بحوث في علم الأصول - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٢

فلا يحتاج حدها إلى بيان زائد على بيان المحدود بينما تزيد الإرادة الضعيفة بحدها على حقيقة الإرادة فلو كانت هي المعبر عنها بالأمر لكان اللازم ان ينصب القرينة على حدّها الزائد لأن الأمر لا يدل الا على ذات الإرادة (١).

وهذا البيان وإن كان صناعيا في الجملة الا انه يرد عليه بان الإطلاق ومقدمات الحكمة ظهور حالي عرفي يقتضي في ما دار امر المتكلم فيه بين أن يكون مرامه سنخ مرام يفي به كلامه وليس فيه مئونة زائدة بنظر العرف أو كونه سنخ مرام بحاجة إلى مئونة زائدة في نظر العرف لم يف بها الكلام تعين الأول واما لو فرض ان هذا التمييز والاختلاف بين المرامين والحدين امر عقلي بالغ الدقة لا عرفي فلا تكون مقدمات الحكمة مؤثرة في إثبات إطلاق عرفي لتعيين أحدهما في قبال الآخر وما ذكر من الفرق بين الوجوب والاستحباب كذلك فان العرف لا يلتفت إليه حتى ارتكازا (٢).

الثاني ـ وهو يتركب من مقدمتين :

أولاهما ـ ان الوجوب ليس عبارة عن مجرد الطلب لأن ذلك ثابت في المستحبات أيضا بل لا بد من عناية زائدة وليست هذه العناية عبارة عن انضمام النهي أو المنع عن الترك إلى الطلب لأن النهي بدوره ثابت أيضا في باب المكروهات وانما العناية الزائدة هي عدم الترخيص في الترك خلافا للاستحباب الّذي تكون العناية فيه الترخيص في الترك والنتيجة ان الوجوب طلب متميز بقيد عدمي والاستحباب طلب متميز بقيد وجودي وهو الترخيص في الترك.

ثانيهما ـ انه كلما كان الكلام وافيا بحيثية مشتركة وتردد أمرها بين حقيقتين المميز لإحداهما أمر عدمي وللأخرى أمر وجودي تعين بالإطلاق الحمل على الأول لأن الأمر العدمي لا مئونة فيه بحسب النّظر العرفي فإذا كان المقصود ما يتميز بالأمر الوجوديّ

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ٦٥ ـ ٦٦.

(٢) على ان هذا البيان انما ينفع في إثبات الوجوب بالأمر في مقام الإنشاء ولا ينفع في دلالة مادة الأمر على الطلب الوجوبيّ إذا لم تستعمل في مقام إنشاء الطلب والإرادة التشريعية بها أي إذا لم يكن المرام الجدي للكلام الطلب بل الاخبار عن الطلب ومن الواضح ان الوجدان العرفي قاض بان مادة الأمر المستعملة في مقام الاخبار أيضا ظاهر في إرادة الطلب الوجوبيّ منها فيكون دليلاً على القول الأول لا محالة وان منشأ الدلالة على الوجوب لا بد وان يكون هو الوضع. وهذا إشكال وارد على جميع التقريبات التي سوف تذكر لاستفادة الوجوب بالإطلاق ومقدمات الحكمة الّذي هو ظهور حالي.

٢١

الزائد مع انه لم يذكر ذلك الأمر الوجوديّ الزائد في الكلام فهذا خرق عرفي لظهور حال المتكلم في بيان تمام مرامه بكلامه ، واما إذا كان المقصود ما يتميز بالأمر العدمي فليس هناك خرق عرفا لأن المميز عند ما يكون أمرا عدميا فكأنه لا يزيد على الحيثية المشتركة التي يفي بها الكلام.

ويرد عليه المنع من المقدمة الثانية فانه ليس كل أمر عدمي لا يلحظ عرفا أمرا زائدا ، ولهذا لا يرى في المقام ان النسبة بين الوجوب والاستحباب نسبة الأقل والأكثر بل النسبة بين مفهومين متباينين نعم هذه النكتة تقبل في باب الإطلاق اللحاظي الّذي هو مبني المشهور في أسماء الأجناس القائلين باستحالة ان يكون موضوع الحكم ذات الطبيعة المحفوظة ضمن المطلق والمقيد فانه بناءً عليه لا يشك في أخذ خصوصية زائدة في المرام غير موجودة في الكلام الدال على ذات الطبيعة فيقال بأن العرف يرى بالمسامحة انه لو كان مرامه المطلق فقد بين تمام مرامه فلا خرق لذلك الظهور الحالي بخلاف ما إذا كان مرامه المقيد.

الثالث ـ نفس التقريب الثاني مع فرق في المقدمة الثانية حيث يقال هنا بأن المميز للوجوب وان كان بحسب النّظر العرفي مئونة زائدة على ذات الطلب وبحاجة إلى بيان الا أنه حيث يعلم على كل حال بوجود مئونة زائدة على ذات الطلب وهذه الزيادة مرددة بين زيادة أخف هي الأمر العدمي أو زيادة أشد هي الأمر الوجوديّ فسكوت المتكلم عرفا عن بيان الزيادة الأشد يكون قرينة على إرادة الزيادة الأخف فيتعين الوجوب لا محالة.

ويرد عليه : ان هذه النكتة لو سلمت كبرى وصغرى فليست في تمام الموارد بل في خصوص ما إذا أحرز ان المولى بالرغم من سكوته عن بيان الزيادة يكون بصدد بيانها وهذه عناية لا تحصل دائما بينما البناء الفقهي والعرفي على فهم الوجوب في سائر الموارد.

الرابع ـ ان صيغة الأمر تدل على الإرسال والدفع بنحو المعنى الحرفي ولما كان الإرسال والدفع مساوقا لسدّ تمام أبواب العدم للاندفاع والتحرك فمقتضى أصالة التطابق بين المدلول التصوري والمدلول التصديقي ان الطلب والحكم المبرز أيضا سنخ

٢٢

حكم يشتمل على سدّ تمام أبواب العدم وهذا يعني عدم الترخيص في المخالفة.

وهذا التقريب لا بأس به وهو جار في تمام موارد استعمالات صيغة الأمر (١).

ثم انه ربّما يرد هذا المسلك بعض ما أوردناه على مسلك المحقق النائيني ( قده ) من ان الوجوب إذا كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة فإذا ورد الأمر بإكرام الفقيه وورد ترخيص عام يدل على نفي البأس عن ترك إكرام العلماء لم يكن وجه للالتزام بالتخصيص وتقديم ظهور الدليل الخاصّ في الوجوب على عموم الدليل الدال على الترخيص لأن التعارض بحسب هذا المسلك سوف يكون بين عموم العام الترخيصي وإطلاق الخاصّ الإلزامي المقتضي للوجوب فيكون من قبيل التعارض بنحو العموم من وجه الّذي يمكن حله برفع اليد عن الإطلاق في الخاصّ. فإذا لم يقدم عموم العام على إطلاق الخاصّ فلا أقل من التعارض والتساقط بينهما مع أن البناء العرفي والفقهي على التخصيص وهذا لا يتم الا على مسلك الوضع.

هذا ويمكن لأصحاب هذا المسلك ان يدفعوا أمثال هذا النقض بأحد وجهين :

الأول ـ ان الميزان في القرينية عرفاً بالأخصية من حيث الموضوع لا من حيث النتيجة ومجموع الجهات في الدليلين وهذه النكتة لها تطبيقات أخرى أيضاً فلو ورد مثلاً في المتنجس بالبول انه يصب عليه الماء مرتين وورد في بول الصبي بالخصوص انه إذا أصاب الجسد يصب عليه الماء الدال بإطلاقه على كفاية الغسل فيه مرة واحدة قدم هذا الإطلاق على عموم البول في دليل التعدد بنفس النكتة.

الثاني ـ اننا لو سلمنا بان الأخصية لا بد ان تكون بلحاظ النتيجة ومجموع الجهات لا بحسب الموضوع في الدليلين فقط مع ذلك يمكننا ان نلتزم بالتخصيص في المقام بنكتة

__________________

(١) لا يقال هذا التقريب كما يجري في صيغة الأمر يجري في مادته أيضاً لأنه أيضا يستفاد منها الدفع والإرسال.

فانه يقال ـ مادة الأمر لم توضع للإرسال الخارجي بل هي موضوعة أما للطلب والإرادة التشريعية أو كما قلنا للحالة المنتزعة عن الإرسال والدفع بالصيغة وما شابهها بنحو المعنى الاسمي فلا يمكن دلالتها على الوجوب الا بأن يؤخذ فيها الاختصاص بالإرادة والإرسال الوجوبيّ وهو معنى الوضع للوجوب.

ثم انه قد يناقش في هذا التقريب أيضاً بأن أصالة التطابق بين المدلول التصوري والتصديقي غاية ما تثبت هو وجود قصد جدي للنسبة الطلبية والإرسال واما أن مبدأ هذا القصد هو الشوق والإرادة الشديدة أو الضعيفة فهو خارج عن مدلولها لأن الآمر في موارد الاستحباب أيضاً له قصد جدي حقيقي نحو الإرسال والنسبة الطلبية كما في موارد الوجوب وانما تختلف الحالتان بلحاظ المبادئ والملاك.

٢٣

أخرى وهي ان الإطلاق إذا كان مفاده التعيين لا السعة من قبيل تعيين الوجوب بالإطلاق أو تعيين سيد البلد مثلاً من إطلاق كلمة السيد فهو مقدم على الإطلاق الّذي يكون مفاده التوسعة لأن نتيجة الإطلاق الأول يكون أخص من نتيجة الإطلاق الثانية في الصدق وهذا كاف في التقديم فلو ورد مثلاً أكرم العلماء وورد لا تكرم زيدا وعندنا زيدان أحدهما جاهل مجهول والآخر عالم كبير ينصرف إليه الإطلاق فالعرف سوف يتعامل معهما تعامل التخصيص وما نحن فيه من هذا القبيل.

هذا وهناك فوارق وثمرات فقهية عديدة بين هذه المسالك الثلاثة اتضح بعضها من خلال المناقشات المتقدمة ونشير إلى جملة منها.

فمن جملتها ـ تطرق قواعد الجمع الدلالي والعرفي على مسلك الوضع والإطلاق بخلاف مسلك حكم العقل فانه بناء عليه لا يكون الوجوب مدلولاً للفظ الأمر لكي يجمع بينه وبين دليل الترخيص على ضوء إحدى قواعد الجمع العرفي وانما يكون دليل الترخيص حينئذ وارداً على حكم العقل بالوجوب ورافعاً لموضوعه.

ومنها ـ انه على مسلك الوضع والإطلاق تثبت لوازم الوجوب أي لوازم الملاك والشوق الأكيد والشديد فلو علمنا من الخارج بان الدعاء عند رؤية الهلال والدعاء في آخر الشهر متساويان في درجة الملاك والمحبوبية وورد امر بأحدهما أثبتنا به وجوبه بالمطابقة ووجوب الآخر بالملازمة بينما لا يمكن ذلك بناء على مسلك حكم العقل لأن الوجوب حينئذ ليس مرتبة ثبوتية ولا ربط له بالمبادئ والملاكات لكي يكشف عنها وعن ملازماتها وانما هو حكم عقلي ينتزع من طلب شيء وعدم الترخيص في تركه.

ومنها ـ ثبوت دلالة السياق على مسلك الوضع وسقوطه على مسلك الإطلاق وحكم العقل ، وتوضيح ذلك : ان مبنى الفقهاء عادة في الفقه على انه إذا وردت أوامر عديدة في سياق واحد وعرفنا من الخارج استحباب بعضها اختل ظهور الباقي في الوجوب على القول بوضع الأمر للوجوب إذ يلزم من إرادة الوجوب منه حينئذ تغاير مدلولات تلك الأوامر مع ظهور وحدة السياق في إرادة المعنى الواحد من الجميع ، واما بناء على مسلك حكم العقل فجميع الأوامر مستعملة في معنى واحد وهو الطلب والوجوب حكم

٢٤

عقلي خارج عن مدلول اللفظ مبني على تمامية مقدمة أخرى هي عدم الترخيص والتي تمت بالنسبة لبعضها دون بعض من دون ان يخل ذلك بالسياق وكذلك الحال على مسلك الإطلاق لأن المعنى المستعمل فيه واحد على كل حال لكنه أريد في بعضها المقيد بدال آخر كما هو محقق في بحوث المطلق والمقيد (١).

ومنها ـ انه لو فرض ورود أمر واحد بشيئين كما لو ورد اغتسل للجمعة والجنابة وعلم من الخارج بان غسل الجمعة ليس بواجب فعلى مسلك الوضع لا يمكن إثبات الوجوب لغسل الجنابة بهذا الأمر أيضاً لأنه يلزم منه ما يشبه استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو غير صحيح عرفاً على كل حال.

واما على مسلك حكم العقل فالأمر مستعمل في معنى واحد هو الطلب والوجوب ينشأ منه ومن عدم ورود الترخيص في الترك وهو ثابت في غسل الجنابة فقط دون الآخر وكذلك الحال بناء على الإطلاق فان الأمر ينحل إلى حصتين تقيد إطلاق إحداهما بدليل خاص وهو لا يستوجب تقييد الحصة الثانية فان التقييد ضرورة والضرورات تقدر بقدرها كما إذا ورد أكرم العالم وعرفنا ان الفقيه لا يكرم الا إذا كان عادلا ولكن في غير الفقيه لم نعلم بذلك فنبني على الإطلاق.

ومنها ـ انه لو ورد أمر بطبيعي فعل كما إذا ورد أكرم العالم وعلمنا من الخارج بان إكرام غير الفقيه لا يجب فهل يمكن إثبات استحباب إكرام غير الفقيه من العلماء أم لا؟ فعلى مسلك الوضع لا يمكن ذلك إذ بعد حمله على الوجوب بمقتضى الوضع له لا بد من تخصيص غير الفقيه وإخراجه من الدليل ولا يوجد أمر آخر فيه لكي يحمل على الاستحباب وهذا بخلافه على مسلك حكم العقل بالوجوب لأن الأمر مستعمل في الطلب على كل حال غاية الأمر ثبت ترخيص في حصة ولم يثبت في أخرى فيثبت الاستحباب لا محالة في الأولى والوجوب في الثانية. وكذلك الحال على مسلك الإطلاق

__________________

(١) اللهم إلاّ ان يدعي ان وحدة السياق يشكل ظهوراً في وحدة الأوامر الواردة في سياق واحد من حيث الملاك والمدلول الجدي أيضاً فيصلح لأن يكون ذلك قرينة على عدم تمامية الإطلاق في باقي الأوامر أيضا. وهذا جار في الثمرة القادمة أيضاً.

٢٥

إذ لا وجه لرفع اليد عن أصل الطلب في غير الفقهاء (١).

ومنها ـ انه إذا كان لدينا امران وورد ترخيص لأحدهما فقط وشك في انه ترخيص لهذا أو ذاك فانه بناء على ان الوجوب بحكم العقل يجب الاحتياط إذ لا تعارض بين الأمرين بلحاظ مدلوليهما وانما العقل يحكم بالوجوب فيما لم يرد فيه ترخيص والمفروض ان أحد الأمرين لم يرد فيه الترخيص فيتشكل علم إجمالي منجز وهذا بخلافه على المسلكين الآخرين ؛ حيث يفضي إلى التعارض بين مدلوليهما فالإجمال والتساقط على تفصيل نتعرض له في بحث العام المخصص بالمردد بين متباينين.

ومنها ـ انه بناء على مسلك الإطلاق بالتقريب الّذي ذكره المحقق العراقي ( قده ) من ان الأمر يكون ظاهراً بإطلاقه في الطلب الشديد يمكن ان نثبت بنفس النكتة أعلى مراتب الوجوب فلو وقع تزاحم بين واجبين أحدهما قد ثبت بالأمر والآخر بدال آخر غير الأمر قدم دائما ما يثبت بالأمر اللفظي لأن دليله يدل بالإطلاق على كونه في أعلى مراتب الملاك والوجوب.

__________________

(١) الوجه هو ظهور الأمر الواحد في وحدة الطلب الثبوتي لا تعدده فانه بناء على وجود طلب استحبابي ( أي غير شديد ) لإكرام العالم غير الفقيه يلزم ان يكون الأمر الواحد في مرحلة الإثبات كاشفاً عن طلبين أحدهما شديد متعلق بإكرام الفقيه والآخر ضعيف متعلق بإكرام العالم غير الفقيه وهذا خلاف ظاهر الحال في وحدة الحكم ثبوتاً كوحدته إثباتاً وهذا من أوضح الظّهورات وأقواها ولا يقاس بما إذا كان التقييد في طرف الموضع كما في مثال اشتراط العدالة في إكرام الفقيه بالخصوص فانه يرجع إلى وجود جعل واحد لوجوب إكرام العالم الّذي ليس بفقيه فاسق.

٢٦

« الجهة الرابعة ـ في الطلب والإرادة »

وقد وقع البحث عند المحققين في ان الطلب المفاد بالأمر هل هو عين الإرادة أو غيرها وهل هو أمر نفساني كالقدرة أو فعل نفساني أو فعل خارجي؟ وقد ادعت الأشاعرة المغايرة بين الطلب والإرادة وادعت المعتزلة العينية بينهما واستدل الأشاعرة على المغايرة بوجوه أحدها مبتن على مسألة الجبر وهو ان الإرادة التشريعية لا تتعلق بشيء غير مقدور والأفعال مخلوقة لله سبحانه وتعالى وخارجه عن قدرة العبد مع اننا نرى انه في الشريعة قد تعلق الطلب بها فنعرف ان الطلب غير الإرادة وبهذه المناسبة وقع البحث في الجبر والتفويض والاختيار فهنا مسألتان :

١ ـ هل الطلب والإرادة شيء واحد أم شيئان؟.

٢ ـ ما انجر إليه البحث بالمناسبة من الجبر والتفويض والاختيار.

ونحن هنا نقتصر على بحث المسألة الثانية وعلى سبيل الاختصار تاركين البحث عن وحدة الطلب والإرادة مفهوما أو واقعا لعدم ترتب جدوى على ذلك.

فنقول :

ان مسألة الجبر والاختيار تنحل إلى مسألتين.

الأولى ـ المسألة الكلامية التي وقع فيها البحث بين المعتزلة القائلين بالتفويض

٢٧

وبين الأشاعرة القائلين بالجبر والشيعة القائلين بالأمر بين الأمرين وروح البحث في هذه المسألة يرجع إلى النزاع في تشخيص فاعل الأفعال الصادرة من الإنسان فمذهب التفويض يقول بان الفاعل محضا هو الإنسان ، ومذهب الجبر يقول بان الفاعل محضا هو الله سبحانه وتعالى ، والشيعة يقولون بان لكل منهما نصيبا في الفاعلية بالنحو المناسب له.

الثانية ـ المسألة الفلسفية وروح البحث فيها يرجع إلى ان فاعل هذه الأفعال سواء فرضناه في المسألة الأولى الإنسان أو الله أو هما معا هل تصدر منه اختياراً أو بلا اختيار ومن هنا يعرف ان المسألة الكلامية لا تكفي وحدها لحسم النزاع في بحث الجبر والاختيار فلنفرض اننا قلنا هناك بان الفاعل هو الإنسان وحده ، لكن يبقى احتمال كونه فاعلاً بلا اختيار كفاعلية النار للإحراق التي قد يقال فيها بأن الإحراق فعل للنار محضا ..

أما البحث في المسألة الأولى ـ فيوجد فيها بدوا خمسة احتمالات كالتالي :

١ ـ ان يكون الفاعل محضا هو الإنسان ولا نصيب لرب العباد في الفاعلية وهذا مذهب التفويض وهو مذهب المعتزلة وهذا يرجع بحسب الحقيقة إلى دعوى استغناء المعلول عن العلة بقاء إذ لو فرض حاجة الإنسان في وجوده البقائي إلى الله تعالى ووجوده البقائي هو علة أفعاله ، اذن لم يعقل إنكار ثبوت نصيب لله في الفعل عرضياً وطولياً وحيث ان هذا المبنى ساقط كما حقق في موضعه من الكلام والفلسفة إذ برهن على ان المعلول بحاجة إلى العلة بقاء أيضاً يثبت بطلان التفويض وليس هنا موضع البحث عن تلك البراهين.

٢ ـ ان يكون الفاعل محضاً هو الله تعالى وانما الإنسان محل قابل لذلك الفعل من قبيل ما يفعله النجار في الخشب حيث ان الخشب ليس فاعلاً للفعل وانما هو قابل له وليس لمبادئ الإرادة في نفس الإنسان أي دخل في الفعل واقتران الفعل بالإرادة دائما انما هو صدفة متكررة فصدور الفعل من الله يقترن صدفة دائما مع إرادة الإنسان وهذا مذهب الأشعري وهذا الاحتمال هو الّذي ينبغي ان يكون مقابلا بالوجدان المدعى في كلماتهم حيث قالوا ان هناك فرقاً بالضرورة بين حركة المرتعش وحركة

٢٨

غير المرتعش وهذا البحث بحسب الحقيقة لا يختص بالافعال الاختيارية بل يأتي في كل عالم الأسباب والمسببات فقد يقال الإحراق شغل الله مباشرة يقترن بنحو الصدفة الدائمية بالنار والوجدان المبطل لذلك أيضاً عام يشمل كل عالم الأسباب والمسببات وهو وجدان سليم بالقدر المبين في الأسس المنطقية.

٣ ـ ان يكون لكل من الإنسان والله تعالى نصيب في الفاعلية بمعنى كونهما فاعلين طوليين أي ان الإنسان هو الفاعل المباشر للفعل بما أوتي من قدرة وسلطان وعضلات وتمام القوى التي استطاع بها ان يحرّك لسانه ويديه ورجليه والله هو الفاعل غير المباشر من باب ان هذه القوى مخلوقة حدوثاً وبقاء له تعالى ومفاضة آناً فآنا ومعطاة .. من قبل الله وهذا أحد الوجوه التي فسّر بها الأمر بين الأمرين.

٤ ـ ان يكون الفاعل المباشر هو الله لكن الإرادة ومبادئها مقدمات إعدادية لصدورها من الله تعالى ففرقه عن الثاني ان اقتران الفعل بالإرادة عن الثاني كان مجرد صدفة وعلى هذا الوجه يكون من باب كون الإرادة مقدمة إعدادية للفعل وفرقه عن الثالث أيضاً واضح إذ على الثالث يكون الفعل فعل الإنسان مباشرة والله فاعل الفاعل واما على هذا الوجه فالله هو الفاعل المباشر والإرادة مقدمة إعدادية لقابلية المحل لإفاضة الفعل وهذا أحد وجوه الأمر بين الأمرين.

٥ ـ ما ذهب إليه عرفاء الفلاسفة ومتصوفوهم وهو ان الفعل له فاعلان الله والعبد لكن لا طوليان كما على الثالث ولا عرضيان كما على الرابع بل هي بحسب الحقيقة فاعلية واحدة بنظر تنسب إلى العبد وبنظر آخر تنسب إلى الله تعالى مبنياً منهم على تصور عرفاني يقول ان نسبة العبد إلى الله نسبة الربط والفناء والمعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي فبالنظر الاندكاكي هذه الفاعلية فعل الله وبالنظر غير الاندكاكي فعل العبد هذه هي الاحتمالات الخمسة في المقام والاحتمال الأول ساقط بالبرهان والثاني ساقط بالوجدان والخامس مبني على تصور صوفي لا نفهمه فيبقى الثالث والرابع ، وعلى كل منهما يمكن تطبيق « أمر بين الأمرين » الموروث عن الأئمة عليهم‌السلام ، نعم الرابع يوجب الجبر الا ان هذا راجع إلى المسألة الثانية فمن زاوية المسألة الأولى وهي التي تعرض لها الأئمة عليهم‌السلام في روايات الجبر والتفويض يكون كلا الوجهين

٢٩

الثالث والرابع معقولين. وبعد هذا ننتقل إلى المسألة الفلسفية وهي التي تنحسم بها مسألة الجبر والاختيار حيث ان مجرد اختيار المذهب الشيعي في المسألة الأولى القائل بان للإنسان دخلاً في الفاعلية كما ان لله تعالى دخلاً فيها أو اختيار المذهب المعتزلي القائل بأن الإنسان هو الفاعل محضاً لا يحتمّ كون الإنسان مختاراً غير مجبور في فعله فلعل صدور الفعل من الإنسان كصدور الإحراق من النار بناء على فاعلية النار للإحراق نعم لو اختير في المسألة الأولى المذهب الأشعري القائل بكون الفاعل هو الله محضاً ثبت كون الإنسان غير مختار فهذا المسلك وان كان يكفي لإثبات الجبر لكن المسلكين الآخرين لا يكفيان لإثبات الاختيار فلا بد من المسألة الثانية لحسم مسألة الجبر والاختيار فنقول :

وأما المسألة الثانية ـ فهي في الحقيقة نشأت لدفع شبهة فلسفية تنفي الاختيار حتى بعد الاعتراف بان الفعل فعل الإنسان وهذه الشبهة مركبة من مقدمتين :

الأولى ـ ان الاختيار ينافي الضرورة فان الضرورة تساوق الاضطرار المقابل للاختيار من قبيل حركة يد المرتعش التي هي ضرورية.

الثانية ـ ان صدور الفعل من الإنسان يكون بالضرورة لأن الفعل الصادر منه ممكن من الممكنات فتسوده القوانين السائدة في كل عالم الإمكان القائلة بان الممكن ما لم يجب بالغير لم يوجد فبالجمع بين هاتين المقدمتين يثبت ان الإنسان غير مختار في أفعاله إذ لا يصدر منه فعل الا بالضرورة والضرورة تنافي الاختيار.

وهذه الشبهة اختلفت المسالك والمباني في كيفية التخلص منها فبعضها يرجع إلى المناقشة في المقدمة الأولى وبعضها يرجع إلى المناقشة في المقدمة الثانية فنقول :

المسلك الأول ـ ما ذهب إليه المشهور من الفلاسفة فاعترفوا بالمقدمة الثانية وهي ان فعل الإنسان مسبوق بالضرورة ، لكنهم ناقشوا المقدمة الأولى وهي ان الضرورة تنافي الاختيار ، وذلك انهم فسّروا الاختيار بان مرجعه إلى القضية الشرطية القائلة ان شاء وأراد فعل وإلاّ لم يفعل والقضية الشرطية لا تتكفل حال شرطها وانه هل هو موجود بالضرورة أو معدوم بالضرورة أو لا فمتى ما صدقت هذه القضية الشرطية فقد صدق الاختيار حتى إذا فرض ان الشرط وهو الإرادة مثلا كان ضرورياً فكان

٣٠

الجزاء ضرورياً بالغير أو كان ممتنعاً فكان الجزاء ممتنعاً بالغير من دون فرق بين ان يكون وجوب الشرط وامتناعه بالغير كما في الإنسان أو بالذات كما يفترضونه في حق الباري تعالى لأن صفاته واجبة بالذات لأنها عين ذاته وضرورة الفعل الناشئة من الإرادة لا تنافي الاختيار بل تؤكده لأن الاختيارية تكون بصدق القضية الشرطية القائلة لو أراد لصلّى مثلاً فإذا ثبت ان الصلاة تصبح ضرورية عند الإرادة فهذا تأكيد للملازمة وتحقيق بتّي لصدق القضية الشرطية وبدون هذه الضرورة تكذب القضية الشرطية وليست مضمونة الصدق وبالجملة الاختيار صادق متى ما صدقت هذه القضية الشرطية كما في حركة يد السليم وغير صادق متى ما لم تصدق القضية الشرطية كما في حركة يد المرتعش وهذا لا ينافي ضرورة الفعل بالإرادة ولا ضرورة الإرادة نفسها وهذا مرجع ما قاله صاحب الكفاية من ان الفعل الاختياري ما يكون صادراً عن الإرادة بمبادئها لا ما يكون صادراً عن إرادة صادرة عن الاختيار وهكذا.

وهذا الكلام الّذي قاله هؤلاء الفلاسفة والحكماء بحسب الحقيقة مبني على ما ذكرناه من التفسير للاختيار وهو انه عبارة عن صدق تلك القضية الشرطية وبعد فرض التسليم بهذا التفسير يتم استدلالهم في المقام وهو ان هذه القضية الشرطية صادقة في جميع موارد الاختيار ولا يضر به الوجوب بالذات أو بالغير.

إلاّ ان الشأن في صحة هذا التفسير لأنه ان كان مجرد اصطلاح للفلاسفة لأجل تغطية المسألة فلا مشاحة معهم في الاصطلاح وان كان مرجعه إلى تشخيص معنى الاختيار لغة وان واضع اللغة هكذا وضع لفظة الاختيار فائضاً لا كلام لنا معهم إذ ليس بحثنا لغوياً لنرى ان الواضع لأي معنى وضع لفظ الاختيار واما ان كان المنظور الاستطراق إلى التكليف والحساب وتوضيح الفارق بين حركة أمعاء الإنسان وحركة أصابعه الّذي جعل الإنسان يحاسب على الثانية دون الأولى ( سواء فرضنا ان لكلمة الاختيار معنى في اللغة أولا ) ، فحينئذ نقول تارة نتكلم على ما هو الحق من التسليم بالحسن والقبح العقليين وأخرى نتكلم بناء على إنكار ذلك كما أنكره الأشاعرة صريحاً وأنكره الفلاسفة بشكل مستور حيث أرجعوا الحسن والقبح العقليين إلى الأمور العقلائية والقضايا المشهورة :

٣١

أما بناء على ما هو الحق من التسليم بالحسن والقبح العقليين فلا محصل لكل هذه الكلمات في تخلصهم عن المشكلة فان حركة الأصابع إذا كانت ناشئة بالضرورة من الإرادة والإرادة ناشئة بالضرورة من مبادئها وهي ناشئة بالضرورة من عللها وهكذا إلى ان ينتهي الأمر إلى الواجب بالذات فحالها تماماً حال حركة الأمعاء عند الخوف مثلاً الناشئة بالضرورة من عامل الخوف الناشئ بالضرورة من عوامل مؤثرة في النّفس الناشئة من عللها وهكذا إلى ان ينتهي إلى الواجب بالذات وكما يقبح المحاسبة والعقاب على الثاني كذلك يقبح على الأول بلا أي فرق بينهما سوى ان واضع اللغة سمّى الأول اختيارياً دون الثاني واما بناء على إنكار الحسن والقبح العقليين فلا تبقى مشكلة من ناحية قبح المحاسبة والعقاب حتى نحتاج إلى حلها. نعم تبقى فقط مشكلة لغوية التكليف وأنه لا فائدة فيه بناء على عدم الاختيار فما الّذي يدعو المولى إلى التكليف والخطاب؟ وحينئذ يكفي ما ذكروه لحل هذه المشكلة فان الحركة الناشئة من الإرادة وان كانت ضرورية كحركة الأمعاء لكنها سنخ فعل يمكن التدخل التشريعي فيه ( على خلاف سائر الأمور الضرورية ) ، بالتكليف والتخويف بالعقاب فمن يشتهي الأكل من الطعام الحرام لو علم بأنه يضرب ضرباً أشد من لذّة الطعام أحجم على ذلك ولو بلا اختيار بخلاف حركة الأمعاء مثلاً فانه حتى لو عرف الضرب على تقدير الحركة تبقى الأمعاء تتحرك. هذا صفوة ما يمكن ان يقال في التعليق على هذا المسلك.

المسلك الثاني ـ يعاكس المسلك الأول فيسلم بالمقدمة الأولى وأن الضرورة تساوق الاضطرار المنافي للاختيار ويناقش في المقدمة الثانية فينكر قوانين العلية ويفترض ان الشيء يوجد رأساً من عالم الإمكان إلى عالم الوجود بلا حاجة إلى توسيط الضرورة ومال إلى هذا المسلك بعض الفلاسفة المتأخرين من غير المسلمين وتخيلوا ان هذا يساوق الاختيار والحرّية إذ يبقى الفعل ممكناً حتى حين صدوره وهذا المسلك حاله حال أصل الشبهة يرتكبان خطأ فان أصل الشبهة جعلت الضرورة بقول مطلق منافية للاختيار وهذا المسلك جعل الإمكان ونفي الضرورة ونفي مبادئ العلية مساوقاً مع الاختيار وكلاهما غير صحيح ( اما الأول ) فلأن الضرورة إذا كانت في طول الاختيار

٣٢

فهي لا تنافي الاختيار وإلاّ فهي تنافيه وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك ، ( واما الثاني ) فلان مجرد كون الفعل ليس ضرورياً لا يكفي في كونه اختيارياً للفاعل فان إنكار مبادئ العلية معناه بحسب الحقيقة التسليم بالصدفة ومن الواضح ان الصدفة غير الاختيار فلو فرض ـ محالاً ـ ان الماء على بلا علّة وبلا نار فهذا معناه تحقق الغليان صدفة وليس معناه ان الغليان كان اختيارياً للماء لأنه وجد بلا علة فان هذا غير ما يراه العقل اختياراً.

المسلك الثالث ـ ما قد يتمسّك به أيضاً بعض المحدثين وحاصله : نرى الكائنات التي تعيش في ظل هذه الطبيعة مختلفة في مقدار تحديد الطبيعة لها في مجال سيرها فمثلاً الحجر الّذي قذف به إلى أعلى يكون مجال سيره محددا مائة بالمائة ومن جميع الجهات فقد فرض عليه ان يسير إلى أعلى بنحو مخصوص وإلى حد معين إلى ان تنتهي قوة الدفع فيرجع إلى أسفل محددا أيضاً سيره من جميع الجهات بحيث يمكن التنبؤ بالدقة عن حال صعوده ونزوله وتعيين وضعه في السير صعودا ونزولاً بالضبط هذا حال الحجر واما الحيوان الّذي يضرب بحجر فيفر فالطبيعة لم تحدد له سيره تحديدا كاملاً بل له عدة فرص ولذا لا يتاح لنا بالدقة التنبؤ بأنه من أي جهة يهرب؟ وأكثر منه فرصة الإنسان وذلك لأمرين : ( الأول ) ان ميوله وغرائزه أكثر تعقيدا وأشد من الحيوان فمثلا يفر الحيوان حينما يرى الحجر متوجها إليه في حين قد يميل الإنسان إلى ان يقف ويتلقف الحجر ، ( والثاني ) انه أوتي عقلاً يحكمه في أفعاله ويلحظ المصالح والمفاسد وهذه الفرص كلّها تصعّب التنبؤ بما سوف يفعل والاختيار ينتزع من هذه الفرصة التي تعطيه الطبيعة.

وهذا الكلام وان صدر من جملة من الفلاسفة المحدثين الا انه لا يرجع إلى محصل إذ مرجعه إلى ان الاختيار أمر وهمي إذ كون الفرصة في الإنسان أكثر منها في الحيوان وفيه أكثر منه في الحجر فتمنع الفرصة عن التنبؤ مرجعه إلى الاطلاع للمتنبئ على كل الخصوصيات الداخلية في تصرف الإنسان أو الحيوان لشدة تعقيدها وهذه الفرصة انتزعت وهما من هذه الخصوصيات المجهولة عند المتنبئ ، ولو انه اطلع على كل الخصوصيات لتنبأ كما يتنبأ حال الحجر وهذا هو عين القول بالجبر.

٣٣

المسلك الرابع ـ ما ذهب إليه المحقق النائيني ( قده ) حيث انه سلم بالمقدمة الأولى والثانية معا الا انه لم يقبل إطلاق المقدمة الثانية وقال بان قوانين العلية لا تشمل الأفعال الاختيارية للإنسان فالإنسان حينما يلتفت إلى عمل ما كالصلاة وتنقدح في نفسه الإرادة الجدية الكاملة لا يحصل وجوب وضرورة للصلاة بمعنى يخرجها عن قدرة الإنسان فالنفس حتى بعد الإرادة يبقى بإمكانها ان تتحرك نحو الصلاة أو لا تتحرك وحينما يصدر منها فعل الصلاة فقد صدر في الحقيقة من النّفس بعد ما تمت عندها الإرادة عملان طوليان :

( أحدهما ) فعل خارجي وهو الصلاة ( والآخر ) فعل نفساني قائم بصقع النّفس وهو أسبق رتبة من الفعل الخارجي وهو تأثير النّفس وحملتها وإعمالها للقدرة فالفعل يوجد بإعمال القدرة والاختيار وهذا الفعل النفسانيّ وهو إعمال القدرة والتحرك والتأثير نسبته إلى النّفس نسبة الفعل إلى الفاعل لا نسبة العرض إلى محله كالإرادة وهذه الحملة والتحرك التي هي فعل نفساني ليست معلولة للإرادة وفقا لقوانين العلية بل النّفس بعد الإرادة يبقي بإمكانها ان تتحرك نحو الفعل وان لا تتحرك وإذا لاحظنا هذين الفعلين نرى انهما اختياريان اما فعلها الأول وهو توجه النّفس وتأثيرها فهو أمر اختياري إذ لم يتحتم ولم يصبح وجوده ضروريا بالإرادة حتى يلزم خروجه من الاختيار وأما فعلها الثاني وهو الفعل الخارجي كالصلاة فهو وان أصبح ضروريا بعد الاختيار لكن هذه الضرورة لا تنافي الاختيار لأنها ضرورة نشأت من الاختيار إذ نشأت من الفعل الأول الّذي هو عين اختيار النّفس وإعمالها لقدرتها والضرورة في طول الاختيار لا تنافي الاختيار (١).

أقول : اننا نقبل من المحقق النائيني ( قده ) بنحو الإجمال ما ذكره من أنه لا بد من رفع اليد في الأفعال الاختيارية عن إطلاق قوانين العلية وقاعدة ان الشيء ما لم يجب لم يوجد كما سيأتي توضيحه ولكن ما ذكره في مقام تفصيل ذلك من افتراض فعلين للنفس وشرحه بالنحو الّذي عرفت يوجد لنا حوله عدة تعليقات.

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ص ٩٠ ـ ٩٢.

٣٤

الأولى ـ ان ما جعله فعلا نفسيا وراء الفعل الخارجي وهو تأثير النّفس واختيارها وإعمالها لإمكانيتها في إيجاد الصلاة ليس بحسب الحقيقة أمرا وراء الفعل الخارجي فان الأعمال عين العلم والتأثير عين الأثر وهذه عناوين انتزاعية منتزعة من نفس العمل والأثر فالإعمال والعمل والإيجاد والوجود والتأثير والأثر مفهومان مختلفان بالاعتبار متحدان خارجا فمثلا الإحراق تارة يلحظ منسوبا إلى الفاعل فيسمى إحراقا وإيجادا للاحتراق وأخرى يلحظ منسوبا إلى المحل فيسمى وجودا واحتراقا.

الثانية ـ ان إدخال فرضية وجود عمل نفساني وراء العمل الخارجي وتوسيطه بين الإرادة والفعل لا دخل له في حل الشبهة فيمكننا ان نلتزم رأسا في الفعل الخارجي بما التزم به المحقق النائيني ( قده ) في الفعل النفسيّ من خروجه عن قانون ان الشيء ما لم يجب لم يوجد فان كان هذا التخصيص لذاك القانون كافيا لرفع الشبهة فيمكن ان يطبق ابتداء على الفعل الخارجي وان لم يكن كافيا لذلك فافتراض فعل آخر متوسط بين الإرادة والفعل لا يؤثر في رفع الشبهة.

الثالثة ـ اننا إذا لاحظنا الفعل الخارجي ونسبته إلى الفعل النفسانيّ رأينا ان حاله حال سائر الحوادث في عالم الطبيعة أي ينطبق عليه قانون ان الشيء ما لم يجب لم يوجد إذ هو وليد الفعل النفسانيّ واما إذا لاحظنا الفعل النفسانيّ فقد افترض ( قده ) انه خارج عن قانون ان الشيء ما لم يجب لم يوجد وسواء فرضنا ان هذا الفعل النفسانيّ هو الخارج عن هذا القانون أو فرضنا ان الفعل الخارجي ابتداء هو الخارج عن هذا القانون نقول : انه من الواضح ان هذا القانون لم يكن قانونا تعبديا يقبل التخصيص تعبدا وانما هو قانون عقلي فيأتي السؤال عن انه ما هو المصحح لوجود هذا الفعل بعد فرض عدم وجوبه الذاتي وكيف وجد؟ فنقول : ان الأمر في ذلك لا يخلو من أحد فروض :

١ ـ ان يكون المصحح لوجوده هو الوجوب بالغير والضرورة المكتسبة من العلة وهذا خلف الخروج من قاعدة ان الشيء ما لم يجب لم يوجد.

٢ ـ ان يكون المصحح له مجرد الإمكان الذاتي أي ان مجرد إمكان صدوره عن الفاعل يكفي في صدوره وهذا أيضا غير صحيح إذ من الواضح بالفطرة ان الإمكان

٣٥

الذاتي الّذي معناه كون نسبة الشيء إلى الوجود والعدم على حد سواء لا يكفي مرجحا لجانب الوجود ويأتي السؤال عن انه ما هو الفرق بين الإمكان هنا والإمكان في سائر المجالات حيث لم يكف الإمكان في سائر المجالات للوجود وكفى له هنا. هذا مضافا إلى ان ذلك لا يصحح الاختيار إذ هذا معناه الصدفة لا الاختيار والصدفة غير الاختيار.

٣ ـ ان يفترض ان الفعل الخارجي صادر بهجوم النّفس على حد تعبير المحقق النائيني ( قده ) وذاك الهجوم صادر بهجوم آخر وهكذا وهذا أيضا باطل للزوم التسلسل.

فلم يبق الا الفرض الرابع الّذي هو الفرض المعقول في المقام والّذي قصر عنه المنقول من كلمات المحقق النائيني ( قده ) فلعل هذا هو المقصود ولكن قصرت العبارة عن أدائه.

٤ ـ ان نطرح مفهوما ثالثا في مقابل مفهومي الوجوب والإمكان وهو مفهوم السلطنة وهذا الوجه هو الّذي يبطل به البرهان على الجبر كما نوضح ذلك من خلال عدة نقاط :

الأولى ـ ان قاعدة ان الشيء ما لم يجب لم يوجد لو كان قاعدة قام عليها البرهان فلا معنى للالتزام بالتخصيص إذ ما يقوم عليه البرهان العقلي لا يقبل التخصيص والتقييد ولكن الصحيح انها ليست قاعدة مبرهنة بل هي قاعدة وجدانية من المدركات الأولية للعقل وان كان قد يبرهن على ذلك بان الحادثة لو وجدت بلا علة ووجوب لزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجح وهو محال لكنك ترى ان استحالة الترجيح أو الترجح بلا مرجح هي عبارة أخرى عن ان المعلول لا يوجد بلا علة اذن فلا بدّ من الرجوع في هذه القاعدة إلى الفطرة السليمة مع التخلص من تشويش الاصطلاحات والألفاظ لنرى ما هو مدى حكم الفطرة والوجدان بهذه القاعدة فننتقل إلى النقطة الثانية.

الثانية ـ ان الفطرة السليمة تحكم بان مجرد الإمكان الذاتي لا يكفي للوجود وهنا أمران إذا وجد أحدهما رأى العقل انه يكفي لتصحيح الوجود ( أحدهما ) الوجوب بالغير فانه يكفي لخروجه عن تساوي الطرفين ويصحح الوجود ( والثاني ) السلطنة فلو وجدت

٣٦

ذات في العالم تملك السلطنة رأى العقل بفطرته السليمة ان هذه السلطنة تكفي للوجود وتوضيح ذلك ان السلطنة تشترك مع الإمكان في شيء ومع الوجوب في شيء وتمتاز عن كل منهما في شيء :

فهي تشترك مع الإمكان في ان نسبتها إلى الوجود والعدم متساوية لكن تختلف عن الإمكان في ان الإمكان لا يكفي لتحقق أحد الطرفين بل يحتاج تحققه إلى مئونة زائدة وأما السلطنة فيستحيل فرض الحاجة معها إلى ضم شيء آخر إليها لأجل تحقق أحد الطرفين إذ بذلك تخرج السلطنة عن كونها سلطنة وهو خلف بينما في الإمكان لا يلزم من الحاجة إلى ضم ضميمة خلف مفهوم الإمكان اذن فالسلطنة لو وجدت فلا بد من الالتزام بكفايتها.

وهي تشترك مع الوجوب في الكفاية لوجود شيء بلا حاجة إلى ضم ضميمة وتمتاز عنه بان صدور الفعل من الوجوب ضروري ولكن صدوره من السلطنة ليس ضروريا إذ لو كان ضروريا لكان خلف السلطنة وفرق بين حالة ( له أن يفعل ) وحالة ( عليه أن يفعل ) وقد فرضنا اننا وجدنا مصداقا للسلطنة وأن له ان يفعل ومن السلطنة ينتزع العقل ـ باعتبار وجدانها لهذه النكات ـ مفهوم الاختيار لا من الوجوب ولا من الصدفة. وقد تحصل ان المطلوب في هذه النقطة الثانية انه لو كانت هناك سلطنة في العالم لكانت مساوقة للاختيار وكفت في صدور الفعل.

الثالثة ـ ان هذه السلطنة هل هي موجودة أم لا؟ يمكن البرهان على إثباتها في الجملة وتعيينها في الله وهذا خارج عما نحن بصدده ويرجع إلى بحث قدرة الله واما في الإنسان الّذي هو الداخل في محل البحث فلا برهان عليه بل ينحصر الأمر في إثبات ذلك بالشرع أو بالوجدان بان يقال مثلا اننا ندرك مباشرة بالوجدان ثبوت السلطنة فينا واننا حينما يتم الشوق الأكيد في أنفسنا نحو عمل لا نقدم عليه قهرا ولا يدفعنا إليه أحد بل نقدم عليه بالسلطنة بناء على دعوى ان حالة السلطنة من الأمور الموجودة لدى النّفس بالعلم الحضوري من قبيل حالة الجوع أو العطش أو حالة الحب أو البغض أو بان يقال اننا كثيرا ما نرى اننا نرجح بلا مرجح كما يقال في رغيفي الجائع وطريقي الهارب فلو كان الفعل لا يصدر الا بقانون الوجوب بالعلة اذن لبقي جائعا إلى ان يموت

٣٧

لعدم المرجح لأحدهما بينما بناء على قاعدة السلطنة يرجح أحدهما بلا مرجح وان عرض هذا الكلام على الحكماء لقالوا ان المرجح موجود في علم المولى أو بعض الملائكة المدبرين للأمور الا ان يقال في مقابل ذلك ان الوجدان يحكم بعدم المرجح دائما حتى في علم المولى أو الملائكة فائضا رجع إلى الوجدان.

( بقي في المقام التنبيه على أمرين ) الأول ـ انه مضى في المسألة الأولى أي في تشخيص فاعل الأفعال وانه الله أو الإنسان وجوه خمسة وقلنا هناك انه في حدود تلك المسألة يكون الوجه الثالث والرابع كلاهما معقولا الا انه إذا ثبتت السلطنة بالشرع أو بالوجدان بطل على ضوئه الوجه الرابع هناك إذ هو مستلزم للجبر حيث انه يجعل مبادئ الإرادة مجرد مقدمات إعدادية موجبة لقابلية المحل لكي يقوم الفاعل وهو الله بفعله فان فرضنا ان الإرادة حالة نفسانية نسبتها إلى النّفس نسبة العرض من المحل لم يبق اختيار للإنسان إذ الإرادة تحصل قهرا وما يأتي بعدها من فعل يوجده الله وان فرضنا ان الإرادة فعل من افعال النّفس يأتي بعدها الفعل الخارجي فالوجه الرابع يقول ان هذا الفعل أيضا فعل الله فان الوجه الرابع لا يختص بفعل دون فعل فائضا لا يبقى اختيار للإنسان فكلما يثبت السلطنة يبطل هذا الوجه لا محالة.

الثاني ـ ان الاختيار المدعى ثبوته للإنسان ليس مطلقا إذ لا شك في ان كثيرا من الأمور قد تقع رغم أنف الإنسان وخارج حدوداختياره فهو اختيار محدود لا محالة وضابطه ان كل فعل أو ترك يكون لاعتقاد الإنسان « بالمصلحة أو المفسدة فيه » دخل في تحققه هو امر اختياري ، فيدخل تحت هذا الضابط أمران :

١ ـ الأفعال الصادرة من جوارح الإنسان في الخارج كالصلاة والصوم أو افعال الجوانح المنشآت من قبل النّفس كعقد القلب والإنشاء ، ونحو ذلك. وانطباق الضابط على هذا النوع واضح.

٢ ـ الحب والشوق أو البغض والكراهة التي هي من مبادئ الأفعال الاختيارية فانها أيضا قد تكون اختيارية وينطبق عليها الضابط المذكور بأحد وجهين :

الأول ـ ان الحب والبغض يتولدان عادة من الاعتقاد بالمصلحة والاعتقاد

٣٨

بالمفسدة في المحبوب والمكروه فمن يعتقد المصلحة في أكل شيء ، يشتاق إلى الأكل.

ومن يعتقد المفسدة فيه ، يكرهه ، وهكذا. وبهذا الاعتبار كانت هذه الصفات داخلة تحت اختيار الإنسان في كثير من الحالات وصح التكليف بها كالأمر بحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام وبغض أعدائهم.

الثاني ـ ان يفرض المصلحة في نفس الشوق المؤكد فلو فرض انه لا يرى مثلا أي مصلحة في نفس القيام لكن قال له شخص لو أردت القيام واشتقت إليه أعطيتك دينارا سواء قمت بالفعل أم لا فيقال انه سوف ينقدح في نفسه الإرادة والشوق نحو القيام وقد طبق ذلك على بعض الفروع الفقهية وهذا ما ينبغي بحثه تحت عنوان نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها لا متعلقها.

نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها

ذكر بعض المحققين إمكان نشوء الإرادة والشوق عن مصلحة في نفسها وجعلوا من تطبيقاته من يقصد عشرة أيام من أجل ان يصلي تماما أو يصوم ومن دون غرض له في البقاء عشرة أيام سوى ذلك وهو متقوم بنفس القصد والإرادة.

واعترض على ذلك المحقق العراقي ( قده ) بان الفعل والترك إذا كانا في نظر الإنسان سيان فكيف تتعلق إرادته بأحدهما ، وهل هذا الا ترجيح بلا مرجح؟ وفيما يلي نتحدث : أولا عن إمكان نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها ثم نبحث عن الفرع المذكور وكيفية تخريجه من الناحية الفقهية.

فنقول : الصحيح ان الحب والبغض والإرادة والكراهة التي هي من الصفات الحقيقية ذات الإضافة لا تحصل الا على أساس ما في متعلقاتها من المصالح والملاكات لا من أجل ما ساقه المحقق العراقي ( قده ) كبرهان على الاستحالة وهو لزوم الترجيح بلا مرجح ليقال ان المرجح ليكن هو المصلحة في نفس الإرادة بل لحكم الوجدان الّذي هو المرجع في تشخيص صغرى العلية والسببية في سائر الموارد بأن الشوق والإرادة وكذلك البغض والكراهة لا تتحقق الا على أساس تشخيص الملاك من

٣٩

المصلحة أو المفسدة في المتعلقات لأنها من الصفات ذات الإضافة والتعلق بغيرها فتنشأ عن ملاك فيه.

وأما علاج الفرع الفقهي المذكور والّذي قد يبرز كنقض على دعوى استحالة نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها فقد حاول المحقق العراقي ( قده ) أن يتخلص عنه بدعوى ان الإرادة والقصد أيضا ناشئة من مصلحة في المتعلق الا أن المتعلق لبس هو الإقامة مطلقا بل الحصة الخاصة منها وهو الإقامة القصدية فالإقامة القصدية أو هذا الباب من أبواب وجود الإقامة هي التي تكون مصبا للنكتة الداعية للمكلف إلى ان يقصد الإقامة.

وهذا الكلام بحاجة إلى تمحيص فانه يحتمل فيه أحد وجهين.

الأول ـ ان المصلحة التي يتوخاها المسافر في الإقامة المقيدة بالقصد أي ما هو موضوع الحكم بصحة الصوم والإتمام هو المقيد والتقيد بنحو التركيب الضمني وهذا واضح الجواب لأنه من الثابت فقهيا ان نفس الإقامة ليس لها دخل في صحة الصوم والتمام ولو ضمنا فلو نوى الإقامة وصلى رباعية ثم عدل كان عليه التمام والصيام بلا إشكال.

الثاني ـ ان المصلحة في سد باب عدم الإقامة من ناحية عدم القصد والإرادة للإقامة ولو فرض انفتاح باب آخر لعدمها كإجبار شخص إياه على الخروج أو غير ذلك فكأن هذا حفظ لمرتبة من مراتب وجود الإقامة وتقريب نحو وجودها وإيجاد ناقص لها. وهذا الوجه عبارة أخرى عن قيام المصلحة بنفس القصد لا المقصود لأن سد باب عدم الإقامة من ناحية عدم القصد عبارة أخرى عن القصد وليس جزءا من الإقامة الا بنحو من المسامحة في التعبير فيقال الإقامة القصدية إذ ليس سد باب عدم شيء بعدم إحدى مقدماته الا عبارة أخرى عن إيجاد تلك المقدمة فرجع الإشكال جذعا.

والتحقيق : ان يقال ان ما هو شرط في صحة الصوم والتمام وهو قصد الإقامة بعد وضوح ان نفس الإقامة خارجا ليس شرطا فيها يتصور بأحد تصورات ثلاثة :

الأول ـ ان يختار بأن الشرط نفس إرادة الإقامة لا غير كما هو ظاهر من نقض بهذا

٤٠