بحوث في علم الأصول - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٢

وللسيد الأستاذ مؤاخذات على شيخه المحقق النائيني ( قده ) في المقام وهي تتلخص في ثلاث نقاط (١).

النقطة الأولى ـ ان ما أفاده من وجاهة تصحيح المحقق الثاني ( قده ) للثمرة بناء على كون اعتبار القدرة في التكليف بحكم العقل مناف لما يبني عليه الشيخ النائيني ( قده ) من استحالة الواجب المعلق ، إذ لازمه فعلية الوجوب للواجب الموسع حتى في زمان المضيق مع كون متعلقه غير مقدور شرعا في ذلك الزمان ، فانه وإن كان متعلقا بالجامع لا الفرد المزاحم إلا أن الجامع أيضا غير مقدور في ذلك الزمان ، لأن أفراده الطولية الاستقبالية أي الأفراد غير المزاحمة غير مقدورة عقلا فعلا وفرده المزاحم غير مقدور شرعا فيلزم التفكيك بين زمان فعلية الوجوب وزمان القدرة على متعلقه وهو مستحيل على مسالكه ( قده ).

وتعليقنا على هذه النقطة يتوقف على بيان أمرين :

الأول ـ ان القائلين باستحالة الواجب المعلق يقولون باستحالته بأحد منشأين :

أولهما ـ انه يستلزم انفكاك البعث عن الانبعاث وهو مستحيل لأن الحكم انما يجعل بداعي جعل الداعي والمحركية فلا بد وأن يكون التحرك والانبعاث معقولا حين فعلية الحكم ، والواجب المعلق لا يكون فيه الانبعاث فعليا قبل مجيء المعلق عليه الواجب.

ثانيهما ـ انه يستلزم إناطة الحكم بالشرط المتأخر لأن مجيء ما علق عليه الواجب يكون شرطا في التكليف ولكنه بنحو الشرط المتأخر فعلى القول باستحالة الشرط المتأخر يكون الواجب المعلق مستحيلا.

والميرزا ( قده ) انما قال بالاستحالة في بحث الواجب المعلق على أساس المنشأ الثاني.

الثاني ـ ان المحقق النائيني ( قده ) يقبل ما يدل عليه دليل في مرحلة الإثبات مما يكون بظاهره من الواجب المعلق سواء كان دليلا خاصا أو إطلاق خطاب ولكنه

__________________

(١) نفس المصدر ، ص ٥٩.

٣٢١

يؤوله بما يندفع به غائلة الشرط المتأخر وذلك بأخذ عنوان تعقب ذلك الشرط شرطا لا نفسه والتعقب شرط مقارن وليس بمتأخر.

وعلى ضوء هذين الأمرين يمكن أن يجاب على ما أخذه عليه السيد الأستاذ من مخالفته لمبناه في استحالة الواجب المعلق في المقام بأن مقتضى إطلاق الخطاب ثبوت التكليف بالصلاة لمن كان عجزه وعدم قدرته مستوعبا أو في خصوص زمان الواجب المضيق المزاحم ـ وهو الإزالة ـ وقد رفعنا اليد عن إطلاق الخطاب فيمن عذره مستوعب فيبقى الإطلاق بلحاظ من ليس كذلك وإن كانت قدرته شرعا غير ثابتة في ذلك الزمان بلحاظ الفرد المزاحم على حاله فان إطلاق الخطاب لا بد من التحفظ عليه مهما أمكن وفي المقام يمكن التحفظ عليه ولو بأخذ الشرط التعقب بالقدرة المقارن مع فعلية الحكم.

النقطة الثانية ـ مما أورده السيد الأستاذ على المحقق النائيني ( قده ) ان التزامه بالإطلاق خلاف ما سلكه في باب المطلق والمقيد والتعبدي والتوصلي من أنه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق أيضا لكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فانه في المقام لا يمكن تقييد الحكم بالفرد المزاحم لعدم القدرة عليه فيستحيل إطلاقه له حتى لو قيل بإمكان الإطلاق في التعبدي والتوصلي بمتمم الجعل لأن أي خطاب يفترض لا يمكن فيه التقييد بالفرد المزاحم.

وهذه النقطة أيضا غير متجهة على المحقق النائيني ( قده ) لأن المراد بالإطلاق المقابل للتقييد تقابل العدم والملكة هو عدم التقييد الّذي هو معنى سلبي والّذي يستلزم سريان الحكم إلى فاقد القيد ، وليس المراد بالإطلاق شمول الحكم الّذي هو معنى وجودي ولا يمكن أن يكون التقابل بينه وبين التقييد بالعدم والملكة. وعليه فإطلاق الحكم للفرد المزاحم يقابله التقييد بغير المزاحم وهو ممكن واما التقييد بالمزاحم فيقابله إطلاق الحكم للفرد غير المزاحم فينبغي أن يكون هو المستحيل وهذه من النتائج الغريبة على أصل هذا المسلك في الإطلاق والتقييد.

النقطة الثالثة ـ مما أورده السيد الأستاذ على المحقق النائيني ( قده ) ان مفاد الأمر ليس إلا عبارة عن اعتبار الشيء في ذمة المكلف لا البعث والإرسال والتحريك

٣٢٢

كي يقال بأنه موقوف على إمكان الانبعاث ولا انبعاث لغير المقدور ، فالقدرة بحسب الحقيقة ليست قيدا للخطاب لا بحكم العقل ولا من باب اشتراط إمكان الانبعاث نحو المتعلق وانما هي شرط عقلي في مقام الامتثال ولزوم الطاعة أي قيد في مرحلة التنجيز واستحقاق العقاب.

وهذه النقطة أيضا غير واردة على المحقق النائيني ( قده ) إذ ليس البحث في المدلول التصوري للأمر كي تربط المسألة به وانما البحث على مستوى المدلول التصديقي والمراد الجدي الّذي هو روح الحكم وحقيقته ، سواء كان المدلول التصوري هو النسبة الإرسالية والتحريكية أو اعتبار الفعل في ذمة المكلف فان ذلك بأي لسان وصياغة كان لا بد وأن يكون بداعي البعث والتحريك جدا وحقيقة والتحريك نحو غير المقدور غير معقول.

والصحيح في دفع إيراد المحقق النائيني ( قده ) على المحقق الثاني أن يقال : بان اشتراط القدرة في الخطاب والحكم لكونه يجعل بداعي جعل الداعي لا يعني تخصيص متعلق الخطاب بالحصة المقدورة خاصة وانما يعني اشتراط كونه مقدورا ، ومن الواضح ان الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور ولو كانت الأفراد طولية لا عرضية ، فان القدرة على الجامع الّذي هو متعلق الخطاب والحكم موجود فيكون البعث نحوه معقولا كما هو واضح ، نعم لو فرض ان التخيير بين الأفراد شرعي لا عقلي كان تعلق الخطاب بالفرد المزاحم غير معقول إلا انه خلف المفروض.

وهكذا اتضح صحة ما أفاده المحقق الثاني من تمامية الثمرة في الفرع الأول وهو ما إذا كان الواجب العبادي موسعا ولكنه لا تصح الثمرة في الفرع الثاني.

وهذا هو الوجه الأول في دفع ما قيل من الاعتراض الأول على الثمرة.

الوجه الثاني ـ تصحيح الثمرة في الفرعين وذلك عن طريق الالتزام بوجود أمر على الفرد المزاحم بناء على عدم الاقتضاء بنحو الترتب أي مقيدا بعدم الإتيان بالمزاحم الآخر الأهم أو المساوي فتصحح العبادة بالأمر الترتبي بناء على عدم الاقتضاء وبناء على الاقتضاء تقع العبادة فاسدة من جهة النهي. وهذا الوجه صحيح بناء على عدم إمكان تعلق الخطاب بالجامع المنطبق على الفرد المزاحم في عرض الأمر بالواجب

٣٢٣

الآخر كما هو في الفرع الثاني ، وبناء على إمكان الترتب كما هو الصحيح على ما يأتي توضيحه مفصلا.

الوجه الثالث ـ تصحيح الثمرة في الفرعين أيضا عن طريق قصد الملاك المحفوظ في الواجب العبادي بناء على عدم الاقتضاء ، ولا يشترط في صحة العبادة إلا وجود الملاك وتحقق القربة التي يكتفي فيها بقصد الملاك ، وفي المقام وإن كان الأمر مرتفعا عن العبادة المزاحمة بالأهم أو بواجب مضيق إلا أن ارتفاعه انما هو فرارا عن التكليف بغير المقدور وليس من أجل ارتفاع الملاك.

وهذا المقدار من البيان يكفي في رده : بأنه كما يحتمل أن يكون الفرد المزاحم قد ارتفع الخطاب عنه لمجرد عدم القدرة عليه مع انحفاظ الملاك فيه كذلك يحتمل أن يكون ارتفاع القدرة رافعا للملاك رأسا وليست مناطات الأحكام وملاكاتها معروفة لدينا كي ندعي ثبوت الملاك في الفرد المزاحم ، ولذلك يحاول إثبات الملاك في الفرد المزاحم بأحد طريقين :

الطريق الأول ـ هو التمسك بالدلالة الالتزامية للخطاب في الفرد المزاحم فانه كان يدل على إطلاق الحكم له بالمطابقة ويدل على ثبوت الملاك فيه بالالتزام ، فإذا فرض ارتفاع الأول دفعا لمحذور طلب غير المقدور أمكننا التمسك بالثاني إذ وجود الملاك في غير المقدور ليس فيه محذور.

وهذا الطريق قد أورد عليه السيد الأستاذ ـ بأن الدلالة الالتزامية تابعة للمطابقية في الحجية أيضا نعم لو كانت التبعية بين الدلالتين في تكونهما فقط لا في الحجية تم هذا الطريق وأمكن تصحيح العبادة المزاحمة عن طريق الملاك (١). ولنا على هذا الاعتراض الموجه من السيد الأستاذ ثلاث كلمات :

الأولى ـ ان ربط المقام بمسألة التبعية بين الدلالتين وإن كان صحيحا في نفسه ولكنه يناقض ما سلكه الأستاذ نفسه في هذه المسألة في دفع كلام المحقق النائيني ( قده ) حيث انه أنكر اشتراط القدرة في التكليف وانما اعتبرها قيدا في الإطاعة

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٣ ، ص ٧٤ ـ ٧٧.

٣٢٤

والتنجز والتكليف الّذي هو عنده عبارة عن جعل الفعل في ذمة المكلف غير مقيد أصلا ، فانه على هذا المسلك لا يكون المدلول المطابقي للأمر ساقطا في الفرد المزاحم فضلا عن سقوط مدلوله الالتزامي كما هو واضح فمثله لا بد وأن يقبل هذا التصحيح.

الثانية ـ ان الصحيح هو تبعية الدلالتين في الحجية أيضا على ما حققناه في محله.

فبناء على ما هو الصحيح من كون القدرة قيدا في الخطاب يسقط المدلول الالتزامي في الفرد المزاحم بعد سقوط المدلول المطابقي للخطاب.

الثالثة ـ ان القائلين بعدم التبعية بين الدلالتين في الحجية أيضا لا يمكنهم التمسك بإطلاق الدليل لإثبات الملاك في الفرد المزاحم لأن شرطية القدرة في الخطاب قيد لبي بديهي بحيث يعد مخصصا متصلا بدليل التكليف ومعه لا ينعقد إطلاق في شيء من الأمرين للحكم والملاك بلحاظ الفرد المزاحم من أول الأمر.

الطريق الثاني ـ لإثبات الملاك هو التمسك بإطلاق المادة على ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) وتوضيحه : هو ان الخطاب يكون متكفلا للدلالة على مطلبين أحدهما طلب المادة والآخر وجود الملاك وتعلقه بها ، وكلا هذين المطلبين منصبان على المادة بحيث يستفاد من خطاب « صل » قضيتان ، إحداهما : ان الصلاة واجبة ، والثانية : ان الصلاة فيها ملاك مولوي ، غاية الأمر ان القضية الأولى مدلول لفظي لصيغة الأمر في حين ان القضية الثانية مدلول سياقي للخطاب.

وفرق هذا الطريق عن الطريق السابق ان الدلالة على الملاك في هذا التقريب في عرض الدلالة على الحكم وليس مدلولا التزاميا طوليا للخطاب كي يسقط بسقوطه بناء على التبعية ، فيكون مقتضى إطلاق القضية الثانية ثبوت الملاك حتى في الفرد المزاحم لأن التخصيص بالقدرة سواء كان بحكم العقل أو مأخوذا في نفس الخطاب لا يكون إلا بلحاظ الحكم والطلب أي بلحاظ القضية الأولى المدلول عليها باللفظ دون الثانية. نعم لو فرض أخذ القدرة في الخطاب صريحا كان ذلك رافعا لإطلاق المادة بلحاظ محموليها ، فقوله ( ان استطعت فحج ) في قوة أن يقول ( إن استطعت فالحج واجب ) وفيه ملاك فيدل على اختصاص الملاك بفرض القدرة وذلك باعتبار ارتباط المحمولين وحملهما معا على المادة فيكون القيد المأخوذ تقييدا للمادة بلحاظهما أيضا.

٣٢٥

وهذا بخلاف ما إذا لم تكن القدرة مأخوذة لفظا في الخطاب الشرعي ، فان القرينة اللبية العقلية على شرطية القدرة لا تشترط ذلك إلا بلحاظ التكليف لا الملاك.

وهذا هو الّذي ينبغي أن يكون مقصود المحقق النائيني في المقام من دعوى عدم قرينية اشتراط القدرة لتقييد إطلاق المادة ، وليس المقصود ان التقييد بالقدرة تكون مرتبته مرتبة الحكم والطلب فلا يمكن أن تكون مقيدة لمرحلة الملاك المتقدمة على الطلب والباعثية كي يورد عليه بما يظهر من بعض كلمات السيد الأستاذ : من ان شرطية القدرة التي تكون قرينة ودالا على التقييد وإن كانت مرتبتها مرتبة الطلب والباعثية إذ من دونهما لا معنى لشرطيتها فتكون متأخرة عن مرحلة الملاك إلا انه لا مانع من تقييدها للملاك فان التقييد يكون بلحاظ المدلول ومقداره ولو كان التقييد متأخرا رتبة ولا أقل من الإجمال باعتبار صلاحيته للتقييد ، ليس هذا مدعى الميرزا بل مدعاه : ان مدلول هذه القرينة ليس إلا بمقدار مرحلة الحكم والباعثية أي القضية الأولى فهي لا تقيد القضية الثانية ولا تصلح لإجمالها أيضا كما اتضح مما سبق.

والصحيح في منع هذا الطريق : إنكار أصله الموضوعي ، فان الخطاب يدل على الحكم والطلب أولا وبالذات وتكون دلالته على الملاك في طول ذلك أي يكون ثبوت الحكم هو الدال على ثبوت الملاك. وهكذا اتضح انه لا يمكن تصحيح العبادة المزاحمة بالملاك بل يتوقف التصحيح على إثبات الأمر فيها بأحد الوجهين المتقدمين أي الأمر العرضي أو الأمر الترتبي واللذين تقدم ثبوت أولهما في الفرع الأول وثبوت الثاني في الفرع الثاني.

وهكذا ينهار الاعتراض الأول على الثمرة.

الاعتراض الثاني : على الثمرة عكس الأول وهو دعوى صحة العبادة حتى على القول بالاقتضاء ، لأن النهي المتعلق بالعبادة المزاحمة يكون غيريا وهو لا يقتضي الفساد.

وقد أوضح هذا المعنى المحقق النائيني ( قده ) والسيد الأستاذ بأن النهي الغيري ما كان من أجل الغير وليس لملاك في متعلقه بل متعلقه على ما هو عليه من الملاك

٣٢٦

الفعلي فيكون إيقاعه صحيحا باعتبار الملاك الموجود فيه (١).

وفيه ـ أولا ـ انه إن أريد بالملاك المحبوبية فمستحيلة بناء على الاقتضاء ، لأن القائل به يدعي وجود مبغوضية في الضد وهي لا تجتمع مع المحبوبية ، وإن أريد بالملاك مجرد المصلحة فهي لا تصلح للمقربية لما تقدم منا في مباحث التعبدي والتوصلي ان قصد المصلحة بما هي هي ومن دون إضافته إلى المولى لا يكون مقربا وفي المقام تكون المصلحة مضافة إلى المولى بإضافة البغض لا الحب فلا يمكن الإتيان بها من أجله (٢).

وثانيا ـ هذا فرع إمكان إثبات وجود الملاك وإحرازه في الفرد المزاحم وقد تقدم انه بعد سقوط الأمر بالعبادة المزاحمة لا يمكن إثبات وجود الملاك فيها وبناء على الاقتضاء لا يمكن إحرازه حتى بنحو الترتب لمكان النهي (٣).

وهكذا يتضح عدم ورود شيء من الاعتراضين على ثمرة القول بالاقتضاء فانه في

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٣ ، ص ٤٩.

(٢) الا أن هذا البغض غيري ناشئ من فوات ملاك الأهم فلا ينافي التقرب بالمهم في قبال ان يتركه أيضا فيخسر المولى كلا الملاكين.

فالحاصل : إضافة فعل إلى المولى يعقل كلما كان حال المولى على تقدير الفعل أحسن من حاله على تقدير عدمه ولا إشكال في ان فعل المهم على تقدير ترك الأهم أحسن للمولى من تركهما معا والمفروض ان النهي عنه ليس نفسيا لتكون مخالفته عصيانا وقبيحا فيمنع عن التقرب.

(٣) الأمر الترتيبي بالمهم مشروطا بترك الأهم لا ينافي محبوبية أو وجوب ترك المهم الموصل إلى الأهم ـ بناء على اختصاص الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة ـ كما لا ينافي وجوب الأهم نفسه لأن الأمر بالمهم المشروط بترك الأهم انما يمنع بحسب الحقيقة عن تحقق الترك غير الموصل ولا يمنع عن تحقيق الترك الموصل. ومنه يعرف انه إذا توقف خارجا فعل واجب أهم على ترك واجب مهم لم يكن من باب التعارض بل التزاحم حتى على القول بوجوب مقدمة الواجب على مستوى عالم الحب والبغض.

لا يقال ـ إذا وجب الترك الموصل مطلقا حرم ضده العام مطلقا أي حرم الفعل حتى في فرض ترك الأهم فيلزم اجتماع الأمر والنهي والمحبوبية والمبغوضية.

فانه يقال ـ أولا ـ لا وجه لافتراض نشوء الأمر بفعل عن المحبوبية دائما بل قد ينشأ عن وجود ملاك ملزم فيه يمكن تحقيقه فيأمر به المولى من أجل عدم تفويته ولو فرض عدم محبوبيته أصلا بل مبغوضيته الغيرية كما في المقام بناء على الاقتضاء.

وثانيا ـ بناء على ان مدرك القول بالاقتضاء هو مقدمية عدم الضد وحكم الوجدان بوجوب المقدمة بمعنى محبوبيتها الغيرية فللقائل بالاقتضاء ان يمنع عن حكم الوجدان بالوجوب فيما إذا كان في الضد ملاك لزومي محبوب في نفسه للمولى وسوف يأتي التزام الأستاذ ١ الشريف وفاقا لصاحب الكفاية « قده » بمثل هذا الاستثناء عن وجوب المقدمة في بحوث اجتماع الأمر والنهي عند التعرض لحكم الخروج عن الدار المغصوبة التي دخلها المكلف بسوء اختياره.

وهكذا يظهر صحة الاعتراض الثاني الّذي وجهته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) في المقام على ثمرة بحث الضد ، نعم إذا قلنا باقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده بلحاظ عالم الحكم والاعتبار أو بلحاظ عالم الإرادة أو الكراهة بوصفها فعلا نفسانيا لا مجرد المحبوبية والمبغوضية وقلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي ـ أي امتناع الأمر بصرف الوجود والنهي عن فرده ـ لم يمكن الأمر بالضد بناء على الاقتضاء ولعل نظر الأستاذ ـ ١ الشريف ـ إلى ذلك.

٣٢٧

الفرع الأول وهو ما إذا كانت العبادة المزاحمة واجبا موسعا تكون العبادة على الاقتضاء فاسدة وعلى العدم صحيحة لوجود أمر بها في عرض الأمر بالضد الآخر ، وفي الفرع الثاني وهو ما إذا كانت العبادة المزاحمة واجبا مضيقا أيضا تكون العبادة فاسدة على الاقتضاء وصحيحة على العدم بناء على إمكان الترتب كما هو الصحيح على ما يقع الحديث فيه إن شاء الله.

بل يمكن صياغة ثمرة القول بالاقتضاء بنحو أوسع يكون بطلان العبادة المزاحمة أحد مظاهرها وذلك بأن يقال : انه على الاقتضاء يدخل الخطابان بالضدين في باب التعارض لأن الأمر بالأهم منهما يقتضي النهي عن الآخر فيعارض الأمر به وبناء على عدمه والقول بإمكان الترتب يدخلان في باب التزاحم بينهما في مقام الامتثال. ومن نتائج ذلك انه على القول بالتعارض يحكم بفساد العبادة باعتبار عدم وجود ما يحرز به الملاك عادة بخلافه على القول بعدم الاقتضاء.

__________________

(١) اتّضح ممّا سبق أن حصول التعارض بين الخطابين لايكفي فيه القول بمقدميّة ترك أحد الضدّين لفعل الآخر والقول بوجوب المقدمة ـ الملازمة ـ بل لابدّ من القول بالملازمة حتى فيما اذا كان في الضدّ ملاك لزومي في نفسه وقدعرفت الإشكال في الاُمور الثلاثة كلّها.

٣٢٨

الفصل الرابع

« مبحث الترتب »

بعد هذا ننتقل إلى البحث عن إمكان الأمر بالضد المهم بنحو الترتب. والحديث عن ذلك يقع في عدة جهات :

الجهة الأولى ـ ان الغرض من هذا البحث إثبات الأمر بالمهم مترتبا على ترك الأهم ، والثمرة المقصودة من ذلك انه على القول بإمكان الترتب لا يدخل الخطابان المتعلقان بالمتزاحمين في باب التعارض لعدم التعارض بينهما بحسب الجعل الّذي هو مدلول الخطاب لأن كل خطاب مقيد بالقدرة على متعلقه وفي موارد التزاحم لا توجد للمكلف إلا قدرة واحدة لو صرفها في كل منهما ارتفع موضوع الآخر وهذا هو البيان الأولى الساذج لتقريب عدم التعارض وسوف يأتي تعميقه وشرح نكاته.

واما بناء على عدم إمكان الترتب فتقع المعارضة بين الخطابين ويدخل موارد التزاحم في التعارض بين الدليلين ، إذ يكون سقوط أحد الخطابين مما لا بد منه وإلا يلزم طلب الضدين المستحيل.

والسيد الأستاذ قد جعل الثمرة لبحث الترتب عبارة عن صحة العبادة المزاحمة مع الأهم مطلقا وكذلك صحة العبادة الموسعة المزاحمة مع الواجب المضيق بناء على مبنى المحقق النائيني ( قده ) من استحالة الأمر بالجامع الموسع للفرد ، المزاحم ، لاستحالة

٣٢٩

التقييد به المستلزم لاستحالة الإطلاق له.

ولكن الأفضل على ضوء ما تقدم جعل الثمرة بالنحو الأوسع ويكون بطلان العبادة وصحتها أحد مظاهر وآثار تلك الثمرة.

كما انه بناء على مسلك السيد الأستاذ من إنكار شرطية القدرة في التكليف لا من باب حكم العقل بالقبح ولا من باب تقيد الخطاب بالقادر روحا ولبا وانما هي شرط في التنجز العقلي ولزوم الإطاعة. أقول : بناء على هذا المسلك الّذي سلكه الأستاذ لا تبقى ثمرة للبحث عن إمكان الترتب وعدمه ، إذ طلب الضدين في عرض واحد يكون ممكنا على هذا القول ، لأنه ليس بأكثر من طلب الفعل من العاجز بل نكتة استحالته انما هو العجز وعدم إمكان الجمع بينهما فلا موجب لسقوط الأمر بالضد بل يبقى الأمر على الضد المهم في عرض الأمر بالأهم ، فشرط تأثير الترتب في الثمرة المقصودة أن يكون الخطاب مقيدا بالقدرة بحيث لا يمكن التكليف بغير المقدور كما هو الصحيح. وقد تقدم منا في بعض الأبحاث السابقة ان الخطاب ولو كان مدلوله عبارة عن اعتبار الفعل في ذمة المكلف ، له ظهور في انه بداعي الجد وليس هزلا وذلك الداعي الجدي هو التحريك والباعثية ، ومن الواضح ان هذا الظهور العرفي لو سلم كان مدلول الخطاب مقيدا بالقدرة لا محالة إذ لا يعقل الباعثية والمحركية نحو غير المقدور.

واما ما أفاده من الثمرة في العبادة الموسعة بناء على استحالة إطلاق الأمر العرضي للفرد المزاحم منها مع الواجب المضيق فقد تقدم دفعه وانه ليس تطبيقا صحيحا لقاعدة استحالة الإطلاق حيث يستحيل التقييد.

وهكذا يتضح : ان ما ينبغي جعله ثمرة للبحث عن إمكان الترتب هو الصياغة العامة التي ذكرناها ، وهي دخول الأمر بالمتزاحمين في باب التعارض على القول بالاستحالة وعدم دخولهما في ذلك على القول بالإمكان ، لا الصياغة التي أفادها الأستاذ من تصحيح الضد العبادي. والصياغتان كلتاهما مبنيتان على أصلين موضوعيين.

أولهما : ـ أخذ القدرة قيدا في التكليف إذ من دونه لا مانع من الأمر بالضدين في عرض واحد ومعه لا موضوع للتعارض ، كما انه سوف يكون الضد العبادي ذا أمر

٣٣٠

عرضي فتصحح به العبادة سواء كان الترتب ممكنا أم لا.

ثانيهما : ـ أن لا يكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضده وإلا فلا محالة يكون هناك تعارض بين الأمر بالضد مع النهي عنه سواء قيل بإمكان الترتب أم لا ، كما انه لا يقع الضد عباديا سواء قيل بإمكان الترتب أم لا لمكان النهي وعدم إمكان التقرب بالملاك محضا على ما تقدم.

والصياغة الأولى تمتاز على الثانية من ناحيتين :

الأولى ـ ان الثانية من متفرعات الأولى وشئونها إذ لا تكون صحة الضد العبادي سواء فيما إذا زاحم الواجب الأهم أو الواجب المضيق ـ وقلنا بعدم إمكان الأمر بالجامع الموسع ـ على القول بإمكان الترتب إلا باعتبار عدم المعارضة بين الخطابين ، واما بناء على استحالة الترتب فيكون هناك تعارض بينهما وبالتالي لا يمكن تصحيح الضد العبادي.

الثانية ـ ان الصياغة الأولى للثمرة أعم من الثانية بحيث تثبت حتى على تقدير عدم ثبوت الثانية ، كما إذا افترضنا ان المدلول الالتزامي لا يسقط عن الحجية بعد سقوط المطابقي ، فانه على ذلك يكون الضد العبادي صحيحا حتى لو قيل باستحالة الترتب فلا تثبت الثمرة بصياغتها الثانية إلا انها تثبت بالصياغة الأولى إذ يكون هناك تعارض بين الخطابين على القول بالاستحالة فيحكم قوانين التعارض على الخطابين.

ثم ان التعبير الجاري على كلام السيد الأستاذ لتقريب الثمرة بحاجة إلى شيء من التعديل حيث جعل ثمرة القول بإمكان الترتب تصحيح الضد العبادي مع انه لا وجه لتخصيصها به سواء جعلنا الثمرة بالصيغة الأولى الشاملة أو بالصيغة الثانية. اما على الأول : فلوضوح ان دخول الخطابين في التعارض بناء على الاستحالة وعدمه بناء على الإمكان لا يختص بما إذا كان الخطابان تعبديين أو توصليين أو مختلفين. واما على الثاني : فلأن الضد حتى لو كان توصليا يمكن تصحيحه وإثبات الاجتزاء به بناء على إمكان الترتب ، نعم لو فرض القول بعدم سقوط الدلالة الالتزامية بعد سقوط الدلالة

٣٣١

المطابقية وقلنا بان الملاك لا يمكن التعبد به بل لا بد من الأمر في تصحيح العبادة ، لم يكن الاجتزاء بالضد التوصلي مبنيا على الترتب بل مع استحالته أيضا يجتزأ به باعتبار توفره على الغرض والملاك المنكشف بالدلالة الالتزامية للخطاب.

الجهة الثانية ـ ان كل خطابين سواء كانا متعارضين أم لا ـ قد لا يكون أحدهما رافعا لموضوع الآخر ، كخطاب صل وصم أو خطاب صل ولا تصل. وقد يكون أحدهما رافعا لموضوع الآخر ، وهذا الأخير يكون بأحد أنحاء خمسة ذكرناها تفصيلا في مباحث تعارض الأدلة ونجملها في المقام فنقول :

الأول ـ أن يكون أحد الحكمين بجعله رافعا للآخر ، ومثاله ما إذا سلمنا فقهيا بالكبرى القائلة بعدم دخول مال زكوية واحدة في نصابين ، وقلنا بأن النصاب المتقدم لا يمكن تجاوزه وإهماله ، وافترضنا ان الإبل بلغت عشرين وهو النصاب الرابع وفيه خمس شياة ولكن معلقا على مرور الحول ، وافترضنا انه على رأس ستة أشهر من الحول أصبحت خمسا وعشرين إبلا وهو النصاب الخامس ، فانه في مثل ذلك بناء على القاعدة المذكورة سوف يكون دخول الإبل في النصاب الأول رافعا لحكم النصاب الثاني رغم عدم فعلية حكم النصاب الأول بعد.

الثاني ـ أن يكون أحد الحكمين رافعا بفعلية مجعولة للحكم الآخر ، كما إذا افترضنا ان الفعل المنذور أصبح مرجوحا فانه يرتفع عندئذ وجوب الوفاء بالنذر لأنه قد أخذ فيه رجحان متعلقه أو عدم مرجوحيته على أقل تقدير ، وكذلك الحال في وجوب الوفاء بالشرط.

الثالث ـ أن يكون أحد الحكمين رافعا بوصوله وانكشافه للحكم الآخر ، كما إذا جعلت الغاية في الأصول العملية الانكشاف والعلم الوجداني فانها ترتفع بوصول الحكم الواقعي لا بوجوده واقعا. وكذلك حكم حرمة الإفتاء بغير علم يرتفع بالعلم لا بالوجود الواقعي للحكم.

الرابع ـ أن يكون أحد الحكمين رافعا للآخر بتنجزه ، كما إذا فسرنا الغاية في الأصول العملية بالمنجز فانه حينئذ يكون الحكم الواقعي المنجز ولو بغير العلم الوجداني رافعا لها وواردا عليها ، وكذلك من أمثلة ذلك ما إذا قلنا في باب الزكاة باشتراط كون

٣٣٢

المال الزكوي جائز التصرف وغير ممنوع عن التصرف فيه شرعا خلال الحول فان المنع الشرعي انما يتحقق بتنجز حرمة التصرف بنذر أو غير ذلك عليه وبه يرتفع الحكم بالزكاة.

وكذلك من أمثلته ما إذا كان الحكم مقيدا بالقدرة الشرعية ، كما إذا قيد وجوب الوضوء بالماء على كون التصرف فيه مقدورا شرعا فان حرمة التصرف فيه أو وجوب بذله لحفظ النّفس المحترمة مثلا يكون رافعا لوجوب الوضوء بتنجزه لا محالة.

الخامس ـ أن يكون الحكم بامتثاله رافعا للآخر ، كما في التكليف بالكفارات فانه بامتثال الأمر بالصوم وعدم الإفطار يرتفع وجوب الكفارة.

وفي المقام إذا تزاحم واجبان كالإزالة والصلاة فإذا قلنا بإمكان الترتب كان امتثال الأهم هو الرافع للأمر بالمهم لا جعله ولا فعلية مجعوله ولا وصوله أو تنجزه. واما على القول باستحالة الترتب فالتقييد بعدم الامتثال لا يرفع محذور الاستحالة والامتناع بل لا بد من التقييد أكثر من ذلك. والصحيح حينئذ هو التقييد بعدم تنجز الأهم لا بعدم وصوله أو بعدم فعليته فانه بهذا المقدار من التقييد يرتفع محذور الامتناع من البين لأن جعل الأمر بالمهم مقيدا بعدم تنجز الأهم غير ممتنع بل معقول فيكون إطلاق خطاب المهم لحالة عدم تنجز الأهم غير ساقط فيكون المتزاحمان من القسم الرابع بناء على هذا المسلك.

لا يقال ـ هذا أنما يتم لو كان ملاك أخذ القدرة في التكليف هو قبح تكليف العاجز وكونه إحراجا له على العصيان مثلا ، واما لو قلنا بان ملاك التقييد هو استحالة البعث والتحريك نحو غير المقدور بعد استظهار ان التكليف مهما كانت صياغته التعبيرية انما هو بداع جدي هو الباعثية والمحركية.

أقول : بناء على هذا المسلك الّذي هو الصحيح في تخريج شرطية القدرة في الخطابات. لا يكفي تقييد الأمر بالمهم بعدم تنجز الأهم في رفع الامتناع بل يتعين تقييده بعدم فعلية الأهم كي لا يلزم التحريك والبعث نحو الضدين.

فانه يقال : الباعثية والمحركية التي قلنا انها هي الداعي وراء التكاليف والتي على أساسه لا تشمل التكاليف غير القادر يمكن أن يراد بها أحد معان.

٣٣٣

الأول ـ أن يكون مصحح التكليف والداعي عليه ـ الّذي هو المراد التكويني من التكليف ـ الباعثية أعني انبعاث المكلف انبعاثا فعليا مطلقا ، وهذا المعنى وإن كان صالحا لتقييد الخطاب والتكليف بالقادر لو فرض استظهاره من الدليل غير انه واضح الفساد في نفسه ، إذ لو كان داعي المولى هو الانبعاث الفعلي فهذا لا يكون إلا في حق المكلف المنقاد دون العاصي فانه لا يتحرك من التكليف فلو كان الداعي هو الانبعاث الفعلي كان معناه عدم التفات المولى إلى وجود العاصي.

الثاني ـ أن يكون الداعي من التكليف الانبعاث على تقدير الانقياد ، بأن يكون التكليف بداعي أن ينقاد المكلف فينبعث. وهذا المعنى أيضا غير تام ، لأنه وإن كان صالحا لتخصيص الخطاب بالقادر الّذي يتعقل في شأنه الانقياد والانبعاث إلا أنه يستلزم تخصيص الخطاب بغير الجاهل بالحكم خصوصا إذا كان جهله مركبا ، فانه حتى لو كان منقادا لا ينبعث بالخطاب ولا ينقاد به إلا بالوصول ، فلو استظهر من الخطاب داعي أن ينقاد المكلف وينبعث كان مخصوصا بمن علم بالتكليف وهو تصويب باطل.

الثالث ـ أن يكون التكليف بداعي الانبعاث على تقدير الانقياد والوصول والتنجز ويكون الوصول والتنجز قيدا في المراد لا الإرادة ، أي يريد بالتكليف أن يصل إلى المكلف فينقاد فينبعث. وهذا المعنى لو استظهر من الدليل لا يوجب تخصيص الخطاب بالعالم بل يشمل الجاهل أيضا ، نعم لا يشمل العاجز لأنه حتى لو وصل إليه لما أمكنه الانقياد.

الرابع ـ أن يكون الداعي هو الانبعاث الاقتضائي أي أن يكون صالحا للمحركية لو لا المزاحم والمانع وهذا هو وجه اشتراط القدرة الشرعية في الخطاب.

فانه لو استظهر من التكليف انه بداعي جعل ما يقتضي التحريك والانبعاث لو لا المزاحم لا التحريك الفعلي كان الخطاب غير شامل لموارد عدم القدرة شرعا ولو كانت القدرة العقلية محفوظة.

الخامس ـ أن يكون الداعي انبعاث كل مكلف نحو المطلوب حسب درجة انقياده ، فيكون الغرض من التكليف بالنسبة إلى من لا ينقاد إلا بالوصول أن يصل

٣٣٤

إليه فينقاد وبالنسبة إلى من ينقاد بمجرد الظن والاحتمال أن ينقاد حتى لو لم يصل إليه هذه هي الاحتمالات الخمسة في تصوير الداعي من وراء التكليف ، ومن الواضح أن تقييد الأمر بالضد المهم ـ بناء على استحالة الترتب ـ بعدم تنجز الأمر بالضد الآخر الأهم على الاحتمال الأول والثاني لا يجدي في رفع الامتناع ، إذ لو كان التكليف مقيدا بالقدرة من جهة كونه بداعي الانبعاث الفعلي أو على تقدير الانقياد فهو غير معقول بلحاظ الضدين إذ لا يمكن الانبعاث إليهما حتى إذا كان يريد الانقياد بل لا بد من تقييد كل منهما بعدم فعلية الآخر. واما بناء على الاحتمال الثالث والرابع فلا مانع من التكليف بالضد المهم على فرض عدم وصول الأهم ، لأن المولى وإن كان واقعا مريدا للأهم إلا أن إرادته لا تعني أكثر من داعي تحريك المكلف نحو الأهم على تقدير وصوله إليه وانقياده ، ومثل هذا الداعي لا يمنع عن داعي الانبعاث نحو المهم في فرض عدم وصول الأهم إلى المكلف ولا يلزم من وجودهما الانبعاث والتحريك نحو غير المقدور إذ لا يصل الأهم إلا ويرتفع المهم.

واما الاحتمال الخامس ـ فهو يقتضي إمكان الأمر بالمهم في فرض عدم وصول الأهم وكان بحيث لا ينقاد منه المكلف بحسب درجة اهتمامه بالانقياد للمولى ، واما إذا كان انقياده بدرجة بحيث ينقاد من التكليف المحتمل كان الأمر بالمهم مع احتمال الأهم غير ممكن ولو فرض تقييده بعدم تنجزه ، باعتباره مستلزما لوجود داعيين مولويين للانبعاث نحو الضدين وهو غير معقول. وبهذا يتضح الفارق بين المقام بناء على امتناع الترتب وبين موارد التعارض الأخرى ـ كموارد اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع ـ فانه في تلك الموارد يقيد كل تكليف بعدم الآخر واقعا لا بعدم تنجزه فان الامتناع هنا لك في مركز أسبق من الحكم والتكاليف وهو مركز الملاك ومبادئ الحكم أي الحب والبغض حيث يستحيل ثبوتا اجتماع حب وبغض في موضوع واحد قبل النّظر إلى عالم التنجز وإطاعة العبد ، واما في المقام فباعتبار تعدد موضوع كل من الأمرين فلا امتناع ولا تعارض من ناحية مبادئ الحكم ـ فيما إذا لم يبن علي اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده ـ واما من جهة نفس الحكم والتكليف بالضدين فلو اقتصرنا على ما يقال من أن الحكم هو مجرد اعتبار لا أكثر

٣٣٥

فلا امتناع في التكليف بالضدين حتى في عرض واحد فضلا عما إذا قيد أحدهما بعدم وصول وتنجز الآخر. نعم بلحاظ حكم العقل باستحقاق الامتثال لا بد من تقييد أحد الاستحقاقين بعدم الآخر. واما إذا لاحظنا ما يكشف عنه الحكم من الداعي واستظهرنا انه بداعي البعث والتحريك الّذي لا يعقل بالنسبة إلى غير المقدور ـ كالضدين معا ـ فالامتناع مبني على أحد التفسيرين الأول أو الثاني لداعي الانبعاث على ما تقدم ، واما على التفسيرين الثالث أو الرابع بل الخامس أيضا لو فرض عدم كون المكلف منقادا بدرجة يكفي احتمال التكليف لتحريكه فلا مانع من التكليف بالضدين معا مع تقييد المهم بعدم وصول الأهم ، فلا يكون الساقط من إطلاق الأمر بالمهم إلا بمقدار ما إذا فرض تنجز الأهم.

الجهة الثالثة ـ استدل للقول بإمكان الترتب بالنقض بما ثبت في الفقه من عدم سقوط الأمر بالصلاة الرباعية مثلا حتى إذا وجب على المكلف أن يسافر بنذر أو غيره وقد عصى ذلك ، فانه في مثل ذلك اما أن يقال بسقوط الصلاة رأسا أو بثبوت صلاة ثنائية في حقه أو بثبوت صلاة رباعية على تقدير أن لا يسافر؟ والأولان خلاف الضرورة الفقهية ، والثالث هو الترتب إذ معناه انه مكلف بالسفر وهو على حد التكليف بالإزالة الأهم ومكلف على تقدير عدم السفر بالصلاة الحضرية الرباعية على حد التكليف بالصلاة على تقدير عدم الإزالة.

ونظيره فرع آخر وهو ما إذا كان الواجب الإقامة ولكن المكلف سافر فانه لا إشكال فقهيا في وجوب الصلاة الثنائية عليه في السفر على تقدير عدم الإقامة وهو من الترتب.

ونظيره أيضا ما إذا وجب السفر في شهر رمضان فانه إذا لم يسافر لا إشكال فقهيا في عدم سقوط الصوم عنه على تقدير عدم السفر وهو من الترتب أيضا.

ولنا حول هذا النحو من الاستدلال ثلاث تعليقات :

التعليق الأول ـ ان الفروع الفقهية هذه كلها أجنبية عن الترتب ، لأن هناك علاقتين بين الخطابين في موارد الترتب :

الأولى : ان الأمر بالأهم يستدعي ـ بامتثاله ـ رفع موضوع الأمر بالمهم باعتبار ترتبه على عدم الإتيان بالأهم.

٣٣٦

الثانية ـ ان كلا من الأمرين الأهم والمهم يقتضي من المكلف ـ عند فعلية شرط المهم ـ تحركا يعاكس ما يقتضيه الآخر باعتبار التضاد بين المتعلقين فيكون كل منهما مطاردا للآخر.

والعلاقة الأولى من العلاقتين هي المنشأ للقول بإمكان الترتب عند القائلين به حيث انه استوجب توهم عدم التنافر والتعاند بين الخطابين ، والعلاقة الثانية هي المنشأ لتوهم الاستحالة عند القائلين بها ، ومن البديهي ان الأمثلة المذكورة كلها لا تحتوي إلا على العلاقة الأولى من هاتين العلاقتين ، حيث يكون الأمر بالصلاة الرباعية مثلا مترتبا على عدم السفر فيكون الأمر بالسفر مستدعيا بامتثاله رفع الأمر بالصلاة ولكنه لا تضاد بين المتعلقين كي تكون بينهما العلاقة الثانية ، لأن الصلاة الرباعية وإن كانت مقيدة بالحضر وعدم السفر إلا أنه من شرائط الوجوب بحسب الفرض فلا يكون تحت الطلب كي يكون الأمر به مطاردا مع الأمر بالسفر ومقتضيا لتحرك المكلف باتجاه معاكس مع ما يقتضيه الأمر بالسفر كما كان في موارد الترتب ، فكأن سوق هذه النقوض كان نتيجة لملاحظة العلاقة الأولى التي هي مجرد ترتب أحد الأمرين على عصيان الآخر مع أنك عرفت أن هذه العلاقة منشأ القول بالإمكان لا الاستحالة.

التعليق الثاني : ان الضرورة الفقهية في الفروع المذكورة انما تقوم على النتيجة وهي عصيان المكلف بترك الصلاة الرباعية في الفرع الأول والثنائية في الفرع الثاني وترك الصوم في الفرع الثالث ، ولكنها لا تعين كيفية تخريجها وصياغتها ثبوتا وانها على أساس الأمر الترتبي ، وعليه فيكون برهان استحالة الترتب منضما إلى هذه الضرورة الفقهية معينة لصياغة ثبوتية أخرى وهي يمكن تصويرها بأحد وجهين :

الأول : أن يكون هناك أمران عرضيان أحدهما بالسفر والآخر بالجامع بين السفر والصلاة الرباعية في الحضر ـ أو الثنائية في السفر أو الصوم في الحضر ـ فاننا قد تعقلنا في الأبحاث السابقة إمكان وجود أمرين أحدهما بالجامع تخييريا والآخر بالفرد تعيينا فيكون تارك السفر والصلاة معا معاقبا بعقابين لا محالة لتركه مطلوبين

٣٣٧

كانا مقدورين في حقه ، واما لزوم ثوابين أيضا لو جاء بالسفر باعتباره ممتثلا الأمرين معا فلو فرض عدم الالتزام به فقهيا أمكن توجيهه بأن الأمرين باعتبار نشئهما عن مصلحتين لا يمكن إلا تحصيل أحدهما دائما فلا يكون عليهما إلا ثواب واحد ، وإنما اقتضيا التكليف بالصياغة المذكورة التي يتعدد فيها الأمر لمجرد الفرار عن محذور طلب الضدين غير المقدور للمكلف.

الثاني ـ أن يقال بتحريم الجمع بين التركين ، ترك السفر وترك الصلاة الرباعية ، ويكفي في تصحيح قربية العمل قصد التخلص من الحرام إذا كان متوقفا عليه كالوضوء من أجل مس المصحف مثلا ، فيكون فعل الصلاة قربيا بهذا الاعتبار ويكون تارك السفر والصلاة معا معاقبا بعقابين لتركه واجبا وفعله حراما.

التعليق الثالث ـ ان النقضين الأولين من هذه النقوض مبنيان على القول بكون السفر والحضر من شرائط وجوب التمام والقصر ، واما لو قلنا بأنهما قيدان في الواجب والوجوب مطلق متعلق بالجامع بين الرباعية الحضرية والثنائية السفرية فلا ترتب أصلا ، بل هناك أمران من أول الأمر بالسفر وبالجامع المذكور ولا ترتب بينهما ولا تضاد بين متعلقيهما إذ السفر يمكن أن يجتمع مع الجامع المذكور كما هو واضح.

نعم هذا المسلك ليس هو المسلك المتعين بل هناك مسلك آخر يرى بان السفر والحضر من شرائط التكليف بالرباعية أو القصر ، وقد يشكل بناء عليه بمن كان حاضرا أول الوقت مسافرا آخره من انه لو كان شرط التكليف بالرباعية ان يكون المكلف حاضرا في تمام الوقت لزم عدم تكليفه في المثال المذكور بها مع وضوح انه لو صلى قبل سفره كان مصداقا للواجب ، ولو فرض ان الشرط هو الحضر ولو في أول الوقت لزم القول بوجوب الرباعية عليه قبل أن يسافر وكونه عاصيا فيما إذا سافر من دون الصلاة مع انه مما لا يلتزم به أحد.

والجواب : بافتراض تقييد زائد في دليل التكليف وشرطه بأن نقول مثلا أن الشرط هو الحاضر في أول الوقت إضافة إلى شرط آخر هو أن لا يسافر بعد ذلك سفرا غير مسبوق بالصلاة الرباعية ، فلو لم يسافر أصلا أو سافر سفرا مسبوقا بالصلاة الرباعية كان التكليف بالرباعية فعليا عليه من أول الأمر وكانت صلاته الرباعية مصداقا

٣٣٨

للواجب ، لأنه في الصورتين لم يقع منه سفر غير مسبوق بالصلاة وأما لو سافر سفرا غير مسبوق فلا يكون عليه تكليف بالرباعية من أول الأمر.

الجهة الرابعة ـ استدل على إمكان الترتب بالطولية بين الأمر بالمهم مع الأمر بالأهم فلا مانع من اجتماعهما ، نظير ما يقال في الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية من عدم التمانع والتنافي بينهما لأن مرتبة الحكم الظاهري متأخرة عن الحكم الواقعي المضاد أو المماثل. وقد ذكر في تقريب ذلك وجوه :

الأول ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) نقلا عن بعض القائلين بإمكان الترتب وحاصله : ان الأمر بالمهم في مرتبة متأخرة عن الأمر بالأهم فيكون اقتضائه الإتيان بالمهم في غير مرتبة اقتضاء الأمر بالأهم بل في رتبة متأخرة ، وذلك لأن الأمر بالمهم مترتب على ترك الأهم وهذا الأخير في رتبة فعل الأهم ـ بناء على أن النقيضين في رتبة واحدة ـ وفعل الأهم متأخر عن الأمر بالأهم واقتضائه لأنه معلول له فيكون الأمر بالمهم واقتضائه لفعل المهم متأخرا عن الأمر بالأهم واقتضائه فلا محذور (١).

وهذا التقريب يمكن أن يورد عليه بعدة وجوه :

الأول ـ النقض بما إذا قيدنا الأمر بالمهم بامتثال الأهم لا بعصيانه ، فانه سوف تكون رتبة الأمر بالمهم متأخرة عن رتبة الأمر بالأهم ، مع انه لا إشكال في استحالته حتى عند القائل بإمكان الترتب.

وهذا النقض غير وجيه بهذه الصياغة ، إذ يدفعه : انه على تقدير إتيان الأهم يكون فعل المهم غير مقدور في نفسه إذ الضد المقيد بوجود الضد الآخر ممتنع في نفسه فيكون الأمر به أمرا بالممتنع في نفسه وليس من قبيل الأمر بالضد المقدور في نفسه.

الثاني ـ النقض بما إذا قيد الأمر بالمهم باقتضاء الأمر بالأهم للامتثال أو قل بفعلية الأمر بالأهم فانه في مثل ذلك سوف تتعدد رتبة الأمرين واقتضائهما مع وضوح ان مشكلة تعلق الأمر بالضدين لا ترتفع بذلك.

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ٢٣٣.

٣٣٩

الثالث ـ ان غائلة المنافاة والتضاد في اجتماع المتضادين تكمن في اجتماعهما في زمان واحد لا في رتبة واحدة ، لأنها من شئون وجود الضدين في الزمان ولذلك قلنا فيما تقدم من الأبحاث بأن استحالة اجتماع الضدين لا ترتفع حتى لو فرض الطولية بينهما كما لو كان أحدهما علة للآخر ، ففي المقام اجتماع اقتضاء الأمرين بالضدين في زمان واحد يكون مستحيلا ولو كان في رتبتين ، فان ملاك الاستحالة المعية في الزمان لا في الرتبة وغاية ما يثبت بهذا التقريب عدم المعية في الرتبة.

الرابع ـ ان الأمر بالمهم واقتضائه لفعل المهم وإن كان في طول ترك الأهم ولكن ترك الأهم ليس في رتبة فعله ليكون في طول الأمر به ، لأن قانون ان النقيضين في رتبة واحدة غير صحيح على ما مضى في مبحث مقدمية ترك أحد الضدين للآخر فلا تتعدد مرتبة الأمرين.

وهذا الجواب يمكن رده بتغيير الصياغة وذلك بأن يقال : ان المرتب عليه الأمر بالمهم ليس هو ترك الأهم بل عصيانه وهو عنوان انتزاعي يتقوم بالأمر بالأهم إذ من دونه لا يتعقل العصيان فيكون متقدما عليه بالطبع من باب انه كلما وجد العصيان كان الأمر بالأهم موجودا دون العكس.

الخامس ـ ان هذا التضاد بين الأمرين ليس ذاتيا وإنما باعتبار التضاد بين متعلقهما أي الصلاة والإزالة مثلا فتعدد الرتبة بين نفس الأمرين لا يدفع مشكلة الأمر بالضدين التي هي منشأ التنافي بين الأمرين بل يتعين في رفع التنافي والتضاد العرضي بين الأمرين من علاج التضاد الذاتي بين المتعلقين بأن لا يكون من اجتماع الضدين في مرتبة واحدة. وحينئذ إذا قبلنا قانون ان النقيضين في رتبة واحدة أمكن العلاج المذكور ، حيث يكون فعل المهم متأخرا عن الأمر به المتأخر عن ترك الأهم الّذي هو في رتبة فعل الأهم فيتأخر المهم عن الأهم رتبة ، واما إذا أنكرنا ذلك بقيت الممانعة والمضادة بين المتعلقين على حالها فيكون الأمر بهما ولو في رتبتين أمرا بالضدين.

نعم الأمر بالأهم يتطلب هدم موضوع الأمر بالمهم إلا ان هذه نكتة مستقلة للقول بإمكان الترتب سوف يأتي ذكرها في برهان مستقل.

التقريب الثاني ـ ان الأمر بالمهم معلول لعصيان الأهم وسقوط الأهم أيضا

٣٤٠