بحوث في علم الأصول - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٢

العذر وعدم استمراره ينكشف انه لا امر اضطراري واقعا ليبحث عن اجزائه وعدمه ، نعم قد يفترض ثبوت الأمر الاضطراري له ظاهرا بحكم دليل أو أصل كان يقتضي بقاء العذر واستمراره إلى آخر الوقت فيدخل في بحث اجزاء الأمر الظاهري حينئذ والّذي سوف نثبت فيه عدم الاجزاء.

وأخرى يفترض ان دليل الأمر الاضطراري لم يشترط فيه استمرار العذر إلى آخر الوقت. وحينئذ تارة : يفرض ان دليل الحكم الاختياري يشمل ولو بإطلاقه من صدر منه الفعل الاضطراري ثم زال عذره ، وأخرى : يفرض عدم إطلاقه له ، فان فرض الأول كان من الواضح ان مقتضى هذا الإطلاق عدم الاجزاء ، فالكلام لا بد وان يكون في ان دليل الأمر الاضطراري هل يكون مقيدا لهذا الإطلاق لدليل الأمر الاختياري أم لا؟ وفي المقام منهجان لإثبات هذا التقييد. المنهج العقلي وهو الّذي انتهجته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) والمنهج الاستظهاري.

اما المنهج العقلي فحاصله : دعوى الدلالة الالتزامية العقلية لدليل الأمر الاضطراري على الاجزاء بتقريب انه قد مضى انحصار المحتملات الثبوتية للواجب الاضطراري في أربعة فروض كلها كانت مقتضية للاجزاء وعدم الإعادة الا الفرض الرابع ، فلو أقيم البرهان العقلي على إبطال الفرض الرابع تعين الاجزاء فنقول : ان دليل الأمر الاضطراري لا ينسجم مع الفرض الرابع وهو ما إذا كان يبقى مقدار مهم من الملاك الواقعي قابل للتدارك ، إذ على هذا الفرض لا يمكن تعقل الأمر الاضطراري بمجرد العذر في وقت العمل لأن الأمر الاضطراري يتصور بأحد إشكال ثلاثة كلها غير صحيحة وغير معقولة في المقام.

الأول ـ أن يجب عليه الفعل الاضطراري تعيينا وهذا واضع البطلان إذ لا شك في انه يجوز له ان يصبر إلى ان يزول العذر في الوقت ويأتي بالفرد الاختياري.

الثاني ـ ان يكون مخيرا بين الفعل الاضطراري حين العذر والفعل الاختياري بعد زوال العذر بنحو التخيير بين المتباينين ، وهذا غير معقول أيضا لأنه خلاف المفترض في الفرض الرابع من بقاء مقدار من الملاك ملزم قابل للتدارك وانما هو منسجم مع الفرضين الأول والثاني.

١٤١

الثالث ـ ان يكون مخيرا بين الأقل والأكثر أي الإتيان بالعمل الاختياري بعد زوال العذر فقط أو الإتيان بالفعل الاضطراري عند العذر مع الفعل الاختياري بعد زواله حفاظا على المصلحة المتبقية ، وهذا أيضا غير معقول لأن التخيير بين الأقل والأكثر غير معقول. فيكون الفعل الاضطراري في المقام بلا أمر فإذا ثبت الأمر الاضطراري في مورد كان ذلك منافيا مع الفرض الرابع لأن الأمر الاضطراري بنحو الصورة الرابعة غير معقول وبنفي الصورة الرابعة يثبت الاجزاء لأن الفروض والصور الأخرى المحتملة ثبوتا للواجب الاضطراري كلها تقتضي الاجزاء (١).

ولنا حول المنهج تعليقات :

الأول ـ ان هنا شقا رابعا ثبوتا لتصوير الأمر بالفعل الاضطراري وهو افتراض وجود امرين أحدهما تعلق بالجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري وهو الّذي نسميه بالأمر الاضطراري بحسب الحقيقة ، والآخر تعلق بخصوص الحصة الاختيارية.

فأن لم يتمثل المكلف الأمر الأول إلى ان زال عذره في الوقت فجاء بالاختياري كان امتثالا لكلا الأمرين ، وان جاء في أثناء العذر بالاضطراري ـ أي الجامع ـ بقي عليه الإتيان بالاختياري ـ الحصة ـ بعد زوال العذر.

لا يقال ـ الأمر بالجامع لغو صرف لأنه يكفي الأمر الاختياري وحده بتحقيق الجامع والحصة دون العكس.

فانه يقال ـ أولا ـ لا بد من امرين على كل حال لأن هناك من يكون عذره مستوعبا لتمام الوقت ، وحينئذ فكما يمكن جعل أمرين أحدهما يتعلق بخصوص الاضطراري فيمن يستوعب عذره تمام الوقت والآخر بالاختياري بالخصوص لمن لا عذر له أو لم يكن عذره مستوعبا ، كذلك يمكن جعل هذين الأمرين بالنحو الّذي ذكرناه ويكون وافيا بنفس الغرض ، لأن من يستوعب عذره سوف يكون الأمر بالجامع ـ الاضطراري ـ هو الفعلي في حقه دون الأمر بالحصة. فإذا كان لا بد من جعل أمرين فلا لغوية في البين وليكن إطلاق دليل الأمر الاضطراري لمن يرتفع عذره في

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

١٤٢

آخر الوقت معينا لوقوع الأمرين على النحو الّذي ذكرناه.

وثانيا ـ انه من الجائز ثبوتا ان يكون للمولى غرضان أي مرتبتان من الغرض أحدهما في الجامع والاخر في الحصة بحيث لو أتى بالجامع وترك الحصة كان عقابه أخف مما إذا ترك العمل رأسا (١).

الثاني ـ ان غاية ما يلزم مما ذكر في هذا المنهج لو تم وقوع التعارض بين إطلاق دليل الأمر الاضطراري لمن يزول عذره في آخر الوقت وإطلاق دليل الأمر الاختياري لمن صدر منه الفعل الاضطراري في أول الوقت لأن كلا من الإطلاقين بعد تسليم البرهان المذكور يدفع الاخر وبعد التعارض لا بد من ملاحظات المرجحات فان لم يكن في البين مرجح رجعنا إلى الأصل العملي الّذي سوف يأتي الحديث عنه.

الثالث ـ ان السيد الأستاذ ذكر في بحث المطلق والمقيد انه إذا ورد مثلا ( عتق رقبة ) وورد ( أعتق رقبة مؤمنة ) فالجمع بينهما يمكن ثبوتا بنحوين ، أحدهما : حمل المطلق على المقيد بان يراد عتق الرقبة المؤمنة. والثاني : الحمل على التخيير بان يكون المكلف مخيرا بين ان يعتق رقبة مؤمنة بشرط لا عن الكافرة أو يعتق رقبة كافرة ثم رقبة مؤمنة أي بشرط شيء لأنه بذلك يصبحان من المتباينين ، فيمكن التخيير بينهما. الا انه قال ان هذا خلاف ظاهر الدليل (٢).

فنقول إذا كان التخيير بين الأقل والأكثر بعد تقييد الأقل بشرط لا وبشرط شيء معقولا فلما ذا لا يعقل فيما نحن فيه التخيير بين العمل الاختياري بشرط لا عن العمل الاضطراري قبله وبين العمل الاختياري بشرط سبق الاضطراري وأي فرق بين هذا وبين عتق الرقبة المؤمنة أو عتق الرقبة الكافرة وعتق الرقبة المؤمنة.

__________________

(١) الكلام في الواجب الواحد ذي الغرض الارتباطي الواحد وما ذكر انما يعني وجود غرضين مستقلين يتحقق أحدهما بالجامع ولو لم يأت بالحصة ويتحقق الاخر بالحصة وهذا خروج عن الفرض ، الا إذا فرض ان تحقيق الجامع لجزء من ذلك الغرض الواحد أيضا يكون مشروطا بتحقيق الحصة بعد ذلك بحيث لو حقق الجامع ولكن لم يحقق الحصة بعد ذلك كان ما أتى به باطلا فيكون من التخيير بين الأقل والأكثر لا محاله. والحاصل في ما هو مفروض البحث من وجود فريضة واحدة لا تتحقق الا بالاختياري ـ بمقتضى إطلاق دليله ـ لا يعقل الأمر الاضطراري بعنوان انه الفريضة لا بعنوان انه واجب مستقل عن الفريضة الواحدة الواجبة في كل وقت الأعلى نحو التخيير بين الأقل والأكثر.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٥ ، ص ٣٨٠.

١٤٣

ونحن لم نقبل إمكان مثل هذا التخيير في المقامين حتى إذا أرجعنا الشقين إلى متباينين عن طريق أخذ بشرط لا وبشرط شيء. لأن هذا انما يعقل فيما إذا كان هناك شق ثالث على تقدير وجود ذات الأقل ، أي أمكن تحقيق ذات الأقل من دون القيدين معا ، كما في التخيير بين التسبيحة الواحدة بشرط لا عن أي تسبيحة أخرى وبين ثلاث تسبيحات فانه يمكن انتفائهما معا مع وجود ذات الأقل وذلك بإتيان تسبيحتين ، واما لو خير بين التسبيحة الواحدة بشرط لا عن الثالثة وبين التسبيحة بشرط الثلاث فلا يمكن التخيير أيضا ، وذلك لأن الأمر الضمني بالقيدين اللذين أحدهما ضروري الوجود والتحقيق على تقدير تحقق ذات الأقل ، لغو صرف ، فلما ذا يؤمر به؟ وما نحن فيه وكذلك باب المطلق والمقيد من هذا القبيل (١).

واما المنهج الاستظهاري فيمكن ان يبين بعدة تقريبات.

التقريب الأول ـ ان دليل الأمر الاضطراري ظاهر في التصدي لبيان تمام ما هو وظيفة المكلف فلو لم يكن الفعل الاضطراري وحده كافيا في هذا المقام وكان لا بد عليه ان يعيد العمل إذا ارتفع عذره بعد ذلك لكان ينبغي ان يبينه ، وهذا يشكل بحسب الحقيقة إطلاقا مقاميا في دليل الأمر الاضطراري يقتضي الاجزاء.

الا ان هذا الإطلاق انما ينعقد فيما إذا كانت هناك قرينة خاصة في دليل الأمر الاضطراري على كون المولى بصدد بيان كل ما هو وظيفة المكلف والا فمقتضى الطبع الأول لدليل الأمر الاضطراري انه في مقام بيان الوظيفة حين الاضطرار لا كل الوظائف الفعلية عليه.

على أن هذا الإطلاق المقامي معارض مع إطلاق دليل الحكم الاختياري ،

__________________

(١) كما يعقل في التخيير العقلي أن يكون الجامع منتزعا عن الأقل بحده والأكثر بحده كما في مثل الكلمة والكلام الّذي هو اسم للجامع بين الحرف الواحد والحرفين أو الكلمتين والأكثر بنحو يكون في مورد تحقق الأكثر ذلك الجامع منطبقا على الأكثر بحده ولا ينطبق على الأقل الموجود في ضمنه ، كذلك يمكن في التخيير الشرعي افتراض ان الغرض والملاك المولوي متقوم بالأقل بحده والأكثر بحده فيخير المولى بينهما ولا يقال ، ان الأمر الضمني بالحدين اللذين لا ثالث لهما لغو ، لأن هذا هو الّذي فيه الملاك لا ذات الأقل ، ولا يشترط في الأوامر الضمنية تحركا مستقلا عن التحرك نحو المتعلق الاستقلالي كما انه لا يتعدد بها الأمر ليكون جعلا زائدا فيكون لغوا. على أنه يكفي في دفع مثل هذه اللغوية انه من بركات هذا الأمر الضمني إمكان الامتثال بالفعلين معا ( الأكثر ) وبهذا يثبت بطلان البرهان الثبوتي الّذي ذكرته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) في المقام أيضا.

١٤٤

والإطلاقات المقامية وان كانت في الغالب أقوى من الإطلاقات الحكمية بحيث تصلح للقرينية عليها الا ان هذا انما يكون فيما إذا كان الإطلاق المقامي في طول التصريح في دليل الأمر الاضطراري كما إذا كان واردا فيمن اضطر في أول الوقت وارتفع عذره بعد ذلك واما إذا كان الإطلاق المقامي بنفسه في طول حكمي لدليل فسوف تكون المعارضة بحسب الحقيقة بين الإطلاقين الحكمين لأن النتيجة تتبع أخس المقدمتين.

التقريب الثاني ـ ان دليل الأمر الاضطراري إذا استفيد من لسانه اللفظي ـ كما في مثل ( التراب أحد الطهورين ) أو من مجموعة القرائن المقامية واللفظية المتنوعة ـ البدلية وتنزيل الوظيفة الاضطرارية منزلة الوظيفة الاختيارية كان مقتضى إطلاق البدلية حينئذ البدلية على الإطلاق ، أي في كل الجهات والمراتب وهو يقتضي الأجزاء لا محالة ، ولا يقدح في ذلك أن يكون شمول دليل الأمر الاضطراري بالإطلاق ، لأن معنى هذا التقريب ان دليل الأمر الاضطراري ناظر إلى الوظيفة الواقعية الاختيارية وإطلاق الدليل الناظر حاكم ومقدم على إطلاق الدليل المحكوم.

وهذا التقريب تام لكنه موقوف على الاستظهار الّذي ذكر.

وقد ذكر المحقق العراقي ( قده ) بيانا لدلالة إطلاق الأمر الاضطراري على الاجزاء لا يبعد رجوعه إلى ما ذكرناه ولكنه أعقبه بإشكالين :

الإشكال الأول ـ ان إطلاق البدلية لتمام مراتب الوظيفة الاختيارية معارض لظهور دليل الحكم الاختياري في دخل ذلك القيد أو الجزء المضطر إلى تركه في المصلحة ولو ببعض مراتبها.

وهذا الإشكال هو إشكال أصل المعارضة وقد عرفت حكومة دليل الأمر الاضطراري بملاك النّظر على دليل الأمر الاختياري.

الإشكال الثاني ـ تقديم ظهور دليل الأمر الاختياري على إطلاق البدلية في دليل الأمر الاضطراري بالأظهرية أو الحكومة ، اما نكتة الأظهرية فقد قربها بدعوى : ان هذا الظهور أعني ظهور دليل الأمر الاختياري في دخل القيد في المصلحة الواقعية وضعي ،

١٤٥

لأنه ناشئ من أخذه قيدا تحت الأمر والظهور الوضعي مقدم على الظهور الإطلاقي (١).

وفيه : ان المعارض مع إطلاق البدلية ليس أصل الظهور في دخل القيد بل إطلاقه لحال ما إذا جاء المكلف المضطر في أول الوقت بالوظيفة الاضطرارية ثم ارتفع عذره في الأثناء.

واما نكتة الحكومة فقد ذكر في بيانها : ان دليل الوظيفة الاختيارية بظهوره في دخل القيود والاجزاء في المصلحة الواقعية يقتضي لزوم حفظ القدرة عليها والمنع عن تفويتها بإيقاع النّفس في الاضطرار الّذي هو موضوع الوظيفة الاضطرارية ، وهذا يعني ان دليل الحكم الاختياري حاكم على دليل الحكم الاضطراري لأنه ناظر إلى موضوعه.

وهذا البيان غريب جدا ولو كنا رأيناه في كلام شخص آخر ينسبه إلى هذا المحقق لكنا نطمئن بخطائه ولكنه قد جرى على قلمه الشريف في مقالاته ، وكيف ما كان فمن الواضح ان الحكومة بملاك رفع الموضوع انما تعني رفع الموضوع شرعا بلحاظ عالم الجعل والاعتبار استطراقا إلى نفي حكمه ، كما إذا نفي الرّبا بين الوالد والولد فيحكم على دليل حرمة الرّبا لا محالة ، ولا تعني ان مجرد النهي والمنع عن الموضوع خارجا ـ كما إذا نهى ومنع عن الرّبا بين الوالد والولد ـ يكون حاكما على دليل حكم رتب على ذلك الموضوع ، إذ لو عصى وأوجد ذلك الموضوع فهذا الدليل لا يدل على انتفاء تحققه في الخارج لكي ينتفي حكمه المرتب عليه ، وما نحن فيه لو سلمت هذه الدلالات فغايته النهي عن إيقاع النّفس في الاضطرار واما لو أوقع نفسه فيه أو وقع فيه قهرا فدليل الحكم الواقعي لا ينفي تحقق الاضطرار ليكون حاكما على دليل الوظيفة الاضطرارية ، وكأنه وقع خلط بين النّظر في دليل إلى موضوع دليل آخر لنفيه أو إثباته تعبدا استطراقا إلى نفي حكمه أو إثباته ، وبين نظر دليل إلى موضوع دليل آخر للنهي عنه وتحريمه في نفسه فالأوّل هو ملاك الحكومة وليس مجرد نظر دليل إلى موضوع دليل آخر هو الحكومة أو الورود.

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ٩٠.

١٤٦

التقريب الثالث ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) في مقالاته وهو يتألف من مجموع مقدمتين.

الأولى ـ ان ظاهر دليل الأمر الاضطراري كالاختياري تعلقه بخصوص الفعل الاضطراري وتعيينه وهذا ظهور ناشئ من تعلق الأمر بعنوان وأخذه فيه.

الثانية ـ ان هناك محتملات ثلاثة في حق الفعل الاضطراري في المقام : عدم الاجزاء ، والاجزاء بملاك الوفاء بتمام الغرض ، والاجزاء بملاك التفويت. وعلى الاحتمالين الأول والثاني لا بد وان يكون الأمر الاضطراري متعلقا بالجامع بينه وبين الاختياري لا بخصوص الوظيفة الاضطرارية ، بل على الاحتمال الثاني لا بد وان يكون الأمر الاختياري أيضا بالجامع لأن الملاك ـ الناقص على احتمال الأول والتام على الاحتمال الثاني ـ انما يكون في الجامع ولا مبرر ولا فائدة أصلا لتعلق الأمر بالحصة الخاصة حتى مع الترخيص في فعله لأن هذا الترخيص أيضا ثابت بحكم العقل في موارد تعلق الأمر بالجامع كما هو مقرر في محله.

واما على الاحتمال الثالث فلا بد من تعلق الأمر الاضطراري بالوظيفة الاضطرارية بالخصوص ، لأنه بناء على هذا الاحتمال وان كان الغرض الناقص في الجامع أيضا ولكن حيث ان تحقيقه ضمن الوظيفة الاضطرارية يوجب فوات الغرض الكامل فالعقل لو لا الأمر أو الترخيص الشرعي في الإتيان به بخصوصه لا يرخص في الإتيان به ، وان كان المكلف لو أتى به كان صحيحا بمناط المضادة ـ كما بينا فيما سبق ـ فعلى هذا الاحتمال نحتاج إلى امر من الشارع متعلق ـ ولو ببعض مباديه ـ بالخصوصية ، وهذا يعني ان مقتضى الحفاظ على ظهور الأمر الاضطراري في التعلق بالخصوصية الاجزاء بملاك التفويت لا الوفاء بتمام الغرض ولا عدم الاجزاء ، وهذا الظهور أقوى من إطلاق الأمر الاضطراري في البدلية والتنزيل أو إطلاق الأمر الاختياري المقتضي لعدم الاجزاء (١).

وفيه : ـ

أولا ـ انه لا معنى للأمر التعييني بالحصة الاضطرارية حتى على الاحتمال الثالث

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ٨٧.

١٤٧

أيضا ، لأن الأمر بالوظيفة الاختيارية اما ان يفرض كونه امرا بخصوص الاختياري الّذي لم يسبقه الاضطراري ، أو يفرض كونه مطلقا ؛ فعلى الأول لا يجوز الإتيان بالوظيفة الاضطرارية مسبقا ، لأن الإلزام بالمقيد إلزام بالقيد ، وهذا لا يمكن ان يجتمع مع الأمر بالحصة الاضطرارية. وان فرض الثاني فلا قبح عقلا في تفويت باقي غرض المولى بالإتيان بالحصة الاضطرارية لنكون بحاجة إلى ترخيص مولوي بالحصة الاضطرارية ، لأن هذا القيد ـ وهو عدم سبق الاضطراري ـ وان كان فيه الملاك ـ حيث يترتب عليه عدم فوات الغرض الكامل ـ الا انه حيث ان المولى لم يتصد لتحصيله بأخذه تحت أمره فلا يدخل في عهدة المكلف ، لأن الّذي يدخل في عهدة المكلفين انما هو الغرض المولوي المأمور به لا الغرض الواقعي ولو لم يتصد المولى لتحصيله بالأمر ـ على ما حقق ذلك في بحث الأقل والأكثر الارتباطيين ـ فعلى هذا التقدير أيضا لا بد من الأمر بالجامع لا خصوص ، الحصة الاضطرارية.

والحاصل : ان الّذي يدخل في العهدة ولا يرخص العقل في تفويته هو أوامر المولى بعد فعليتها لا الأغراض الواقعية ، والأمر الاختياري في المقام إن كان متعلقا بالصلاة الاختيارية المقيدة بعدم سبق الاضطرارية كان هذا بنفسه منعا عن سبق الاضطرارية ، فلا يعقل الترخيص فيها. وان كان متعلقا بذات الصلاة الاختيارية فلا يكون فعل الاضطراري قبلها تفويتا لما دخل في عهدة المكلف وان فرض انه مفوت لملاكه الواقعي ، فلا حكم عقلي بعدم الترخيص ليحتاج إلى ترخيص مولوي. فعلى هذا الاحتمال أيضا يكفي للشارع إذا أراد ان يأمر بالملاك الناقص ان يأمر بالجامع بين الاضطراري والاختياري ، لأن الملاك فيه ولا مبرر ولا فائدة لتعلقه بخصوص الاضطراري. وكان هذا البيان انما صدر من المحقق العراقي ( قده ) بتخيل ان مجرد الملاكات تكون منجزة وداخلة في عهدة المكلفين وان المولى طالما يرى ان ملاك الاضطراري الناقص يفوت الملاك التام في الاختياري لا بد له أن يأمر بالاضطراري لكي يجوز للمكلفين فعله.

وثانيا ـ ان الأمر التعييني بالاضطراري اما ان يفرض امرا حقيقيا وبداعي البعث والتحريك نحو متعلقه ، فهذا لا يعقل نشوؤه الا من ملاك تعييني في المتعلق وهو الحصة

١٤٨

لا الجامع ، ولازمه العصيان لو ترك الفعل الاضطراري وجاء بالاختياري ، كما انه لو لم يجئ بهما فهناك عقابان عليه. وكلاهما مما لا يلتزم به المحقق العراقي ( قده ) وان فرض انه مجرد امر صوري من أجل الترخيص في الفعل فهذا أيضا مخالفة لظاهر الدليل ليس بأقل من حمل الأمر على التخيير.

التقريب الرابع ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) بما لفظه : ( فلا تكاد تكون بقية المصلحة ملاكا للبعث إلى المبدل بتمامه إذ المفروض حصول طبيعة المصلحة القائمة بالجامع الموجود بوجود البدل فتسقط عن الاقتضاء والشدة بما هي لا يعقل ان تكون ملاكا للأمر بالمبدل بكماله ، حيث ان المفروض ان تمام الملاك للأمر بتمام المبدل هي المصلحة الكاملة القوية وطبيعتها وجدت في الخارج وسقطت عن الاقتضاء ، فلو كان مع هذا حد الطبيعة القوية مقتضيا للأمر بتمام المبدل لزم الخلف ، نعم اقتضائه لتحصيل الخصوصية القائمة بالمبدل معقول نظرا إلى ان اشتراك المبدل والبدل في جامع الملاك يكشف عن جامع بينهما ، لكنه لا يجدى الا مع الالتزام بالأمر بالجامع أيضا في ضمن المبدل تحصيلا للخصوصية التي لها ملاك ملزم فيكون الأمر بالمبدل مقدميا وهو مما لا ينبغي الالتزام به. ومنه تعرف ان الالتزام بمصلحتين في المبدل أيضا لا يجدى إذا كانت إحداهما قائمة بالجامع والأخرى بالخصوصية بل لا بد من الالتزام بقيام مصلحتين إحداهما بالجامع فقط وأخرى بالجامع المتخصص بالخصوصية ) (١).

وحاصله : ان إطلاق دليل الأمر بالصلاة الاختيارية انما يدل بظاهره على الأمر بذي الخصوصية وهي الصلاة القيامية لا الأمر بالخصوصية وهي القيام في الصلاة ، وهذا يعني ان ما هو ظاهر الدليل غير محتمل وما هو يحتمل في صالح عدم الاجزاء ـ وهو فرض الأمر بالخصوصية ـ لا يستفاد من دليل الأمر ، ومنه يعرف ان هذا التقريب انما يبرهن على عدم دلالة دليل الأمر الاختياري على عدم الاجزاء ولا يبرهن على الاجزاء فإذا تم وجب الرجوع في مقام الإثبات إلى إطلاق أو أصل أولي وهو يثبت الاجزاء.

والتحقيق ان هذا التقريب غير تام وذلك.

__________________

(١) ص ١٥٠ ، ج ١ نهاية الدراية.

١٤٩

أولا ـ لما تفطن إليه المحقق نفسه من احتمال ان يكون للواجب ملاكان مستقلان أحدهما في الجامع والآخر في الجامع المتخصص فيكون منسجما مع الأمر بذي الخصوصية.

وثانيا ـ إمكان افتراض دخل الجامع في أصل الملاك الواحد بنحو العلية وفي مرتبتها أيضا بنحو الاقتضاء مشروطا باقتران الخصوصية معها ، وما أكثر المقتضيات التي تحتاج في مقام التأثير إلى شروط وهذا ينسجم مع الأمر بذي الخصوصية.

وثالثا ـ ان ما ذكر على تقدير التنزل عما ذكرنا انما هو بحسب المداقة العقلية والا فبحسب الصياغة العرفية للأمر يمكن ان يكون الأمر بذي الخصوصية من جهة قيام مرتبة من الملاك في خصوصيته.

هذا تمام الكلام فيما إذا كان لدليل الأمر الاختياري إطلاق يقتضي عدم الاجزاء. وقد تلخص وجوه خمسة للاجزاء لم يقم منها عدا الوجه الثالث الّذي كان متوقفا على خصوصية إثباتية في دليل الأمر الاضطراري.

واما إذا فرض عدم إطلاق دليل الأمر الاختياري في نفسه ، فتارة : يفرض ان له إطلاقا يقتضي الاجزاء ، بان كان منحلا إلى دليل يدل على أصل الواجب ـ كالصلاة ـ بالإطلاق ودليل آخر يقيد ذلك الإطلاق بقيد زائد في الواجب كالقيام مثلا ، الا ان هذا الدليل الثاني منفصل عن الأول ولم يكن له إطلاق لحال الاضطرار ـ كما هو الحال في الأدلة اللبية ـ فانه في مثل هذه الحالة يتمسك بإطلاق دليل الواجب لإثبات عدم تقيده بالقيد المتعذر في حق هذا المكلف.

وأخرى يفرض ان دليل الأمر الاختياري أيضا كان مجملا لا يقتضي الاجزاء ولا عدمه فتصل النوبة إلى مقتضى الأصل العملي.

مقتضى الأصل العملي

وقد ذكر صاحب الكفاية ( قده ) ان مقتضى الأصل العملي هو الاجزاء لأصالة البراءة عن وجوب الإعادة (١).

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٣٠.

١٥٠

وقد اعترض عليه باعتراضين :

الاعتراض الأول ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) ـ من ان احتمال الاجزاء اما ينشأ من احتمال وفاء الفعل الاضطراري بتمام الملاك أو ينشأ من احتمال عدم إمكان التدارك لما يتبقى من الملاك وعلى كلا التقديرين لا تجري البراءة بل يجب الاحتياط اما على الفرض الأول فلأنه يكون من الدوران بين التعيين والتخيير ، إذ لو كان الفعل الاضطراري وافيا بالملاك فالحكم هو التخيير والا فالحكم هو تعيين الفعل الاختياري ، والأصل في موارد الدوران بين التعيين والتخيير هو الاحتياط كما اختاره المحقق الخراسانيّ نفسه.

واما على الفرض الثاني فيرجع الشك في التكليف إلى الشك في القدرة على تحصيل الملاك التام وعدمه وهو مجرى الاحتياط أيضا (١) ولنا على كل من الفرضيتين كلام : اما على الفرضية الأولى والتي يكون الشك في الاجزاء وعدمه فيها لاحتمال الوفاء بالملاك فلا بد من الرجوع إلى المسلك الّذي اخترناه لتصوير الأمرين الاضطراري والاختياري بناء على عدم الاجزاء ، فان اخترنا هناك تعدد الأمر بنحو يكون أحدهما امرا بالجامع والآخر بالحصة الاختيارية فالشك في الاجزاء وعدمه سوف يرجع إلى القطع بوجود امر بالجامع بين الاضطراري والاختياري على كل حال والشك في وجود امر ثان بالاختياري ، وهو من الشك في تكليف زائد ولا ربط له ببحث الدوران بين التعيين والتخيير.

وان اختير معقولية الأمر بكل من الاضطراري والاختياري على نحو التخيير بين الأقل والأكثر كان الأمر في المقام دائرا بين شقين ؛ الاجزاء وهو يعنى الأمر التخييري بهما بنحو التخيير بين المتباينين ، وعدم الاجزاء الّذي يعني الأمر التخييري بهما بنحو التخيير بين الأقل والأكثر ، وهذا معناه اننا نقطع بوجود امر تخييري في المقام كما نقطع ان الفعل الاختياري في آخر الوقت طرف لهذا الأمر التخييري وانما نشك في طرفه

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ٩٤.

١٥١

وعدله الآخر هل هو الفعل الاضطراري وحده على تقدير الاجزاء أو هو مع الاختياري على تقدير عدم الاجزاء؟ وهذا من الدوران بين الأقل والأكثر في عدل الواجب التخييري ، وهو كالدوران بين الأقل والأكثر في أصل الواجب من حيث جريان البراءة.

وان اختير مبنى مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من استحالة التخيير بين الفعل الاضطراري والاختياري على نحو التخيير بين الأقل والأكثر فالشك في الاجزاء وعدمه سوف يرجع إلى الشك في التعيين والتخيير ، لأنه على تقدير الوفاء والاجزاء فالامر تخييري ، وعلى تقدير عدم الاجزاء فالامر متعلق بالاختياري تعيينا (١).

واما على الفرضية الثانية فتارة : يفترض مع احتمال بقاء مقدار من الملاك غير قابل للتدارك وجود مصلحة أخرى في الترخيص في التفويت يتدارك بها المصلحة الفائتة ، بحيث يعقل ان يجعل الأمر على الجامع بين الفعلين ، فيكون حال هذا الفرض حال الفرضية الأولى ، لأن الاضطراري سوف يستوفي ما به يتدارك مفسدة التفويت فيأتي هنا كل ما ذكر هناك.

وأخرى يفترض اختيار مبنى المحقق العراقي ( قده ) من إمكان الأمر التعييني بالاضطراري لرفع حكم العقل بقبح التفويت ، وهذا معناه أن المولى لا يريد التحفظ حقيقة على الملاك التام الموجود في الاختياري إذا جاء المكلف بالاضطراري ، إذ لا يعقل ان يأمر بالاضطراري تعيينا إذا كان يريد ذلك ، فيكون عدم الإتيان بالاضطراري قيدا في وجوب الاختياري لا محالة. وهذا يعني رجوع الشك إلى القطع بوجوب الاختياري على تقدير عدم الإتيان بالاضطراري والشك في وجوبه على تقدير الإتيان به ، وهذا من الشك في أصل التكليف ، ولا مجال هنا لحديث الشك في القدرة الّذي هو مجرى الاحتياط عقلا ، لأن مورده ما إذا شك في القدرة على ما تنجز ودخل في عهدة المكلف ، وفي المقام الغرض الّذي يحتمل ان المولى لم يتصد إلى تحصيله أصله وان

__________________

(١) تارة يقرض إحراز ثبوت الأمر بالفعل الاضطراري وأخرى يفرض الشك في ذلك فعلى الأول لا مجال على المبني الأخير للشك بل يتعين القول بالاجزاء للتلازم الثبوتي بينهما وعلى الثاني لا يتم ما ذكر على المبنيين الأولين إذ لا يحرز الأمر التخييري أو الأمر بالجامع بل يكون على المباني الثلاثة من الدوران بين التعيين والتخيير كما أفاد المحقق العراقي ( قده ).

١٥٢

كان معلوما الا انه لا يدخل في العهدة وانما المقدار الّذي يدخل في العهدة ويتنجز على المكلف هو ما أحرز تصدي المولى لتحصيله ، وهو الاختياري على تقدير ترك الاضطراري. وان شئت قلت : ان هذا الملاك تفويته القطعي جائز فكيف بالتفويت الاحتمالي.

لا يقال : يتشكل على هذا المبنى للمكلف علم إجمالي بوجوب الصلاة الاضطرارية عليه الآن ، أو إطلاق وجوب الصلاة الاختيارية لحالة ما إذا جاء بالصلاة الاضطرارية أيضا فيجب الاحتياط.

فانه يقال : ـ هذا العلم الإجمالي ليس بمنجز حتى إذا فرضنا ان الإلزام بالصلاة الاضطرارية على تقدير إمكان تدارك الملاك الباقي إلزام حقيقي لا شكلي لأجل رفع قبح التفويت ، وذلك لأن الطرف الثاني لهذا العلم الإجمالي تقديري لا فعلي ، لأنه معلق على الإتيان بالصلاة الاضطرارية ، فقبل الإتيان بها لا علم إجمالي فعلي ، وبعد الإتيان يكون الطرف الأول خارجا عن الابتلاء ومنتهيا.

وثالثة : يفترض ان المولى لا يرضى بتفويت الملاك المتبقي على تقدير الاجزاء وهذا يعني انه يعلم بفعلية الاختياري عليه على كل حال ولكن يشك في ان الواجب هو مطلق الاختياري ـ على تقدير عدم التفويت ـ أو الاختياري المقيد بعدم سبق الاضطراري ـ على تقدير التفويت ـ وهذا من الدوران بين الأقل والأكثر.

الاعتراض الثاني : ان هناك أصلا عمليا حاكما على أصالة البراءة ، وهو الاستصحاب التعليقي لوجوب الفعل الاختياري لو كان زوال العذر قبل الإتيان بالفعل الاضطراري ، وقد اختار جملة من المحققين ومنهم صاحب الكفاية ( قده ) جريان الاستصحاب في القضايا التعليقية.

والجواب : ـ ان وجوب الفعل الاختياري تعيينا لا يقين سابق به بالخصوص ، إذ على فرض الاجزاء خصوصا بملاك الاستيفاء يكون الواجب من أول الأمر هو الجامع بين الفعلين مقيدا كل منهما بحاله ، فان أريد من الاستصحاب التعليقي استصحاب وجوب الفعل الاختياري تعليقا فلا علم بوجوب تعليقي من هذا القبيل ، وان أريد

١٥٣

استصحاب الانحصار في تطبيق الجامع على الفعل الاختياري على تقدير ارتفاع العذر ، فليس هذا الانحصار حكما شرعيا ليجري الاستصحاب بلحاظه ، بل هو لازم عقلي من باب تعذر أحد فردي الجامع.

المسألة الثانية : ـ ما إذا ارتفع العذر بعد انقضاء الوقت فهل يجب القضاء في خارج الوقت أم لا؟

والبحث حول هذه المسألة يقع في ثلاث نقاط.

١ ـ إطلاق دليل القضاء ، لمن جاء بالفعل الاضطراري داخل الوقت.

٢ ـ إمكان تقييد إطلاق القضاء بدليل الأمر الاضطراري لو كان لدليل القضاء إطلاق.

٣ ـ مقتضى الأصل العملي.

اما البحث في النقطة الأولى فهو بحث إثباتي محله علم الفقه ، الا اننا هنا نقول بشكل كلي ان الحال يختلف باختلاف استظهار وتشخيص ما هو الموضوع في دليل وجوب القضاء فلو كان الموضوع فوت الفريضة الفعلية فلا فوت في حق من جاء بالفعل الاضطراري داخل الوقت ، لأنه قد جاء بوظيفته الفعلية ولو كان الموضوع فوت الفريضة الشأنية الأولية أي لو لا الطوارئ والاعذار ، فلا إشكال في وجوب القضاء عليه.

ولو كان الموضوع خسارة الملاك وفوته ، فيكون المقام شبهة مصداقية لدليل وجوب القضاء ، لاحتمال الاستيفاء وعدم الفوت ، ولا يجوز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية. نعم قد يحرز الموضوع بالاستصحاب إذا كان المقصود من الفوت عدم حصول الملاك كمفهوم عدمي لا وجودي بمعنى الخسارة المنتزع من عدم الإتيان وعدم إمكان التدارك. واما تشخيص إحدى هذه الصيغ في مقام الاستظهار من دليل القضاء فهو في ذمة علم الفقه.

واما البحث في النقطة الثانية ـ فلو كان لسان دليل الحكم الاضطراري لسان جواز البدار ، وقلنا في صورة ارتفاع العذر في داخل الوقت بالاجزاء وعدم وجوب الإعادة ، فعدم وجوب القضاء أوضح بلا حاجة إلى استئناف بحث وكلام. اما لو فرض انه لم يكن بلسان جواز البدار بل كان مختصا بصورة ما إذا استمر العذر إلى آخر الوقت ،

١٥٤

فلا بد من الرجوع إلى الوجوه الخمسة المتقدمة للاجزاء في صورة ارتفاع العذر داخل الوقت لنرى ما يجري منها في المقام.

اما الوجه الأول وهو دعوى الملازمة العقلية بين الأمر بالاضطراري والاجزاء ، فقد يقرب جريانه هنا : بأن القيد المتعذر اما ان يكون دخيلا في الملاك مطلقا أو في خصوص حال عدم الاضطرار والتعذر فلو كان دخيلا مطلقا فلا معنى للأمر بالاضطراري داخل الوقت ، لفقدانه للملاك بحسب الفرض. ولو لم يكن دخيلا في حال التعذر فقد حصل الملاك ولا معنى للقضاء. هذا ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) (١).

والجواب : ان هناك احتمالا ثالثا وهو ان يكون القيد المتعذر كالقيام مثلا دخيلا في جزء من ملاك الصلاة الأدائية وغير دخيل في الجزء الآخر ، فيكون المولى قد امر بالصلاة الأدائية من جلوس حفاظا على ملاك الصلاة الأدائية بلحاظ ذلك الجزء الّذي لا يكون القيام دخيلا فيه ، وامر بالقضاء تداركا لذلك الجزء الّذي كان القيام دخيلا فيه وقد فات بفوت القيام في الصلاة.

واما الوجه الثاني ـ وهو الإطلاق المقامي لدليل الأمر بالفعل الاضطراري بنكتة انه في مقام بيان تمام الوظيفة ، فهذا ان تم هناك لا يتم هنا ، الا بمئونة زائدة ، هي انه يكون بصدد بيان تمام الوظيفة حتى بلحاظ امر آخر خارج الوقت.

واما الوجه الثالث ـ وهو التمسك بإطلاق البدلية والتنزيل بلحاظ تمام المراتب ، فهذا ان تم جرى في المقام أيضا.

واما الوجه الرابع ـ وهو ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من استفادة الاجزاء من ظهور الأمر في التعيين الّذي لا يناسب عنده الا مع الاجزاء ، فهذا لا يتم هنا ولو فرض تماميته هناك ، لأن الأمر بالاضطراري لا بد وان يكون تعيينا في المقام على كل حال ، لأن العذر مستوعب لتمام الوقت.

واما الوجه الخامس ـ الّذي حصلناه من كلمات المحقق الأصفهاني ( قده ) من ان عدم الاجزاء انما يكون لو كان دليل الأمر الاختياري امرا بالخصوصية وليس لنا امر

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٩٥ ـ ١٩٦.

١٥٥

كذلك ، فهذا لا يتم في المقام إذا كان دليل القضاء مثل لسان ( اقض ما فات كما فات ) فان هذا اللسان لا ينحصر مفاده بالأمر بذي الخصوصية ، فانه إذا استمر العذر إلى آخر الوقت صدق الفوت على الخصوصية فيشملها ( اقض ما فات كما فات ).

واما البحث في النقطة الثالثة ـ فقد ذكر صاحب الكفاية ( قده ) ان مقتضى الأصل العملي هو البراءة عن وجوب القضاء ، وأفاد ان جريان البراءة هنا أولى من جريانها في المسألة السابقة ، أي من جريانها بلحاظ الإعادة (١).

والتحقيق : ان أولوية جريان البراءة عن وجوب القضاء انما يكون بناء على ان يكون القضاء بأمر جديد ، حيث يكون الشك في أصل تكليف جديد ، ولا يتوهم فيه مورد للاحتياط أو الاستصحاب التعليقي لأن عنوان الفوت لا يمكن إثباته حتى بالاستصحاب التعليقي ـ واما إذا كان القضاء بالأمر الأول ، بان كان هناك امران.

أحدهما ـ بالجامع ، والآخر ـ بإيجاد الجامع في الوقت. فمع الشك في الأجزاء يكون المقام من الدوران بين التعيين والتخيير الّذي يرى فيه صاحب الكفاية جريان الاحتياط لا البراءة ، لأنه سوف يعلم بوجوب الصلاة من جلوس مثلا عليه داخل الوقت على كل حال ـ وهذا هو الأمر الثاني المختص بالوقت ـ ويعلم بوجود امر آخر عليه مردد بين ان يكون امرا بالصلاة من قيام على تقدير عدم الاجزاء أو بالجامع بينها والصلاة الجلوسية في الوقت ـ على تقدير الاجزاء ـ وهذا من الدوران بين التعيين والتخيير.

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٣٠.

١٥٦

المقام الثاني ـ في اجزاء الأمر الظاهري عن الواقع.

والكلام تارة ؛ في فرض انكشاف مخالفة الحكم الظاهري للواقع بالجزم واليقين ، وأخرى ، في فرض تبدل الحكم الظاهري.

اما إذا فرض انكشاف الخلاف باليقين : فمقتضى الأصل والقاعدة هو عدم الاجزاء ، لأن الحكم الظاهري لا يرفع الحكم الواقعي ، فمع انكشاف عدم امتثاله مع فعليته بحسب الفرض يجب لا محالة الإعادة والقضاء. ولكن قد يصار إلى الاجزاء بأحد بيانات أهمها اثنان :

البيان الأول : ـ ما ذهب إليه صاحب الكفاية (ره) من التفصيل بين حكم ظاهري ثبت بلسان جعل الحكم المماثل للواقع كأصالة الحل والطهارة ـ في رأيه ـ وحكم ظاهري ثبت بلسان إحراز الواقع وان كان لبا حكما ظاهريا وراء الواقع. ففي الأول مقتضى القاعدة الاجزاء ، بخلاف الثاني ـ فلو صلى مع أصالة الطهارة ثم انكشف الخلاف ، كان مقتضى القاعدة الاجزاء ، وذلك لأن دليل أصالة الطهارة أو الحل يوسع من موضوع دليل اشتراط الطهارة أو الحل في الصلاة وينقح لنا صغرى الشرط بجعل الطهارة أو الحلية على المشكوك (١).

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٣٣ ـ ١٣٤.

١٥٧

وقد أوردت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) على هذا البيان مناقشات عديدة نقضا وحلا نشير فيما يلي إلى جملة منها.

منها ـ ما اتفق عليه المحقق النائيني ( قده ) والسيد الأستاذ : من ان حكومة أدلة الأحكام الظاهرية على الواقع حكومة ظاهرية وليست واقعية لأن الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي ومتأخر عنه رتبة ، فلا يعقل توسعته للحكم الواقعي الا ظاهرا وفي مقام الوظيفة العملية والتي ترتفع بانكشاف الخلاف (١).

وهذا النقاش قابل للدفع : بان أصالة الطهارة في طول النجاسة الواقعية المشكوكة ولكنها ليست في طول شرطية الطهور في الصلاة ، فلا مانع من ان تكون حكومته على دليل شرطية الطهارة واقعية.

ومنها ـ ما ذكره المحقق النائيني والسيد الأستاذ معا : من ان الحكومة في نظر صاحب الكفاية على ما يذكره في بحوث التعارض منحصرة في التفسير اللفظي بمثل ( أي وأعني ) ولسان دليل أصالة الطهارة والحل ليس كذلك (٢).

والجواب : من الجائز ان يكون نظر صاحب الكفاية ( قده ) إلى الورود لا الحكومة والتنزيل ، فكأنه يريد أن يقول انه يتحقق موضوع جديد للطهارة أو الحل بأصالة الطهارة والحل ، وليكن تفسيره للحكومة بذلك بنفسه قرينة على ان مراده هنا الورود لا الحكومة نظير ما يقوله في ورود الأمارات على الأصول.

ومنها ـ ما اتفق عليه المحقق النائيني ( قده ) والسيد الأستاذ معا : من النقض بسائر أحكام الطهارة كاشتراط طهارة ماء الوضوء وطهارة الملاقي ونحو ذلك حيث لا يظن بأحد أن يلتزم بصحة الصلاة أو بطهارة الملاقى بعد انكشاف الخلاف فيهما (٣).

وفيه : انه يمكن لصاحب الكفاية ان يجيب على هذه النقوض بفرضية أصولية عهدة إثباتها صغرويا أو نفيها في ذمة الفقه ، وذلك بان يقول : ان أصالة الطهارة انما توسع موضوع حكم أخذ فيه الطهارة ولا تضيق موضوع حكم أخذ فيه النجاسة ، لأن

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٩٩. محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٢٥٧.

(٢) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٩٨.

(٣) أجود التقريرات ١ ، وهامشه ، ج ١ ، ص ١٩٩ ـ ٢٠٠. محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

١٥٨

أصالة الطهارة توجد طهارة أخرى ظاهرية في مقابل الطهارة الواقعية ولا تنفي النجاسة الواقعية ، فإذا ثبت في الفقه ان الطهارة هي الشرط في الصلاة ولكن النجاسة هي المانعة عن صحة الوضوء أو الموجبة لتنجس الملاقي كان التفصيل بين الأثرين معقولا لا محالة.

لا يقال ـ ان أصالة الطهارة ان لم تدل بالملازمة ولو العرفية على نفي النجاسة ظاهرا فكيف نصحح الوضوء حينئذ بماء ثبتت طهارته بأصالة الطهارة ؛ وان دلت على ذلك بدعوى الملازمة حتى في مرحلة الظاهر بين الطهارة وعدم النجاسة فأصالة الطهارة كما تحكم وتوسع دليل شرطية الطهارة كذلك تحكم على دليل مانعية النجاسة ، فان كانت الحكومة واقعية ثبت الاجزاء في المقامين ، وان فرضت ظاهرية فقط فلا اجزاء كذلك.

فانه يقال ـ انما يتم هذا الإشكال إذا كان المراد من الحكومة التنزيل لا ما ذكرناه من إيجاد فرد حقيقي للموضوع بالورود ، فانه حينئذ يكون الفرق بين فرض شرطية الطهارة ومانعية النجاسة واضحا ، لأن الشرط يتحقق مصداقه الآخر بأصالة الطهارة فيجزي ، بينما المانع لا بد من انتفاء تمام مصاديقه لينتفي ، وبأصالة الطهارة لا يمكن نفي النجاسة الواقعية المشكوكة حقيقة بالورود ، لأن هذا خلف الطولية بين الحكمين وانحفاظ الحكم الواقعي ، فليس هذا الا تعبدا ظاهرا بانتفاء النجاسة المانعة وقد انكشف بعد ذلك وجودها.

نعم يوجد لهذا الكلام لازم لا يدرى هل يلتزم به صاحب الكفاية أم لا ، وهو انه لو توضأ بماء نجس ظاهرا بالاستصحاب مثلا ـ ولو رجاء ـ ثم انكشف الخلاف كان وضوؤه باطلا إذ كما يفرض توسيع الشرطية الواقعية للطهارة كذلك ينبغي ان يفرض توسيع المانعية الواقعية للنجاسة ، الا ان هذا مبني على التزامه بالاجزاء في الاستصحاب أيضا كما قواه في الكفاية.

ومنها ـ ما اختص به المحقق النائيني ( قده ) نفسه وحاصله : ان تصحيح الصلاة الواقعة مع الطهارة الظاهرية بحيث لا تحتاج إلى الإعادة بعد انكشاف الخلاف يحتاج إلى مجموع امرين.

أحدهما ـ الحكم بالطهارة ظاهرا.

١٥٩

الثاني ـ توسعة دائرة الشرطية بحيث تشمل الطهارة الظاهرية أيضا.

وهذان مطلبان طوليان يفترض في ثانيهما الفراغ عن الأول ، حيث انه لا بد من فرض الطهارة الظاهرية أولا ثم يقال ان هذا فرد من افراد الشرط أيضا. ودليل أصالة الطهارة لا يمكنه ان يفي بكلا المطلبين في إنشاء واحد لما عرف من الطولية بينهما (١).

وان شئت قلت : ان قوله ( كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر ) اما أن يراد به إنشاء الطهارة للمشكوك فيكون المجعول فيه الطهارة الظاهرية لا التوسعة ، واما ان يكون قد فرغ فيه عن الطهارة ويراد توسعة آثارها الواقعية ، فلا يمكن ان يستفاد منها الطهارة الظاهرية حينئذ.

وفيه : أولا ـ ان هذا مبني على تفسير كلام صاحب الكفاية ( قده ) بالحكومة والتنزيل لا الورود ، والا ففي الورود لا نحتاج إلى نظر الدليل الوارد إلى المورود بل التمسك في إثبات الحكم المورود بنفس دليل المورود ولا يتكفل الوارد الا جعل الطهارة.

وثانيا : بناء على التنزيل والحكومة بإمكان صاحب الكفاية أن يجيب على هذا الإشكال : بان موضوع هذا التنزيل ليس هو الطهارة الظاهرية ليقال بأنه كيف يمكن لجعل واحد ان يتكفل التوسعة وموضوع هذه التوسعة في وقت واحد ، وانما موضوع التنزيل والتوسعة نفس مشكوك الطهارة فكأنه قال ( ان مشكوك الطهارة محكوم باحكام الطاهر الواقعي بما هو طاهر ) وما يسمى بالطهارة الظاهرية منتزع عن مثل هذا التنزيل لا أنه حكم آخر وقع موضوعا لهذا التنزيل (٢).

والتحقيق في الجواب على كلام صاحب الكفاية ( قده ) أن يقال :

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٩٨.

(٢) انما تكون الطهارة ظاهرية إذا كان الأثر التكليفي المترتب عليها مرتبا ظاهرا لا واقعا لأن حقيقة الحكم الظاهري هي التزاحم الحفظي بين الأحكام القابلة للنتيجة والتعذير أي الإلزامات والترخيصات الشرعية ولا يعقل ذلك في الحكم الوضعي بما هو وضعي وعلى هذا إذا أريد تنزيل مشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعي ظاهرا فهو يقتضي فرض انحفاظ أثرها التكليفي الواقعي على حاله ووقوع التزاحم الحفظي فيه وهو مناقض مع فرض التوسعة الواقعية وان أريد تنزيله منزلة الطاهر الواقعي واقعا فلازمه كون مفاد دليل القاعدة حكما واقعيا حرفا وهو تنزيل المشكوك منزلة الطاهر الواقعي في الشرطية ومعه لا مجال لاستفادة حكم ظاهري منه بلحاظ انتفاء النجاسة لا بالمطابقة ـ وهو واضح ـ ولا بالملازمة بينهما في مرحلة الظاهر لأنها فرع كون التوسعة لآثار الطهارة ظاهرية لا واقعية فترد النقوض المتقدمة في إيراد سابق فالحاصل : إذا كان الملحوظ في جعل الطهارة في مورد والمشكوك حكما واقعيا حقيقة بترتيب آثار الطهارة وتوسعتهما واقعا فلا يستفاد من دليل القاعدة إلا توسعة الشرطية لا الطهارة الظاهرية كحكم ظاهري حقيقي فلا مجال لاستفادة انتفاء النجاسة ظاهرا منه بالملازمة وإذا كان الملحوظ ترتيب الآثار المرتبة عليها ظاهرا أمكن استفادة انتفاء آثار النجاسة بالملازمة في موردها أيضا ولكن هذا اللحاظ يناقض فرض التوسعة الواقعية فالجمع بين الأمرين غير ممكن كما هو واضح.

١٦٠