بحوث في علم الأصول - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٢

الثالث : ما نسبه في الكفاية إلى تقريرات الشيخ الأعظم ( قده ) وعبارة الكفاية في توضيحه لا تخلو من تشويش ولذلك فيحتمل في حق مقصود صاحب التقرير تقريبان.

الأول : ان نقيض كل شيء رفعه ، وهذا يعني ان نقيض الترك اللاترك الملازم مع الفعل ، وحينئذ لو قلنا بسراية الحرمة من اللازم إلى ملازمه فسوف يحرم الفعل فيفسد إذا كان عبادة ، سواء قيل بوجوب مطلق المقدمة أو المقدمة الموصلة خاصة ، اما على الأول فواضح ، واما على الثاني فلان نقيض الترك الموصل انما هو رفعه وهو عنوان له حصتان ومصداقان إحداهما ، عدم الترك الموصل الملازم مع الفعل ، والأخرى عدم الترك الموصل الملازم مع الترك غير الموصل ، وحرمة الجامع تنحل إلى حرمة كل حصة من حصصه لا محالة فتثبت حرمة الملازم مع الفعل أيضا فيحرم على القول بالسراية ، ولو قلنا بعدم السراية فكما لا يفسد الضد العبادي على القول بالمقدمة الموصلة ، كذلك لا يفسد على القول بوجوب مطلق المقدمة.

وهذا التقريب لا يرده ما في الكفاية من ان الترك الموصل ليس نقيضه الفعل وانما هو عدم الترك الموصل وهو ليس ملازما مع الفعل فضلا عن كونه عينه ، إذ ينفك عنه في الترك غير الموصل.

إذ ليس المدعى في هذا التقريب كون الفعل هو النقيض بل لازم النقيض ، والملزوم وهو عدم الترك الموصل إذا كان حراما حرمت كل حصصه فعلى القول بالسراية كان الفعل حراما أيضا وقد يقال في رد هذا التقريب : ان انحلال العنوان المحرم على حصصه لا يعني كون الحصة بما هي موضوع الحكم ، فان الإطلاق عبارة عن رفض القيود لا جمعها فلا يلزم حرمة ما يلازم الصلاة وفيه : ان ترك المقدمة الموصلة باعتبار كونه تركا للمركب من امرين ، فيكون تارة بترك الإيصال وأخرى بترك المقدمة ، فتكون الحصة الملازمة مع الصلاة متحصصة بقطع النّظر عن اقترانها بالصلاة

__________________

ترط عدمه في المركب إلا حين الإتيان بسائر الاجزاء بينما على ما ذكر من ان الأمر الضمني بالجزء يقتضي النهي الاستقلالي عن نقيضه لا بد من الالتزام بحرمة القهقهة ، والتحقيق : ما ذكرناه من ان الأمر بالمركب يقتضي النهي عن عدمه بعنوان عدم المركب أي يضاف الترك المبغوض إلى نفس العنوان المحبوب وعنوان المركب غير عنوان كل جزء جزء وعدم المركب ينطبق على عدم كل جزء من باب انطباق الكلي على مصداقه حين تحقق سائر الاجزاء فيسري إليه النهي بنكتة سريان الحكم من الجامع إلى الفرد عند انحصاره به ، وفي المقام حيث ان فعل الصلاة يستلزم عدم الجزء الآخر من الواجب الضمني وهو الإيصال فلا ينحصر الجامع المحرم في الانطباق عليه ليكون هو الحرام بخصوصه.

٢٦١

وهي محرمة فتسري الحرمة منها إلى الصلاة (١).

الثاني : ويسلم في هذا التقريب أيضا بالأصل الموضوعي المفترض في التقريب السابق من ان نقيض كل شيء رفعه ولكنه يقال : ان الفعل مصداق لعدم الترك وليس ملازما معه حيث ينطبق عليه ويتحد معه بالحمل الشائع كما يدعيه صاحب الكفاية ( قده ) ، ومع ذلك لا ثمرة بين القول بوجوب مطلق المقدمة أو الموصلة خاصة ، إذ كما يكون عدم الترك المطلق منطبقا على الفعل فيحرم بحرمته كذلك عدم الترك الموصل ينطبق على الفعل فيكون مصداقا له فتسري إليه الحرمة باعتبارها انحلالية ، ولا يضر بذلك انطباقه على الترك غير الموصل أيضا فانه مصداق آخر للنقيض وليس نقيضا آخر كي يكون مستحيلا.

والحاصل : ان نقيض الترك رفعه وهو عدم الترك ، ونسبة هذا العنوان إلى الفعل ان كان نسبة المفهوم إلى المصداق والجامع إلى الفرد فلا فرق فيه بين عدم الترك المطلق المتحد مع الفعل وعدم الترك الموصل المتحد مع الفعل أيضا فيكون الفعل حراما على كلا القولين.

وهكذا يتضح : انه لا يرد على هذا التقريب ما في الكفاية أيضا من ان الترك المطلق نقيضه رفعه والفعل مصداق له لأنه عينه ومتحد معه خارجا فتسري الحرمة إليه ، بخلاف الفعل بالنسبة إلى الترك الموصل فانه ليس نقيضه ولذلك يرتفعان معا.

إذ لا موجب للتفريق بينهما بعد افتراض ان نقيض كل شيء رفعه إذ لو كانت مصداقية الفعل لرفع الترك المطلق باعتبار انطباقه وحمله عليه بالحمل الشائع ، فهذا الملاك بنفسه موجود بالنسبة إلى الفعل ورفع الترك الموصل ، غاية الأمر ان هذا النقيض له مصداقان ومنشئان يحمل عليهما بالحمل الشائع ، فما في الكفاية لو أريد به هذا المقدار فهو مما لا نفهم له وجها (٢).

__________________

(١) هذا إذا كان الإشكال من ناحية عدم التحصص لا من ناحية ان الحصة لا تكون محرمة بما هي حصة كي تسري حرمتها إلى الصلاة والا فنحتاج إلى جواب آخر من قبيل ان عدم الترك الموصل ملازم مع الجامع بين الصلاة والترك غير الموصل ـ ولو كان انتزاعيا ـ فإذا حرم عدم الترك الموصل سرت حرمته إلى هذا الجامع المنطبق على الصلاة فتحرم.

(٢) بناء على ما أشرنا إليه إذا وجب المركب حرم تركه الّذي يكون بترك جزء من اجزائه والّذي ينطبق على ترك الجزء الّذي به يتحقق ترك المركب والا بقي الحكم على جامع ترك المركب. وحينئذ إذا كان المركب في مورد مؤلفا من

٢٦٢

ولذلك ناقش المحقق الأصفهاني ( قده ) ، في الأصل الموضوعي المفترض في التقريبين معا حيث أفاد أن هذا الالتزام بملاحظة ما هو المشهور في الألسنة من ان نقيض كل شيء رفعه والفعل امر وجودي وليس رفعا للترك بل رفعه اللاترك وهو غفلة عن المراد بالرفع فان الرفع في هذه العبارة كما عليه أهله الأعم من الرفع الفاعلي والمفعولي فالإنسان انما يكون نقيضا للإنسان حيث انه مرفوع به واللاإنسان انما يكون نقيضا للإنسان حيث انه رافع له (١).

ولعله يريد بذلك إبطال التقريبين معا وبيان الوجه للتفكيك بين مركز الفعل على القول بمطلق المقدمة فانه نقيض للترك الواجب ، ومركزه على القول بالمقدمة الموصلة فلا يكون نقيض الواجب ، فان الفعل يرفع بالترك فيكون نقيضه لأنه رفعه بالمعنى المفعولي ـ أي مرفوعة ـ فلو كان الواجب الغيري هو الترك حرم الفعل تبعا ، واما الترك الموصل فليس الفعل رفعا له لا بالمعنى الفاعلي ولا بالمعنى المفعولي ، وانما الفعل مرفوع بذات الترك وليست هي الواجب.

والتحقيق : ان المسألة لا بد وان تربط بالملاكات الموضوعية للتناقض المستوجبة لاقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده العام لا باصطلاح الفلاسفة ، ونحن بمراجعتنا لوجداننا القاضي بان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام نرى ان ملاك ذلك يمكن التعبير عنه تعبيرا فلسفيا تارة فيقال : بأن الضد العام هو ذلك الأمر الّذي يعاند الواجب معاندة ابتدائية أولا وبالذات كمعاندة الترك للفعل والفعل للترك لا ما يكون معاندته له باعتبار وجود معاندة أخرى أسبق منها كمعاندة الأمرين الوجوديين فانه لو لا استحالة اجتماع النقيضين ـ وجود شيء وعدمه ـ لما كان التمانع بين الأمرين الوجوديين مستلزما للمنافرة والمعاندة بينهما كما هو واضح.

وأخرى نعبر عنه تعبيرا أصوليا فنقول : ان النّفس البشرية تضيق من ان تحب شيئا

__________________

جزءين طوليين ـ كما في المقام حيث ان إيصال وإرادة فعل الواجب يكون في طول ترك ضده ـ حرم تركه الّذي يكون بترك جزئه الأخير دائما سواء ترك الجزء الأول أم لا إذ لا يكون ترك المركب بتركه بالخصوص أصلا ، وهذا فرق فني بين القولين في المقام.

(١) نهاية الدراية : ص ٣٦٣ ، ج ١.

٢٦٣

ولا تبغض عدمه ، فلو أحبت الفعل أبغضت الترك ، واستحال أن تحبه وكذلك العكس ، الا إذا رجعنا إلى عنوانين وجوديين ، وهذا بخلاف الأمرين الوجوديين ، فانه لا مانع من تعلق الحب بهما غايته عدم القدرة على تحقيقهما وامتثالهما في الخارج. وهذا التعبير الأصولي عن الضد العام هو الأوفق والأقرب إلى الذوق الأصولي لأنه يفسر لنا ابتداء نكتة التفصيل وجدانا بين الضد العام والضد الخاصّ ، وعلى كل حال فبأحد هذين التعبيرين يعرف ان نكتة الفرق بين الضد العام والضد الخاصّ ليس هو ان الضد العام لا يمكن ان يرتفع مع المأمور به والخاصّ يمكن ان يرتفع لكي يقال في المقام ان الفعل مع الترك الموصل يمكن ان يرتفعان إذ لو كانت هذه هي النكتة لزم حرمة الضد الخاصّ أيضا : بتقريب : ان الفعل مع جامع الأضداد الخاصة لا يمكن ارتفاعهما فإذا وجب الفعل حرم الجامع وبالتالي حرم كل واحد من مصاديقه بل الضدان اللذان لا ثالث لهما أيضا لا يمكن ارتفاعها معا وانما النكتة ما بيناه من ضيق أفق النّفس عن حبهما ذاتا وعدمه ، وهذه النكتة تقتضي جعل الفعل ضدا عاما للترك المطلق والموصل معا.

ثم انه ربما يناقش في هذه الثمرة بما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) من ان الأمر الغيري متعلق بمجموع المقدمات المساوقة مع العلة التامة ، وعنوان المجموع عنوان اعتباري والوجود الحقيقي لواقع تلك الاجزاء. وعليه فيكون نقيضه هو عدم جميع تلك الاجزاء لا عدم عنوان المجموع الاعتباري ، فيتعلق النهي الغيري بهذا النقيض فيكون لعدم كل جزء منها نهيا ضمنيا غيريا فيكون الفعل أيضا منهيا عنه ضمنا لأنه نقيض الترك الّذي جزء من المقدمة الموصلة.

وفيه : أولا ـ ما تقدم من ان عدم الجزء والمطلوب الضمني يكون مبغوضا استقلاليا لا ضمنيا لكونه مفوتا للغرض الاستقلالي بتمامه كما بينا.

وثانيا ـ ان عنوان المجموع لو سلم كونه عنوانا اعتباريا محضا مجرد عنوان عقلي يلبسه على الوجودات الحقيقية للاجزاء ، مع ذلك قلنا : انه لا إشكال في ان هذا العنوان الاعتباري صالح لأن يتعلق به الحب والوجوب بما هو حاك عن الخارج متحد معه ، فيكون نقيضه الّذي يتعلق به النهي عدم هذا العنوان الاعتباري لا عدم الاجزاء فلا وجه لأن يكون المبغوض عدم كل جزء جزء.

٢٦٤

« ثمرة وجوب المقدمة »

الجهة السادسة ـ وقبل بيانها لا بد من الالتفات إلى ان الثمرة للمسألة الأصولية لا بد وان تكون هي التوصل إلى إثبات جعل شرعي لا تطبيق جعل ثابت على صغرى من صغرياته : كما لو بحث عن وجوب فعل وعدمه لإثبات حرمة أخذ الأجرة عليه وعدمها مثلا ، كيف وأي بحث يمكن تصويره وقوعه في طريق مثل هذا التطبيق لا أقل من تطبيق كبرى حرمة الكذب وجواز الصدق.

وعلى هذا الأساس قد يقال بعدم الثمرة لبحث الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته شرعا ، إذ لو أريد من ورائه إثبات نفس الوجوب الغيري للمقدمة ، فهذا وان كان في طريق إثبات جعل شرعي ولكنه جعل لا يقبل التنجيز والتعذير كي يدخل في اهتمامات الفقيه ، لأن الواجب الغيري على ما تقدم لا يترتب على مخالفته العقاب ولا على موافقته الثواب بما هو واجب غيري.

ولو أريد من ورائه تنقيح صغرى من صغريات جعل آخر كحرمة أخذ الأجرة عليه مثلا بناء على ثبوتها وإطلاقها للواجب الغيري فمثل هذا لا يكون ثمرة أصولية كما تقدم.

ولكن الصحيح ثبوت الثمرة الأصولية على بعض الأقوال والتقادير في وجوب

٢٦٥

المقدمة حيث يقع التنافي بناء عليه بين وجوب ذي المقدمة النفسيّ مع حرمة المقدمة وبالتالي وقوع التعارض بين دليليهما.

وتفصيل ذلك : انه تارة يفترض كون تمام افراد مقدمة الواجب النفسيّ مباحة بطبعها وبقطع النّظر عن وجوب ذيها ، وأخرى يفترض كونها تشتمل على المباح والمحرم ، وثالثة يفترض ان تمام افرادها محرمة بطبيعتها.

اما في القسم الأول ، فلا يترتب على القول بوجوب المقدمة فيه ثمرة أصولية كما هو واضح.

واما في القسم الثاني ؛ فتارة : يبنى على ان ملاك الوجوب الغيري لا يسع الفرد الحرام من المقدمة بمعنى ان الوجدان القاضي بإرادة المقدمة غيريا لا يحكم بأكثر من إرادة الجامع بين الافراد المباحة وأخرى : يقال بما تبناه السيد الأستاذ ، من حكم الوجدان بوجوب الجامع بين تمام افراد المقدمة حتى المحرمة منها ، لأن ملاك هذه الإرادة انما هو التوقف أو التوصل إلى ذي المقدمة وهما مشتركان بين المباح والحرام.

فعلى الأول : سوف يختص الوجوب الغيري بالمقدمة المباحة خاصة فلا يكون تزاحم ولا تعارض بين الحرام والواجب الغيري.

وعلى الثاني : لو قيل بتعلق الوجوب الغيري بعنوان المقدمة بنحو الحيثية التقييدية دخل المقام في باب اجتماع الأمر والنهي بالمعنى المصطلح ، وكذلك الحال لو قيل بتعلقه بواقع المقدمة وعنوانها حيثية تعليلية للوجوب ولكن كانت الحرمة متعلقة بعنوان آخر ، إذ في هاتين الصورتين يتعدد العنوان فعلى القول بإمكان الاجتماع لا تعارض أيضا ، وعلى القول بالاستحالة أو افتراض تعلق كل من الوجوب والحرمة بواقع الفعل يدخل المقام في موارد التعارض بين الخطابين ، هذا إذا كانت الدلالة على وجوب المقدمة التزامية لفظية واما إذا كانت على أساس الملازمة العقلية فسوف يختص الوجوب ـ كلما قيل بالامتناع ـ بالحصة المباحة لأن إطلاق الوجوب كان من جهة عدم المقتضي للتخصيص فكلما وجد مقتض له خصص لا محالة.

واما في القسم الثالث ؛ وهو ما إذا كانت المقدمة محرمة بقطع النّظر عن وجوب ذيها ، فإذا قيل بعدم وجوب المقدمة لم يكن هناك تعارض بين الخطابين الوجوب

٢٦٦

النفسيّ وحرمة المقدمة ، إذ كل منهما جعل مقيد لبا بالقدرة على متعلقه ولا استحالة في ثبوت جعلين كذلك ـ بناء على إمكان الترتب ـ غايته التزاحم في مقام الامتثال ـ أي التنافي بين المجعولين الفعليين ـ حيث ان للمكلف قدرة واحدة لو صرفها على كل منهما ارتفعت القدرة عن الآخر وليس هذا من التعارض في شيء. واما إذا قيل بوجوب المقدمة فإذا افترضنا أهمية الحرام أو مساواته مع الواجب النفسيّ فائضا لا يحصل تعارض في البين حيث تكون المقدمة على ذلك مقدمة وجوب الواجب النفسيّ فلا تكون واجبة أصلا ، اما كونها مقدمة وجوب فباعتبار تقيد الوجوب النفسيّ بعدم صرف القدرة في المزاحم الأهم أو المساوي الّذي يعني في المقام عدم الإتيان بالحرام وهو المقدمة ، واما عدم وجوبها فلما تقدم من استحالة ترشح الوجوب الغيري ، على مقدمات الوجوب. واما إذا كان الوجوب النفسيّ هو الأعم فلا تكون المقدمة عندئذ مقدمة الوجوب لفعلية قيد الوجوب النفسيّ ولو لم يفعل المقدمة تجنبا للحرام ، لأنه لم يصرف قدرته في الأهم أو المساوي ، وحينئذ إذا قلنا بوجوب المقدمة الموصلة خاصة لم يكن تعارض في البين أيضا ، لأن الحرمة تكون مقيدة بعدم صرف القدرة في الواجب النفسيّ فيجتمع مع وجوب المقدمة الموصلة المساوقة مع تحقيق الواجب النفسيّ وصرف القدرة فيها.

لا يقال ـ على هذا لو فرض عدم اشتغال المكلف بذي المقدمة فسوف يلزم ان المولى يريد منه المقدمة الموصلة لكون شرط الوجوب النفسيّ الأهم ـ وهو عدم الاشتغال بالأهم والمساوي فعليا على كل تقدير ـ ويحرم عليه في نفس الوقت المقدمة ـ لكون شرط الحرمة فعليا أيضا ـ وهذا مستحيل ثبوتا باعتبار وحدة الموضوع وليس من قبيل التكليف بالمتزاحمين على تقدير ترك الأهم.

فانه يقال : لا وحدة موضوع في المقام أيضا فان عدم الاشتغال بالواجب المأخوذ قيدا في الحرمة يكون قيدا في الحرام لرجوع شرائط الحكم دائما إلى المتعلق أيضا فيكون الحرام بحسب الحقيقة الحصة غير الموصلة خاصة.

وإذا قلنا بوجوب مطلق المقدمة فان كان من جهة استحالة التقييد بالموصلة فالنتيجة التعارض بين دليلي وجوب ذي المقدمة وحرمة المقدمة ، ان قلنا باستحالة

٢٦٧

اجتماع الأمر والنهي أو تعلقهما بالمعنون الواحد والا فيكون من باب الاجتماع. وان كان القول بوجوب مطلق المقدمة من جهة عدم المقتضي للتخصيص بالموصلة ، فان كان الوجوب على عنوان المقدمة دخل في باب الاجتماع لتعدد عنوان الواجب الغيري والحرام ، واما ان قلنا بتعلق الوجوب بواقع المقدمة أو قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي اختص الوجوب بالموصلة لا محالة إذا كان الملحوظ عالم الثبوت والدلالة الالتزامية العقلية لدليل الوجوب ، وان كانت الدلالة التزامية لفظية كان من التعارض بين الخطابين كما تقدم في القسم الثاني.

ان قلت : ما الفرق بين هذا القسم والقسم الثاني فيما إذا كانت الحرمة متعلقة بعنوان آخر وكان الوجوب متعلقا بواقع المقدمة حيث كان من باب الاجتماع هناك ومن باب التعارض هنا.

قلنا : الفرق انه في هذا القسم يلزم اجتماع الأمر والنهي على معنون واحد بلحاظ مقدمة المقدمة أعني إرادة اجتياز الطريق المغصوب لإنقاذ النّفس المحترمة فانها باعتبارها مقدمة للواجب سوف تكون واجبة وباعتبار ان المجموع منها ومن عدم إرادة الإنقاذ يشكل العلة التامة للحرام ـ وهو وقوع الاجتياز غير الموصل ـ تكون محرمة بالحرمة الضمنية ، أي في حال ارتكاب هذا المجموع تكون محرمة ضمنا وهذا محال ، إذ لا يمكن ان يكون شيء واحد في أي حال واجبا وحراما ضمنا. وهذا بخلاف إرادة الاجتياز في القسم الثاني الّذي كان يفرض فيه تعدد المقدمة المحرمة والمباحة فان المحرم إرادة اجتياز الطريق المغصوب بالخصوص بينما الواجب بالوجوب الغيري إرادة جامع الاجتياز ، وليست إرادة جامع الاجتياز علة تامة ولا ضمن العلة التامة للحرام وانما يلازم الحرام وينطبق عليه كعنوان آخر واما علة الحرام فيه إرادة اجتياز الطريق المغصوب ، بخلاف إرادة الحصة غير الموصلة في هذا القسم فانها عبارة أخرى عن إرادة الاجتياز وعدم إرادة الإنقاذ لوحدة المقدمة هنا وعدم تعددها بالإيصال وعدمه وتعددها في القسم الثاني فتأمل جيدا. ومن مجموع ما ذكرنا ظهرت ثمرة القول بالمقدمة الموصلة أيضا.

__________________

(١) هذا مبنيّ على معقولية الحرمة والمبغوضية الضمنية وأنها كالحرمة الاستقلالية لا تجتمع مع الوجوب ولكن سوف يأتي في مبحث الاجتماع عدم معقوليتها في نفسها فلا يتمّ هذا الفرق بين القسمين.

٢٦٨

__________________

ثمّ انّ هناك ثمرة اُخرى للقول بوجوب المقدمة صوّرها السيد الشهيد ( قدّس سرّة ) في الجزء الثالث من حلقات الاُصول وهي فيما اذا اتّفق ان أصبح واجب علّة تامة لحرام وكاان الواجب أهم ملاكاً فانَّه بناءً على القول بالملازمة يقع التزاحم بين خطاب الوجوب والحرمة بينما على القول بعدم الملازمة يقع التعارض بينهما لانّ الحرمة تسري من الحرام الى علته التامة التي هي نفس الواجب فيقع التنافي بين جعليهما لامحالة.

ولنا في المقام كلامان :

الأول ـ انّ هذه الثمرة وهي دخول المقام في باب التعارض بناءً على الملازمة وفي باب التزاحم بناءً على انكارها انّما يتمّ فيما اذا كان الحرام هو الأهم ملاكاً لاما إذا كان الواجب أهمّ أو متساويين لأنّ خطاب الحرمة ككل خطاب آخر مقيد بعدم الاشتغال بالأهم أو المساوي فاذا لم يكن الحرام هو الأهم كانت الحرمة مقيدة لا محالة بعدم الا تيان بالواجب وحيث انّ قيود الحرمة قيود للحرام فلا محالة يكون الحرام خصوص الحصّة المقرونة بعدم الا تيان بالواجب لا المسبّبة منه فلا تعارض بين خطابي الحرمة والوجوب حتى لوقيل بالملازمة. نعم اذا كانت الحرمة أهم ملاكاً فاحصّة المتولدة من الواجب تكون محرمة أيضاً وبناءً على الملازمة تسري الحرمة منها الى السبب وهو الواجب فيقع التنافي بين الجعلين والتعارض بين الدليلين بخلاف ما اذا قلنا بعدم الملازمة.

لا يقال ـ بناء على عدم الملازمة أيضاً يكون تعارض بين الخطابين لأنّ الأمر بالواجب مطلقاً خلف أهمية الحرام ومشروطاً بعصيان الحرام تحصيل للحاصل اذ على تقدير الا تيان بالمعلول تكون علته التامّة حاصلة لا محالة فلا يمكن الأمر به على كلّ تقدير وهو معنى التعارض فهذه الثمرة غير صحيحة ، فانه يقال ـ لو كان الأمر بالواجب مشروطاً باتيان تلك الحصّة من الحرام المتولدة منه كان كما ذكر إلّا أنّه بلا موجب بل القيد عدم الاشتغال بحفظ الملاك الأهم وهو الحرام في المقام ولوضمن الحصّة الاُخرى غير المسببة عن الواجب لأنّ الخارج عن كلّ خظاب بالمقيد اللبّي انّما هو خصوص الاشتغال بالأهم أو المساوي والاشتغال بامتثال الحرام لا يكون إلّا بترك كافة حصصه لأنّ النبي والحرمة لايمتثل إلّا بانتفاء كافة حصص الحرام فاذا عصى الحرمة ولو بالاقدام على حصّة منها كان الوجوب فعلياً على المكلّف في المقام وكان معاقباً بعقابين فعله للحرام وتركه للواجب وفائدة هذا الواجب المشروط بعصيان خطاب الحرمة دفع المكلّف الى عدم تفويت الغرضين معاً على المولى فاذا كان بانياً على ارتكاب الحرام على كلّ حال فليحقّقه عن طريق الواجب.

الثاني ـ انّ وضوح امكان الأمر بالواجب الواقع علّة للحرام الأهم بنحو الترتّب وكونه طريقة وجدانيّة الصحة في حفظ الأغراض المولوية وعدم تفويتها جميعاً من دون تأويله وارجاعه الى طلب الجامع بين فعل الواجب وترك الحرام والنهي عن الحرام بالخصوص خير دليل على عدم الملازمة.

٢٦٩
٢٧٠

« حكم الشك في وجوب المقدمة »

الجهة السابعة ـ وقد وقع البحث عندهم في تأسيس الأصل عند الشك في وجوب المقدمة ومصب هذا الأصل المؤسس ، تارة : يكون وجوب المقدمة ـ المسألة الفقهية ـ وأخرى يكون الملازمة ـ المسألة الأصولية ـ.

والصحيح انه لا يمكن الرجوع إلى ، أصل في المقام لا بلحاظ الشك في الملازمة ولا بلحاظ وجوب المقدمة ، الا في موارد نادرة.

وتفصيل ذلك : ان الأصول العملية من البراءة والاستصحاب انما تجري بلحاظ الأحكام التكليفية التي تقبل التنجيز والتعذير ويكون في مخالفتها عصيان وعقاب ، ووجوب المقدمة شرعا على القول به ليس بنفسه مما يقبل التنجيز كما تقدم شرحه ، فلا يمكن إجراء البراءة عنه أو الاستصحاب بلحاظ نفسه.

نعم ربما يجري الاستصحاب في إثباته أو نفيه بلحاظ حكم آخر يقبل التنجيز والتعذير فحينئذ يكون وجوب المقدمة شرعا موضوعا له ، فيكون إجراء الأصل بلحاظ ذلك الحكم الجزئي المشكوك بنحو الشبهة الموضوعية.

وهذا موقوف على ثبوت كبرى ذلك الحكم الآخر بنحو يصلح الوجوب الغيري للمقدمة لتنقيح صغراها. وقد يذكر لذلك أمثلة.

٢٧١

من قبيل ما قد يدعى من إجراء استصحاب عدم وجوب المقدمة لإثبات جواز أخذ الأجرة عليه وعدم حرمته تكليفا أو وضعا الثابتة في الواجبات.

غير ان هذا موقوف على ثبوت كبرى حرمة أخذ الأجرة على الواجبات بهذا العنوان مع انه لا مدرك لهذا الحكم الا أحد امرين.

اما دعوى الدلالة العرفية لخطاب إيجاب شيء على كونه مجانيا ، واما دعوى ان التكليف بعمل يخرجه عن كونه تحت سلطان فاعله فلا تصح أخذ الأجرة عليه.

والدعوى الأولى على تقدير تماميتها لا تجدي في تصحيح جريان استصحاب عدم وجوب المقدمة شرعا ، إذ سواء قيل بوجوبها أم لا يترتب ذلك الحكم الا في حدود الواجبات النفسيّة التي تتكفل بيانها الخطابات الشرعية واما الوجوب الغيري وفمدركه برهان الملازمة عقلا وهو قاصر عن إثبات المجانية كي لا تصح الأجرة عليه كما انه لو فرض استفادة مجانية الواجب النفسيّ بجميع مقدماته من الخطاب النفسيّ فائضا لا فرق في عدم جواز أخذ الأجرة بين القول بوجوب المقدمة شرعا وعدمه فلا مجرى للأصل أيضا.

والدعوى الثانية لو تمت لا يفرق فيها بين القول بوجوب المقدمة أو إنكاره ، لأن دليل الواجب النفسيّ كما يسلب سلطنة المكلف عن ذي المقدمة كذلك يسلبها عن مقدمته سواء قيل بوجوبها الغيري أم لا فلا يكون الوجوب موضوعا للحكم المذكور كي يصح الاستصحاب.

وقد تذكر كبرى ثانية في المقام هي كبرى ان الإصرار على الصغيرة الّذي يتحقق بتكرار الصغيرة كبيرة فيكون فاعله فاسقا ، وحينئذ لو قلنا بوجوب المقدمة كان تاركها مصرا على الصغيرة حيث يكون تاركا لواجبين الواجب النفسيّ ـ ونفرضه صغيرة ـ والواجب الغيري ، بخلاف ما لو قيل بعدم وجوبها ، فيكون استصحاب عدم الغيري مجديا في نفي تحقق الفسق.

غير ان هذا أيضا غير صحيح وذلك أولا ـ لعدم ثبوت الكبرى القائلة باشتراط الكبيرة في الخروج عن العدالة ، بل الصحيح ان الذنب ولو كان صغيرة يخرج عن

٢٧٢

العدالة ما دام لم يتب.

وثانيا ـ لو سلمت الكبرى المذكورة فلا إشكال ان المراد من الإصرار على الصغيرة المتحقق بتكرر الصغيرة ما إذا تكرر العصيان لا ما إذا ترك واجبين ليس فيهما الا واحد ، إذ ليس ترك الواجب الغيري عصيانا.

وثالثا ـ لو سلم كون المراد بالصغيرة مطلق المخالفة وترك الواجب أو فعل الحرام مع ذلك لا يمكن إثبات عنوان الإصرار على الصغيرة أو نفيه باستصحاب وجوب المقدمة أو نفيه ، لأن عنوان وحداني وليس تركيبا فلا يمكن إثباته أو نفيه بنفي الوجوب الا على القول بالأصل المثبت.

وقد تذكر كبرى ثالثة هي ما لو نذر الإتيان بواجب ، فانه على القول بوجوب المقدمة يبر نذره بالإتيان ، بها فلو شك يكون استصحاب عدم الوجوب نافيا لوقوع الامتثال ومبقيا للوجوب ، وهذه الكبرى موقوفة على ان يكون وجوب الوفاء بالنذر موضوعه نفس ما نذره الناذر بان يكون عنوان الوفاء مشيرا به إلى واقع ما شرطه الناذر على نفسه ، اما إذا كان الوفاء عنوانا منتزعا عقلا من الإتيان بما نذره الناذر لم يجد الاستصحاب الجاري في وجوب المقدمة إثباتا أو نفيا لإحرازه الا على القول بالأصل المثبت ، على ان مثل هذه الثمرة تتصور في كل مسألة. هذا كله في إجراء الأصل عن وجوب المقدمة أي في المسألة الفقهية ، واما إجرائها عن الملازمة أي في المسألة الفقهية فالحال فيها أوضح ، إذ مضافا إلى ما تقدم من عدم انتهائه إلى الأثر العملي التنجيزي والتعذيري يرد عليه : ان ترتب الوجوب الغيري للمقدمة على الملازمة ليس شرعيا لأن الملازمة بين الجعلين النفسيّ والغيري ليس شرعيا ، إذ الشرعي ترتب المجعول على موضوعه لا ترتب الجعل على أسبابه.

ثم ان هنا إشكالات أخرى تعرض لها في الكفاية :

منها ـ ما يختص بإجراء الأصل في المسألة الأصولية ـ الملازمة ـ حيث يقال : بأنه لا حالة سابقة متيقنة للملازمة باعتبار انها لو كانت فهي أزلية وأبدية فكيف يعقل العلم بعدمها سابقا والشك في بقائها لاحقا؟.

٢٧٣

وهذا الإشكال يمكن دفعه : بان الملازمة لو أريد منها القضية الحقيقية الشرطية الصادقة على تقدير ثبوتها قبل تحقق الشرط والجزاء فهي كما أفيد لا حالة سابقة لها ، واما لو أريد بها القضية الفعلية الخارجية أي العلية واللزوم الفعلي من قبل الوجوب النفسيّ الفعلي للوجوب الغيري الفعلي المنتزعة في طول وجود العلة خارجا فهي مسبوقة بالعدم ـ ولو العدم الأزلي قبل تحقق الملزوم ـ.

ومنها ، ما يورد على الأصل في كلتا المسألتين الأصولية والفقهية من دعوى استحالة إجراء التعبد والأصل العملي في الوجوب الغيري مع احتمال الملازمة لأنه من التعبد فيما يحتمل استحالته ، إذ الملازمة لو كانت فالتفكيك بين اللازم والملزوم مستحيل.

وحيث انها محتملة كان التعبد المذكور مما يحتمل كونه من المستحيل ، وثبوت ما يحتمل استحالته مستحيل. وبعبارة أخرى : لا بد من ان تنتهي الأصول العملية والحجج الشرعية إلى نتيجة مقطوعة لا محتملة ، واحتمال الاستحالة في ثبوت التعبد مساوق مع عدم ثبوته.

وقد أجاب على هذا الإشكال في الكفاية : بأنه مبني على ثبوت التلازم بين الحكمين حتى في مرحلة الفعلية من الأحكام لا ما إذا قيل بان التلازم على تقديره انما هو بين الأحكام في مرحلة الواقع ، وقد يستظهر من سياق الكفاية الميل إلى التقدير الثاني كي يندفع به الإشكال (١).

فهنا كلامان ، أحدهما جريان الأصل فيما لو كانت الملازمة بين الوجوبين في مرحلة الأحكام الواقعية فقط ، والثاني عدم جريانه فيما إذا كانت الملازمة بينهما في مرحلة الأحكام الفعلية أيضا ، ولا بد من تمحيص كل منهما ، على ضوء المراد من مرحلة الفعلية ومرحلة الواقع في الأحكام الشرعية فانه توجد مصطلحات مختلفة في تفسير الفعلية.

الأول : الفعلية في مصطلح الكفاية حيث يريد المحقق الخراسانيّ ( قده ) بالحكم

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢٠٠.

٢٧٤

الواقعي الحكم الإنشائي الّذي لا حقيقة له غير الاعتبار والإنشاء ، وبالحكم الفعلي الإرادة الحقيقية والطلب الجاد للفعل من العبد ، وقد جمع ( قده ) ، بين الأحكام الواقعية والظاهرية بافتراض ارتفاع فعلية الحكم الواقعي في موارد الأصول والأمارات وبقاءها إنشائية محضة ، ولا تناقض في اجتماع حكمين متضادين على مستوى الإنشاء والاعتبار المحض وانما المستحيل هو اجتماع إرادتين واقعيتين فعليتين.

وعلى هذا المصطلح يكون من الواضح عدم صحة دعوى اختصاص التلازم بين الوجوبين بمرحلة الأحكام الواقعية وعدم ثبوته في الأحكام الفعلية ، إذ كيف يمكن توهم التلازم بين الإنشاءين الذين هما مجرد لقلقة جعل واعتبار مع عدمه بين الإرادتين الحقيقتين؟

الثاني : الفعلية في مصطلح الميرزا ( قده ) ، ويراد بها المجعول أي الحكم بنحو القضية الخارجية عند فعلية موضوعه خارجا ، وبناء على هذا المعنى للفعلية لا إشكال في ثبوت الملازمة بين الحكمين الفعليين ، إذ لو فرض ثبوت التلازم بين الجعلين والقضيتين الحقيقيّتين كان ثبوته بين المجعولين أولى فحين فعلية الجعل النفسيّ بتحقق موضوعه خارجا يصبح الجعل الغيري المقيد بقيود الجعل النفسيّ فعليا أيضا.

الا ان هذا المعنى للفعلية لا يمكن افتراض ارتفاعها في موارد الأصول والأمارات ولذلك فلا يحتمل ان يكون هو مقصود صاحب الكفاية ( قده ).

الثالث : الفعلية بمصطلح المحقق الأصفهاني ( قده ) ، ويريد بها صيرورة الطلب بحيث يكون باعثا ومحركا بالفعل للمكلف المطيع الموقوف على الوصول ، وهذا معنى مساوق مع التنجز بحسب مصطلحاتنا ، وبناء عليه يصح الجواب المذكور ، إذ من الواضح انه لا تلازم بين الحكمين في مرحلة الفعلية المساوقة مع التنجز لوضوح عدم الملازمة بين وصول الوجوب النفسيّ وبين وصول الوجوب الغيري.

واما الكلام الثاني أي عدم جريان الأصل فيما إذا افترض ان الملازمة على

٢٧٥

تقديرها ثابتة في مرحلة الأحكام الفعلية أيضا. فقد أشكل عليه المحقق الأصفهاني ( قده ) ، بأنه على التقدير أيضا لا يتم الإشكال بل يجري الأصل ، لأن مجرد احتمال الاستحالة في التعبد المذكور لا يمنع عن التمسك بدليله وانما يرفع اليد عن الدليل فيما إذا قطع بالاستحالة ، ولذلك يصح التمسك بإطلاق دليل التعبد بحجية البينة حتى لما إذا أخبرت بمضمون احتملنا استحالته ثبوتا كما لو أخبرت بتكلم الميت مثلا ، واحتملنا استحالته.

وكذلك يصح التمسك بظهور آية النبأ مثلا في حجية خبر الواحد لو فرض ظهورها في ذلك ولا يرفع اليد عنه لمجرد احتمال استحالته (١).

وهذا الاعتراض من المحقق الأصفهاني ( قده ) ، غير متجه في المقام ذلك ان الاستحالة المحتملة تارة : تكون في حق الحكم الواقعي فقط الّذي هو مؤدى الأصل أو الأمارة دون ان تكون بنكتة مشتركة بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري أي نفس التعبد ، وأخرى : تكون الاستحالة المحتملة في حق الحكم الواقعي بنكتة مشتركة بينه وبين نفس التعبد ، ففي النحو الأول لا يضر ذلك الاحتمال في التمسك بدليل التعبد لإثباته ، لوضوح ان المحتمل استحالته انما هو الحكم الواقعي وهو لا يثبت حقيقة بل تعبدا والثابت حقيقة ووجدانا انما هو التعبد بوجود ذلك الحكم وتنجز آثاره وهو مقطوع الإمكان فلا وجه لرفع اليد عن دليل ثبوته.

وفي النحو الثاني يستحيل التعبد بالمحتمل لأنه يستلزم الخلف ، إذ إثبات ذلك التعبد بدليله يقتضي ثبوته وجدانا وحقيقة وحينئذ ان فرض مع ذلك احتمال الاستحالة في ذلك التعبد كان تناقضا ، وان فرض ارتفاع احتمال الاستحالة فالمفروض ان نكتتها مشتركة بين مرحلة التعبد والواقع وهذا يعنى ان احتمال الاستحالة في الواقع أيضا يرتفع ومع ارتفاعه يرتفع الشك في الواقع إذا كان منشأه احتمال الاستحالة فقط كما في المقام ، فيلزم منه ارتفاع التعبد وهو خلف.

وبهذا اتضح ان المثالين الذين ساقهما من النحو الأول ومحل الكلام من النحو

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ص ٢١٥.

٢٧٦

الثاني فقياسه عليهما في غير محله ، فان احتمال استحالة تكلم الميت لا يستلزم احتمال استحالة التعبد به لترتيب آثاره شرعا وكذلك احتمال استحالة حجية خبر الثقة فانها لا تستلزم احتمال استحالة التعبد بها ـ إذا فرضنا ان الاستحالة المحتملة مخصوصة بحجية الخبر لا الظهور ـ واما احتمال استحالة نفي وجوب الغيري مع فعلية الوجوب النفسيّ فنكتته مشتركة بين الحكم الواقعي والحكم الفعلي ـ التعبد ـ فإذا فرض التمسك بدليل التعبد الاستصحابي المستلزم لثبوت نفس التعبد وجدانا مع بقاء احتمال استحالته كان تناقضا ؛ وان فرض ارتفاع احتمال الاستحالة ارتفع احتمال استحالة الحكم الواقعي أيضا فيقطع بعدم الملازمة لا محالة وبالتالي يقطع بعدم الوجوب الغيري الواقعي فيرتفع موضوع التعبد وهو خلف.

ومن جملة الإشكالات أيضا ما يتركب من مقدمتين.

الأولى : ان التعبد بالاستصحاب لا بد ان يكون فيما هو تحت تصرف المولى بما هو شارع وجاعل وهو الحكم الشرعي أو موضوع الحكم الشرعي فلا بد وان يكون المستصحب أحدهما.

الثانية : ان وجوب المقدمة ـ فضلا عن الملازمة ـ ليس داخلا تحت التصرف المولوي ، لأنه من لوازم ماهية الوجوب ـ النفسيّ وهي غير مجعولة لا بجعل بسيط ـ لأنه خلف كونه لازما ـ ولا بالجعل التأليفي ـ لأن لوازم الماهية ذاتية والذاتي لا يعلل ـ فلا يمكن إجراء الاستصحاب فيه.

وقد أجاب عن الإشكال صاحب الكفاية : بان الوجوب الغيري وان لم يكن مجعولا استقلالا الا انه مجعول بالتبع فيكون تحت سلطان الشارع بجعل منشأ انتزاعه (١) وتوضيح الحال بنحو يتضح به مدى صحة كل من الإشكال والجواب يستدعي التكلم في ثلاث نقاط على النحو التالي :

النقطة الأولى : في تحقيق حال الكبرى القائلة ان المستصحب لا بد وان يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي ، فانه قد اشتهر ذلك في ألسنتهم مستدلين عليه :

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ص ١٩٩.

٢٧٧

أن الاستصحاب حكم شرعي فلا بد وان يكون ما يجري فيه تحت سلطان الشارع بما هو شارع وليس هو الا الحكم الشرعي أو موضوع الحكم الشرعي بلحاظ حكمه.

غير ان الصحيح على ما بيناه مفصلا في مباحث الاستصحاب ، عدم اشتراط ذلك في إجراء الاستصحاب وانما المشترط ان يكون المستصحب منتهيا إلى أثر عملي.

اما وجه اشتراط ان يكون المستصحب ذا أثر عملي فلان الاستصحاب حكم ظاهري والحكم الظاهري يجعل من أجل تحديد الوظيفة العملية في موارد الشك ، فلا بد وان يكون المشكوك منتهيا إلى الأثر العملي لكي يجري فيه الأصل ، واما وجه عدم اشتراط كون المستصحب حكما شرعيا أو موضوع حكم فلان الاستصحاب ليس إثباتا حقيقيا للمستصحب بل إثبات تعبدي ظاهري الّذي يعني إثبات أثره العملي ، وهذا لا يقتضي أكثر من أن يكون المستصحب منتهيا إلى ذلك ولو لم يكن بوجوده الحقيقي تحت تصرف المولى بما هو مولى.

وبهذا عرف ان الإشكال المذكور غير تام لعدم تمامية مقدمته الأولى المتضمنة للكبرى المذكورة.

النقطة الثانية : في تحقيق معنى لوازم الماهية والوجود وتشخيص نسبة الوجوب الغيري إلى النفسيّ على ضوء ذلك فنقول : المعروف بينهم في الفرق بين لوازم الماهية ولوازم الوجود ان ما يكون لازما لشيء في نفسه وبقطع النّظر عن وجوده الخارجي والذهني فهو من لوازم الماهية ، وما يكون لازما لشيء في عالم وجوده فهو من لوازم الوجود. ويمثل للأول بزوجية الأربعة وإمكان الممكن وللثاني بحرارة النار.

وقد أشكل عليه المحقق الأصفهاني ( قده ) : بأنه بناء على ما هو التحقيق من أصالة الوجود وان الماهية ليست الا امرا وهميا اعتباريا لا معنى لافتراض ان لازم الماهية هو الأمر الثابت لها بقطع النّظر عن الوجود العيني والذهني ، فان اللازم معلول ومستتبع للملزوم فلا بد ان يكون الملزوم امرا أصيلا صالحا للتأثير في إيجاد ذلك اللازم وليس هو غير الوجود ، وانما المقصود من لوازم الماهية على هذا التحقيق هو اللازم لمطلق

٢٧٨

وجود الشيء العيني والذهني بينما لازم الوجود هو ما يكون لازما لوجوده العيني فقط (١).

وهذا الّذي أفاده ( قده ) غير تام وذلك ببرهان ان لوازم الماهية تثبت لملزومها وهو الماهية حتى لو قيد بعدم مطلق وجودها حيث تصدق القضية القائلة الإنسان غير الموجود في الخارج ولا في الذهن ممكن أو الأربعة غير الموجودة زوج وليس المحكوم عليه في هذه القضايا الوجود الذهني للملزوم المتصور في طرف موضوعها فانه خلف وتناقض ، لأن تصور الأربعة غير الموجودة ـ أي الأربعة غير الموجودة بالحمل الشائع ـ ليس بأربعة غير موجودة بل هي أربعة موجودة فلا يمكن ان يكون الحكم على هذا العنوان بلحاظ نفسه بالحمل الشائع وانما بلحاظه ، بالحمل الأولي كما هو واضح.

وصدق هذه القضايا برهان على ما كنا نقوله مرارا من ان عالم الواقع أوسع من عالم الوجود العيني أو الذهني ، فلوازم الماهية هي أمور واقعية وليست أمورا وجودية حقيقية ، ولذلك تكون صادقة وثابتة مع فرض عدم الوجود فهي أمور واجبة ضرورية ولكنها ليست واجبة بوجودها وانما واجبة بذاتها ، ولذلك لا يلزم تعدد واجب الوجود ، وما قيل من انها معلولات للملزوم فبناء على أصالة الوجود لا يعقل تأثير الماهية فيها واستلزامها لها ، مدفوع بان نسبة هذه اللوازم إلى ملزوماتها انما هي نسبة العرض إلى المعروض لا المعلول إلى العلة بمعنى انها ليست أمورا وجودية كي تحتاج إلى العلة في إيجادها وانما هي أمور واقعية واجبة بذاتها وواقعيتها لا بوجودها ، بل لا وجود لها وانما لها الواقعية والثبوت الذاتي سواء تحقق وجود للملزوم أم لا وبهذا يعرف ان لوازم الماهية ليست مجعولة حقيقة أصلا حتى الجعل بالتبع أي الجعل الحقيقي للشيء بتبع جعل منشأه وعلته ، وانما هي مجعولة بالعرض والمجاز باعتبار انتزاعها من الملزوم الموجود فالوجود للملزوم حقيقة وليس للازم الا مجازا.

وعلى هذا الأساس يعرف ان وجوب المقدمة على القول به ليس من لوازم الماهية ؛ باعتباره امرا وجوديا يمكن ان يكون ويمكن ان لا يكون في نفس المولى ولوازم الماهية كما قلنا أمور واجبة بذاتها وواقعيتها وصادقة بقطع النّظر عن الوجود. ومن كل ذلك

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ص ١١٤.

٢٧٩

تعرف ان ما في الكفاية من افتراض ان لوازم الماهية مجعولة بالتبع وان الوجوب الغيري من لوازم الماهية للوجوب النفسيّ كلاهما غير صحيح.

النقطة الثالثة : لو افترضنا ان الوجوب الغيري من لوازم الماهية التي هي ليست بمجعولة الا بالعرض والمجاز أو افترضنا ان الوجوب الغيري من لوازم الوجود فيكون مجعولا بالتبع فهل يمكن إجراء الاستصحاب فيه أم لا بناء على التسليم بالكبرى المبينة في النقطة الأولى من ان التعبد الاستصحابي لا بد وان يكون في شيء تحت تصرف المولى جعلا ورفعا؟

الصحيح : هو العدم ، لأنه لو أريد بالتعبد الاستصحابي نفس الموجود بالعرض أو بالتبع دون الموجود بالذات وبالأصالة فهذا ليس تحت تصرف المولى أيضا ، والمفروض الالتزام باشتراط كون المستصحب تحت تصرف المولى وقدرته بما هو مولى وجاعل ، وان أريد بالاستصحاب نفي الموجود بالعرض أو بالتبع ظاهرا وبلحاظ الأثر العلمي أي نفي الأثر العملي من وجوده ، فهذا خلف اشتراط كون المستصحب امرا تحت تصرف الشارع من حكم شرعي أو موضوع لحكم شرعي وانما هو التزام بالكبرى الأخرى التي بيناها في النقطة الأولى.

وبهذا ينتهي البحث عن الأصل العملي.

٢٨٠