بحوث في علم الأصول - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٢

الواجب النفسيّ والواجب الغيري

ومنها ـ تقسيمه إلى الواجب النفسيّ والغيري. والبحث عنه يقع في جهات.

الجهة الأولى ـ في تعريف الواجب النفسيّ والغيري. وقد عرف النفسيّ بأنه ما وجب لنفسه لا لواجب آخر والغيري ما وجب لأجل واجب آخر. وأورد عليه : بان أكثر الواجبات انما وجبت لأجل مصالح وملاكات لزومية أخرى تترتب عليها فتكون بمقتضى هذا التعريف واجبات غيرية.

والجواب : ليست النفسيّة والغيرية في التعريف بلحاظ عالم الملاك والمبادئ بل بلحاظ عالم الإلزام وتحميل المسئولية من قبل المولى على العبد. وان شئت قلت : ان الواجب النفسيّ ما يعاقب على تركه بما هو هو والواجب الغيري ما لا يعاقب على تركه بما هو هو بل بما هو يؤدي إلى ترك شيء آخر ، وعلى هذا الأساس فإذا جعلت المصلحة بنفسها في عهدة المكلف ابتداء فاشتغلت الذّمّة بها كانت هي الواجب النفسيّ والفعل المحصل لها واجبا غيريا ، لأن اشتغال الذّمّة واستحقاق العقوبة يكونان بلحاظها ، اما إذا جعل نفس العمل كالصلاة والصوم في العهدة واشتغلت الذّمّة به كان الفعل واجبا نفسيا ، لأن استحقاق العقوبة يكون بلحاظه لا بلحاظ المصالح التي قد تترتب عليه. اما لما ذا يعدل المولى في تسجيل مطلبه على عهدة المكلف عن إدخال

٢٢١

نفس تلك المصالح إلى إدخال أسبابها أو مقدماتها كالصلاة والصوم في العهدة مع ان مقتضى القاعدة لزوم التطابق بين ما يسجله المولى في العهدة وبين غرضه؟ فالجواب عليه يمكن ان يكون بأحد وجوه :

الأول : ـ ما يستفاد من بعض كلمات المحقق النائيني ( قده ) من أن تلك المصالح ربما تتوقف على مقدمات وأمور أخرى خارجة عن قدرة المكلفين واختيارهم وما هو داخل تحت اختيارهم هو الفعل فيأمر به فحسب ، (١) ولا يرد عليه : ما أورده السيد الأستاذ من ان الغرض الأقصى وان كان خارجا عن القدرة الا ان الغرض الأدنى وهو الاعداد والتهيؤ يكون تحت قدرة المكلف فلا بد وان يدخله في العهدة (٢). فان التهيؤ والاعداد الموصل إلى الغرض الأقصى أيضا ليس تحت القدرة ، والاعداد والتهيؤ الأعم حاله حال الفعل من حيث انه ليس المطلوب الحقيقي لا النفسيّ ولا الغيري ، بناء على ما هو الصحيح من اختصاص الوجوب والشوق الغيريين بالمقدمة الموصلة ، وانما هو المطلوب بالمسامحة فأي فرق في إعمال المسامحة بين ان يطلب الاعداد أو ذات الفعل؟ (٣) الثاني ـ غموض المصلحة المطلوبة للمولى لدى المكلف وعدم إمكان تشخيصها الا من قبل المولى نفسه من خلال ما يأمر به من الأفعال والعناوين التي قد تكون مشيرة إليها فلا محيص عن الأمر بها.

الثالث ـ التباس الطرق الموصلة إلى تلك المصلحة المطلوبة بحيث لا يثق المولى بأنه لو امر بالمصلحة ابتداء لسلك المكلف طريقا صحيحا موصلا إليها ، كما إذا كان الغرض مثلا حفظ النظام الاجتماعي الّذي تختلف فيه الأذواق والأنظار لو ترك ذلك إلى المكلفين أنفسهم ، فالمولى يشخص الطريق الّذي يراه موصلا إليه ـ ولو نوعا وغالبا ـ فيأمر به تعيينا حفاظا على غرضه في دائرة أوسع وتجنبا عن وقوع المكلفين في الخطأ إذا ترك الأمر إليهم.

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٦٧.

(٢) هامش المصدر السابق ، ج ١ ، ٢ ١٦٧.

(٣) إذا كان غرض المولى وما يهتم به حصول الغرض الأقصى فإذا كان بعض مقدماته غير اختيارية لزم تقييد الأمر بالفعل ـ وهو مقدمة الاختيارية ـ بفرض تحقق تلك المقدمات الخارجة عن قدرة المكلف ، وان كان المولى يكتفي بمجرد حصول التهيؤ والاستعداد لبلوغ الهدف الأقصى لكونه بنفسه درجة من الكمال فيكون هو المطلوب النفسيّ فلا بد من الأمر به ولعل هذا هو مقصود المستشكل.

٢٢٢

الرابع ـ ربما يكون إدخال الفعل في العهدة بنفسه مما يتوقف عليه حصول المصلحة النهائيّة ، وهذا انما يكون في الأغراض المتعلقة بنفس عنوان الإطاعة والامتثال والتقرب إلى المولى فلا بد من الأمر بالفعل ليتمكن المكلف من تحصيل الغرض.

الخامس ـ قد لا يهتم المولى الا بسد باب عدم غرضه النهائيّ من سائر الجهات وانما يهتم بسده من ناحية الفعل فيأمر به فقط جاعلا حصول سائر المقدمات على عهدة الصدفة والاتفاق ، وانما لم يقيد الأمر بفرض تحقق تلك المقدمات لإحراز حصولها دائما أو غالبا.

ثم ان المراد من تسجيل الفعل في العهدة ليس هو الجعل والاعتبار الّذي قلنا مرارا أنه مجرد صياغة وأسلوب وليس له دخل في حقيقة الحكم ثبوتا ، بل المراد به تعيين المولى نفسه لمصب ما يريده من العبد ويلزمه به ، فان حكم العقل بوجوب الامتثال موضوعه ما عينه المولى وألزم به وأبرزه ، سواء كان مصب غرضه أيضا أو كان مقدمة له ، والجعل والاعتبار ليس الا صياغة عرفية تكشف عن ذلك.

٢٢٣
٢٢٤

( دوران الوجوب بين النفسيّ والغيري )

الجهة الثانية ـ إذا شك في واجب انه نفسي أو غيري. والبحث على مستوى الأصل اللفظي تارة ، والعملي أخرى.

اما الأصل اللفظي فيقتضي ان يكون الواجب نفسيا ، وذلك تمسكا بالإطلاق في مدلول الهيئة أو المادة ، أو بأصالة التطابق بين عالمي الإثبات والثبوت على تفصيل تقدم مبسوطا في بحث دلالة الأمر على النفسيّة.

واما الأصل العملي فيختلف حاله باختلاف الصور التالية :

الأولى ـ ان يعلم بكون الوضوء مثلا اما واجبا نفسيا أو غيريا لواجب آخر غير فعلي في حق المكلف ، كالصلاة على الحائض والحج على غير المستطيع ، وهنا تجري البراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء.

الثانية ـ ان يعلم بوجوبه نفسيا أو وجوب الزيارة المقيدة به بحيث إذا كان واجبا نفسيا فلا وجوب للزيارة ، فيتشكل علم إجمالي بوجود الوضوء أو الزيارة المقيدة به ، وهو وان كان غير منحل حقيقة لأن وجوب الوضوء المعلوم على كل حال انما هو الجامع بين الوجوب الغيري والنفسيّ فلا يتطابق معلومه ومتعلقه مع المعلوم بالإجمال في أحد الطرفين ولكنه منحل حكما ، لأن أصالة البراءة عن وجوب الزيارة لا تعارضه أصالة البراءة

٢٢٥

عن وجوب الوضوء ، إذ يعلم على كل حال بترتب العقوبة على مخالفته اما بنفسه أو باعتباره يؤدي إلى ترك الواجب النفسيّ فلا تجري البراءة عنه. وان شئت قلت : بلحاظ عالم الأمر وان لم يكن انحلال الا انه بلحاظ عالم العهدة والتحميل يتم الانحلال. إذ يعلم باشتغال الذّمّة بالوضوء على كل حال فيكون حاله حال الانحلال في سائر موارد الدوران بين التعيين والتخيير ، والنتيجة جواز ترك الزيارة دون الوضوء.

الثالثة ـ نفس الصورة مع فرض انه على تقدير الغيرية يكون مقدمة لواجب نفسي مردد بين أمور غير محصورة ، فيتشكل علم إجمالي بوجوب نفسي مردد بين أمور غير محصورة. وقد حققنا في محله جريان البراءة في تمام أطرافها وان العلم الإجمالي فيها لا ينجز حتى حرمة المخالفة القطعية ، فتجري البراءة عن وجوب الوضوء النفسيّ ويجوز تركه.

الرابعة ـ نفس الصورة الثانية مع اختلاف من حيث ان الواجب الاخر ثابت على كل حال ، أي سواء كان الواجب الأول نفسيا أو غيريا وقيدا للواجب الاخر ، كالصلاة لغير الحائض أو الحج للمستطيع.

وقد ذكر المحقق النائيني ( قده ) هنا ان أصل وجوب كل من الواجبين ثابت معلوم هنا وانما الشك في تقيد أحدهما بالاخر فتجري البراءة عنه ، ونتيجة ذلك نفسيتهما معا فبإمكان المكلف إيقاع أي منهما قبل الاخر (١).

وناقش في ذلك السيد الأستاذ : بأنا نعلم علما إجماليا بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب تقيد الصلاة بالوضوء نفسيا وهذا علم إجمالي منجز غير منحل لا حقيقة كما هو واضح ولا حكما ، لأن الأصل المؤمن عن وجوب التقيد يعارض الأصل المؤمن عن الوجوب النفسيّ للوضوء الّذي يجري بلحاظ العقوبة الزائدة في تركه ، إذ الوضوء لو كان واجبا في المقام بوجوب نفسي كان في تركه عقوبة زائدة على عقوبة ترك الواجب الاخر على تقدير تقيده به (٢).

والصحيح ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) فيما إذا فرض وحدة الواقعة وعدم تكررها. توضيح ذلك : ان أصالة البراءة عن التقيد مع أصالة البراءة عن وجوب الوضوء

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٧٠.

(٢) هامش المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٧٠. محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٣٩٢.

٢٢٦

النفسيّ لا يمكن للمكلف الاستناد إليهما معا ، لأن البراءة عن التقيد تجري للتأمين عن العقوبة في فرض فعل ذات الصلاة لا في فرض تركها ، والا كانت هذه العقوبة معلومة على كل حال ، وفي فرض فعل الصلاة لا تكون البراءة عن وجوب الوضوء جارية ، لأنه في هذا الحال يعلم بأن في ترك الوضوء عقوبة واحدة على كل حال ، اما من جهة وجوبه نفسيا أو من جهة وجوب التقيد به ، كما يعلم بأنه ليس في تركه عقوبة أخرى زائدة ، إذ لا يحتمل بحسب الفرض ان الوضوء واجب نفسي وغيري في آن واحد. وهذا هو ملاك للانحلال الحكمي في أطراف الشبهة المحصورة التي لا يمكن فيها للمكلف الاستناد إلى الأصول المؤمنة جميعا في عرض واحد ، وعليه فتجري البراءة عن وجوب التقيد بلا معارض ، هذا إذا كانت الواقعة مرة واحدة واما إذا كانت متكررة فسوف يتشكل علم إجمالي تدريجي منجز كما هو واضح.

وقد تلخص من استعراض الصور الأربع المتقدمة ان ملاك الانحلال الحكمي ثابت في الصور الثلاث ونكتة الانحلال وضابطه الكلي : انه كلما تشكل علم إجمالي بأحد تكليفين كانت مخالفة أحدهما مستلزمة لمخالفة الاخر دون العكس لم تجر البراءة عن ذلك التكليف ، لأن مخالفته تساوق المخالفة القطعية على كل حال فتجري البراءة عن التكليف الاخر بلا معارض ، وهذا له تطبيقات عديدة.

منها ـ ما نحن فيه أي لو علم إجمالا بوجوب شيء أو تقيد واجب آخر محتمل الوجوب أو مقطوع الوجوب به فانه تجري البراءة عن التقيد بلا معارض.

ومنها ـ إذا علم إجمالا بوجوب أحد ضدين لهما ثالث أو حرمة الاخر ، كما إذا علم بوجوب استقبال القبلة أو حرمة استدبارها في الصلاة ، فتجري البراءة عن وجوب الاستقبال بلا معارض لأن الاستدبار يستلزم عدم الاستقبال فهو مخالفة قطعية.

ومنها ـ العلم بوجوب أحد امرين وجوديين متغايرين أحدهما أخص موردا من الاخر ، فان ترك الأعم يكون تركا للأخص دون العكس فتجري البراءة عن ترك الأخص ، كما إذا علمنا بوجوب استقبال الكعبة داخل الحجر أو وجوب استدبار حائط الحجر ، فترك استدبار الحائط مخالفة قطعية على كل حال وتجري البراءة عن الاستقبال.

٢٢٧

ومنها ـ موارد الدوران بين الأقل والأكثر بالمعنى الأعم الشامل للدوران بين التعيين والتخيير ، فان ترك الجامع مخالفة قطعية البراءة عن التعيين ، نعم في خصوص الأقل والأكثر الارتباطيين يوجد بيان آخر للانحلال هو ان وجوب ذات الأقل ـ المطلق ـ معلوم وان كان إطلاقه غير معلوم الا ان إطلاقه ليس ثقيلا ومئونة كي تجري عنه البراءة.

وهذا الضابط الكلي للانحلال يختل في إحدى حالتين :

الأولى ـ ان يفرض تباين زمان الوضوء الواجب فيما إذا كان نفسيا عن زمانه فيما إذا كان غيريا كما إذا كان الوضوء على تقدير كونه واجبا نفسيا قبل الظهر وعلى تقدير كونه واجبا غيريا للصلاة بعد الظهر ، فانه في هذه الحالة يمكن المخالفة القطعية لكل منهما في زمانه مستقلا عن الآخر.

الثانية ـ أن تكون دائرة الشرطية وزمان الوجوب الغيري أوسع من زمان الوجوب النفسيّ بأن كان زمان الأول أعم وزمان الثاني قبل الظهر في المثال ، فانه حينئذ لا يجري الانحلال في الصورة الثانية أي ما إذا كان أصل وجوب الصلاة مشكوكا ، إذ يمكن حينئذ المخالفة القطعية للتكليف النفسيّ المعلوم بالإجمال على كل تقدير مستقلا عن الآخر ، بأن يترك الوضوء النفسيّ قبل الظهر ويترك الصلاة بعد الظهر. ويجري الانحلال عكسيا في الصورة الرابعة لأن مخالفة الوجوب النفسيّ للوضوء لا تستلزم مخالفة الوجوب النفسيّ للتقيد ، إذ يمكنه الإتيان بالوضوء بعد الظهر بخلاف العكس ، فان مخالفة وجوب التقيد بفرض الإتيان بأصل الصلاة دون وضوء مخالفة قطعية للتكليف فتجري البراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء قبل الظهر.

٢٢٨

« الثواب والعقاب على الواجب الغيري »

الجهة الثالثة ـ في استحقاق العقاب والثواب على الأوامر الغيرية والبحث تارة : في ترتب الثواب على الواجب الغيري والعقاب على تركه. وأخرى : في إمكان التقرب بقصد الأمر الغيري فالحديث في مقامين.

المقام الأول : ـ في العقاب والثواب على الواجب الغيري ، ذهب المشهور إلى عدم ترتب ثواب ولا عقاب مستقل بلحاظ المقدمة والأمر الغيري ، وخالف في ذلك السيد الأستاذ حيث فصل بين العقاب فلا يترتب إلا على ترك ذي المقدمة والثواب فيترتب على فعل المقدمة أيضا مع قصد الامتثال بحيث يستحق فاعلها لثواب آخر زائدا على ثواب ذي المقدمة (١).

وينبغي ان نشير منذ البداية ان هناك نوعين من الثواب والعقاب أو قل ملاكين للثواب والعقاب.

أحدهما ـ العقاب والثواب الانفعاليان ويكونان بملاك حصول المطلوب النفسيّ للمولى وتحقق حافز انفعالي في نفسه ملائم أو معاكس فيثيب أو يعاقب.

والاخر ـ العقاب والثواب المولويان الناشئان من حكم العقل بالاستحقاق ولا بد

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٣٩٥ ـ ٣٩٧.

٢٢٩

من تشخيص موضوع حكم العقل الحاكم في هذا الباب ، ولا شك عندنا في ان موضوع حكمه هو إتيان ما هو موضوع للثواب أو العقاب الانفعاليين بحسب اعتقاده ، أي امتثال ذلك أو تركه بحسب اعتقاده.

إذا عرفت ذلك قلنا : ان القائل بترتب الثواب على فعل المقدمة بقصد الامتثال كسبب مستقل للثواب يمكن ان يستند إلى أحد وجوه ثلاثة كلها غير تامة.

الوجه الأول ـ دعوى وجدانية الفرق بين من يأتي بالواجب مع مقدمات طويلة تجب عليه وبين من يأتي به بلا مقدمة بينه وبين الواجب ولا مشقة ، فان العقل يحكم بأن الأول يستحق ثوابا زائدا.

وفيه : انه أعم من المدعى ، إذ القائل بوحدة السبب يعترف بزيادة الثواب في هذه الحالة بقاعدة أفضل الأعمال أحمزها ، ولكنه ثواب على الواجب النفسيّ الّذي أصبح شاقا ، فالسبب للثواب الزائد واحد كمن يأتي بواجب أصعب فليس حال هذين كحال من يأتي بواجب نفسي واحد ومن يأتي بواجبين ، ولعل الوجدان يقضي بهذا الفرق أيضا.

الوجه الثاني ـ ان موضوع الثواب المولوي هو التعظيم واحترام المولى لا الإحسان إليه ، ولا إشكال في ان فعل المقدمة بقصد الامتثال والتوصل إلى ذي المقدمة انقياد وتعظيم للمولى سواء جاء بذي المقدمة بعد ذلك أم لا ، فالتعظيم متعدد فلا بد وان يكون الثواب متعددا أيضا.

وفيه : ان التعظيم والانقياد وان كان هو موضوع الثواب المولوي الا ان الكلام في ان العقل الحاكم في هذا المجال يرى الانقياد والتعظيم في أي شيء؟ في إتيان الواجب الغيري للمولى أو إتيان الواجب النفسيّ أي امتثال ما هو موضوع الثواب الانفعالي لو كان المولى ممن ينفعل ، ولا شك ان العقل انما يحكم بالثاني وان التعظيم انما يتحقق بمقدار ما يسير المكلف ويتحرك نحو تحقيق المطلوب النفسيّ للمولى في ضوء ما وصل إلى المكلف وانكشف لديه ـ بحسب اعتقاده ـ وعليه فلا يتكثر الثواب موضوعا بل يكون كل حركة العبد من المقدمات وإلى النتيجة تعظيما وانقيادا واحدا طويلا ولعله شاقا ، نظير الواجب النفسيّ الطويل ونظير الواجب الارتباطي ذي الاجزاء الكثيرة

٢٣٠

التدريجية ، مع انه لا إشكال عند أحد في وحدة سبب الثواب هناك رغم تعدد ما به التعظيم وتكثره خارجا ، بل اجزاء الواجب الارتباطي أولى بان يكون التعظيم الحاصل بكل منها سببا مستقلا للثواب. وهل يمكن ان يقال بان المقدمة لو صارت جزءا خرجت عن كونها سببا مستقلا للثواب؟

الوجه الثالث ـ لو لم يكن يترتب ثواب مستقل على فعل الواجب الغيري بقصد الامتثال فكيف يمكننا ان نفسر ترتب الثواب على الإتيان بالمقدمة بقصد التوصل والامتثال ، حتى إذا لم يتمكن بعد ذلك من إتيان ذي المقدمة لمانع ما؟ مع انه لا إشكال في ترتب الثواب واستحقاقه هنا من دون ان يكون قد تحقق المطلوب النفسيّ وموضوع الثواب الانفعالي للمولى.

وفيه : أولا ـ النقض بالاجزاء لمن شرع بها ثم لم يتمكن من إتمام الواجب الارتباطي.

وثانيا ـ ما أشرنا إليه من ان موضوع الثواب المولوي هو الانقياد والتعظيم بلحاظ المطلوب النفسيّ للمولى بحسب اعتقاد المكلف ومقدار الانكشاف لديه لا بحسب الواقع ، وهذا حاصل في المقام كما هو حاصل في سائر موارد الانقياد الا انه في موارد اصابته للواقع وحصول المطلوب النفسيّ لا يتعدد السبب بل هو سبب واحد على كل حال أصاب أو أخطأ ، وهذا التعظيم والانقياد يشرع فيه المكلف ويتحقق بمجرد شروعه بالمقدمات أو الأجزاء بقصد الامتثال وتحصيل المطلوب النفسيّ للمولى الّذي هو ميزان الثواب وان لم يستمر حتى النهاية بقاء ، فبقدر ما كان يستحق الثواب. وان شئت قلت : ان التحرك نحو المقدمة أو الجزء بنفسه شروع في امتثال المطلوب النفسيّ الواصل للمكلف وهذا هو موضوع التعظيم والانقياد وهو امر وحداني حدوثا وبقاء لا انه يتعدد بتعدد الاجزاء أو المقدمات كما هو واضح.

نعم إذا ما ترك المكلف الاستمرار في تحصيل المطلوب النفسيّ للمولى باختياره ومن دون عجز حقيقي أو علمي لم يستحق ثوابا على ما فعل ، لا الثواب الانفعالي لوضوح انه انما يكون بملاك حصول الإحسان والانفعال في نفس المولى ، ولا المولوي لأن موضوعه وهو التعظيم والانقياد انما يتحقق من أول الأمر مشروطا بان لا يتراجع بعد ذلك

٢٣١

بنحو الشرط المتأخر عن الاستمرار في تحقيق المطلوب النفسيّ للمولى ، فان من يتراجع باختياره عن فعل المطلوب النفسيّ لم يكن قد عظم المولى من أول الأمر سواء في فعله للمقدمات أو للاجزاء. وهذا بنفسه نقض آخر على مبنى القائل بترتب الثواب مستقلا على فعل المقدمة بلحاظ امرها الغيري ، إذ لو لم يكن الميزان ملاحظة المطلوب النفسيّ وكان الأمر الغيري وحده كافيا لم يكن وجه لعدم الثواب هنا ، ولكان حال ذلك حال من يأتي بواجب نفسي ويترك واجبا آخر حتى على القول بالمقدمة الموصلة لأنه عند ما جاء بالمقدمة كان ناويا التوصل وكان يعتقد ان المقدمة التي جاء بها موصلة فالانقياد والتعظيم تام بالنسبة إليه ، فكيف يفسر وجدانية عدم استحقاقه للثواب؟

وهكذا يتلخص ان لا ثواب مستقلا على امتثال الواجب الغيري كما لا عقاب على تركه وانما يكون للمقدمة دخل في تكثير حجم الثواب على الواجب النفسيّ وبالقياس إليه بقانون أفضل الأعمال أحمزها إذا جيء بها بقصد التقرب والامتثال.

المقام الثاني ـ في إمكان التقرب بالأمر الغيري من دون قصد التوصل لامتثال الأمر النفسيّ ، والمشهور عدم إمكان ذلك وقد قرب ذلك بوجوه.

الوجه الأول ـ مبني على القول باختصاص الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة حيث يقال : بأن متعلق الوجوب الغيري انما هو الحصة الموصلة فلا يمكن قصد امتثال هذا الوجوب الا بإرادة التوصل لأنه قيد أو جزء في متعلق الأمر الغيري.

وفيه : ان هذا خلط بين قصد التوصل بمعنى محركية الأمر النفسيّ بذي المقدمة نحو فعل المقدمة من أجل التوصل إلى امتثاله وبين قصد التوصل بمعنى الإقدام على فعل المقدمة الموصلة بمحركية الأمر الغيري بها ، فان المدعى لزوم قصد التوصل بالمعنى الأول بينما هذا الوجه لا يثبت الا لزوم قصد التوصل بالمعنى الثاني الّذي لا ينفي إمكان الانبعاث والتحرك عن الأمر الغيري بل يثبته.

الوجه الثاني ـ مبني على القول بالمقدمة الموصلة أيضا وحاصله : انه لا يوجد بناء على تعلق الأمر الغيري بالحصة الموصلة اية مزية في الآثار والمئونة بين الأمر الغيري والنفسيّ ليعدل عن التحرك من الأخير إليه فان كلاهما يحرك نحو الوضوء الموصل إلى الصلاة ، اما الغيري فواضح ، واما النفسيّ فلأنه يقتضي سد أبواب عدم تحقق ذي

٢٣٢

المقدمة من ناحية مقدماته أيضا فلا يعقل اختصاص التحريك والانبعاث نحو فعل المقدمة بالأمر الغيري بناء على القول بالمقدمة الموصلة (١).

الوجه الثالث ـ ان محركية الأمر انما يكون بلحاظ ما يترتب عليه من أثر الثواب والتجنب عن العقاب ، ومن الواضح ان الثواب والعقاب انما يكونان بلحاظ المطلوب النفسيّ للمولى لما عرفت من ان موضوع الثواب ذاتا وحجما في الثواب الانفعالي والمولوي معا انما هو بلحاظ المطلوب النفسيّ للمولى لا الغيري وكذلك العقاب فلا محالة لا تكون المحركية الا بقصد الأمر النفسيّ.

وان شئت قلت : العقل يحكم بان العبد لا بد وان يجعل نفسه امتدادا للمولى ، وهذا يستدعى التطابق بين إرادة العبد وإرادة المولى لو كان هو المباشر ، ولا إشكال ان المولى لو باشر تحقيق مطلوبه كانت إرادته للمقدمة غيرية ، أي كان تحركه بداعي المطلوب النفسيّ ، فالعبد أيضا انما يستحق الجزاء بحكم العقل إذا تعلقت إرادته بذلك ، أي كان مراده النفسيّ الصلاة لا الوضوء.

وهذا وجه صحيح أيضا ولا يعترض عليه : بما ذكره العراقي ( قده ) من ان إرادة المولى للصلاة غيرية أيضا لأنه انما يريدها باعتبار المصالح فيها فلا بد للمكلف من إرادة تلك المصالح (٢) فان جواب هذا الاعتراض يتضح مما تقدم من ان مولوية المولى تبدأ من حيث يسجل فعلا في عهدة المكلف ، وهو فعل الصلاة لا ملاكاتها ، واللازم هو التطابق بين إرادة المكلف والمولى بما هو مولى لا بما هو كائن ، وإرادة المولى بما هو مولى للصلاة نفسية وليست غيرية.

الوجه الرابع ـ ما عن المحقق الأصفهاني ( قده ) من ان الأمر الغيري لكونه تابعا في الوجود للأمر النفسيّ فتكون محركيته أيضا تبعية ولا يمكن ان تكون مستقلة (٣).

وكأن هذا البيان انسياق مع كلمات الحكماء من ان الممكن كما هو غير مستقل

__________________

(١) هذا الوجه لا يثبت عدم إمكان الانبعاث من الأمر الغيري وانما يثبت عدم اختصاص الانبعاث بذلك في مورد الانبعاث.

(٢) مقالات الأصول ، ج ١ ص ١١٤.

(٣) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ١٩٧ ـ ١٩٨.

٢٣٣

في الوجود بل تابع لواجب الوجود لا يكون مستقلا في الإيجاد والفاعلية أيضا وانما الفاعل الحقيقي هو الله الواجب الوجود ، فلا فاعل بالحقيقة غيره.

الا ان هذا التطبيق في المقام غير صحيح ، لأن فاعلية الأمر الغيري التابع في وجوده وفعليته للأمر النفسيّ لا يراد بها الفاعلية الحقيقية ، إذ فاعل المقدمة انما هو المكلف نفسه ، وانما المراد أن الأمر بالوضوء تترتب عليه فوائد من استحقاق الثواب والتجنب عن العقاب وتكون تلك الفوائد علة غائية في نفس المكلف للإقدام على الفعل ، فلا بد من النّظر في ان تلك الآثار هل تترتب على الأمر الغيري أيضا ليكون محركا أم لا؟

٢٣٤

« وجه القربية في الطهارات »

الجهة الرابعة ـ في معالجة إشكال يرد على ضوء ما تقدم من عدم قربية الأمر الغيري في بعض المصاديق الفقهية ، كالطهارات الثلاث التي لا إشكال في مقدميتها مع انها لا تكون بصفات الواجبات الغيرية من هذه الناحية.

والإشكال حول الطهارات الثلاث تارة : في كيفية قربيتها ، وأخرى : في كيفية ترتب الثواب عليها.

اما الإشكال في القربية فيمكن ان يقرب بوجوه الأول ـ ان قربية واجب تتوقف على تعلق امر قربي به ، والأمر الغيري لا يمكن ان يكون قربيا كما تقدم فكيف تكون الطهارات قربية؟

والجواب : ان قربية واجب تتوقف على ان يكون قد أخذ فيه قيد قصد القربة ويمكن ان يؤتى به كذلك ، سوء من ناحية قصد نفس الأمر المتعلق به أو امر آخر كقصد التوصل في المقام.

الثاني ـ ان الأمر الغيري لا يمكن ان يكون سقوطه متوقفا على قصد القربة ، لأنه أمر توصلي الغرض منه يحصل بمجرد تحقيق متعلقه وهو التمكن أو الوصول إلى ذي المقدمة.

٢٣٥

وفيه : ان التوصل أو المقدمية إذا كانت متوقفة على العبادية كان لا بد من قصد التقريب بالمقدمة ليتحقق الغرض الغيري المقدمي ، وكأنه وقع خلط بين توصلية الواجب الغيري بمعنى ان الغرض هو التوصل به إلى ذي المقدمة وليس الغرض نفسه وبين التوصلية بمعنى ما يقابل التعبدية وقصد التقرب.

وقد حاول في الكفاية نقلا عن تقريرات الشيخ الأعظم ( قده ) ان يجيب على هذا الإشكال بافتراض ان للطهارات الثلاث حقيقة لاهوتية لا نعرفها نحن يعرفها الشارع ، وهو امر قصدي كالتعظيم فلا بد من قصده ولو إجمالا من خلال قصد الأمر الغيري استطراقا إلى قصد ذلك العنوان اللاهوتي.

وهذا البيان رغم انه تبعيد للمسافة يرد عليه : ما أورده في الكفاية من لزوم كفاية قصد ذلك العنوان وصفا لا غاية (١) ـ بل لزم كفاية قصد عنوان المأمور به ولو فرض خطأه في التطبيق وتخيل ان ذلك العنوان هو الوضوء إذا لم يكن على وجه التقييد ـ فلا يثبت لزوم التحرك عن الأمر الغيري.

الثالث ـ ان قربية المقدمة ان كانت من ناحية أخذ قصد امتثال نفس الأمر الغيري المتعلق به فهذا دور بل غير معقول ، لما تقدم من عدم قربية الأمر الغيري ، وان كانت من ناحية الأمر النفسيّ بذي المقدمة أي قصد التوصل فهو دور أيضا لأن قصد التوصل فرع المقدمية والمقدمية لكونها قربية فرع قصد التوصل.

وفيه : ان قصد التوصل فرع أصل المقدمية لا تماميتها ، وذات الفعل أيضا مقدمة إذ به يتحقق جزء من المقدمة وجزؤها الاخر نفس القصد ، فبقصد التوصل بالجزء الأول يحصل الجزء الثاني أيضا فلا يتوقف قصد التوصل على قصد التوصل.

ثم ان صاحب الكفاية حاول دفع إشكال القربية على أساس الاستحباب النفسيّ للطهارات فيؤتى بها بقصد امتثال هذا الأمر النفسيّ من دون محذور (٢).

ويرد على هذا العلاج اعتراضات عديدة بعضها متجه وبعضها قابل للدفع.

اما المتجه منها فاثنان :

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٢) نفس المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٧٧.

٢٣٦

أحدهما ـ ما ذكره بنفسه من ان لازمه عدم إمكان التقرب لمن لا يعتقد باستحباب الطهارات أو غافل عنه ولا يأتي بها الا من جهة المقدمية مع ان الضرورة الفقهية قاضية بصحة الطهارة في حقه أيضا ، أي عدم اختصاص الصحة بما إذا جيء بها بقصد الاستحباب النفسيّ بل تثبت في موارد الإتيان بها بقصد التوصل أيضا.

وحاول ان يجيب عليه : بتصوير الداعي على الداعي وان من يأتي بالوضوء بداعي التوصل قاصد للإتيان بمتعلق الأمر الغيري الّذي هو الفعل العبادي من ناحية الاستحباب النفسيّ ، فداعوية التوصل تبعث نحو داعوية الاستحباب النفسيّ.

وفيه : ان تعدد الداعي أو الداعي على الداعي انما يعقل مع الالتفات إلى الداعي الطولي والانتهاء إليه لا ما إذا لم يكن المكلف عالما به ولا ملتفتا إليه.

ثانيهما ـ انه قد يرتفع الاستحباب النفسيّ في بعض الموارد ، كمورد مزاحمته مع استحباب آخر أهم منه ، كما إذا لزم من استعمال الماء للوضوء تأثر المؤمن ، بل قد يفرض وجوب الترك لو لا المقدمية ، كما لو امر الوالد بترك استعمال ذلك الماء الرافع للاستحباب النفسيّ دون الوجوب الغيري ، وفي مثل ذلك كيف تفسر القربية ولا امر نفسي؟

لا يقال ـ بعد ثبوت الوجوب الغيري يرتفع الاستحباب الأهم أو الوجوب خطابا ، ومع سقوطهما لا يمكن إثبات ملاكهما فيرجع الاستحباب النفسيّ لا محالة.

فانه يقال ـ أولا : يمكن افتراض إمكان إحراز ثبوت الملاك في بعض الموارد إذا كان ملاكا عرفيا بالملازمة.

وثانيا ـ يمكن افتراض عدم انحصار الماء فيه بل يوجد فرد آخر منه يمكن التوضؤ به ، فانه في مثل ذلك لا يرتفع الاستحباب الأهم في ترك التوضؤ بذلك الماء فكيف يصحح الوضوء به؟

ـ واما الاعتراضات التي يمكن دفعها فمن قبيل دعوى لزوم اندكاك الاستحباب في الوجوب الغيري.

والجواب : انه يكفي للقربية بقاء الاستحباب النفسيّ ذاتا وان ارتفع مرتبة وحدا ، بل لا اندكاك أيضا بناء على القول بالمقدمة الموصلة لتعدد الموضوع.

٢٣٧

ـ ومن قبيل ان ذات الوضوء أيضا تصبح مقدمة للطهور الّذي هو المستحب النفسيّ فكيف يؤتي به بقصد القربة؟

والجواب : أولا ـ بطلان المبنى فقهيا فان الطهور منطبق على نفس الوضوء.

وثانيا ـ لو فرض ان الطهور عنوان آخر يتولد من الوضوء فلا دليل على عبادية ذات الوضوء زائدا على الطهور لو فرض التغاير بينهما. ومن قبيل ان التيمم ليس مستحبا نفسيا.

والجواب : بالإمكان استفادة استحبابه مما دل على أن التراب أحد الطهورين بضمه إلى مثل ( ان الله يحب المتطهرين ). وهكذا اتضح عدم وجود مشكلة في قربية الطهارات الثلاث ، واما الإشكال في الثواب على الطهارات فقد أجاب عليه السيد الأستاذ على مبناه المتقدم في الجهة السابقة وصاحب الكفاية على أساس ثبوت الاستحباب النفسيّ.

والتحقيق ان يقال : ان تم دليل على الاستحباب النفسيّ فهذا بنفسه دليل على ترتب الثواب عليها كلما جيء بها بقصد قربي ، سواء قصد الأمر النفسيّ الاستحبابي أو قصد التوصل ، لأن دليل الاستحباب لا يدل على اشتراط قصد الأمر النفسيّ بالخصوص في ترتب الثواب. وبهذا يظهر ان ثبوت الاستحباب النفسيّ يكفي في دفع إشكال ترتب الثواب في تمام الحالات.

وان لم يتم دليل على الاستحباب النفسيّ فلا محالة يكون المدرك على الثواب في الطهارات الإجماع ونحوه من الأدلة اللبية ، ولا إطلاق فيها لأكثر من موارد الإتيان بها بقصد التوصل إلى غاية من الغايات الشرعية القربية ، ولا إشكال في ترتب الثواب فيها ولو من جهة كثرة الثواب على الغاية بسببها. ولو فرض انعقاد إطلاق في معقد الإجماع على ترتب الثواب على الطهارات بعنوانها ومستقلا عن غاية من غاياتها كان هذا بنفسه دليلا بالملازمة على استحبابها ومطلوبيتها نفسيا.

٢٣٨

« صياغة الوجوب الغيري »

الجهة الخامسة : اختلف في صياغة الوجوب الغيري إطلاقا وتقييدا من حيث الوجوب أو الواجب على أقوال :

القول الأول : ما عن المشهور من القول بالإطلاق في الوجوب والواجب وعدم تقيدهما بقيد زائد على شرائط الوجوب النفسيّ السارية إلى الوجوب الغيري أيضا.

القول الثاني : ما عن صاحب المعالم ( قده ) ، من اشتراط وجوب المقدمة بالعزم والإرادة على إتيان ذي المقدمة.

وقد اعترض عليه من قبل المحققين باستحالة مثل هذا التقييد ، وقد قرر ذلك في كلماتهم بأحد نحوين.

النحو الأول : ما ذكره المحقق العراقي في وجه الاستحالة بان هذا يشبه طلب الحاصل وهو محال ، لأن إرادة ذي المقدمة مستلزمة لإرادة المقدمة لا محالة ، فتقيد وجوبها بها شبيه بطلب الحاصل.

وفيه : ان اشتراط وجوب المقدمة بإرادة ذيها يتصور بأحد أنحاء.

الأول : ان يكون الشرط إرادة ذي المقدمة من غير ناحية هذه المقدمة ، أي سد باب عدمه من ناحية غيرها ، وهذا من الواضح انه ليس من طلب الحاصل.

٢٣٩

الثاني : ان يكون الشرط صدق قضية شرطية هي انه لو أتى بالمقدمة لأتى بذي المقدمة ، وصدق الشرطية لا يستلزم صدق طرفيها ، وهذه صياغة ثانية لشرطية إرادة ذي المقدمة في الوجوب الغيري ، ولا محذور فيه أيضا.

الثالث : ان يكون الشرط إرادة ذي المقدمة بالفعل ومن جميع الجهات ، وهذه الصيغة للشرط هي التي لاحظ عليها المحقق العراقي الاستحالة غير ان الصحيح عدم المحذور في هذه الصيغة أيضا ، لأن محذور تحصيل الحاصل اما ان تكون من جهة لزوم التهافت في عالم الجعل ، لأن طلب شيء يستلزم لحاظ المطلوب مفقودا في الخارج حين الطلب ، فيكون فرض حصوله مستلزما للتهافت ، أو من جهة لزوم اللغوية لأن الأمر من أجل قدح الداعي نحو المطلوب لتحصيله ، فلو أخذ فيه حصوله كان طلبه حينئذ لغوا.

وكلتا النكتتين لا تتمان في المقام.

اما الأولى فلان الشرط هنا ليس هو حصول المقدمة بل إرادة ذيها ، وهي ولو فرض بشكل بحيث كان ملازما تصديقا مع حصول المقدمة أو إرادتها لكنه ليس مساوقا مع حصولها تصورا ليلزم التهافت.

واما الثانية ، فلان وجوب المقدمة وجوب غيري تبعي ليس له جعل مستقل ولا داعوية مستقلة ليعترض عليه بلزوم محذور اللغوية كما هو واضح.

النحو الثاني : ما ذكرته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) ، من ان الوجوب الغيري لو كان مشروطا بإرادة الواجب النفسيّ والعزم عليه فمع عدم ذلك لا يكون الوجوب ثابتا ، وحينئذ لو فرض ان الوجوب النفسيّ باق ، لزم التفكيك بين الوجوب النفسيّ والغيري ، وهو خلف الملازمة والتبعية بينهما والتي لا تختلف من حال إلى حال. وان فرض ارتفاع الوجوب النفسيّ أيضا. كان معنى ذلك اشتراطه بإرادته والعزم عليه ، وهذا ان كان بالصيغة الثالثة للاشتراط لزم محذور طلب الحاصل المستحيل في الواجبات النفسيّة ، وان كان بالصيغة الثانية أو الأولى. فهو وان لم يكن فيه محذور ثبوتي ، لكنه خلاف الواقع إثباتا ، إذ ليست الواجبات النفسيّة مشروطة بسد باب

٢٤٠