بحوث في علم الأصول - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٢

ان قاعدة الطهارة تقابل دليلين واقعيين ، أحدهما : دليل نجاسة الشيء وطهارته ، والآخر : دليل اشتراط الصلاة بالطهارة فإذا قايسنا قاعدة الطهارة إلى الدليل الأول فمن الواضح عدم حكومتها عليه إذ ليست موسعة لموضوعه أو مضيقة له ، فيدور الأمر بين ان تكون مخصصة له كما يظهر من كلام لصاحب الحدائق ( قده ) أو تكون حكما ظاهريا مؤمنا عنه. وقد وضحنا في الفقه انها لا تكون مخصصة لدليل النجاسة ، وانما هي حكم ظاهري موضوعه الشك في النجاسة والطهارة. وعلى أي حال ان بنينا على ان القاعدة مخصصة لدليل النجاسة فلا إشكال في الاجزاء وصحة الصلاة واقعا وكان خروجا عن محل الكلام والبحث وعن اجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي ، فلا بد من افتراض ان القاعدة بلحاظ الحكم الأول ليست الا حكما ظاهريا ، ويبقى مقايستها مع الحكم الثاني وهو الشرطية وبلحاظ هذا الحكم يوجد احتمالان.

الأول ـ ان يكون تنزيلا لمشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعي بلحاظ عالم الأحكام المجعولة من قبل الشارع والتي منها الشرطية ، فتفيد الحكومة الواقعية والتوسعة الحقيقية للشرطية.

الثاني ـ ان يكون تنزيلا للمشكوك منزلة الطاهر بلحاظ الجري العملي والوظيفة في حالات الشك والالتباس والتحير ، وبناء عليه لا يثبت الاجزاء ، لأنها لا تفيد أكثر من تحديد الوظيفة العملية أي التأمين في حالة الشك ولا تقتضي سقوط الواقع.

والظاهر الأولي لألسنة التنزيل كقوله عليه‌السلام ( الصلاة بالبيت طواف ) وان كان هو الاحتمال الأول أي الحكومة والتوسعة الواقعية للأحكام ، بل لا يعقل في أكثر الموارد الا المعنى الأول ، الا انه في موارد أخذ الشك في موضوع التنزيل كما يحتمل المعنى الأول يعقل المعنى الثاني أيضا ، وحينئذ ان لم نستظهر من نفس أخذ الشك والتحير في لسان التنزيل إرادة المعنى الثاني ولو بحسب مناسبات الحكم والموضوع العرفية الارتكازية ، فلا أقل من الإجمال المنافي لإمكان إثبات الاجزاء بملاك التوسعة الواقعية.

ويؤيد إرادة الاحتمال الثاني في القاعدة ذيل موثقة عمار حيث تقول : ( فإذا علمت فقد قذر ) الّذي يعنى ان مجرد العلم بالقذارة يوجب نفوذ آثار القذارة ، ومقتضى إطلاقها إنفاذ جميع آثار القذارة حتى الثابتة قبل العلم بها والتي منها بطلان العمل

١٦١

السابق ولزوم الإعادة ، واحتمال هذا الإطلاق كاف أيضا ، لسريان الإجمال إلى صدر الحديث (١).

البيان الثاني ـ لإثبات اجزاء الحكم الظاهري مبني على القول بالسببية في حجية الأمارات أو الأصول ، بحيث تكون مصلحة الواقع متداركة بالأمارة فلا تجب الإعادة ولا القضاء.

وتفصيل الكلام في هذا البيان : ان الاحتمالات بدوا في حجية الأمارات أو الأصول عديدة.

الأول ـ ما يسمى عند أصحابنا بالسببية الأشعرية : والمقصود منه سواء صحت النسبة إلى الأشعرية أم لا ـ انه لا حكم في المرتبة السابقة على أداء الأمارة أو الأصل لمؤداه ، فالحكم يتولد بنفس أداء الأمارة أو الأصل إلى شيء وفق مؤداه ، وهذا لا محالة يستلزم التصويب والاجزاء معا ، إذ لا امر الا الأمر الّذي قد امتثله ولا معنى لانكشاف الخلاف وعدم الاجزاء.

الثاني ـ ما يسمى عندنا بالسببية المعتزلية ، والمقصود منه ـ سواء صحت النسبة أم لا انه توجد أحكام في المرتبة السابقة على قيام الأمارة أو الأصل الا انها أحكام مغياة بأداء الأمارة أو الأصل إلى خلافها فترتفع ويكون الحكم ما ادى إليه الأصل أو الأمارة ، وهو أيضا يستلزم التصويب والاجزاء ، إذ بعد قيام الأمارة والأصل لا يكون هناك واقع لكي ينكشف خلافه.

الثالث ـ الطريقية الصرفة ، وهو ما حققناه واخترناه في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي من ان الحكم الظاهري لم ينشأ الا لأجل الحفاظ على الملاكات

__________________

(١) قد يقال : ان هذا الإشكال انما يرد على صاحب الكفاية بناء على إرادة الحكومة بمعنى التنزيل واما إذا أراد الحكومة بمعنى الورود وإيجاد المصداق حقيقة فالحكم بالطهارة على المشكوك مهما كان معناه وملاكه يكون محققا لهذا المصداق لأن المشكوك سوف يكون محكوما عليه بأنه طاهر على كل حال فيكون واردا على دليل الشرطية وموسعا لها بالورود.

فالأولى أن يقال : في جواب صاحب الكفاية انه إذا أراد بالحكومة الورود فظاهر دليل شرطية الطهور أو الحلية في الصلاة شرطية الطهارة والحلية الواقعيتين أي الناشئتين عن ملاكاتهما الواقعية لا مجرد اعتبار الطهارة والحل وإنشائهما بأي ملاك كان كما في موارد اعتبار الأحكام الظاهرية التي تكون بملاك التزاحم الحفظي ، وان أراد الحكومة بمعنى التنزيل ورد عليه : إضافة على ما ذكر ما أشرنا إليه في الهامش المتقدم من انه لا يمكن الجمع بين الحكم الظاهري والتنزيل بمعنى التوسعة الواقعية في الآثار واستفادة ذلك من دليل واحد.

١٦٢

الواقعية المتزاحمة في مرحلة الحفظ بقدر الإمكان ، وهذا يساوق عدم التصويب وعدم الاجزاء ، لأن مقتضاه بقاء الحكم الواقعي في موارد الأحكام الظاهرية على إطلاقها وفعليتها فتجب الإعادة والقضاء.

الرابع ـ افتراض مصلحة في مؤدى الأمارة أو الأصل تحفظا على ظهور الأمر بسلوك الأمارة أو الأصل في نشوئه من مصلحة حقيقية لمؤداهما ، وهذا نحو من السببية في قبال الطريقية ولكنه لا يقتضي التصويب ولا الاجزاء ، إذ لم يفترض بهذا المقدار ان المصلحة الظاهرية هذه لا بد وان تكون من سنخ المصلحة الواقعية بحيث تستوفي بها ، فيكون مقتضى إطلاق الحكم الواقعي عدم التصويب وعدم الاجزاء.

الخامس ـ القول بالسببية بمعنى وجود مصلحة في جعل الحكم الظاهري لأجل دفع شبهة ابن قبة من قبح تفويت مصلحة الواقع ، بدعوى ان هذا التفويت انما يكون قبيحا إذا لم يكن مصلحة في نفس هذا التفويت ، كما تصوره بعضهم في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، وبناء عليه لا تصويب ولا اجزاء أيضا ، إذ لم يفرض تدارك المصلحة الواقعية المحفوظة بأي وجه.

السادس ـ السببية بمعنى المصلحة السلوكية التي جاءت في كلمات المحقق النائيني ( قده ) في مقام دفع شبهة ابن قبة وفرقها عن سابقتها ان المصلحة هناك فرضت في نفس جعل الحكم الظاهري ، وهنا تفرض في عمل المكلف بعنوانه الثانوي الّذي هو سلوك الأمارة ، وعلى مقدار هذا السلوك وما يستلزمه من التفويت لمصلحة الواقع لا أكثر ، فإذا ارتفع الجهل في الأثناء وجبت الإعادة فلا اجزاء ، لأن سلوك الأمارة لم يفوت عليه أكثر من فضيلة أول الوقت لا أصل الفريضة ، لأن التدارك الثابت ببرهان قبح التفويت لا يقتضي أكثر من ذلك ، ومقتضى إطلاق دليل الواقع وجوب الإعادة. وإذا ارتفع الجهل خارج الوقت فان قلنا ان القضاء بالأمر الأول فيجب القضاء بلا إشكال ، لأن التدارك انما هو بمقدار ما فات ، وهو مصلحة الوقت لا أصل الفعل الواجب (١). ، وإذا كان بأمر جديد فقد ذكر السيد الأستاذ بأنه لا يجب القضاء ،

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

١٦٣

لأنه فرع الفوت وخسارة مصلحة الفريضة ، والمفروض انها متداركة جميعا بسلوك الأمارة في داخل الوقت ، فيثبت الاجزاء بهذا المقدار (١).

وفيه : ان المصلحة السلوكية انما تثبت ببرهان قبح التفويت بمقدار لولاها لزم فوات المصلحة بلا تدارك أصلا ، وهذا البرهان لا يقتضي أكثر من وجود مصلحة سلوكية بمقدار مصلحة الوقت التي لا يمكن تداركها أصلا ، واما مصلحة أصل الفعل الّذي يمكن تداركه بالقضاء ـ كما هو ظاهر دليل القضاء ـ فلا وجه لأن نستفيد من دليل الحكم الظاهري تداركها ، فان مدرك هذا التقييد هو الضرورة والبرهان ، والضرورات تقدر بقدرها لا أكثر ، فيجب القضاء كما هو مقتضى ظاهر دليله.

هذا إذا فرضنا ان مصلحة القضاء مصلحة مستقلة عن مصلحة الأداء ، واما إذا فرضنا استظهار انها نفس مصلحة الفعل الباقية بعد الوقت أيضا فلا فوت لها أصلا بسلوك الأمارة أو الأصل ، الا ان هذا رجوع بحسب الروح إلى فرض ان القضاء بالأمر الأول.

وهكذا تكون النتيجة على هذا الوجه أيضا عدم التصويب وعدم الاجزاء لا في الوقت ولا خارجه ، نعم يلزم التصويب بمقدار انه لو استمر الجهل إلى ان مات المكلف ولم ينكشف له الخلاف لا في داخل الوقت ولا خارجه لم يكن قد فاته شيء ، حيث انه لا بد من فرض تدارك المصلحة الواقعية لأصل الفعل أيضا في حقه بسلوكه للأمارة أو الأصل ، وهذا المقدار ربما يقال انه لا دليل على محذوريته.

وقد تحصل : انه بناء على هذه الاحتمالات الستة يكون الاجزاء والتصويب متلازمين ثبوتا وارتفاعا ، فعلى الأولين يثبت الاجزاء ولكنه يثبت التصويب أيضا ، وعلى الاحتمالات الأخرى التي لا تصويب فيها ينتفي الاجزاء أيضا.

السابع ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) بهدف تحصيل وجه يصور فيه الاجزاء دون الوقوع في محذور التصويب ، وذلك بافتراض مصلحة في مؤدى الأمارة المخالفة للواقع بما هو مؤدى إمارة مخالفة للواقع ، وهي مصلحة في عرض مصلحة الواقع ، أي ان

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

١٦٤

المؤدى مشتمل على الملاك المطلوب الا انه في هذا العنوان الثانوي لا في المؤدى بعنوانه الأولي ، وهذا يوجب الاجزاء لحصول الغرض (١). ولا يوجب التصويب وتبدل الأمر الواقعي التعييني بالواقع إلى الأمر بالجامع بينه وبين مؤدى الأمارة المخالفة بما هو مؤدى أمارة مخالفة ، لاستحالة ذلك (٢). ، ويمكن بيان هذه الاستحالة بأحد وجوه ثلاثة.

الأول ـ ان الأمر بالجامع يستحيل جعله لأنه يستحيل وصوله إلى المكلف ، إذ لو لم يعلم المكلف بان الأمارة مخالفة للواقع لم يعلم بتوجه الأمر بالجامع إليه ، لأنه معلق على أداء الأمارة إلى خلاف الواقع ، ولو علم بأنها مخالفة للواقع سقطت عن الحجية.

وفيه : بالإمكان فرض الأمر التخييري بالجامع مع أخذ قيد الأمارة المخالفة في أحد شقي الواجب التخييري لا الوجوب ، فالوجوب من أول الأمر مطلق ثابت في حق كل أحد وليس مقيدا بقيام أمارة مخالفة للواقع ، ومن قامت عنده الأمارة يعلم بأنه يمتثل هذا الجامع ضمن أحد شقيه على كل حال.

الثاني ـ ان الجامع بين الواقع ومؤدى أمارة مخالفة للواقع ليس له تقرر لو لا الأمر التعييني بالواقع ، إذ لو كان الأمر الواقعي تخييريا لم تكن الأمارة متعلقة بما يخالف الواقع ، فيكون الجامع غير معقول وفيه : ان الجامع له تقرر وثبوت بقطع النّظر عن الأمر التعييني بالواقع ، إذ من الواضح اننا يمكننا ان نتصور مفهوم الجامع بين الواقع ومؤدى أمارة تعلقت بخلاف الواقع ، سواء تعلق امر تعييني بالواقع أم لا ، نعم تحقق أحد فردي هذا الجامع خارجا ـ وهو الإتيان بمؤدى أمارة مخالفة للواقع ـ موقوف على تعلق امر تعيني بالواقع ، إذ لو لا ذلك لما أمكن تحقيق عمل يكون مؤدى أمارة مخالفة للواقع ، وهذا يعني ان الأمر والإرادة التعينية بالواقع انما يجعله المولى ليتمكن العبد من الفرد الثاني للجامع الّذي فيه الملاك ، وقد حققنا في محله ان الإرادة يستحيل ان تنبثق من مصلحة مترتبة على نفسها لا في متعلقها ، فهذا التصوير للسببية بنفسه مستحيل من هذه الجهة.

الثالث ـ ان تحقق الملاك في الجامع منوط بتعلق الأمر بالواقع تعيينا ، إذ لو لا ذلك

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ١ ، ص ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٢) نفس المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٥٥.

١٦٥

لم تكن الأمارة متعلقة بما يخالف الواقع ، فلا يمكن ان يوجب ذلك انقلاب الأمر التعييني إلى الأمر التخييري بالجامع ، فان الشيء يستحيل ان ينفي علته ويلزم من وجوده عدمه.

ويرد عليه : أولا ـ النقض : بان الوصول إلى هذه النتيجة المستحيلة وهي لزوم نفي الشيء لعلته وبالتالي لنفسه كان لمجموع أمرين : أحدهما ـ افتراض تولد ملاك في الجامع من الأمر التعييني ـ بالواقع ، والآخر ـ افتراض انه إذا صار الملاك في الجامع لا محالة ينتفي الأمر التعييني بالواقع ويتبدل إلى الأمر التخييري بالجامع ، فلما ذا يكون فساد النتيجة برهانا على بطلان الثاني فليكن برهانا على بطلان الأمر الأول.

وثانيا ـ الحل : بأن كون الملاك في الجامع ليس منوطا بتعلق الأمر التعييني بالواقع ، وانما إمكانية الإتيان بالفرد الثاني من هذا الجامع خارجا وهو العمل بمؤدى أمارة مخالفة للواقع هو المتوقف على تعلق الأمر التعييني بالواقع.

وهكذا يتلخص من كل ما ذكرناه : ان الاجزاء والتصويب في الحكم الظاهري متلازمان ، ففي الاحتمالين الأولين يثبت الاجزاء والتصويب معا وفي ما بعدهما من الاحتمالات الأربعة لا تصويب ولا اجزاء ، والاحتمال السابع في نفسه لم يكن معقولا.

الا ان هذه الملازمة بين الاجزاء والتصويب بناء على السببية انما هو في الاجزاء على أساس الاستيفاء ، واما الاجزاء بملاك التعذر وعدم إمكان التدارك فبالإمكان ثبوتا تحققه من دون تصويب ، وذلك كما إذا فرضنا ان الحكم الظاهري يتضمن مصلحة مضادة مع مصلحة الواقع بحيث لا يمكن تحصيلهما معا ، فمع تحصيل إحداهما تتعذر الأخرى من دون ان يلزم التصويب والأمر بالجامع بينهما ، لأن المصلحة الواقعية تعينية.

لا يقال ـ إذا فرض ان مصلحة الحكم الظاهري مساوية مع مصلحة الحكم الواقعي في الأهمية انقلب الأمر التعيني بالواقع إلى التخيير بينهما بعد عدم إمكان الجمع ، إذ لا ترجيح لإحداهما على الأخرى وهو التصويب ، وإذا فرض انها أقل من مصلحة الواقع بمرتبة لزومية فلا معنى للأمر الظاهري ، لأنه مفوت للواقع الأهم.

١٦٦

فانه يقال : يمكن اختيار كلا من الشقين ودفع الإشكال. أما على الأول ، فلأننا نفترض تعيينية المصلحتين معا ، بحيث لو لا المضادة بينهما لأمر بهما معا ، الا ان القصور في قدرة المكلف خارجا على الجمع ، لمكان المضادة بينهما ، فيقع التزاحم بينهما ، والتزاحم انما يوجب رفع اليد عن الأمر التعييني بكل منهما عند وصول الأمر الاخر ، اما إذا وصل أحدهما دون الآخر فلا محذور في بقاء الآخر على إطلاقه ، وفيما نحن فيه لا يصل الحكم الواقعي والظاهري معا بل دائما يصل أحدهما ، فالمقتضي للأمر التعييني بالواقع وهو المصلحة التعيينية موجود والمانع وهو المزاحم مفقود ، لأن التزاحم بين الأمرين فرع وصولهما خلافا لباب التعارض فلا تصويب (١).

واما على الثاني وهو فرض عدم اشتمال الحكم الظاهري الا على مصلحة أقل من مصلحة الواقع ، فإشكال لزوم التفويت هو إشكال ابن قبة المعروف في باب الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، والمفروض الإجابة عليه اما بان الفوت شيء لا بد منه على كل حال ، وهو الجواب بناء على الطريقية ، أو بجواب من قبيل دعوى وجود مصلحة في التفويت أو غير ذلك.

هذا كله فيما إذا انكشف الخلاف باليقين.

واما إذا انكشف خلاف الحكم الظاهري بالتعبد :

فتارة : يكون هذا الانكشاف بأمارة مثبتة لجميع اللوازم ، وأخرى : يكون بأصل عملي.

فإذا كان انكشاف الخلاف بالأمارة ، كما إذا أفتى بوجوب الجمعة بالاستصحاب

__________________

(١) لا يقال : في باب التزاحم يكون الوصول شرطا في القيد لا المقيد ، أي كل واجب يكون مقيدا لبا بعدم الاشتغال بضد واجب وأصل سواء كان الواجب المقيد وأصلا أيضا أم لا ، لأن هذا التقييد اللبي الّذي به أخرجنا باب التزاحم عن التعارض تقييد واقعي في كل خطاب وليس من شئون حكم العقل بوجوب امتثال الخطاب ليكون قيدا له في مرحلة الوصول فقط ، وعليه فالامر الواقعي لا محالة لا بد وان يكون مشروطا بعدم امتثال الأمر الظاهري المزاحم لأنه واصل بحسب الفرض فيكون وجوبه تخييرا لا تعيينا.

فانه يقال : في خصوص المقام حيث ان الواجب المزاحم ظاهري يرتفع موضوعه بوصول الواجب الواقعي فلا موجب لتقييد الواجب الواقعي بعدم وصول الظاهري ، بل يبقى على إطلاقه وتعينيته. نظير ما يقال في المشروط بالقدرة العقلية بالنسبة إلى المشروط بالقدرة الشرعية ، إذ لا يلزم من هذا الإطلاق محذور التنافي لا ذاتا ولا بلحاظ مرحلة الامتثال والداعوية ، اما الأول فواضح ، واما الثاني فلأنه في فرض الداعوية والامتثال الّذي هو فرض التنجز والوصول يكون الخطاب الظاهري مرفوعا فتأمل جيدا.

١٦٧

ثم عثر على رواية معتبرة تدل على وجوب الظهر تعيينا ، فالصحيح عدم الاجزاء ولزوم الإعادة والقضاء ، لأن ذلك مدلول التزامي للأمارة نفسها على كل تقدير.

وإذا انكشف الخلاف بالأصل فهناك صور عديدة نذكر فيما يلي أهمها :

الأولى ـ ان ينكشف الخلاف بالاستصحاب في شبهة موضوعية ، كمن توضأ فشك في أثناء وضوئه وبنى على قاعدة التجاوز فيه ثم ظهر له بحجة أخرى اجتهادا أو تقليدا عدم جريانها في اجزاء الوضوء ، فجرى في حقه استصحاب عدم الإتيان بالجزء المشكوك من وضوئه.

وفي هذه الصورة لا إشكال في وجوب الإعادة في داخل الوقت بحكم هذا الاستصحاب ، بل وبأصالة الاشتغال أيضا لأن الشك في الفراغ من الامتثال.

واما إذا كان الانكشاف خارج الوقت ، فائضا لا إشكال في وجوب القضاء لو قيل بأنه بالأمر الأول ، أو قيل ان موضوعه عدم الإتيان الثابت بالاستصحاب ، واما إذا كان موضوعه الفوت فقد ذكر صاحب الكفاية انه لا يمكن إثباته باستصحاب عدم الإتيان لأنه مثبت (١) ، فيكون المرجع أصالة البراءة عن وجوب القضاء. وهذا الكلام رغم فنيته يرد عليه نقض يصعب الجواب عليه ، وهو انه يلزم منه عدم وجوب القضاء حتى إذا انكشف الخلاف في الوقت ولكنه قصر ولم يعد إلى ان خرج الوقت ، إذ سوف يشك أيضا في توجه امر جديد إليه ، ولا يمكن إثبات موضوعه بالاستصحاب فتجري البراءة.

وقد يقال : بأن المكلف في هذا الفرض يصدق عليه انه قد فاته الفريضة الواجبة عليه ظاهرا بالاستصحاب فيجب عليه قضاؤها ، نعم إذا لم يكن الاستصحاب واصلا إليه لا يصدق عليه الفوت والخسارة لأن حقيقة الحكم الظاهري متقومة بالوصول والتنجز.

وقد يجاب : بان ظاهر دليل وجوب القضاء بعد فرض انه امر جديد الوجوب الواقعي كما هو الحال في سائر الأوامر ، وحينئذ موضوع هذا الوجوب الواقعي ان كان

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٣٥.

١٦٨

هو فوت الواقع فلا يمكن إحرازه ، وان كان الأعم من فوت الفريضة الواقعية أو الفريضة الظاهرية لزم ان من جرى في حقه الاستصحاب داخل الوقت ولم يعد حتى خرج الوقت يجب عليه القضاء في خارج الوقت كوجوب واقعي أي حتى إذا انكشف بعد الوقت ان صلاته في الوقت كانت صحيحة مطابقة للمأمور به وهذا أيضا لا يظن بفقيه ان يلتزم به.

ويمكن حل الإشكال : بان دليل القضاء حيث انه بمناسبة التدارك لما فات على المكلفين داخل الوقت فلا ينبغي قياسه على الأوامر الابتدائية الصرفة ، بل لا يبعد استظهار كونه تبعا للشيء المتدارك ، كقاعدة الميسور ، فان كان المتدارك واجبا فهذا واجب وان كان ظاهريا فهذا ظاهري أيضا يرتفع بانكشاف صحة الفريضة الواقعية ، وبهذا يتم التفصيل بين من انكشف له الخلاف في داخل الوقت وقصر ولم يعد حتى خرج الوقت فيجب عليه القضاء لما فاته من الفريضة المتنجزة عليه في الوقت طالما لم ينكشف له صحة عمله الواقعي ، وبين من انكشف له الخلاف في خارج الوقت.

الثانية ـ نفس الصورة الأولى ولكن مع فرض الشبهة حكمية لا موضوعية ، كما لو فرض ثبوت وجوب الظهر عليه بدليل اجتهادي ثم عدل عن ذلك ووجد خللا في مدركه فاستصحب بقاء وجوب الجمعة الثابت في عصر الحضور مثلا ، ففي الوقت يجب الإتيان بها وفي خارج الوقت يجب القضاء ـ وقضاء الجمعة بالظهر لا محالة ـ بناء على انه بالأمر الأول أو ان موضوعه عدم الإتيان لا الفوت.

وقد يقال بوجوب القضاء حتى لو قيل بان موضوعه الفوت ، وذلك لأن الموضوع مركب من جزءين فوت شيء وان يكون واجبا ، وفي المقام قد فاتت الجمعة بالوجدان ، وهو واجب بالاستصحاب فيثبت وجوب القضاء خلافا للصورة الأولى.

وفيه : ان استظهار التركيب بين القيود وان كان صحيحا في موضوعات التكاليف الا ان عنوان الفوت ليس منتزعا من مجرد عدم الإتيان بشيء بل منتزع من خصوص عدم إتيان ما فيه مزية ونفع ، فمن ترك في النهار صلاة ثلاث ركعات وهي غير مشروعة لا يقال عنه انه فاتته ، وهذا يعني ان عنوان الفوت منتزع من ترك الواجب بما هو واجب فلا يمكن إثباته باستصحاب وجوب الشيء.

١٦٩

الثالثة ـ ما إذا كان الأصل العملي الجاري في حقه أصالة الاشتغال بملاك منجزية العلم الإجمالي ، كما إذا عدل عن رأيه بوجوب الظهر مثلا تعيينا فحصل له علم إجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة ، أو حصل له العلم الإجمالي بوجوب القصر أو التمام فيمن عمله يتوقف على السفر بعد ان كان يرى وجوب التمام عليه.

وهنا لا إشكال في وجوب الاحتياط قبل العمل وانما الكلام في فرضين :

الأول ـ ان لا يصلي داخل الوقت الا إحداهما حتى خرج الوقت فهل يجب عليه القضاء أم لا؟

الثاني ـ ان يحصل له هذا الانكشاف بعد أَن صلى الجمعة مثلا ، فهل يَجب عليه الظهر احتياطا أداء في داخل الوقت وقضاء خارجه أم لا؟

اما في الفرض الأول ـ فإثبات وجوب القضاء عليه يمكن ان يقرب بوجوه :

الأول ـ الاستناد إلى ما ذكرناه فيما سبق من تبعية الأمر القضائي للأداء ، فكلما ثبت امر أدائي ولو ظاهرا وتنجز على المكلف فلم يأت به وجب قضاؤه كذلك ، وهذا الوجه تطبيقه هنا لا يخلو من إشكال ، لأنه متوقف على افتراض ان دليل القضاء يشمل الوظائف المقررة بحكم العقل ، ولا ينظر إلى فوت الأحكام الشرعية بالخصوص.

الثاني ـ التمسك باستصحاب عدم الإتيان بالواجب الواقعي بناء على ان الموضوع عدم الإتيان. وفيه : انه لا شك هنا فيما أتى به وما لم يؤت به ، وعنوان الواجب بما هو واجب ليس موضوعا للقضاء وانما الموضوع واقع الواجب ، ولا شك فيه.

الثالث ـ العلم الإجمالي من أول الأمر بوجوب الجمعة عليه أداء أو الظهر خارج الوقت قضاء لو لم يأت بها داخل الوقت ، وهو من العلم الإجمالي في التدريجيات.

وفيه : انه ليس علما إجماليا بالتكليف على كل تقدير ، الا إذا كان عازما وجازما من أول الأمر انه لا يأتي بالظهر داخل الوقت على كل حال.

الرابع ـ ان القضاء بالأمر الأول وقد تنجز على المكلف بالعلم الإجمالي فيجب الاحتياط وتفريغ الذّمّة عنه من غير فرق في داخل الوقت أو خارجه.

وهذا الوجه لو تم مبناه تم هنا أيضا ، الا ان المبنى كما عرفت غير تام.

الخامس ـ ان المكلف يعلم إجمالا بوجوب صلاة الظهر عليه خارج الوقت أو

١٧٠

وجوب الجمعة عليه في الجمعة القادمة ، وهو علم إجمالي في التدريجيات وعلم بتكليف فعلي في ظرفه على كل تقدير.

وهذا الوجه يتم في الواجبات التكرارية ، كالظهر والجمعة ، لا في مثل القصر والتمام الّذي لا يعلم فيه بان الحالة سوف تتكرر على كل حال ، ولذلك كان الحكم بوجوب القضاء في غير الواجبات التكرارية مبنيا على الاحتياط.

واما في الفرض الثاني ـ أي ما إذا حصل له هذا العلم الإجمالي بعد ان ادى أحد طرفيه ، كما إذا صلى الجمعة ثم حصل له العلم الإجمالي في داخل الوقت أو خارجه ، فهنا لا يجري الوجه الأول والثالث والرابع حتى لو تم شيء منها في الفرض السابق ، إذ العلم الإجمالي منذ ان يتشكل يكون أحد طرفيه خارجا عن محل الابتلاء ، فلا يكون منجزا ليجب على المكلف طرفه الآخر إعادة داخل الوقت أو قضاء خارجه ، كما ان الوجه الثاني والخامس يجريان هنا ان كانا جاريين في الفرض السابق حرفا بحرف.

الرابعة ـ إذا كان الأصل العملي أصالة الاشتغال على أساس الدوران بين الأقل والأكثر ، بناء على أصالة الاشتغال فيه لا من باب منجزية العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر ـ فانه يكون رجوعا إلى الصورة السابقة ـ بل من باب الشك في حصول الغرض وسقوط الوجوب ، وتجري الوجوه المتقدمة لإثبات الإعادة أو القضاء في الصورة السابقة هنا باستثناء الوجه الخامس منها ، إذ لا يمكن ان يقال انه يعلم إجمالا بوجوب الأكثر عليه الآن أو الأقل في الزمان القادم ، لأن الأقل معلوم الوجوب في الزمن القادم على كل حال.

وقد تحصل من مجموع ما تقدم في هذا البحث : انه متى ما كان لدليل الأمر الواقعي إطلاق فمقتضى القاعدة عدم اجزاء الحكم الظاهري ولزوم الإعادة داخل الوقت والقضاء خارجه في غالب الفروض ، وبنحو الاحتياط في بعضها ما لم يرد مخصص لمقتضى القاعدة أي لإطلاق دليل الحكم الواقعي ، كما ورد في الصلاة حديث لا تعاد ، أو لم يكن دليل الحكم الواقعي مطلقا كما في الأدلة اللبية على بعض الاجزاء والشرائط والتي قد لا تشمل حالة تبدل الحكم والوظيفة اجتهادا أو تقليدا. وتحقيق موارد هذا القصور في المقتضي أو ثبوت المخصص المانع في ذمة علم الفقه.

١٧١

وبما تقدم من عدم اجزاء الأمر الظاهري يظهر الوجه في عدم اجزاء أمر تخيلي وهمي ، كما إذا تصور حكما ظاهريا أو واقعيا ثم انكشف له عدمه ، فانه في هذه الحالة لا اجزاء بطريق أولى ، إذ لا يتم هنا شيء من البيانين المتقدمين لاجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي من حكومة هذا الأمر على الحكم الواقعي وتوسعته لدائرة موضوعه ، أو سببيته لمصلحة أخرى ، كما هو أوضح من ان يخفى.

١٧٢

بحوث الأوامر

مقدمة الواجب

تعريف مقدمة الواجب تقسيمات الواجب

١ ـ الواجب المشروط

٢ ـ الواجب المعلق

ـ المقدمات المفوتة للواجب

ـ وجوب التعلم

٣ ـ الواجب الغيري

ـ حكم الشك في الواجب الغيري

ـ قربية الواجب الغيري

ـ إطلاق الوجوب الغيري أو اختصاصه ببعض الحصص

ـ ثمرة القول بالواجب الغيري

ـ دليل الوجوب الغيري

ـ مقدمة المستحب والمكروه والحرام

١٧٣
١٧٤

مقدمة الواجب

والمراد بها مقدمات وجود الواجب أي ما يتوقف إيجاد الواجب على إيجاده ، لا مقدمات الوجوب ، والفرق بينهما ان الوجوب مشروط ومقيد بالمقدمات الوجوبية بخلاف المقدمات الوجودية ، وهذا الفرق ناجم من فرق آخر بينهما بلحاظ عالم الملاك ، فان مقدمات وجود الواجب لا تكون دخيلة في اتصاف الفعل بكونه ذا ملاك ومصلحة ، بخلاف مقدمة الوجوب فانها إذا كانت اختيارية ومقدورة للمكلف لا محالة يكون وجودها دخيلا في الاتصاف ولهذا أخذ قيدا وشرطا للوجوب ومن هنا لا يتوهم ترشح الوجوب عليها.

كما ان المراد بوجوب مقدمة الواجب ليس اللا بدية التكوينية فانها عين المقدمية ، ولا اللا بدية العقلية بمعنى عدم صحة الاعتذار عن ترك ذي المقدمة بتركها ، لوضوح ذلك وعدم نقاش فيها ، ولا الوجوب المولوي المجعول بالجعل المستقل على عنوان المقدمة الإجمالي أو التفصيليّ لوضوح ان هذا موقوف على التفات المولى إلى المقدمة مع انه قد لا يطلع أو لا يلتفت إلى ما يتوقف عليه الواجب أصلا. وانما المقصود الوجوب المولوي المجعول على المقدمة ارتكازا وشأنا بحيث لو التفت إليها لطلبها.

كما ان البحث ليس عن الدلالة الالتزامية اللفظية للأمر بشيء على وجوب

١٧٥

مقدماته ، بل البحث في مطلق الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته سواء كانت هذه الملازمة بينة بحيث تشكل دلالة لفظية التزامية أم لا ، إذ لا مبرر لقصر البحث على ذلك بالخصوص بعد ان كانت النتائج المطلوبة من هذا البحث غير مقصورة على ذلك كما هو واضح.

ثم ان البحث عن المقدمات وقيود الواجب يقع ضمن فصلين رئيسيين.

١٧٦

الفصل الأول

« في تقسيمات المقدمة »

قسمت المقدمة إلى وجوبية ووجودية كما تقدم ، وإلى عقلية وشرعية وعادية ، وإلى مقدمات الوجود ومقدمات الحصة ، وإلى داخلية وخارجية ، وإلى الشرط المقارن والمتقدم والمتأخر. ولا أثر للحديث عن هذه التقسيمات التي ذكروها من حيث ما هو المهم وهو انه متى ما تحققت المقدمية جاء النزاع في وجوبها سواء كانت ذاتية ، وهي المسماة بالعقلية ، أو شرعية عرضية نشأت من تقييد الواجب بفعل ، كالوضوء ، فيصبح الواجب المقيد بما هو مقيد متوقفا عليه. نعم التقسيم الأخير يستحق البحث من ناحية الإشكال الواقع في معقولية الشرط المتأخر بل المتقدم أيضا ، فلا بد من التعرض له فنقول :

١٧٧
١٧٨

« الشرط المتأخر »

أمتن صيغة للإشكال في معقولية الشرط المتأخر ان يقال : ان الشرط المتأخر اما ان يؤثر في مشروطه أو لا الثاني خلف معنى الشرطية والأول يؤدي اما إلى تأثير المعدوم في الموجود إذا أريد ان يكون الشرط مؤثرا في المشروط حين تحقق المشروط في الزمان المتقدم ، أو إلى تغيير وقلب الواقع عما وقع عليه إذا أريد ان يكون مؤثرا فيه حين تحقق الشرط في الزمان المتأخر ، وكلاهما محال عقلا.

ولحل هذا الإشكال ينبغي البحث في مقامات ثلاثة ١ ـ في الشرط المتأخر للوجوب.

٢ ـ في الشرط المتأخر للواجب.

٣ ـ فيما ألحقه صاحب الكفاية بالشرط المتأخر وهو الشرط المتقدم.

اما المقام الأول ـ وهو الشرط المتأخر للوجوب ، كما إذا أوجب المولى الصيام في النهار على المستحاضة مثلا مشروطا بان تغتسل في الليلة القادمة.

وقد ذكر صاحب الكفاية ( قده ) في هذا المجال ان ما هو الشرط للوجوب انما هو الوجود اللحاظي الذهني للشرط المتأخر لا الخارجي ، لأن الحكم والوجوب أمر قائم في نفس المولى لا في الخارج ، فهو بحاجة إلى لحاظ الشرط لا أكثر ولحاظ الشرط المتأخر

١٧٩

مقارن مع الحكم وليس متأخرا عنه ليرد المحذور (١).

واعترضت على هذا الكلام مدرسة المحقق النائيني ( قده ) بان هذا خلط بين الوجوب بمعنى الجعل والوجوب بمعنى المجعول ، فان الجعل كقضية حقيقية شرطية لا يتوقف على وجود الشرط والموضوع خارجا وانما يكفي لحاظه وتقديره من قبل الجاعل ، واما المجعول وهو الحكم الفعلي فلا محالة متوقف على فعلية الشرط وتحققه خارجا فإذا كان متأخرا عنه لزم محذور تأثير المتأخر في المتقدم (٢).

وتحقيق الكلام في هذا المقام ان إشكال استحالة الشرط المتأخر للوجوب له ثلاثة مواقع ، فانه تارة : يثار بلحاظ عالم الجعل ، وأخرى : بلحاظ عالم المجعول ، وثالثة : بلحاظ عالم الملاك.

اما بلحاظ عالم الجعل فتارة : يقرب المحذور فيه بصيغة استحالة تأثير المتأخر في المتقدم. وجوابه : ما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ). وأخرى : يقرب بما يستفاد من كلمات المحقق النائيني ( قده ). كمحذور آخر يرد حتى إذا افترض ان الشرط هو اللحاظ للشرط ، وحاصله لزوم التهافت في عالم اللحاظ لدى الجاعل (٣) ، لأن المولى إذا أراد ان يوجب على العبد مثلا صوم يوم السبت على تقدير ان يغتسل في ليلة الأحد فلا بد له من تقدير ولحاظ صدور الغسل منه في ليلة الأحد ، وهذا التقدير تقدير انتهاء يوم السبت ومضيه والفراغ عنه فكيف يمكنه ان يوجب على هذا التقدير صوم يوم السبت؟.

والجواب : ان تقدير الغسل في ليلة الأحد لا ينحصر في تقديرها ماضية وفي الزمان السابق بل امر التقدير والفرض واللحاظ بيد الملاحظ ، فله ان يقدر ذلك مستقبليا أي يقدر ان العبد سوف يصلي في الليلة القادمة ، لأن تحديد ظرف المقدر من حيث فرضه مستقبلا أو ماضيا يكون بيد المقدر نفسه فلا يلزم أي تهافت في اللحاظ.

واما بلحاظ عالم المجعول ، فقد تقدم تقريب الإشكال فيه عن مدرسة المحقق

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٤٥ ـ ١٤٦.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٣١١ ـ ٣١٢.

(٣) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

١٨٠