا ادعى الخصم وجود قدرة واحدة قائمة بالمكلف الواحد على الجامع بين الضدين أي أحدهما.

وإن شئت قلت : ان الواجب الكفائي يوجد فيه عقاب واحد إلا أن نسبة هذا العقاب إلى المكلفين كلهم على حد سواء لعدم خصوصية في أحدهم من حيث القدرة فلا محالة يستحق العقاب كلهم جميعا فلا نقض. والأفضل تبديل هذا النقض بالنقض بالتكليف بالضدين في زمانين كما إذا فرض ان الزيارة صباحا مع الزيارة ليلا وقع بينهما تضاد لدى المكلف بحيث لم يكن يمكنه أن يأتي بهما معا وكان هناك تكليف بالزيارة صباحا أو الزيارة ليلا على تقدير عدم الزيارة صباحا وهو تكليف جائز حتى عند القائل باستحالة الترتب إذ لا يستلزم اجتماع التكليف بالضدين في زمان واحد

٣٦١

كي يلزم المطاردة بينهما وانما التكليف بكل منهما في زمان غير زمان الآخر. فلو فرض عصيان المكلف وتركه للفعلين معا كان هناك عقابان لا محالة حتى عند القائل بعدم إمكان الترتب مع انه يجري فيه الإشكال المزبور ، إذ لا قدرة على الفعلين معا فأحد العقابين على ما ليس بالاختيار لا محالة.

واما الحل الّذي أفاده المحقق النائيني ( قده ) فحاصله : ان الإشكال المذكور مبني على توهم كون العقاب الثاني على عدم الجمع بين الضدين وهو غير مقدور ، مع انه ليس كذلك وانما هو عقاب على الجمع بين المعصيتين وقد كان مقدورا للمكلف أن لا يجمع بين المعصيتين فيما لو جاء بالأهم. ثم عبر في ذيل كلامه بان العقاب على كل من المعصيتين لكون كل منهما كان مقدورا في نفسه وميزان العقاب أن تكون المعصية المعاقب عليها مقدورة في نفسها (١).

وهذا الجواب الحلي لا بد من تمحيصه ، فان الميزان في صحة العقاب أن يكون التخلص من المخالفة مقدورا للمكلف واما أن يكون الفعل والامتثال مقدورا فهو شرط في معقولية التكليف وعدم لغويته ، ومن الواضح انه في المقام يكون التخلص من مخالفة التكليفين بالأهم والمهم بنحو الترتب مقدورا للمكلف وإن لم يكن امتثالهما معا مقدورا له فيكون تعدد العقاب في محله ، نعم يشترط في تحقق المعصية عندنا أن يكون مخالفا للتكليف المولوي بنحو يؤدي إلى تفويت الملاك عليه لا مجرد مخالفة الخطاب المولوي وعليه فلو كان الخطابان الترتيبان فعليين من حيث الملاك أي لم يكن الاشتغال بأحدهما رافعا للآخر ملاكا فلا يستحق المكلف أكثر من عقاب واحد لأنه لم يفوت باختياره إلا ملاكا واحدا واما الملاك الآخر فقد كان فائتا عليه لا محالة فلا بد من التفصيل بين الحالتين.

والفرق بين الّذي قلناه وبين تعبيرات المحقق النائيني ( قده ) يظهر فيما إذا فرض الأمر بالضدين مطلقا كما إذا صدر من المولى أمر بهما بنحو القضية الخارجية اشتباها وغفلة عن التضاد بينهما ، فانه بناء على تعبيرات المحقق النائيني ( قده ) ينبغي أن يقال

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٣ ، ص ١٤٢ ، أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٣٠٨.

٣٦٢

باستحقاق المكلف لعقابين لو عصى ولم يأت بشيء منهما لأن كلا منهما في نفسه كان مقدورا أو قل لأن كلا منهما معصية مقدورة في نفسها والجمع بينها وبين المعصية الأخرى مقدور أيضا ، مع حكم الوجدان بعدم استحقاقه ذلك مما يبرهن على ما قلناه من ان الميزان في صحة العقاب إمكان التخلص عن المعصية ، والمكلف في المثال لا يمكنه التخلص إلا عن إحدى المعصيتين لا كلتيهما فلا يستحق إلا عقابا واحدا لا عقابين.

الإشكال الثاني ـ إشكال إثباتي وحاصله : ان غاية ما ثبت مما تقدم إمكان الترتب ثبوتا ولكنه لا دليل عليه إثباتا ، إذ دليل الأمر بالضد غير الأهم كالصلاة المزاحمة مع الإزالة مثلا انما دل على الوجوب المطلق الّذي فرغ عن استحالته بعد ثبوت الأمر بالأهم والوجوب المشروط بعدم الأهم لم يرد دليل عليه لنثبته به.

وهذا الإشكال أيضا أجاب عنه المحقق النائيني ( قده ) بجوابين (١) :

الأول ـ ان إثبات الواجب المشروط الترتبي لا يحتاج إلى دليل خاص بل إطلاق الخطاب بالصلاة بنفسه يثبت ذلك ، وذلك تطبيقا لقانون انه كلما دار الأمر بين رفع اليد عن أصل إطلاق الخطاب لفرد أو عن بعض حالاته تعين الثاني لكون الإطلاق بلحاظ تلك الحالة متيقن السقوط على كل تقدير واما الإطلاق بلحاظ الزائد عن تلك الحالة المتيقنة فلا يعلم سقوطه والأصل حجية كل إطلاق ما لم يثبت سقوطه ، ففي المقام الإطلاق بلحاظ حالة الاشتغال بالأهم متيقن السقوط على كل حال واما بلحاظ ترك الأهم فهو ممكن الثبوت بناء على الترتب فيثبت بالإطلاق وهو معنى الوجوب الترتبي المشروط.

وهذا الجواب صحيح من حيث الكبرى غير ان تطبيقها على المقام فيه مسامحة بناء على ما تقدم في الجهة الأولى من البحث حيث قلنا هناك انه بناء على الترتب لا يدخل الخطابان في باب التعارض أصلا إذ لا يلزم تقييد زائد على ما هو مأخوذ في كل خطاب من القيود العامة لبا أعني قيد القدرة ، فان عدم الاشتغال بواجب أهم أو مساو سوف يأتي في بحث التزاحم انه مأخوذ في الخطابات عموما ، فالأمر دائر بين

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٣٠٩.

٣٦٣

التقييد واللاتقييد لا التقييد الأقل والأكثر. ولعل مقصود الميرزا ذلك أيضا وانما أراد إبراز القيد العام المستتر في كل خطاب بهذا التعبير.

الثاني ـ إثبات الخطاب الآخر بطريق اللم بدعوى : انه في موارد التزاحم يكون الملاك ثابتا بمقتضى إطلاق دليله فبناء على إمكان الخطاب الترتبي يستكشف ذلك بالبرهان اللمي.

وهذا الجواب يرد عليه :

أولا ـ عدم تمامية مبناه حيث تقدم ان الملاك لا يمكن إثباته عادة إلا بالدلالة الالتزامية التي تسقط بسقوط الدلالة المطابقية على ما حقق في محله.

وثانيا ـ ان مثل هذه النتيجة ليست من ثمرات القول بالترتب الّذي هو محل النزاع وانما هو من ثمرات القول بثبوت الملاك مع سقوط الخطاب بحيث يستفيد منه القائل باستحالة الترتب أيضا في إثبات خطاب ثان بحفظ ملاك المهم ، غاية الأمر : أنه سوف يختلف مع القائلين بإمكان الترتب في صياغته ، فالقائل بالترتب يقول بأن الملاك الموجود في المهم يقتضي أمرا تعيينيا بالمهم مشروطا بترك الأهم ـ ولو باعتبار كون الملاك في المهم تعيينا مثلا والخطاب لا بد وأن يجعل على وزان الملاك ـ اما القائل بالاستحالة فيصور الخطاب الثاني على شكل الأمر بالجامع بين الضدين أو بتحريم الجمع بين التركين.

الجهة الثامنة ـ في معالجة الترتب من الجانبين فيما إذا كان الضدان بمستوى واحد من حيث الأهمية فانه ربما يقال باستحالته ولو فرض إمكان الترتب من جانب واحد ، وذلك لوجود محذور زائد فيه يمكن بيانه بأحد تقريبين :

التقريب الأول ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من أن الترتب من الجانبين وجعل كل من الخطابين مشروطا بعصيان الآخر يستلزم الدور ، إذ يكون الأمر بالصلاة مثلا متوقفا على عصيان الإزالة المتوقف على وجود الأمر بالإزالة فعلا وإلا لم يتحقق عصيان فيكون الأمر بالصلاة متوقفا على الأمر بالإزالة وكذلك العكس وهو دور.

وهذا المحذور يمكن دفعه بوجهين :

٣٦٤

الأول ـ أن يكون المترتب عليه منشأ انتزاع العصيان وهو ترك الفعل وهو غير متوقف على الأمر بها كما لا يخفى.

الثاني ـ أن يكون الشرط هو العصيان التقديري لا المنجز بمعنى ان الأمر بالإزالة مثلا مشروط بأن تصدق القضية الشرطية القائلة بأنه لو كان هناك أمر بالصلاة كان المكلف عاصيا له ـ أي كان عمل المكلف الصادر منه خارجا عصيانا له ـ وكذلك العكس ، ومن الواضح ان القضية الشرطية لا تتوقف على فعلية الأمر إذ الشرطية لا تستلزم صدق طرفيها.

التقريب الثاني ـ ان الترتب من الجانبين يستلزم المحذور في مرحلة الامتثال ، فانه إذا فرضنا العبد منقادا وفرضنا انه لو لا الأمر لما كان له داع إلى أي واحد من الفعلين في نفسه فانه سوف يوجب الترتب من الطرفين بالنسبة إلى هذا العبد داعيين مشروطين كل منهما بعدم الآخر وهو مستحيل ، أي يصبح كل واحد من الفعلين تحققه خارجا مشروطا بعدم الآخر ، فان فعل الصلاة يتوقف على وجود الداعي نحوها الموقوف على فعلية الأمر بها الموقوف على ترك الإزالة وكذلك العكس ، وحينئذ يكون تحقيق كل من الفعلين في مقام الامتثال متوقفا على عدم الآخر ، وهذا مستحيل إذ يلزم من وجودهما معا عدم وجودهما ومن عدمهما وجودهما ومن وجود أحدهما دون الآخر الترجيح بلا مرجح فانه موقوف على فعلية الأمر به الموقوف على ترك الآخر ، مع ان نسبة الأمرين والداعيين إلى المكلف على حد سواء.

والتحقيق : ان هذا الإشكال لا أساس له لأن المكلف من أول الأمر يحدث في نفسه باعتبار الأمرين المترتبين اللذين يعلم المكلف بتحقق موضوع أحدهما على الأقل إجمالا داع نحو الجامع بين الفعلين فليس هناك داعيان مشروطان بل داع واحد نحو الجامع ويكون تطبيقه على كل من الفعلين اما بمرجح شخصي أو بأفضلية شرعية أو بلا مرجح الممكن في الأفعال الاختيارية كما يقال به في طريقي الهارب ورغيفي الجائع.

ثم انه قد يقرب الإشكال المزبور بنحو يكون دورا ببيان ان فعل الصلاة موقوف على الداعي إليها الموقوف على فعلية الأمر بها الموقوفة على ترك الإزالة الموقوف على عدم الداعي إلى الإزالة الموقوف على عدم فعلية الأمر بها الموقوف على فعل الصلاة وهو

٣٦٥

دور. والجواب السابق وارد على هذا التقريب أيضا إلا انه لا بد من التفتيش عن جواب آخر باعتبار ورود التقريب المذكور بصياغته في مورد لا يتم فيه هذا الجواب وذلك ما إذا افترضنا شخصين كل منهما داعية على تحريك الحجر مثلا موقوف على إعطائه الجائزة والجائزة يفترض وضعها لمن يقدم على رفع الحجر بشرط عدم اقدام الآخر أي بشرط كونه الوحيد في الإقدام فانه في مثل ذلك سوف يتحقق الدور ، إذ اقدام كل منهما موقوف على فعلية الجائزة له الموقوف على عدم اقدام الأول. والجواب السابق لا يرد هنا إذ الفاعل هنا شخصان لا شخص واحد وليس لكل منهما إلا الداعي نحو الفعل ، والجامع بينهما ليس شخصا قابلا لأن يكون له داع. والتحقيق : ان هذا ليس دورا حقيقة بل يرجع بالتدقيق إلى محذور آخر شبه الدور في الاستحالة ومن أجل توضيحه نفترض أن إنسانا ما لا يريد أن يحتاج وانما يعمل بالأمر المعلوم المنجز فان صدور فعل الصلاة من قبل هذا الشخص موقوف على الداعي له نحو الصلاة والداعي له ليس متوقفا على واقع الأمر بها بل على العلم بالأمر وإحرازه الموقوف على إحراز موضوعه وهو ترك الإزالة الموقوف على عدم العلم بالأمر بها الموقوف على عدم العلم بفعل الصلاة فصار فعل الصلاة موقوفا على عدم العلم بفعل الصلاة لا على نفسه ، وهذا ليس دورا لكنه مستحيل بنكتة استحالة الدور لأن العلم وعدم العلم بالشيء يكون دائما في نظر صاحبه بنحو كأنه يرى المعلوم شيئا مفروغا عنه في مرتبة سابقة يعرض عليه العلم وعدم العلم فيستحيل أن يعلم أو يحتمل شيئا متقوما بذلك العلم أو الاحتمال ، وعلى هذا الأساس نقول باستحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع شخصه لا على أساس الدور ، وهذا المحذور غير موجود في المثال المنقوض به فإذا افترضنا الفاعل لا يحتاط فإقدامه على الفعل يصبح موقوفا على علمه بعدم علم الآخر بإقدامه وليس في ذلك محذور ، نعم لو فرضنا كلا الشخصين ذكيين ملتفتين إلى كل هذه الحسابات الأصولية وإلى ان صاحبه يقع فيها أيضا فسوف يقع كلاهما في حيرة تجعل صدور الفعل منهما ممتنعا.

هذا وقد يبين الإشكال بصيغة الدور ببيان ان فعل الصلاة موقوف على الداعي إليها الموقوف ـ فيمن لا يحتاط ـ على العلم بالأمر الموقوف على العلم بترك الإزالة المتولد

٣٦٦

اما من نفس ترك الإزالة أو من العلم بعدم الداعي إلى الإزالة فعلى الأول يكون كل من الفعلين متوقفا على عدم الآخر ، وعلى الثاني يكون كل من الداعيين متوقفا على عدم الآخر ، وإذا توقف شيئان كل منهما على عدم الآخر لزم الدور. وجوابه : فيما نحن فيه ما تقدم من ان الداعي ينقدح نحو الجامع وفي مثال النقض لا يأتي هذا التقريب لأن غاية ما هنا لك أن يصبح اقدام أحدهما موقوفا على علمه بعدم علم الآخر بإقدامه لا على عدم اقدام الآخر.

بل قد يقال بأن الالتزام بالترتب من كلا الجانبين أسهل من الترتب من جانب واحد خلافا لما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من أنه إذا استحال الترتب من طرف واحد فهو من الطرفين كذلك ولذلك استغرب من الشيخ ( قده ) الّذي أنكر الترتب من طرف واحد ولكن ذهب في تعارض الخبرين بناء على السببية إلى ان الأمر بالعمل بكل واحد منهما مشروط بترك الآخر وهذا ليس إلا الترتب من الطرفين ، وهل يكون ضم محال إلى محال موجبا للإمكان؟

أقول : نحن لا ندري ما ذا كان يقصده الشيخ الأعظم ( قده ) إلا أنه بالإمكان لأحد أن يقبل برهاننا على إمكان الترتب في أحد جزئيه ، فان الترتب على ما تقدم يتوقف أولا على إثبات عدم مانعية الأمر بالمهم عن تأثير الأمر بالأهم لأن مانعيته عنه يستلزم الدور. ويتوقف ثانيا على إثبات عدم مانعية الأمر بالأهم عن الأمر بالمهم ، فمن أنكر البرهان الثاني ولكنه اعترف بالبرهان الأول أمكنه القول بإمكان الترتب من كلا الطرفين ، بخلاف الترتب من طرف واحد لأنه مستلزم لمحذور مانعية الأمر بالأهم ومطاردته للأمر بالمهم. وبعبارة أخرى : إثبات عدم مانعية الأمر بالمهم المشروط بعدم الإتيان بالأهم للأمر بالأهم كاف في إثبات الترتب من كلا الطرفين وغير كاف لإثبات الترتب من طرف واحد.

الجهة التاسعة ـ في تطبيق من تطبيقات الترتب. حيث انه ذكر في تخريج الحكم بصحة الصلاة جهرا في موضع الإخفات وبالعكس عن جهل أو نسيان وكذلك الصلاة تماما في موضع القصر وجوه ، من جملتها ما ذكره الشيخ كاشف الغطاء ( قده ) من الالتزام بالترتب وان هناك أمرا بالصلاة جهرا واقعا وعلى تقدير الترك

٣٦٧

يوجد أمر بالصلاة إخفاتا ، فوقع البحث في المقام عن صحة هذا التطبيق للترتب وعدمه وقد نوقش فيه من قبل القائلين بالترتب بعده مناقشات نستعرض أهمها :

الإشكال الأول ـ ما أفاده الميرزا ( قده ) من ان الترتب انما يعقل من الضدين اللذين لهما ثالث واما الضدان اللذان لا ثالث لهما فلا يعقل الترتب فيهما ، لأن صدور الضد الآخر على تقدير ترك الأول ضروري حينئذ فلا يمكن الأمر به ولو بنحو الترتب ، وفي المقام يكون الجهر والإخفات في القراءة من الضدين اللذين لا ثالث لهما إذ القراءة اما أن تقع جهرية أو إخفاتية (١).

وقد أشكل على ذلك السيد الأستاذ : بأن الضدين في المقام هما القراءة الجهرية والقراءة الإخفاتية وهما من الضدين اللذين لهما ثالث ، وذلك بأن يترك القراءتين معا في الصلاة فالتطبيق المذكور تام من هذه الجهة (٢).

ولنا في المقام كلامان :

الكلام الأول ـ هو ان الترتب لا يعقل بين الأمرين الضمنيين سواء جعلا عبارة عن الأمر بالجهر والأمر بالإخفات أو الأمر بالقراءة الجهرية والقراءة الإخفاتية ، وانما الترتب بين الأمر بالصلاة الجهرية والأمر بالصلاة الإخفاتية. والوجه في ذلك : ان افتراض الترتب بين الأمرين الضمنيين في خطاب واحد يستلزم أخذ ترك الجزءين كالجهر مثلا شرطا للأمر الضمني بالإخفات ، فان أخذ شرطا في موضوع الأمر الضمني خاصة فهو غير معقول لأن مقتضى ضمنيته ان هناك أمرا واحدا بالمجموع فلا بد وأن يكون الشرط مأخوذا في ذلك الأمر الواحد الاستقلالي ، وان أخذ شرطا في موضوع الأمر الاستقلالي بالمركب ـ بنحو شرط الوجوب ـ لزم منه أخذ ترك الجهر مثلا في الخطاب الواحد الّذي من ضمنه الأمر بالجهر وهو مستحيل ، وان أخذ شرطا في متعلق الأمر بالإخفات ـ بنحو شرط الواجب ـ لزم فعلية كلا الأمرين الضمنيين أي الأمر بالجهر وبالإخفات المقيد بعدم الجهر وهو طلب الجمع بين الضدين المحال.

الكلام الثاني ـ ان الشرط لو كان هو عدم الجهر الأعم من السالبة بانتفاء

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٣١٠.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٣ ، ص ١٦٣ ـ ١٦٥.

٣٦٨

المحمول بأن يقرأ ولا يجهر أو السالبة بانتفاء الموضوع بأن لا يقرأ أصلا. فالأمر بالقراءة الإخفاتية يكون معقولا ، واما إذا كان الشرط هو عدم الجهر في القراءة أي بنحو السالبة بانتفاء المحمول خاصة فالأمر بالإخفات لا يكون معقولا حينئذ. وقد لاحظ كل من المحقق النائيني ( قده ) والسيد الأستاذ إحدى هاتين الفرضيتين دون الأخرى فتخالفا في إمكان الأمر بالقراءة الإخفاتية وعدمه.

الإشكال الثاني ـ ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) أيضا من ان الترتب انما يعقل في الأمرين المتزاحمين اتفاقا واما إذا كان التضاد بين الفعلين دائميا فلا يعقل فيه الترتب ، والجهر والإخفات في القراءة من هذا القبيل.

وقد أشكل عليه السيد الأستاذ : بعدم اختصاص إمكان الترتب بالتضاد الاتفاقي على ما يأتي بيانه وتفصيله في بحث التزاحم.

هذا ولكنك عرفت انه لا موضوع لهذا الإشكال حتى لو قيل باختصاص الترتب بالتضاد الاتفاقي حيث عرفت ان الأمرين في المقام هما الأمر بالصلاة الجهرية والأمر بالصلاة الإخفاتية وهما لا تضاد بينهما أصلا لإمكان إيقاعهما معا في الخارج فليس هذا التطبيق من باب الترتب.

الإشكال الثالث ـ ما أفاده الميرزا ( قده ) أيضا وحاصله : ان الأمر الترتبي بالتمام في المقام غير معقول لأنه غير قابل لأن يكون بعثا حقيقيا باعتباره غير قابل للوصول والتنجز على المكلف ، وكل أمر لا يكون صالحا للتنجيز لا يكون أمرا حقيقيا. والوجه في عدم إمكان وصول الأمر الترتبي المذكور هو ان موضوعه عبارة عن المسافر الّذي قد عصى الأمر بالقصر وهو جاهل بوجوبه ـ لم تقرأ عليه آية التقصير كما في لسان الرواية ـ ومن الواضح ان إحراز المسافر لهذا الشرط لا يكون إلا مع علمه بوجوب القصر عليه أو تنجزه في حقه ومعه يرتفع موضوع الأمر الترتبي.

وقد أشكل عليه الأستاذ : بأن الموضوع ليس هو عنوان عصيان الأمر بالقصر بل هو ترك الصلاة القصرية ، ومن الواضح ان المكلف يمكنه أن يحرز تركه لذلك مع افتراض كونه جاهلا لوجوب القصر ومعتقدا لوجوب التمام فموضوع الأمر الترتبي قابل للإحراز في المقام.

٣٦٩

والتحقيق : ان هذا الإحراز لموضوع الأمر الترتبي وإن كان معقولا في حق المكلف كما أفاده الأستاذ إلا ان هذا لا يكفي لدفع المحذور ، بل نكتة الإشكال باقية على حالها لأن المكلف انما يمكنه أن يحرز ذوات أجزاء موضوع الأمر الترتبي دون أن يعلم بموضوعيته ، ووصول الحكم لا بد فيه من إحراز الموضوع بما هو موضوع. والوجه في عدم إمكان إحراز المكلف في المقام موضوعية تركه للقصر للأمر الترتبي هو ان المكلف بحسب الفرض معتقد وجوب التمام عليه بخطاب أولي ومعه لا يعقل أن يحرز كونه موضوعا لوجوب التمام بخطاب ثانوي ترتبي ، إذ إحرازه لذلك إن كان بأن يحرز كون اعتقاده بوجوب التمام موضوعا لنفس ذلك الوجوب كان فيه محذور أخذ العلم بالحكم في موضوع ذلك الحكم الّذي هو محذور شبه الدور ، وإن كان بأن يحرز كونه موضوعا لوجوب تمام آخر كان من اجتماع المثلين في نظره ، وعليه فالمكلف المسافر في المقام دائما يكون إتيانه بالتمام بتحريك أمر تخيلي بالتمام يعتقده كخطاب أولي على المكلفين جميعا في الحضر والسفر ، واما وجوب التمام الترتبي المخصوص بالمسافر الجاهل بوجوب القصر فلا يعقل وصوله إليه ومحركيته له نحو التمام (١).

الإشكال الرابع ـ ان الأمر بالتمام إن كان مترتبا على ترك القصر في تمام الوقت فالمكلف إذا علم بوجوب القصر عليه بعد إتيانه بالتمام كانت وظيفته القصر ولم يكن ما أتى به من التمام صحيحا ومطابقا للأمر ، وهذا خلف الفتوى الفقهية القاضية بصحة التمام وعدم لزوم القصر بعدها ، وان كان مترتبا على ترك القصر آنا ما فيلزم إيجاب الوظيفتين عليه لتحقق موضوعهما معا. وهذا إشكال في الصياغة بحسب الحقيقة ، والجواب عليه بافتراض تصرفين في الخطابين ، التصرف الأول : أن نقيد الأمر بالتمام بأن لا يكون مصليا القصر إلى حين إتيانه بالتمام وعدم خروج الوقت ـ أقرب الأجلين منهما ـ فلو لم يصل القصر إلى حين إتيانه بالتمام كان موضوعا لوجوب التمام ووقعت

٣٧٠

صلاته صحيحة. والتصرف الثاني : أن نقيد الأمر بالقصر بعدم الإتيان بالتمام ولكن لا بنحو الشرط المتأخر كي يكون معناه الترتب من الطرفين الّذي يعني المساواة بين الواجبين في الأهمية وهو خلف الفتوى ، بل بنحو الشرط المقارن بأن يكون عدم إتيانه بالتمام بل عدم إتمامه للتمام ـ ولهذا لو التفت في أثناء العمل إلى وجوب القصر بطلت صلاته ـ في الآن الأول موجبا لوجوب القصر عليه فعلا فيكون الإتيان بالتمام بعد ذلك رافعا لموضوع الوجوب من باب انتهاء الموضوع وسقوط الأمر لا رافعا له من أول الأمر من باب عدم ثبوته.

الجهة العاشرة ـ في بيان لزوم المصير إلى الترتب في الواجبين المتزاحمين مع كون أحدهما واجبا موسعا أو عدمه بأن يمكن الأمر بهما عرضيا ، وهذا البحث وان كان قد تقدم المهم منه في مباحث الضد إلا ان في تكراره هنا بنحو الإيجاز مزيد فائدة مع كونه مناسبا مع بحث التزاحم فنقول : قد ذكر المحقق الثاني ( قده ) إمكان الأمر بالواجب الموسع المزاحم مع الواجب المضيق في عرض واحد لأن الواجب الموسع يرجع إلى إيجاب الجامع والإتيان به مع الواجب المضيق مقدور للمكلف فلا يلزم من الأمر بهما في عرض واحد طلب غير المقدور المستحيل ، وقد علق على هذا الكلام بملاحظات ترجع كلها إلى التفصيل في صحة هذا الكلام على المباني المختلفة.

التعليق الأول ـ ما أفاده الميرزا ( قده ) من ابتناء ذلك على كون القدرة شرطا في التكليف من باب حكم العقل واما لو كان الخطاب بنفسه يتطلب اختصاص متعلقه بالحصة المقدورة لأن مفاده البعث والتحريك وهو لا يعقل نحو غير المقدور فلا بد من تقييد الواجب الموسع بغير الفرد المزاحم بواجب آخر ، فلا يمكن الأمر به في زمان المزاحمة إلا بنحو الترتب لعدم القدرة عليهما شرعا (١).

وقد تقدم بيان هذا المطلب في مباحث الضد ، وتقدم أيضا انه لا يصح الجواب عنه بأن التكليف مجرد اعتبار الفعل في ذمة المكلف وهو سهل المئونة واشتراط القدرة انما

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٣١٤.

٣٧١

هو بحكم العقل في مرحلة التنجيز والطاعة. إذ ليس البحث في المدلول التصوري للأمر وصياغته العقلائية بل هناك أمر ثبوتي لا إشكال منه هو ظهور الخطابات كلها في انها تكون بداعي المحركية والباعثية مهما كان مدلول الأمر والوجوب صياغة ، وهذا الظهور التصديقي الكاشف عن داعي المحركية يمنع من ثبوت الخطاب لغير المقدور لأن التحريك نحوه غير معقول.

وانما الصحيح في الجواب ما تقدم : من ان داعي المحركية لا يتطلب أكثر من مقدورية متعلق الخطاب والجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور ولا يتطلب التقييد بالحصة المقدورة ، نعم هو يقتضي تقييد المكلف بالمكلف القادر بالخصوص كما تقدم.

لا يقال : على هذا يستحيل أن يكون الأمر بالجامع في زمان المزاحمة ـ ولنفترضه الآن الأول من دخول الوقت ـ باعثا ومحركا حقيقيا لعدم قدرة المكلف على ذلك شرعا والخطاب مختص بالمكلف القادر.

فانه يقال : ان الباعثية والمحركية انما استكشفناها بالظهور التصديقي المتقدم ذكره ومن الواضح ان الباعثية المستكشفة في الواجب الموسع انما هي الباعثية نحو تحقيق الفعل في مجموع الوقت لا في جميع آناته ومثل هذه المحركية محفوظة في المقام ومعقولة حتى بلحاظ آن المزاحمة فإطلاق الخطاب لا محذور فيه.

التعليق الثاني ـ دعوى ابتناء ذلك على القول بعدم استحالة الإطلاق إذا استحال التقييد واما لو قيل بمبنى الميرزا ( قده ) من استحالته كلما استحال التقييد فلا يمكن الأمر بالواجب الموسع في المقام بنحو مطلق يشمل الفرد المزاحم لأن التقييد بالفرد المزاحم مستحيل فالإطلاق له يصبح مستحيلا أيضا (١).

وهذا المطلب أيضا تقدم عدم صحته لأن الإطلاق الّذي يستحيل عند استحالة التقييد انما هو الإطلاق بالمعنى السلبي الّذي يقابل التقييد تقابل العدم والملكة عند صاحب هذا المسلك أي عدم أخذ القيد المستلزم لشمول الحكم للحصة الفاقدة للقيد لا الإطلاق الإيجابي أي الشمول للحصة المقيدة ، ومن الواضح ان التقييد بالفرد غير

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٣ ، ص ١٨٣.

٣٧٢

المزاحم ممكن في المقام فيكون عدمه المستلزم لشمول الحكم للفرد المزاحم ممكنا أيضا.

التعليق الثالث ـ دعوى ابتناء إمكان ذلك على القول بإمكان الواجب المعلق حيث يستلزم فعلية الأمر بالجامع في الزمان الأول الّذي هو زمان المزاحمة مثلا مع كون الواجب غير مقدور شرعا في ذلك الزمان وانما يكون مقدورا بعد ذلك الزمان فيلزم تقدم زمان الوجوب على زمان الواجب وهو مشكلة الواجب المعلق ، فان قيل باستحالته كان الأمر بالجامع في المقام مستحيلا أيضا. وهذا التعليق انما يصح بناء على بعض المسالك في امتناع الواجب المعلق لا كلها ، ذلك ان القائلين باستحالة الواجب المعلق يستندون إلى أحد مأخذين في إثبات الامتناع.

المأخذ الأول ـ دعوى الاستحالة من جهة ان الحكم يستبطن الباعثية والمحركية وهي بحكم تضايفها مع الانبعاث والتحرك لا بد وأن يكون ملازما له في الإمكان والتحقق ، وليس المقصود من ذلك استلزام الخطاب للبعث خارجا بداهة أن الخطاب يشمل العاصين أيضا ولا انبعاث لهم ، وانما المقصود كشفه عن داعي البعث بمعنى إيجاد ما يمكن أن يكون باعثا ، وإمكانية البعث تلازم إمكانية الانبعاث وفي مورد الواجب المعلق لا توجد إمكانية الانبعاث فلا يكون البعث ممكنا.

أقول : هذا الوجه يثبت استحالة تعلق الوجوب بالجامع بين الأفراد الطولية من أول الأمر في عرض الوجوب المضيق ، فلا بد من اختصاص الأمر بالفرد غير المزاحم وتأخره إلى زمان انتهاء المزاحمة أو ثبوته من أول الأمر بنحو الترتب ، إلا ان هذا الوجه غير تام فان الخطاب وإن كان يدل على داعي البعث ولكن هذا لا يتطلب أزيد من إمكانية الانبعاث في عمود الزمان ، ولا يلزم إمكانية الانبعاث في تمام آنات ذلك الزمان المأخوذ في الخطاب ، والوجه في ذلك ان دلالة الخطاب على البعث مع أنه بطبعه الأولي وبلحاظ عالم اللغة لا يدل على أكثر من الجعل والاعتبار الّذي لا يتوقف ثبوته على إمكانية الانبعاث يكون لها أحد وجهين :

الأول ـ ما تقدم من الظهور السياقي بحسب فهم العرف الكاشف عن مدلول تصديقي هو داعي البعث والتحريك ، وهذا يتحدد وفقا لما يفهمه العرف من سياق الخطاب وهو لا يفهم من التكليف بواجب يطلب صرف وجوده في عمود الزمان أزيد

٣٧٣

مما قلناه من داعي البعث والانبعاث في مجموع ذلك الزمان لا في كل آن آن.

الثاني ـ ما يظهر من كلام المحقق الأصفهاني ( قده ) من دعوى ان الخطاب والإنشاء كأي فعل آخر يكشف عن داع وهذا الداعي هو الّذي يحدد حقيقة ذلك الخطاب وماهيته من حيث كونه مصداقا للبعث أو للاستهزاء أو للتمني أو للترجي أو غير ذلك ، ومن الواضح أنه لا يصلح شيء أن يكون هو الحكم بحيث يكون الخطاب مصداقا له غير البعث ، فان كلا من الاستهزاء أو التعجيز أو التمني ليس حكما. وكأن هذا المحقق ( قده ) يريد أن يدعي برهانا ثبوتيا على المقصود غير ذلك الاستظهار المتقدم ، ولو تم هذا البرهان فهو أيضا لا يقتضي أكثر من إمكان الانبعاث بلحاظ مجموع عمود الزمان فان هذا كاف في كون الخطاب والحكم بعثا لا استهزاء أو تمنيا.

المأخذ الثاني ـ ما استند إليه المحقق النائيني ( قده ) في إثبات استحالة الواجب المعلق من أن الواجب المعلق باعتبار تأخر زمان الواجب فيه عن زمان الوجوب لا محالة يستبطن شرطية مجيء ذلك الزمان في التكليف ، وباعتبار تأخره عن التكليف فلا محالة يكون من الشرط المتأخر المستحيل عنده ، نعم لو كان الشرط هو التعقب به فهو ليس بمتأخر وانما المتعقب هو المتأخر ، إلا أن هذا يكون خلاف ظاهر الدليل إثباتا إذا كان ظاهرا في شرطية الزمان نفسه.

وبناء على هذا الموقف قد يقال في المقام بالاستحالة لاستلزام التكليف بالجامع في الزمان الأول ـ الّذي هو زمان المزاحمة ـ الشرط المتأخر ، إذ القدرة على الواجب شرط في كل تكليف والقدرة في المقام تحصل فيما بعد زمن المزاحمة فيكون شرطا في التكليف المتقدم في الآن الأول ، إلا أن هذا الكلام يمكن الجواب عليه : بأن شرطية القدرة من باب حكم العقل بقبح التكليف بغير المقدور والضرورات تقدر بقدرها دائما ، ومن الواضح انه يرتفع القبح بثبوت القدرة على الجامع ولو في الزمن المتأخر ، أي أخذ تعقب القدرة شرطا مقارنا للتكليف فلا محذور ثبوتي ، كما انه لا محذور إثباتي فان إطلاق الخطاب يثبت ذلك ولم يرد دليل على شرطية نفس الزمان المتأخر كي يكون تأويله وتحويله إلى شرطية التعقب خلاف الظاهر إثباتا.

التعليق الرابع ـ ان الأمر بالواجب الموسع في عرض الأمر بمزاحمه المضيق يبتني

٣٧٤

على عدم رجوع التخيير العقلي إلى التخيير الشرعي الّذي يعني الأمر بكل فرد مشروطا بعدم الآخر وإلا كان التكليف بالفرد المزاحم ولو مشروطا بترك سائر الأفراد غير معقول.

وهذا التفصيل صحيح في نفسه غير انه لا يبطل كلام المحقق الثاني ( قده ) في المقام ، لأن الصحيح في محله عدم رجوع التخيير العقلي إلى التخيير الشرعي وانما هو تكليف بالجامع. بل قد يقال برجوع التخيير الشرعي إلى العقلي على ما يأتي تفصيله في محله.

وبهذا ينتهي بحث الترتب وبه يتم المدخل إلى بحث التزاحم حيث قلنا فيما سبق ان ثمرة القول بإمكان الترتب إثبات عدم التعارض بين الخطابين وصيرورة باب التزاحم بين الضدين في مرحلة الامتثال بابا مستقلا له أحكامه وقوانينه في قبال باب التعارض.

وهذا ما شرحناه وأوردناه مفصلا في مباحث تعارض الأدلة الشرعية فراجع.

٣٧٥
٣٧٦

بحوث الأوامر

حالات خاصة للأمر

ـ الأمر مع العلم بانتفاء شرطه

ـ الأمر بالأمر

ـ الأمر بعد الأمر

ـ الأمر بعد نسخ الوجوب

٣٧٧
٣٧٨

الأمر بشيء مع علم الآمر بانتفاء شرطه

قد وقع البحث عندهم في جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ولا بد وأن يكون المقصود من الأمر الّذي يبحث عن جوازه مرتبة من الأمر غير المرتبة المرادة من الأمر الّذي علم بانتفاء شرطه واما لو أريد بهما مرتبة واحدة من الأمر فعدم جوازه واستحالته ناشئ من انتفاء شرطه سواء علم به أم لا فان المعلول ينتفي بانتفاء علته واقعا لا علما كما هو واضح.

إذن فالمقصود في المقام انه هل يجوز جعل الأمر وتشريعه من الآمر مع علمه بانتفاء شرط مجعوله الّذي جعله على ذلك التقدير أم لا؟

حيث ان الجعل فعل اختياري للجاعل فيعقل أن يبحث عن جوازه مع علمه بأن التقدير الّذي يجعل الحكم معلقا عليه منتف خارجا.

وحينئذ نقول : ان انتفاء شرط المجعول تارة يكون ضروريا قهريا ، وأخرى يكون اختياريا.

وفي الفرض الأول ، تارة : يكون الانتفاء الضروري للشرط لامتناعه في نفسه ، كما إذا قال ان اجتمع الضدان وجبت الصدقة ، وأخرى يكون بسبب الجعل نفسه ، كما إذا قال لو لم يجعل عليك الصلاة فصل ، فانه سوف يستحيل فعلية هذا المجعول لأنه

٣٧٩

بنفس هذا الجعل ينتفي موضوع المجعول ، وعلى كلا الفرضين يكون الجعل مستهجنا عقلائيا ولو فرض إمكانه عقلا لكونه بعثا على تقدير لا يتحقق ولو فرض إمكان أن يكون الغرض في نفس جعل هذه القضية فان هذا ليس غرضا عقلائيا من الجعل.

وعلى الثاني ، أي ما إذا كان الانتفاء اختياريا. فتارة : يكون الانتفاء الاختياري بسبب الجعل ومنشئيته له كما إذا كان جعل كفارة الجمع للإفطار العمدي بالحرام مستلزما لانتفائه خارجا ، وأخرى ، يكون الانتفاء الاختياري بدافع طبعي ثابت بقطع النّظر عن الجعل.

لا إشكال في صحة الجعل وجوازه في الأول ، إذ هذا مطابق مع ما هو المقصود والغرض من الجعل. واما الثاني ، كما إذا جعل الكفارة على تقدير تناول العذرة مثلا ، فان الشرط فيه بحسب طبعه منتف خارجا فالجعل وإن كان معقولا وجائزا في نفسه إلا أنه لا يمكن أن يكون كسائر الأوامر بملاك الإرادة الغيرية والمقدمية للمولى يقع في طريق امتثال المكلف خارجا ، لأن ذلك في المقام مضمون بحسب طبع القضية ، بل لا محالة يكون الجعل مرادا لغرض مترتب عليه ، من قبيل أن يتمكن المكلف من التعبد وقصد الامتثال الموجب لترتب الثواب مثلا ونحو ذلك من الأغراض والمصالح التي تترتب في طول الجعل.

٣٨٠