بحوث في علم الأصول - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٢

هذا المقدار كاف لحكم العقل على العبد بلزوم الانبعاث في وقت الواجب. والا فما ذا يقال بشأن الواجبات المنجزة المقيدة بقيود لا بد وان تقع قبلها زمانا ، فالصلاة مقيدة بالوضوء قبلها وهو يستلزم مرور زمان حتى ينتهي المكلف منه ويبدأ بالصلاة مع ان الواجب لم يقيد بالزمان المتأخر عن فعل الوضوء بل فعلي من أول الأمر ، فلو كان يشترط في الوجوب ، فعلية الانبعاث نحو الواجب لزم المحذور في المقام أيضا ، إذ الانبعاث فعلا نحو الصلاة المقيدة بالوضوء غير معقول وانما المعقول الانبعاث أولا نحو الوضوء ثم نحو الصلاة.

وقد تفطن صاحب الإشكال (١) إلى هذا النقض وحاول التخلص عنه تارة : بان الشرط هو إمكان الانبعاث نحو متعلق الأمر إمكانا وقوعيا ـ أي لا يلزم من وقوعه المحال ـ فقال : بان وقوع الواجب المعلق بالفعل غير ممكن وقوعا لأنه يلزم منه التهافت في الزمان ، وهذا بخلاف وقوع الصلاة في كل آن من آنات الوقت لإمكان إيقاعها فيه بوضوء قبله. وأخرى : بان الشرط هو الإمكان الاستعدادي بمعنى وجود الاستعداد في الفاعل للقيام بالفعل وتهيؤ عضلاته فعلا لذلك وان كان صدوره خارجا بحاجة إلى التدرج في عمود الزمان.

وواضح ان هذا الجواب لا يسمن ولا يغني من جوع ، فان الواجب المقيد بقيد زماني وان كان ممكنا في عمود الزمان وقوعا ولكن وقوعه الآن دفعة واحدة لكونه تدريجيا مستحيل استحالة وقوعية ، إذ يوجب الخلف أو التناقض ، إذ لا يعقل وجود التدريجي دفعة واحدة كاستحالة وقوع الفجر في الليل. واما الإمكان الاستعدادي فان أراد به اشتراط استعداد وقابلية الفاعل ـ أي كون عضلاته غير مشلولة ـ فمن الواضح ان هذا ليس شرطا في فعلية الوجوب ولهذا يصح تكليف المشلول الّذي يمكنه علاج نفسه دون ان يصبح علاج نفسه مقدمة وجوبية ، ولو فرض شرطيته فهو محفوظ في الواجب المعلق أيضا إذ ليس القصور في استعداد الفاعل ، وإن أراد به اشتراط استعداد وقابلية في القابل بمعنى إمكان وقوعه رجع إلى المعنى السابق.

__________________

(١) المحقق الأصفهاني في نهاية الدراية.

٢٠١

وهكذا يتضح إمكان الواجب المعلق وعدم لزوم محذور منه.

بقي التنبيه على أمور :

الأمر الأول ـ في المقدمات المفوتة : والتي من أجلها دخلوا في البحث عن الواجب المعلق ، وهي مقدمات الواجب قبل تحقق زمانه ، حيث قالوا كيف يترشح الوجوب إلى المقدمة قبل زمان وجوب ذي المقدمة ، فمثلا كيف يجب الغسل قبل فجر شهر رمضان مع ان الصوم يجب منذ الفجر. وقد بحثوا في المقام بحثا ثبوتيا عن كيفية تخريج هذه الموارد بعد فرض ثبوت الدليل عليها إثباتا من الناحية الفقهية.

وقد استعرض المحققون في حل هذا الإشكال الثبوتي أجوبة عديدة نوردها فيما يلي مع تمحيص كل منها.

الجواب الأول ـ الالتزام بكون الواجب معلقا على الوقت لا مشروطا به فيكون الوجوب فعليا من أول الأمر فلا محذور في ترشح الوجوب على مقدماته قبل الوقت.

وهذا الجواب يصح إذا ما توفرت ثلاثة شروط :

١ ـ ان يكون الوقت من قيود الترتب لا الاتصاف والا لم يكن مقتضى لإطلاق الوجوب لفرض عدمه بل كان الوجوب مشروطا به ولو بنحو الشرط المتأخر.

٢ ـ ان يكون القيد الاستقبالي للواجب مما يضمن حصوله كالوقت ، لما مضى من عدم إمكان الواجب المعلق في غير هذه الصورة.

٣ ـ إمكان الشرط المتأخر لما مضى من ان كل واجب معلق يكون مشروطا بنحو الشرط المتأخر بحياة وقدرة المكلف على الواجب في وقته ، لأن قيد الحياة والقدرة ليس مما يحرز حصوله دائما.

الجواب الثاني ـ الالتزام بكون الواجب مشروطا بالوقت المتأخر على نحو الشرط المتأخر ـ وهذا ما ذكره صاحب الكفاية ـ وهو لا يتوقف على الشرطين الأول والثاني مما كان يتوقف عليها الجواب السابق وانما يتوقف على الشرط الثالث فقط وهو إمكان الشرط المتأخر.

وقد علق المحقق الأصفهاني ( قده ) في المقام : أن كلا هذين الوجهين متلازمان في الصحة والبطلان ، لأننا ان قلنا باستحالة انفكاك الواجب عن الوجوب بطل الواجب

٢٠٢

المعلق وبطل الشرط المتأخر أيضا لأن المفروض تقدم الوجوب على زمن الواجب على كل حال ، وان قلنا بعدم استحالة ذلك صح الواجب المعلق أيضا.

وهذا الكلام كأنه ينظر إلى بعض براهين استحالة الواجب المعلق ، واما لو برهن على ذلك بالبرهان الأول من البرهانين المتقدمين في الواجب المعلق أي لزوم الأمر بغير المقدور وهو قيد الوقت فهذا لا يرد على الشرط المتأخر كما لا يخفى.

ثم انه قد يقال : أن الشرط المتأخر في المقام مستحيل حتى إذا قلنا بإمكانه في غير المقام فيبطل الجوابان معا. توضيح ذلك ان المقام يكون المتقدم فيه هو الوجوب فقط لا الواجب ، فان زمانه مقارن مع زمان الشرط ، بينما في الفروض المتعارفة للشرط المتأخر يفرض ان زمان الوجوب المتقدم نفس زمان الواجب ، فكان يمكن فيها حل إشكال استحالة تأثير الشرط المتأخر في إيجاد الوجوب المتقدم عليه بأن الشرط المتأخر يؤثر في توليد الاحتياج في وقته لا في وقت سابق عليه الا أن المحتاج إليه شيء لا يمكن تحصيله في وقت الحاجة فيأمر المولى بتحصيله من قبل ، أو ان المحتاج إليه يتحقق بالجامع بين الحصة التي تقع قبل الشرط أو التي تقع بعد الشرط وحين الحاجة فالمولى يقدم الوجوب لكني يكون المكلف مطلق العنان في إيجاد أي الحصتين قضاء لحق إطلاق اتصاف الفعل بالملاك من ناحية الحصص ، واما فيما نحن فيه فالمفروض ان زمان الواجب مقارن لزمان الشرط وانما المتقدم زمان الوجوب فقط فالمولى يوجب من الغروب مثلا صوم النهار مشروطا بطلوع الفجر ، فلو كان لطلوع الفجر دخل في تحقق الاحتياج إلى الصوم فباعتبار انه قيد في الواجب أيضا كان الاحتياج إلى الحصة المقارنة لطلوع الفجر من الصوم لا المتقدمة عليه ولا الجامع ، ومعه فأي مبرر لتقديم الوجوب عليه الا افتراض انه يولد ويحدث احتياجا من قبل ، وهذا هو معنى تأثير المتأخر في المتقدم.

والجواب : أولا ـ في المقام أيضا نقول بان طلوع الفجر يحدث حاجة في وقته للصوم النهاري الا ان المكلف لا يمكنه تحصيل هذه الحصة المقارنة حين الاحتياج الا بإتيان بعض المقدمات وقيود الواجب من قبل ـ كالصوم المقيد بالطهور من أول آنات الفجر ـ فيقدم المولى إيجابه على المكلف لكي يسعى في تحصيلها قبل ذلك بتحصيل مقدماتها ، فروح تقديم الإيجاب وملاكه في المقام نفس الروح والملاك في سائر موارد الشرط

٢٠٣

المتأخر دون ان يرد إشكال تأثير الأمر المتأخر في المتقدم.

وثانيا ـ كان لنا افتراض آخر في موارد الشرط المتأخر هو ان يكون الاتصاف والحاجة إلى الواجب الاستقبالي فعليا من أول الأمر ، وانما أنيط الوجوب بالشرط المتأخر من جهة ان إشباع تلك الحاجة من دون تحقق ذلك الشرط المتأخر فيه مفسدة أهم من مصلحة الإشباع ، فأنيط الوجوب به بنحو الشرط المتأخر بهذا الاعتبار.

الجواب الثالث ـ وهو يتم حتى عند من يرى استحالة الواجب المعلق والمشروط بالشرط المتأخر معا كالمحقق النائيني ( قده ) ان الواجب منذ الغروب ليس هو الصوم الاستقبالي في النهار والّذي هو امر واحد لا يتجزأ وانما هو سد باب عدم الصوم في النهار من غير ناحية طلوع الفجر ، فان هناك حصصا لعدم الصوم بعدد أسباب العدم ، فيلتزم بوجوب فعلي لسد باب عدمه من ناحية سائر القيود والمقدمات وتحقيق هذا الواجب الفعلي قبل الوقت يتوقف على فعل المقدمة كالغسل مثلا فيترشح منه وجوب مقدمي عليه ، وهذا الوجوب النفسيّ لسد أبواب العدم يكون فعليا ومطلقا لا يحتاج إلى شرط متأخر وهو طلوع الفجر ولا القدرة حين طلوع الفجر ، كما لا يتوجه عليه إشكال لزوم انفكاك الإرادة عن المراد لأن المراد نفي بعض الاعدام المعاصر زمانا مع الوجوب (٢) نعم هذا الوجه يتوقف على ان لا يكون طلوع الفجر من قيود الاتصاف.

__________________

(١) لا يقال : ان هذا الجواب يؤدي إلى ان يكون إيجاب المقدمات المفوتة نفسيا لا غيريا بحيث تجب حتى في حق من يعلم بأنه عند الفجر لا يكون قادرا على الصوم. فانه يقال : ان الثابت وجوب واحد لسد أبواب العدم من غير ناحية طلوع الفجر وهو ثابت من أول الأمر وإلى ما بعد طلوع الفجر فتكون القدرة على متعلقه بتمامه شرطا في فعليته من أول الأمر كوجوب الصوم في أول النهار المشروط بالقدرة عليه في آخر النهار أيضا ، وهذا المقدار من التعليق يقبله حتى القائل باستحالة الشرط المتأخر. نعم يرد على هذا الجواب انه سوف يكون إيجاب سد باب عدم الصوم من ناحية عدم الغسل في عرض إيجاب سد باب عدمه من ناحية ترك نفس الصوم بعد طلوع الفجر ، فسد كل أبواب العدم غير طلوع الفجر واجب بوجوب واحد فيكون فعل الغسل وفعل الصوم على نسق واحد كل منهما يسد بابا من أبواب العدم فيكون كلاهما غيريا.

٢٠٤

الجواب الرابع ـ الاستناد إلى ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) في الواجب المشروط من ان وجود الوجوب فعلي قبل الشرط الا ان الموجود بهذا الوجود تقديري ، والشرط في نظره هو الوجود اللحاظي والتقديري الثابت فعلا بنفس لحاظ المولى وتقديره ، وعليه فلا بأس بترشح الوجوب منه إلى المقدمات المفوتة.

ويرد عليه : ان الوجوب الغيري أيضا لا بد وان يكون مشروطا بطلوع الفجر ، لأن الوجوب النفسيّ الموجود ليس فعليا. وبعبارة أخرى : قبل تحقق الشرط الوجوب كوجود وان كان فعليا الا ان فاعليته وتأثيره منوطة بتحقق شرطه المقدر عليه الوجوب بمعنى الموجود ، وإيجاب المقدمة يكون من شئون فاعلية الوجوب لا فعليته بهذا المعنى. فهذا الجواب لا ينفع في المقام.

الجواب الخامس ـ لو سلم عدم إمكانية فعلية وجوب ذي المقدمة قبل تحقق الشرط المتأخر بأي شكل من الإشكال المذكورة في الوجوه السابقة. مع ذلك يقال : ان الشرط المتأخر ـ وهو طلوع الفجر ـ إذا كان من قيود الترتب لا الاتصاف فالملاك والإرادة فعليان من أول الأمر وقبل تحقق الشرط ، غاية الأمر لا يمكن للمولى الخطاب فعلا لاستحالة الواجب المعلق والمشروط بالشرط المتأخر ، الا انه يمكنه الاخبار عن فعلية الملاك والإرادة لديه ـ ولو باستفادة ذلك من الأمر بالمقدمات المفوتة ـ فيحكم العقل بوجوب المقدمات المفوتة لكفاية إبراز المولى فعلية إرادته لشيء في وجوب سد أبواب عدمه من ناحية مقدماته الاختيارية ، بل يقال بالوجوب الشرعي للمقدمات أيضا لأن الوجوب المقدمي ليس معلولا للوجوب النفسيّ بل كلاهما معلولان لفعلية الملاك والإرادة النفسيين والمفروض فعليتهما في المقام ، وانما لم يؤثر ذلك في فعلية وجوب ذي المقدمة لمحذور الشرط المتأخر أو الواجب المعلق وهو غير وارد بلحاظ وجوب المقدمة.

الجواب السادس ـ لو فرض ان الشرط كان من قيود الاتصاف فقبل الفجر لا خطاب ولا ملاك ولا إرادة الا أنه لو ترك المقدمة ـ وهي الغسل ـ قبل الفجر فسوف يفوت على المولى ملاكا وإرادة فعليين بعد الفجر حيث يكون عاجزا عن الإتيان بذي المقدمة عندئذ ، وليس من الضروري اشتراط الملاك والإرادة بالقدرة على الواجب في

٢٠٥

وقته كما في الخطاب ، وهذا التفويت غير جائز وذلك لمجموع امرين.

١ ـ انه تفويت اختياري للملاك فانه وان كان حين طلوع الفجر عاجزا الا انه عجز نشأ باختياره والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

٢ ـ ان التفويت الاختياري للملاك اللزومي الّذي تصدى المولى لإبرازه بالقدر الممكن كالتفويت الاختياري للخطاب. وهذا الجواب صحيح بعد فرض عدم تمكن المولى من حفظ ملاكه بخطاب آخر معلق أو مشروط أو غيره لكي يكون ملاكا قد أبرزه المولى بالقدر الممكن. وهذا هو الّذي ذهب إليه كل من المحقق النائيني (ره) والسيد الأستاذ وان اختلفا في انه هل يمكن ان يستكشف بذلك الوجوب الشرعي للمقدمات المفوتة أيضا أم لا يثبت به الا الوجوب العقلي. حيث ذهب الأول إلى انه يستكشف به الوجوب الشرعي الغيري للمقدمات المفوتة ، وذكر الثاني بان استكشاف ذلك انما يكون بالنظر إلى قاعدة التلازم بين ما حكم بوجوبه العقل حكم به الشرع ، وهذه القاعدة لا تنطبق على الأحكام العقلية التي تكون في طول حكم مولوي شرعي كوجوب الإطاعة وحرمة المعصية إذ يكون حكم الشرع المستكشف لغوا صرفا. وما نحن فيه من هذا الباب.

والظاهر ان مقصود المحقق النائيني ( قده ) لم يكن إثبات الوجوب الشرعي للمقدمات على أساس قاعدة الملازمة ، وانما هو استكشاف الحكم الشرعي بنفس الملاك المولوي ، فانه بعد ان كان للمولى ملاك في صوم النهار سيصبح فعليا عند طلوع الفجر فلا بد من حفظه تشريعا ، وحيث ان الأمر بالصوم عند طلوع الفجر لا يكفي لحفظه التشريعي على كل تقدير ، لعجزه عنه لو لم يغتسل قبل الفجر ، فلا بد من تتميم الحفظ التشريعي بالأمر بالمقدمة المفوتة ، ومنه يظهر انه لا يرد إشكال اللغوية لأن حال هذا الخطاب حال خطاب ( صم ) كلاهما ينشأ ان من منشأ واحد هو الملاك النفسيّ وكل منهما يحفظ حيثية من حيثيات الملاك ، ولو لا الحفظ التشريعي لم يجب على العبد التحرك ، لأن العبد لا يجب عليه التحرك الا بمقدار تحرك المولى للحفظ التشريعي.

هذه وجوه ستة للجواب على مشكلة المقدمات المفوتة وهي ما عدا الرابع منها الّذي عرفت النقاش فيه كلها صحيحة على وفق المنهج الّذي سار عليه المحققون

٢٠٦

في بحث مشكلة المقدمات المفوتة. فانهم قد بحثوا المقدمات المفوتة بلحاظ الأوامر والأغراض التشريعية وكأنها تختص بها ، مع ان الصحيح ان البحث عن هذه المشكلة لا تختص بذلك بل تجري في الأغراض التكوينية أيضا ، إذ كثيرا ما يكون للإنسان مطلوب تكويني مشروط بزمان استقبالي وهو يهيئ مقدماته قبل وقته ، كمن يعرف انه سوف يعطش في سفره ولا يجد الماء فانه سوف يأخذ معه الماء قبل السفر وقبل العطش. فلا بد من حل هذا الإشكال على صعيد المطلوب التكويني أولا ، وانه كيف أصبحت المقدمة مطلوبة قبل تحقق شرط الطلب النفسيّ؟ إذ لو لم تحل المشكلة على هذا الصعيد والتزمنا بان المطلوب النفسيّ التكويني إذا كان استقباليا فلا يهتم بتحقيق مقدماته المفوتة من قبل اذن لا معنى للزوم الإتيان بها في الغرض التشريعي أيضا ، إذ لا معنى لأن يجب على المكلف الاهتمام بغرض للمولى في مورد لا يهتم به المولى نفسه إذا كان يريده بالإرادة التكوينية ، إذ ليس التشريع الا من أجل جعل المكلف كالمولى في التصدي لأغراضه لا أكثر من ذلك ، فلا بد من بحث مشكلة المقدمات المفوتة على صعيد المطلوب التكويني أولا وما ذكر من الوجوه الخمسة الصحيحة على منهج الأصحاب في البحث لا يجدي شيء منها على هذا الصعيد. فان التمسك بالواجب المعلق ، أو بوجوب سد بعض أبواب العدم أو بان الملاك والإرادة فعليان من أول الأمر هذه الوجوه الثلاثة كلها ترتكز على أساس افتراض ان الظرف الاستقبالي قيد للترتب لا الاتصاف ، بحيث لو كان يمكنه إيجاد ذلك الظرف الآن وكان اختياريا لكان يحققه ، ومن الواضح ان هذه الأجوبة لا تفي بحل الإشكال على المنهج الّذي طرحناه ، لوضوح ان فعل المقدمات المفوتة في الأغراض التكوينية لا تختص بما إذا كان ظرف المطلوب التكويني الاستقبالي قيدا في الترتب بل يجري في فرض كونه قيدا للاتصاف كما في مثال العطش في السفر الّذي ذكرناه ، حيث لا إشكال ولا ريب في كون العطش قيدا للاتصاف لا الترتب ولهذا لو كان يمكنه ان يعطش نفسه الآن لما عطش ـ والجواب بالشرط المتأخر وأن المولى يعلم ان المكلف سوف لن يقدر على إشباع الحاجة التي تحصل في الزمن المتأخر إذا ما لم يوفر المقدمات من قبل

٢٠٧

فيقدم الإيجاب أيضا لا يحل المشكلة في صميمها ، لأنا نقلنا البحث إلى الغرض التكويني لنرى ان المولى بنفسه كيف يتصدى ويهتم بالمقدمات المفوتة لغرضه التكويني ، وهذا الإيجاب المتقدم بنفسه تحفظ تكويني من قبل المولى على مقدمات غرض تشريعي لم يتحقق شرط الاتصاف به بعد ، فهذا الجواب لا يمس روح الإشكال. وكذلك الجواب بان العقل يحكم بوجوب التحفظ على الملاك الفعلي للمولى ولو كان مستقبليا ، فان إيجاب العقل لذلك فرع ان يعقل اهتمام المولى نفسه بالمقدمات المفوتة لغرضه التكويني قبل فعليته كي يجب اهتمام المكلف بها إذا أحرز ذلك ، واما إذا لم يكن ذلك معقولا فلا يحكم العقل بالوجوب كما هو واضح.

نعم لو التزمنا بأحد المسلكين التاليين أمكن على أساسه حل الإشكال على هذا الصعيد.

الأول ـ مسلك الشيخ الأعظم حيث نسب إليه ان الواجب المشروط يكون القيد فيه راجعا للمراد لا لنفس الإرادة ، لأن الإرادة فعلية دائما ومن أول الأمر إذ من الطبيعي ان يتحرك المولى نفسه على المقدمات المفوتة وإيجابها على المكلف حينئذ لفعلية الاتصاف دائما ، الا ان هذا المسلك قد تقدم بطلانه في بحث الواجب المشروط.

الثاني ـ ما سلكه المحقق العراقي ( قده ) من ان الظرف الاستقبالي الّذي هو قيد للاتصاف قيد للإرادة بوجوده اللحاظي لا الواقعي ، والوجود اللحاظي فعلي من أول الأمر ، فان هذا المسلك تارة : نقربه في الوجوب والإرادة التشريعية وان وجود الوجوب فعلي الا أن الموجود به مشروط ومعلق على تقدير تحقق الشرط ـ نتيجة التمييز بين عالمي الجعل والمجعول ـ وحينئذ لو تم لا يجدي في حل إشكال وجوب المقدمات المفوتة كما بينا لأن إيجاب المقدمات أيضا من شئون مرحلة المجعول وفاعلية الوجوب. وأخرى : نقرب هذا المسلك على صعيد الإرادة التكوينية التي هي امر تكويني لا يعقل فيها جعل ومجعول بان يكون وجود الإرادة التكوينية فعليا لفعلية شرطها اللحاظي ولكن الإرادة الموجودة بها تقديري ، فان هذا تفكيك

٢٠٨

بين الإيجاد والوجود في امر تكويني وهو محال ، فإذا كانت الإرادة فعلية لفعلية شرطها وهو الوجود اللحاظي للشرط ـ كالعطش ـ فلا محالة تكون محركة نحو المقدمات المفوتة. لأن فاعليتها تامة من سائر الجهات الا من الجهة التي فرضت الإرادة منوطة بلحاظها ، فهذا المسلك لو تم يمس روح المشكلة الا انه غير تام كما بينا سابقا ، لأن مجرد لحاظ العطش وتصوره لا يوجب الشوق والإرادة لشرب الماء بل لا بد من العطش حقيقة أو إحرازا.

والحل الصحيح للمشكلة والّذي يمس روح الإشكال انما يكون بالرجوع إلى ما بيناه في الواجب المشروط وحقيقة الإرادة التشريعية في مورده وانها تنحل إلى إرادتين. بيان ذلك : انه تارة ؛ يفترض ان القدرة على المطلوب الاستقبالي في وقته أيضا من قيود الاتصاف بحيث لا حاجة مع العجز ، فلا إشكال عندئذ في عدم الاهتمام بالمقدمات المفوتة لا في الأغراض التكوينية ولا التشريعية ، وانما البحث فيما إذا لم تكن القدرة على الواجب من قيود الاتصاف ـ كما في مثال العطش ـ وهنا انما يهتم الإنسان بالمقدمات المفوتة قبل وقت الاتصاف والحاجة باعتبار ما ذكرناه فيما سبق من ان للإنسان في موارد الإرادة المشروطة بحسب الحقيقة إرادتين. إحداهما ـ إرادة الجزاء ، وهو شرب الماء وهذه مشروطة بتحقق العطش أو إحرازه ، اما قبله فلا شوق ولا إرادة لشرب الماء ، بل قد يبغضه لمنافرته مع طبعه. والأخرى ـ إرادة الجامع بين عدم الشرط أو وجود الجزاء ، أي الجامع بين ان لا يعطش أو يشرب الماء على تقدير العطش أي إرادة الارتواء الّذي هو الجامع الملائم مع طبعه ، وهذه إرادة فعلية غير مشروطة بشيء ، وهذه الإرادة الفعلية للجامع هي في الحقيقة ما يعبر عنه بحب الذات وحب بقاء الذات وحب ما يلائمها الّذي هو امر غريزي ذاتي في كل فرد. ومن هذه الإرادة الفعلية تنقدح إرادة غيرية تجاه المقدمات المفوتة للجزاء وهو شرب الماء في المثال قبل تحقق شرط الاتصاف وهو العطش ، لأنه يعلم بأنه لو لم يحققها من قبل فسوف يفقد ذلك الجامع ويبتلي بما ينافر ذاته ، وهذا ما يتجنبه ويبتعد عنه في كل آن ، لأنه يحب ذاته وما يلائمها وينطلق منها دائما بحكم الفطرة.

٢٠٩

وإذا اتضح بهذا حال الإرادة التكوينية يتضح الحال في الإرادة التشريعية أيضا ، فان المكلف في الإرادة التشريعية يصبح كأنه نفس المولى في الإرادة التكوينية فيتحرك نحو المقدمات المفوتة ، فالإشكال كان ناشئا من الغفلة عن الإرادة نحو الجامع الفعلية المحركة للمولى نحو حفظ المقدمات المفوتة في كل غرض بالنحو المناسب له ، أي حفظها تكوينيا في الأغراض التكوينية وتشريعيا في الواجبات والأغراض التشريعية ، وهناك صياغات مختلفة لإبراز هذا الاهتمام والحفظ التشريعي في التشريعات ، فتارة : يجعل وجوب الصوم من أول الأمر لا من الفجر. وأخرى : يوجب المقدمات المفوتة. وثالثة : يخبر عن الاهتمام بها. وكل هذه صياغات للحفظ التشريعي وروح النكتة واحدة في الجميع.

وحيث انتهى الكلام إلى انحلال الإرادة في موارد الواجب المشروط إلى إرادتين إحداهما متعلقة بالجزاء على تقدير الشرط والأخرى متعلقة بالجامع بين الجزاء أو عدم الشرط من الجدير ان نبحث نكات تتعلق بهاتين الإرادتين وخصيصتهما فنقول : السؤال الّذي يتبادر إلى الذهن بشأن هاتين الإرادتين هو ان إرادة الجزاء عند حصول الشرط التي هي إرادة تعيينية هل تكون عبارة عن تطور نفس إرادة الجامع التي هي إرادة تخييرية وكانت ثابتة من أول الأمر أو انهما إرادتان مستقلتان بنكتتين إحداهما مستقلة عن الأخرى؟

قد يقال بالثاني ، لوجدانية الفرق بين الشوق الّذي يتحقق بعد تحقق الشرط كالعطش نحو الجزاء وهو شرب الماء وبين الشوق نحو الجامع من أول الأمر ، كيف وان الأول شوق نفساني قد يوجد حتى في الحيوان بينما الثاني شوق عقلاني مبني على التبصر والعقل وإدراك المستقبل.

الا ان الصحيح أنهما بنكتة واحدة وإرادة واحدة روحا ولبا ، فان كلا من الجزاء على تقدير الشرط وعدم الشرط في الحقيقة مقدمة لمحبوب نفسي واحد هو الارتواء ، كما أشرنا ، غاية الأمر ان ما يتوصل به فعلا إلى هذا المحبوب النفسيّ هو أحد فردي الجامع ، فإذا فقد الفرد الأول بتحقق الشرط كان ما يتوصل به عملا إلى

٢١٠

المحبوب النفسيّ هو الجزاء فينقدح الشوق والإرادة نحوه ، وبهذا يفسر الوجدان المشار إليه.

ان قلت : إذا كانت الإرادة الفعلية الأصلية متعلقة بالجامع فهي لا تتحول من الجامع إلى الفرد بمجرد فقدان أحد الفردين وخروجه عن قدرة المكلف ، بل يبقى شوقا نحو الجامع وتخييريا غاية الأمر انه بحسب العمل الخارجي سوف يختار الفرد المقدور في إتيانه بالجامع وهذا غير تعلق الإرادة بالفرد.

قلنا : هذا صحيح في الإرادة والشوق النفسيّ لا الغيري ، وإرادة الجامع العقلانية هذه غيرية من أجل تحقيق المحبوب النفسيّ وهو حفظ الذات وملائماته ، والشوق الغيري باعتباره توصليا يتعلق بما هو فعلا يوصل الإنسان إلى مطلوبه النفسيّ ومن هنا صح هذا التحول.

وان شئت قلت : ـ ان هناك إرادة نفسية واحدة خلف كل الإرادات المشروطة والتي هي كلها غيرية للوصول إلى الغرض النهائيّ الأصلي النفسيّ ، وهو حفظ الحياة وحب الذات وملائماتها ، وتنقدح من تلك الإرادة الواحدة النفسيّة الكلية إرادات وأشواق مقدمية تتعلق بواقع ما يحقق ويوصل إلى ذلك المطلوب النفسيّ في كل مرحلة ، وتتولد منها أيضا الإرادة الغيرية نحو المقدمات المفوتة التي يعلم أو يحتمل الإنسان انه إذا لم يحققها قبل تحقق الشروط المستقبلية فسوف لن يتمكن من إشباع حاجته وتحقيق ما يلائم ذاته أو يدفع عنها الألم والنقص في المستقبل.

وهذا هو الحل الفني الدّقيق الصحيح بناء ومبنى لمشكلة المقدمات المفوتة على الصعيدين التكويني والتشريعي.

الأمر الثاني ـ في وجوب التعلم الّذي قد يصبح مقدمة مفوتة : ـ وهنا عدة فروض.

الفرض الأول ـ ان يكون عالما بتكليف فعلي ثابت عليه الآن ، كوجوب الصلاة أو الحج أو غير ذلك ، ولكنه لا يعرف أحكام ذلك الواجب من اجزاء أو شرائط ، فهل يجب عليه التعلم أم لا؟ الصحيح ان هنا ثلاث صور.

الأولى ـ ان لا يتمكن من أداء ذلك الواجب من دون تعلم أحكامه ، كما في تعلم

٢١١

القراءة والركوع والسجود في مثل الصلاة ، وفي مثل ذلك لا شبهة في وجوب التعلم لصيرورته مقدمة وجودية للواجب.

الثانية ـ ان يتوقف إحراز الامتثال القطعي على التعلم ، كما لو دار الأمر بين محتملات عديدة لا يمكن الجمع بينها الا انه قد يطابق ما يأتي به صدفة للواقع ، وهنا أيضا لا إشكال في وجوب التعلم عقلا لوجوب الامتثال اليقيني.

الثالثة ـ ان يتمكن من الامتثال القطعي من دون تعلم عن طريق الاحتياط والإتيان بكل المحتملات ، وهنا لا يجب التعلم لكفاية الامتثال الإجمالي على ما حقق في محله.

الفرض الثاني ـ ان يعلم بتكليف سوف يبتلى به في المستقبل ولكنه لو لم يتعلم أحكامه الآن فسوف تفوته فرصة تعلمها في وقت فعلية ذلك التكليف عليه. وهنا ترد الصور الثلاث المتقدمة أيضا ، غاية الأمر يكون وجوب التعليم في الصورتين الأولى والثانية من باب وجوب المقدمات المفوتة للواجب الشرعي ـ في الصورة الأولى ـ أو الواجب العقلي أعني إحراز الامتثال اليقيني ـ في الصورة الثانية ـ وبهذا ظهر اندفاع ما ذكره المحقق النائيني (ره) في المقام من ان الحكم بوجوب التعلم في الصورة الثانية هنا لا يرتبط بوجوب المقدمات المفوتة.

الفرض الثالث ـ ان يشك في كبرى التكليف بعد إحراز صغراه ، كمن رأي الهلال ليلة خروجه ولكنه شك في وجوب قراءة الدعاء الّذي لم يتعلمه بعد عند رؤيته وعدمه ، وحيث ان الشبهة حكمية فيجب عليه اما تعلم الدعاء وقراءته احتياطا أو الفحص وتحصيل الحجة على عدم وجوب الدعاء عليه أو وجوبه ، فيدخل في الفرض الأول.

الفرض الرابع ـ عكس ما تقدم بأن يتنجز كبرى التكليف عليه بالفعل ولكنه يشك في صغراه ، وهنا تجري الأصول المؤمنة عن فعلية ذلك التكليف ، كاستصحاب عدم تحقق الصغرى وبذلك ينفي وجوب التعلم.

الفرض الخامس ـ ان يحتمل ابتلاؤه في المستقبل بصغرى تكليف كبراه منجز عليه ، كما إذا احتمل انه سوف يستطيع وهو يعلم بوجوب الحج على المستطيع أو

٢١٢

يحتمله احتمالا منجزا ، فهل يجب عليه تعلم أحكام الحج إذا كان تركه للتعلم الآن سببا في عجزه عن الامتثال في حينه؟ قد يقال : بجريان الأصول المؤمنة هنا أيضا كاستصحاب عدم ابتلائه في المستقبل بصغرى ذلك التكليف ، وليس حال احتمال ابتلائه بصغرى تكليف في المستقبل بأشد حالا من احتمال ابتلائه بصغرى تكليف في الحال الّذي تحدثنا عنه في الصورة السابقة وقلنا بجريان الأصول المؤمنة النافية لوجوب التعلم عليه.

الا انه وقع الإشكال في ذلك تارة : بما عن السيد الأستاذ من وجود علم إجمالي بابتلائه في المستقبل ببعض صغريات التكاليف فلو عول على الأصل المؤمن لزم عنه المخالفة القطعية.

ويرد عليه : أولا ـ انحلال هذا العلم الإجمالي في كثير من الأحيان بعلم تفصيلي أو علم إجمالي في دائرة أصغر هي دائرة الوقائع القريبة من حياته وشئونه يساوي معلومه معلوم العلم الإجمالي في دائرة مطلق الوقائع.

وثانيا ـ ليست كل تلك الأطراف مما يكون ترك التعلم فيها من قبل موجبا للتفويت بل كثير منها يمكن التعلم فيها بعد العلم بالتكليف أو كان قد تعلمه سابقا ، فلا تتعارض الأصول المؤمنة بلحاظ هذا الأثر وهو نفي وجوب التعلم الآن.

وأخرى : بما عنه أيضا من ان أدلة وجوب التعلم وارد في مورد الاستصحاب أو الأصول المؤمنة فلو تقدمت عليه لزم إلغائها. ويرد عليه : ان وجوب التعلم يشمل موارد العلم بأصل الوجوب والجهل بخصوصيات الواجب وفي مثله لا معنى للاستصحاب ، وكذلك يشمل موارد العلم الإجمالي الصغير المنجز والتي لا تجري فيها الأصول المؤمنة ذاتا ، للتعارض والإجمال الداخليّ بلحاظ هذه الدائرة.

وثالثة : بما عن المحقق النائيني من ان وجوب التعلم لا يمكن نفيه بمثل استصحاب العدم ، لأنه من آثار نفس الشك والاحتمال لا ثبوت المشكوك واقعا كي ينتفي بانتفائه تعبدا.

ويرد على ظاهر هذا الكلام لو سلم ان دليل وجوب التعلم أخذ في موضوعه نفس الشك والاحتمال ، فبناء على مباني القوم من جعل الطريقية للاستصحاب وقيامه

٢١٣

مقام القطع الموضوعي يكون استصحاب عدم الاستطاعة التي هي موضوع الحكم الشرعي بوجوب الحج الّذي يجب تعلم أحكامه قائما مقام العلم بعدمها فيحكم على وجوب التعلم.

ورابعة : بما يمكن ان يكون هو مقصود المحقق النائيني ( قده ) من ان دليل وجوب التعلم يدل على ان كل مخالفة نشأت من ترك التعلم يعاقب عليها ، وان الأصول المؤمنة لم تجعل لتكون ذريعة إلى ترك التعلم ، والأصل النافي لا ينفي وقوع هذه المخالفة الا بالملازمة العقلية ، بل حتى لو استصحب عدم الوقوع في المخالفة لم يفد ذلك لأنه يحتمل على كل حال الوقوع في المخالفة نتيجة ذلك ولو وقع فيها لعوقب لا محالة فيجب دفع الضرر المحتمل بالتعلم. ولا يقاس ذلك بالفرض الرابع فانه هناك حتى إذا كان قد تعلم يقع في المخالفة استنادا إلى عدم إحراز صغرى التكليف ، فلا يكون مشمولا لدليل التعلم.

الأمر الثالث ـ في دوران القيد بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة : ـ لا إشكال في وجوب تحصيل القيد إذا كان راجعا إلى المادة أي من قيود الواجب ، كما لا إشكال في عدم لزوم تحصيله إذا كان راجعا إلى الهيئة أي من قيود الوجوب ، فإذا شك في حال قيد هل يرجع إلى الهيئة أو المادة؟ فتارة : يكون دليل التقييد منفصلا ، وأخرى : يكون متصلا بدليل الأمر. فالبحث في مقامين.

المقام الأول ـ إذا كان دليل التقييد منفصلا عن دليل الأمر وشك في رجوعه إلى مدلول هيئة الأمر أو مادته. وهنا مقتضى القاعدة الأولية التعارض بين إطلاق المادة وإطلاق الهيئة والتساقط ثم الرجوع إلى الأصول العملية ، الا انه قد ذكرت عنايات لترجيح إطلاق الهيئة وحفظه عن السقوط ، أهمها ثلاثة تقريبات.

التقريب الأول ـ تقديم إطلاق الهيئة لكونه شموليا يقتضي توسيع الوجوب لحالة فقدان القيد بخلاف إطلاق المادة الّذي مدلوله صرف الوجود فيكون بدليا ، والإطلاق الشمولي أقوى من البدلي.

واعترض عليه المحقق الخراسانيّ ( قده ) بأنه لا موجب للأقوائية فان كليهما بمقدمات الحكمة. وهذا الاعتراض متجه على هذا التقريب ، وقد بسطنا بعض الكلام

٢١٤

فيه في بحث المرة والتكرار وقلنا ان البدلية والشمولية ليستا مدلولين للإطلاق ومقدمات الحكمة ، والمعارضة ليست بين البدلية والشمولية المفادين بدليل عقلي بل بين الإطلاقين اللذين في كل منهما بمعنى واحد.

التقريب الثاني ـ دوران الأمر بين مخالفة واحدة أو مخالفتين ، لأن تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة إذ لا معنى لإطلاق المادة صدق الواجب من دون الوجوب دون العكس ، وبما ان التقييد مخالفة وضرورة فالعرف في موارد الدوران يرتكب مخالفة واحدة لا مخالفتين.

ويرد عليه : مضافا إلى بطلان الكبرى ، ان تقييد المادة بعد تقييد الهيئة ليس مخالفة ، لأنه تقيد وليس بتقييد بحسب الحقيقة ، إذ مادة كل امر مقيدة لبا بكل قيود الوجوب فإذا قيد الوجوب في مورد فقد تحقق صغرى ذلك المقيد اللبي الكلي وليس تقييدا جديدا في المادة.

التقريب الثالث ـ ان التعارض بين الإطلاقين فرع العلم الإجمالي برجوع القيد إلى أحدهما ، مع ان هذا العلم الإجمالي منحل إلى العلم التفصيليّ بتقييد المادة وعدم شمولها للحصة الفاقدة ـ أي الصدقة قبل القيام مثلا ـ على كل تقديرا ما تخصيصا أو تخصصا ، أي اما لعدم الوجوب أو لعدم كونه الواجب ، مع الشك في تقييد الهيئة ، فيتمسك فيها بالإطلاق بلا معارض.

وهذا التقريب انما يتم في بعض الموارد لا جميعها ، توضيحه : ان التقييد بقيد يكون بأحد نحوين.

الأول ـ ان يكون بحدوثه قيدا للواجب أو الوجوب كالاستطاعة للحج.

الثاني ـ ان يكون التقييد بنحو الظرفية أي يشترط حدوثه وبقائه في الوجوب أو الواجب ، وهذا يعني بحسب الحقيقة مزيدا من التقييد.

وحينئذ يقال : تارة يعلم إجمالا بتقييد المادة أو الهيئة على وزان واحد ، بان يعلم إجمالا ان حدوث القيام شرط إما في وجوب الصدقة أو في الصدقة الواجبة ، أو يعلم ان القيام ظرف للوجوب أو الواجب وفي مثل ذلك يتم التقريب المتقدم للانحلال والتمسك بإطلاق الهيئة.

٢١٥

وأخرى : يعلم إجمالا بتقييد القيام لمدلول الهيئة بنحو الظرفية أو لمدلول المادة بحدوثه ، وهنا أيضا يتم تقريب الانحلال للعلم تفصيلا بتقييد المادة بأصل حدوث القيام فلا واجب قبله ويشك في تقييد كل من الهيئة أو المادة بالقيام بنحو الظرفية ، فيتمسك بالإطلاق لنفي أصل تقييد الهيئة وتقييد المادة بنحو الظرفية بلا معارض.

وثالثة : يعلم إجمالا بتقييد مدلول الهيئة بالقيام حدوثا أو مدلول المادة به حدوثا وبقاء ، وهنا لا انحلال إذ لا يلزم من تقييد الهيئة بالقيام حدوثا تقيد المادة به الا حدوثا لا بقاء ، فيمكن التمسك بالإطلاق لنفي تقييد المادة به بقاء فيعارض الإطلاق في مدلول الهيئة ، حيث يعلم إجمالا بأحد التقييدين بحسب الغرض.

وقد يستشكل في هذا التقريب في مورده أيضا بأحد إيرادين.

الأول ـ ان ما يتولد من التقييد في المادة من خلال تقييد الهيئة انما هو بمعنى عدم وقوع الصدقة قبل القيام مصداقا للواجب من دون ان يلزم من ذلك وجوب إيجاد القيام قبل الصدقة بمعنى تقيدها به ، بينما اللازم من تقييد المادة ابتداء قيدية القيام ولزوم إيجاده وهذا غير معلوم على كل حال ، فيتمسك بالإطلاق في المادة لنفي هذا المعني للتقييد.

وفيه : ان تقييد المادة ليس الا بمعنى واحد دائما وهو تحصيصها بالقيد وصيرورة التقيد به تحت الأمر وهذا معلوم على كل حال ، اما كل من عدم صحة الاجتزاء بما وقع قبل القيد أو الإلزام بتحصيل القيد قبلها فهما من آثار التقييد وليس نفس التقييد.

والأثر الأول من آثار تقييد المادة مباشرة ، والأثر الثاني من آثار تقييد المادة بضميمة إطلاق الوجوب من ناحية القيد فيثبت باعتبار معلومية تقييد المادة وإطلاق الهيئة المثبت لإطلاق الوجوب.

الثاني ـ إنكار لزوم تقيد المادة على كل حال بل لو كان القيد راجعا إلى الهيئة كانت المادة مهملة من ناحية ذلك القيد لا مطلقة ولا مقيدة لاستحالتهما معا ، اما الإطلاق فواضح ، واما التقييد فلكونه لغوا صرفا ، إذ الغاية من التقييد الأمر بالتقيد والتحريك نحوه ، مع إن الأمر بالتقيد بقيد الوجوب تحصيل للحاصل ، لأنه يكفي في حصوله خارجا حصول القيد وذات المقيد والأول مفروض الحصول والثاني يكفي فيه

٢١٦

الأمر بذات المقيد فأي فائدة للأمر مع ذلك بالتقيد ، فإذا ثبت استحالة الإطلاق والتقييد في المادة ثبت الإهمال فيها ، ولا بأس به في المقام لأنه ليس إهمالا بلحاظ أصل الحكم ليقال لا يعقل ذلك ثبوتا لدى الحاكم وانما هو إهمال في طرف من أطراف الجعل للاستغناء بتقييد الوجوب عن تقييده ، فأصالة الإطلاق في المادة بمعنى عدم التقييد بالقيد المشكوك جارية لأنه مئونة زائدة محتملة في قبال الإهمال ، فينفى بالأصل وتكون طرفا للمعارضة مع أصالة الإطلاق في الهيئة (١).

وفيه : انه مبني على ان يكون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل الضدين اللذين لهما ثالث ، وقد نقحنا في بحث المطلق والمقيد ان التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب فلا تتصور واسطة بينهما باسم الإهمال.

وهكذا يتضح صحة التقريب الثالث في المورد الّذي يكون وزان التقييد المردد لكل منهما على نسق واحد.

المقام الثاني ـ فيما إذا كان دليل التقييد متصلا. والتحقيق : انه تارة : يكون القيد المتصل بحسب لسان دليله مطلبا مستقلا ولازما أعم للجامع بين تقييد المادة أو الهيئة من دون ان يكون متجها إلى إحداهما بالخصوص ، كما إذا قال ( تصدق ولا تجزى الصدقة قبل القيام ).

وأخرى يفرض ان لسان القيد متجه إلى أحد الأمرين من الهيئة أو المادة بالخصوص أو يصلح لذلك ونحن لا نعرف انه قيد لأيهما ، كما إذا قال ( تصدق قائما ). ففي الفرض الأول يكون مقتضى الإطلاق في كل منهما تاما ذاتا ، فإذا كان أحد المقتضيين أقوى قدم وجعل قرينة متصلة على تقييد الاخر والا تعارضا وتساقطا ، هذا إذا لم نبن علي ما ذكرناه في التقريب الثالث من رجوع التقييد إلى المادة على كل حال والا كانت مقدمات الحكمة منخرمة فيها ويتم إطلاق الهيئة.

__________________

(١) إذا كان الإهمال الثبوتي في قوة الإطلاق هنا بحيث تصدق المادة على الصدقة الواقعة صدفة قبل القيام كان ما أفيد من أن التقييد لغو فاسدا ، إذ من دونه لا يحفظ تقيد الصدقة بكونها بعد القيام وإذا كان الإهمال في قوة التقييد لم تجر أصالة عدم التقييد في قبال الإهمال إذ ليس فيه مئونة زائدة بحسب النتيجة وان كان فيه مئونة زائدة على صعيد اللحاظ إذ المعيار في المئونة بالاعتبار الأول.

٢١٧

وأما الفرض الثاني فالحكم فيه هو الإجمال على كل حال ، لأنه من الإجمال والشك في أصل انعقاد الظهور الإطلاقي ذاتا على جميع المسالك والتقريبات فلا يمكن التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات سعة الوجوب.

( تذنيب ) ذكر المحقق النائيني ( قده ) في المقام أمرا هو مطلب كلي في باب التعارض ولكنه طبقه هنا بالمناسبة وحاصله : ان قانون الجمع بين الدليلين بتقديم الأقوى منهما انما يكون بين دليلين متعارضين ذاتا لا عرضا من جهة العلم الإجمالي من الخارج بكذب أحدهما ، كما إذا علمنا من الخارج بكذب أحد خطابين أما خطاب ( لا يضر الصائم إذا اجتنب عن ثلاث : الطعام والشراب والنساء ) أو خطاب ( لا تقضي الحائض ما فاتها من الصلاة ) فعلمنا بخروج الارتماس من الأول أو صلاة الآيات من الثاني مثلا ، فانه لا يقدم إطلاق أحدهما على الآخر ولو كان أقوى. ومقامنا من هذا القبيل فانه لا تعارض بالذات بين إطلاق المادة والهيئة في دليل واحد.

وما يمكن ان يجعل بيانا فنيا لهذه الدعوى أحد وجوه.

الأول ـ قياس ذلك بباب العلم الإجمالي بكذب أحد الخبرين ، حيث ان ذلك لا يوجب تقديم الخبر الّذي يكون لسان الخطاب فيه أقوى على الاخر ، لأن نسبة العلم الإجمالي إلى كل منهما على حد واحد ، فكذلك الحال في الظهورين اللذين يعلم إجمالا بكذب أحدهما.

وفيه : انه خلط بين مرحلة الصدور ومرحلة الدلالة والكشف عن المراد الواقعي للمتكلم ، فان قواعد الجمع العرفي ترتبط بمرحلة الدلالة والكشف عن المراد وتضع ملاكا لتشخيص مرام المتكلم على ضوء ما هو أقوى كشفا وأصرح دلالة ، فلو علم إجمالا بكذب إحدى الدلالتين والكشفين وكانت إحداهما أقوى من الأخرى كان احتمال الكذب وعدم التطابق في الأقوى أضعف منه في الأضعف فيقدم عليه ويجعل قرينة على تشخيص المراد.

الثاني ـ انه من اشتباه الحجة باللاحجة فتكون من الشبهة المصداقية لدليل الحجية ، لأن حجية الظهور مشروطة بعدم العلم بالكذب ويعلم إجمالا بكذب أحدهما فيسقطان معا عن الحجية ، ولا تجري قواعد الجمع العرفي لأنها تجري في تقديم أقوى

٢١٨

الحجتين لا تعيين الحجة عن اللاحجة.

وفيه : ان حجية الظهور ليست مشروطة بعدم واقع المقيد أو المخصص أو القرينة ليكون من الشبهة المصداقية للحجة وانما لا حجية في مورد العلم بالخلاف ، وفي المقام لا يوجد علم بمخالفة شيء منهما بالخصوص لأن العلم الإجمالي علم بالجامع لا أكثر.

الثالث ـ ان تقديم الأقوى انما يكون من باب القرينية ، والقرينية انما تثبت فيما إذا كان الأقوى إذا جمع مع الأضعف في سياق متصل هدم ظهور الأضعف ورفعه ، ولا يتم ذلك الا في باب المتعارضين بالذات لا موارد العلم الإجمالي بكذب أحدهما فانهما إذا جمعا مع العلم الإجمالي أصبحا مجملين.

وفيه : ان الإجمال في هذه الحالة ناشئ من وجود دليل ثالث صالح للقرينية على كل منهما وهو الدال على القيد الإجمالي ، هذا إذا كان دليله صالحا للتوجه إلى كل منهما بالخصوص والا لم يكن إجمال كما أشرنا.

الرابع ـ ان القرينية انما تكون إذا كان أحد الدليلين بمدلوله متعرضا لنفي مدلول الاخر وقرينة عليه ، كالخاص بالنسبة إلى العام ، وفي باب التعارض العرضي مدلول أحد الدليلين أجنبي بالمرة عن مدلول الاخر.

وفيه : ان التعرض لنفي مدلول الاخر لا يشترط فيه ان يكون بدلالة مطابقية بل يكفي فيه ان يكون بالدلالة الالتزامية ، فإذا كان ما يتعرض له بهذه الدلالة واجدا لملاك القرينية قدم على الاخر لا محالة ، وفي موارد التعارض العرضي كل من الدليلين بالالتزام يتعرضان لنفي الاخر ، لأن كلا منهما يدل بالالتزام على قضية شرطية هي انه لو كان أحدهما غير مراد فانما هو ذاك الاخر ، فيرجع كل تعارض عرضي بالدقة إلى تعارض ذاتي بين الدليلين ، لأن هذه القضية الشرطية ثابتة في كل منهما من أول الأمر والعلم الإجمالي يحرز لنا تحقق الشرط ليس إلا.

٢١٩
٢٢٠