بحوث في علم الأصول - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٢

الاعتراض الثاني ـ وهو مبني على ما قرر في الاعتراض السابق وحاصله : انه إذا استحال التقييد والمفروض ان الإهمال ثبوتا غير معقولا أيضا فلا محالة يثبت ضرورة الإطلاق الا ان هذا الإطلاق الضروري لا ينفع لنفي التعبدية وإثبات توصلية الواجب لأنه بحسب الفرض الفرق بين التعبدي والتوصلي ليس في الواجب بل في الغرض وإطلاق الواجب لا يمكن ان يكشف عن الإطلاق في الغرض إذا كان الإطلاق ضروريا لأنه لا يمكنه التقييد حتى إذا كان الغرض مقيدا.

وهذا الاعتراض يتجه بناء على ما هو الصحيح من ثبوت الإطلاق الذاتي في الطبيعة المهملة أو يقال باستحالة الإهمال الثبوتي واما إذا قلنا بإمكان إهمال الطبيعة إهمالا لحاظيا وانها في قوة الجزئية لا المطلقة فبعد استحالة التقييد يبقى عندنا فرضان الإهمال والإطلاق وحينئذ إذا كان برهان استحالة التقييد مسألة لزوم أخذ الأمر أو وصوله في موضوع الأمر المستلزم للدور ـ الوجه الأول ـ فهذا البرهان كما يثبت استحالة التقييد يثبت استحالة الإهمال أيضا لأن المهملة حيث انها في قوة المقيدة فلا بد من تقيد الأمر بها بالأمر أو بوصوله. فيكون على هذا المسلك الإطلاق ضروريا ويتم هذا الاعتراض واما إذا كان برهان استحالة التقييد مخصوصا بفرض التقييد كما في سائر الوجوه المتقدمة للاستحالة فلا يكون الإطلاق ضروريا إذ لا يتعين في قبال الإهمال الّذي هو في قوة الجزئية فإذا كان غرض المولى في المقيد أمكنه جعل الأمر على الطبيعة المهملة التي هي في قوة الجزئية فمع إطلاق الجعل نستكشف إطلاق الغرض وهو معنى التوصلية.

الاعتراض الثالث ـ وتصل النوبة إليه بعد التنزل عن الاعتراضين السابقين وان الإطلاق ثبوتا لا هو مستحيل ولا هو ضروري فيقال : ان هذا الإطلاق الثبوتي لا يمكن إحرازه بمقدمات الحكمة إثباتا إذا كان التقييد مستحيلا لأن مرجع مقدمات الحكمة إلى دلالة عرفية على الإطلاق الثبوتي من عدم إبراز التقييد إثباتا ، فإذا لم يمكن إبراز التقييد لا يكون عدم ذكر القيد إثباتا كاشفا عن الإطلاق ثبوتا. وهذا معناه : ان الإطلاق الحكمي الإثباتي أخذ فيه قابلية التقييد فما قاله المحقق النائيني ( قده ) من انه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق تام إذا كان النّظر إلى مرحلة الإثبات والدلالة

١٠١

العرفية لأن الكاشف عن الإطلاق الثبوتي انما هو عدم التقييد حينما يمكنه التقييد والا فلعله لم يقيد من باب انه لم يتمكن منه نظير ما إذا احتمل أن هناك من بمنع المولى ويمسك على فمه إذا أراد ان يذكر القيد.

وهذا الاعتراض انما يتم فيما إذا فرض ان الدال على الإطلاق إثباتا مجرد عدم بيان التقييد ، واما إذا قلنا ان الدال عليه عدم بيان ما يخالف الإطلاق ولو كان هو الإهمال الّذي هو في قوة التقييد بناء على مبنى هذا الاعتراض فالكاشف عن الإطلاق موجود لأنه وان لم يكن يمكنه التقييد إلا انه كان يمكنه نصب قرينة على الإهمال الّذي هو في قوة التقييد.

وهكذا اتضح انه على مسلك صاحب الكفاية لا يتم الإطلاق اللفظي في الواجب لتمامية الاعتراض الثاني.

واما على مسلك تعدد الأمر في الواجب التعبدي فبناء على مسلك تعدد الجعل الّذي اختاره المحقق النائيني ( قده ) لا يتم الإطلاق اللفظي المثبت للتوصلية لأن إطلاق الجعل الأول لا يعنى عدم التقييد بقصد القربة بالجعل الثاني. نعم إذا أبرزنا نكتة عرفية أشرنا إليها على مسلكنا وهي دعوى ان لسان التقييد بيان عرفا للتعبدية ومتمم الجعل أمكن التمسك بالإطلاق اللفظي في طول قبول هذه النكتة العرفية. واما بناء على تصوير تعدد الأمر بالنحو الّذي ذكره المحقق العراقي ( قده ) من فرض وحدة الجعل وتعدد المجعول فهذا انما يعقل لو تصورنا الجامع بين الواجبين والموضوعين وحينئذ ان كان العنوان المأخوذ في لسان الدليل هو الجامع بين الفعل وقصد القربة اذن تثبت التعبدية لا التوصلية وان كان العنوان المأخوذ في الدليل هو الفعل فقط أي ذات الصلاة مثلا فهنا تثبت التوصلية لا بالإطلاق بل بأصالة التطابق بين العنوان المأخوذ في عالم الإثبات والعنوان المأخوذ في عالم الثبوت ، الا ان هذا المقدار انما يكفي لنفي التعبدية لو كان شكل العبادية منحصرا فيما ذكره المحقق العراقي من فرض وحدة الجعل وتعدد المجعول لكنه ليس منحصرا في ذلك ولا هو يدعي الانحصار فيه وانما يدعي إمكان هذه الصورة.

هذا تمام الكلام في الإطلاق اللفظي المثبت للتوصلية وقد اتضح تماميته.

١٠٢

وأما الإطلاق المقامي ـ فهناك تقريبان لإثبات التوصلية بالإطلاق المقامي.

التقريب الأول ـ ان نحصل برهانا على عدم دخل قصد القربة في الغرض وهو انه لو كان دخيلا في غرض المولى كان عليه بيانه ولو بجملة خبرية ، والا لزم نقض الغرض.

وقد ذكر المحقق العراقي ( قده ) ان لزوم نقض الغرض هذا يتوقف على تمامية أحد امرين اما ان يقال : أن الأصل العملي عند الشك في دخل قصد القربة في الغرض هو البراءة لا الاحتياط ، أو يقال أن قصد القربة من القيود التي يغفل عنها العرف ولا يلتفت إلى أصله أو إلى احتمال وجوبه ، والا فلو كان العرف يلتفت إلى احتمال دخل قصد القربة ويكون هذا الاحتمال مجرى لأصالة الاشتغال فلا يلزم من عدم بيان دخل قصد القربة في الغرض نقض الغرض كما لا يخفى (١).

والتحقيق : ان الإطلاق المقامي هذا لا يتم حتى إذا تممنا الأمرين المذكورين وذلك لأمرين :

الأول ـ ان برهان نقض الغرض هذا لا يثبت الإطلاق المقامي في شخص خطاب معين لم يذكر معه دخالة قصد القربة في الغرض لأن مجرد عدم ذكر ذلك في شخص الخطاب مع احتمال ذكره في خطابات وبيانات أخرى لا يلزم منه نقض الغرض ، وانما يمكن ان يحرز عدم دخالة قصد القربة في الغرض إذا ما أحرز عدم بيان المولى لهذه الدخالة إطلاقا ، ومثل هذا لا يمكن إحرازه من مجرد سكوت المولى في شخص خطاب الأمر كما هو واضح.

الثاني ـ وهذا الاعتراض يختص بما إذا أريد كشف الإطلاق بنكتة ان قيد القربة مما يغفل عنه عادة ـ ان هذا التقريب على فرض تماميته يبرهن على ان قصد القربة ليس شرطا واقعيا أي ليس دخيلا في الغرض على الإطلاق ، واما احتمال كونه شرطا ذكريا ، الّذي يكون شرطا عند التذكر والالتفات إلى قصد القربة أو احتمال دخله في الغرض ، فلا يمكن نفيه بالإطلاق المقامي ؛ لأن من لا يلتفت إليه لا غرض في قصده

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ٧٨.

١٠٣

للقربة ومن يلتفت إليه من دون بيان المولى لا حاجة إلى البيان بالنسبة إليه لأصالة الاشتغال فلا يلزم نقض الغرض.

التقريب الثاني ـ ان ظاهر حال المولى عند ما يأمر بشيء انه بصدد بيان تمام ما يأمر به باعتباره طريقا إلى بيان تمام غرضه فلو كان الأمر قاصرا عن بيان تمام غرضه لعدم إمكان أداء تمامه به ولكن كان بالإمكان تكميل ذلك ولو بجملة خبرية ، فظاهر حاله انه لو كان غرضه كذلك لبينه ولو بجملة خبرية فان لم يصنع ذلك انعقد في كلامه إطلاق مقامي لنفي دخل قصد القربة في الغرض بلحاظ هذا الظهور الحالي الّذي أشرنا إليه.

وهذا التقريب صحيح.

المقام الثاني ـ في مقتضى الأصل العملي. الّذي يتبادر إلى الذهن بدوا ان المقام من صغريات الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين. فيرجع كل إلى مبناه في تلك المسألة من البراءة أو الاحتياط.

والتحقيق : انه ان قلنا بإمكان تقييد الواجب بقصد الأمر فحال المقام حال سائر موارد الشك في اعتبار قيد في واجب ارتباطي ، وان قلنا بما اخترناه من ان الأمر التعبدي امر متجدد بذات الفعل ما لم يأت المكلف به مع قصد القربة فجريان البراءة في المقام أولى من سائر موارد الدوران بين الأقل والأكثر لأنه شك في تكليف زائد.

وتوضيح ذلك : هناك تقريبات أربعة للقول بالاحتياط في مورد الدوران ، لو تم شيء منها هناك لا يتم منها هنا الا تقريب واحد. وهذه التقريبات كما يلي :

التقريب الأول ـ وجود علم إجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر وهذا غير جار هنا بناء على التجدد ، إذ لا يكون الا من الشك في تكليف جديد.

التقريب الثاني ـ لو فرض انحلال هذا العلم الإجمالي مع ذلك يجب الاحتياط باعتبار ان الإتيان بالأقل لا تحرز مصداقيته للواجب المعلوم اشتغال الذّمّة به ، فيجب الفراغ اليقيني وهذا التقريب أيضا لا يجري في المقام للقطع بمصداقية ذات الفعل للأمر الأول.

الثالث ـ انه لا يحرز سقوط التكليف المعلوم ثبوته وفعليته وهذا أيضا لا يجري في

١٠٤

المقام للقطع بسقوط الأمر الأول والشك في تجدد امر آخر.

الرابع ـ انه لا بد من الجزم بتحصيل غرض المولى ، وهو لا يحصل الا بالأكثر. وهذا الوجه ـ لو تم ـ يجري في المقام أيضا ، ولكنه سوف يأتي عدم تماميته.

واما ان بنينا على مسلك متمم الجعل ووجود امرين أحدهما بذات الفعل مهملا والآخر بقصد الأمر فان كان الأمر الأول في قوة الجزئية فحال المقام حال سائر موارد الدوران بين الأقل والأكثر لأنه كفرض إمكان تقييد الأمر الأول بقصد القربة الا انه نتيجة التقييد وبأمر ثان يتمم الأمر الأول الّذي يكون في قوة الأمر بالمقيد بحسب الفرض ، وان كان الأمر الأول بالطبيعة المهملة في قوة المطلقة فتجري البراءة على تقدير البراءة في سائر الموارد. كما تجري البراءة هنا على تقدير جريان الاحتياط في سائر الموارد بأحد التقريبين الأول والثاني لعدم العلم الإجمالي وإحراز مصداقية الفعل للأمر الأول على كل حال. نعم بناء على تمامية أحد التقريبين الثالث والرابع يجري الاحتياط هنا أيضا لأن الشك في سقوط شخص ذلك الأمر كما لا يحرز تحصيل الغرض الا بالإتيان بقصد القربة.

واما بناء على مسلك صاحب الكفاية ( قده ) في التعبدية فظاهر كلامه ( قده ) جريان أصالة الاحتياط هنا حتى لو قلنا بالبراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين (١).

والكلام هنا تارة : في جريان شيء من التقريبات الأربعة في موارد الدوران بين الأقل والأكثر هنا ، وأخرى في انه هل يوجد وجه للقول بأصالة الاحتياط في المقام حتى على تقدير القول بالبراءة في الأقل والأكثر؟.

اما الكلام الأول فالصحيح هو التفصيل بين التقريبين الأولين للاحتياط فلا يجريان في المقام لعدم وجود علم إجمالي هنا ، وبين التقريبين الأخيرين فيجريان هنا أيضا لعدم إحراز السقوط بدون الإتيان بقصد القربة وعدم إحراز تحصيل الغرض.

واما الكلام الثاني فيمكن ذكر عدة تقريبات للاشتغال يدعى تماميتها في المقام

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١١٣.

١٠٥

رغم عدم تماميتها في موارد الأقل والأكثر.

الأول ـ عدم الجزم بالسقوط من دون الإتيان بقصد القربة مع أن الشغل يقيني يستدعي الفراغ اليقيني. وهذا الوجه لا يتم في الأقل والأكثر إذ بإجراء البراءة عن التكليف الضمني المشكوك نؤمن من ناحية احتمال عدم سقوط الأمر لكونه مسببا عن الشك في وجود ذلك الأمر الضمني وهذا بخلاف المقام إذ يعلم بأن الأمر لم يتعلق بقصد القربة وانما الشك في السقوط مسبب عن الشك في دخالته في الغرض.

والتحقيق : عدم صحة هذا الوجه لأن مناط التأمين عن الشك في السقوط أوسع وأعم مما ذكر فان كل شك في السقوط ناشئ من احتمال امر يرجع إلى المولى وعليه بيانه سواء بصيغة الأمر أو بصيغة الاخبار عن المدخلية في الغرض يكون مجرى للبراءة وكل شك في السقوط يكون من ناحية امر يرجع إلى العبد ومن وظيفته إحرازه كاحتمال عدم الإتيان بالواجب كان مجرى للاشتغال.

الثاني ـ لزوم الاحتياط في المقام من جهة اشتغال الذّمّة بالغرض المولوي المعلوم على كل حال فلا بد من الجزم بتحصيله ، بخلاف موارد الأقل والأكثر لأن الغرض المولوي إذا كان يمكن للمولى ان يتصدى إلى حفظه بالأمر به فلا تشتغل به الذّمّة الا بمقدار تصدي المولى وتسبيبه إلى تحصيله عن طريق الأمر به ، فإذا شك ودار الأمر بين الأقل والأكثر كان المقدار المتيقن اشتغال الذّمّة به هو الأقل لأنه مقدار التصدي المولوي المعلوم دون الأكثر فتجري البراءة عن الزائد بالرغم من الشك في حصول الغرض. ولكن لا تجري البراءة إذا كان عدم تسبيب المولى التشريعي للوصول إلى غرضه على تقدير دخل القيد في الغرض ناشئا من عجز المولى عن ذلك كما لو كان مكمما ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

والجواب ـ انه هنا أيضا لو جعل إمكان تسبب المولى إلى تحصيل غرضه مبررا لجريان البراءة لا ينبغي تخصيص ذلك بالتسبب بصيغة الأمر ، بل يكفي إمكانية تسبب المولى إلى تحصيل غرضه ولو بصيغة الاخبار عن الدخل في الغرض.

الثالث ـ وهو يختص بالبراءة الشرعية. فإذا أنكرنا البراءة العقلية اما مطلقا ـ كما

١٠٦

هو الصحيح ـ أو في خصوص الأقل والأكثر أو في خصوص المقام بأحد التقريبين الأخيرين للاحتياط بدعوى انهما يمنعان عن البراءة العقلية فقط دون الشرعية وبقيت البراءة الشرعية غير مبرهنة على بطلانها أمكن ان يبرهن على بطلانها في المقام مع فرض جريانها في سائر موارد الأقل والأكثر بدعوى : ان أدلة البراءة الشرعية ناظرة إلى التكاليف والتحميلات الشرعية ، ومن الواضح انه في المقام لا يحتمل دخل قصد القربة في التكليف الشرعي ليطبق عليه دليل البراءة الشرعية وانما يحتمل دخله في الغرض فحسب وهو امر تكويني وليس تكليفا شرعيا ليمكن تطبيق البراءة الشرعية وحديث الرفع عليه ، لأنه يرفع ما يكون قابلا للجعل والوضع وهو الحكم لا الغرض.

والجواب : أولا ـ ان دليل البراءة والرفع لا يختص بالاحكام الإنشائية والتكاليف المجعولة بل يشمل كل جهة راجعة إلى المولى ويكون فيه تحميل مسئولية على المكلف ، ولو كان هو الغرض لأن الرفع فيه ليس رفعا للواقع ، بل رفع للتبعية والمسئولية ، وهو مجرد تعبير ولسان لا أكثر.

وثانيا ـ ان عناوين الإلزام والتكليف والتحميل ، التي بلحاظها تطبق أدلة الرفع والبراءة تنتزع لا محالة من الجملة الخبرية أيضا كما تنتزع من الأمر والجملة الإنشائية فلو أخبر بدخل قصد القربة في الغرض انتزع من ذلك الإلزام والكلفة عرفا.

وهكذا يتلخص ان الصحيح بناء على جريان البراءة في الأقل والأكثر ـ كما هو الصحيح ـ جريان البراءة فيما نحن فيه أيضا.

ومما تقدم في قصد القربة يظهر الكلام في قصد الوجه والتمييز من القيود الثانوية فلا حاجة إلى تخصيص كلام إضافي لبحثها.

١٠٧
١٠٨

دلالات صيغة الأمر

دلالة الأمر على

النفسيّة والتعيينية والعينية

١٠٩
١١٠

« مفاد الأمر الوجوب النفسيّ التعييني العيني »

الجهة الخامسة ـ فيما يقتضيه إطلاق الأمر من حيث نفسية الوجوب أو غيريته وتعيينيته أو تخييريته وعينيته أو كفائيته.

وفيما يلي نتعرض لما يقتضيه الأمر في كل واحدة من هذه الجهات في عدة مقامات ،

المقام الأول ـ في ان إطلاق الأمر هل يقتضي النفسيّة أو الغيرية؟.

والمعروف انه يقتضي النفسيّة وهذا ما يمكن تقريبه بوجوه :

الأول ـ التمسك بالإطلاق الأحوالي لصيغة الأمر لحال عدم وجوب واجب آخر أو عدم تحقق شرط وجوبه كالزوال بالنسبة إلى الصلاة فيثبت بالالتزام ان وجوب هذا الواجب نفسي وليس غيريا مشروطا بإيجاب الصلاة.

وهذا التقريب انما يتم إذا لم يكن الواجب المشكوك كونه غيريا أو نفسيا مشروطا بما يكون ملازما دائما مع ثبوت وجوب الواجب الآخر ، كما إذا كان دليل الأمر بالغسل مثلا مشروطا أيضا بالزوال فانه حينئذ لا يمكن إثبات كونه واجبا نفسيا كالصلاة مع ان تشخيص ذلك أيضا مهم ويترتب عليه ثبوت وجوبين نفسيين يعاقب على كل منهما مستقلا.

١١١

الثاني ـ التمسك بإطلاق المادة في دليل الواجب الّذي يحتمل ان يكون هذا الواجب مقدمة له كالصلاة لإثبات عدم تقيدها بالوضوء مثلا فيثبت بالالتزام ان وجوب الوضوء نفسي لا غيري.

وهذا التقريب يتوقف على :

١ ـ ان يكون ذلك الواجب النفسيّ الآخر معلوم الوجوب لا ان يكون وجوبه امرا محتملا بنفس دليل الأمر بالوضوء كما إذا جاء : إذا زرت إماما فتوضأ ولم يرد امر بالصلاة عند زيارة الإمام وانما احتمل ذلك من نفس دليل الأمر بالوضوء.

٢ ـ ان يكون الوجوب الغيري المحتمل والمراد نفيه هو الوجوب الغيري بملاك التقييد الشرعي لا بملاك التوقف التكويني.

٣ ـ ان لا يكون دليل الأمر بالواجب المردد بين النفسيّ والغيري متصلا بدليل الواجب النفسيّ والا فسوف يسري إجماله ، وتردده إلى ذلك الدليل أيضا (١).

٤ ـ ان يكون دليل ذلك الواجب النفسيّ لفظيا مطلقا قد تمت مقدمات الحكمة والإطلاق في مادته.

الثالث ـ التمسك بإطلاق المادة في الأمر بشيء كالوضوء مثلا بالنسبة للحصة غير الموصلة منه وإثبات انه مصداق للواجب أيضا فيثبت بالالتزام ـ بناء على ما سوف يأتي تحقيقه من ان الوجوب الغيري مخصوص بالحصة الموصلة فقط ـ أن هذا الواجب نفسي لا غيري.

الرابع ـ التمسك بإطلاق الأمر بنحو يثبت النفسيّة ابتداء وبالمدلول المطابقي لا بالالتزام ، بدعوى انه كلما دار الأمر بين قيدين أحدهما وجودي والآخر عدمي كان مقتضى الإطلاق والسكوت في مقام الإثبات إرادة الخصوصية العدمية ثبوتا لأن هذا هو مقتضى الإطلاق. وفي المقام خصوصية الغيرية وجودية لأنها عبارة عن الوجوب الناشئ من وجوب آخر بخلاف النفسيّة التي خصوصيتها هي الوجوب الّذي لم ينشأ

__________________

(١) هذا إذا كان مجرد اقتران الأمرين صالحا لتقييد المادة والظاهر انه ليس كذلك فلا يلزم الإجمال بل الأمر بالعكس أي ان إطلاق المادة لو تم كان قرينة على استقلالية الأمرين.

١١٢

من وجوب آخر فتكون متعينة بالإطلاق (١).

وفيه : ١ ـ ان الإطلاق انما يدل على عدم لحاظ القيد لا على رفضه ولحاظ عدم القيد وهو المسمى عندهم بالإطلاق اللحاظي.

٢ ـ الإطلاق اللحاظي أيضا يعنى لحاظ رفض القيود لا لحاظ القيد العدمي كما في المقام ولهذا لو دار الأمر بين أخذ قيد العدالة أو عدم الفسق لم يمكن تعيين الثاني قبال الأول بالإطلاق.

٣ ـ قيد النفسيّة في المقام أيضا وجودي ، وهو خصوصية كون الوجوب ناشئا عن ملاك في نفسه.

الخامس ـ دعوى انه كلما دار الأمر في مقام الثبوت بين خصوصيتين وكانت كل واحدة منهما تناسب خصوصية في مقام الإثبات فأصالة التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات تعين الخصوصية المناسبة مع عالم الإثبات. ومن هذا الباب يقال : ان السكوت إثباتا يناسب خصوصية الإطلاق اللحاظي أي لحاظ عدم القيود ثبوتا فيما إذا أنكرنا الإطلاق الذاتي. وهذه الكبرى يدعى تطبيقها في المقام بتقريب : ان الوجوب الغيري تبعي ومن أجل واجب آخر بخلاف الوجوب النفسيّ ، والأمر بشيء إثباتا يناسب ان ذلك الشيء مأمور به أصالة ولنفسه ولا يناسب أن يكون إيجابه لأجل شيء آخر ، فمقتضى أصالة التطابق بين عالمي الثبوت والإثبات إرادة الوجوب النفسيّ ، ولهذا يستفاد عرفا ذلك من الأمر بشيء ابتداء ومطابقة (٢). بلا حاجة إلى ملاحظة حيثية أخرى.

__________________

(١) ويرد عليه أيضا : ان الأمر لا يدل الا على أصل الوجوب واما منا شيء الوجوب فهي خارجة عن مدلوله مادة وهيئة وخارجة عن قيود الماهية المدلول لاسم الجنس فلا وجه لكشف خصوصية المنشأ من الأمر وليس هذا هو معنى الإطلاق.

(٢) هذا راجع بحسب الحقيقة إلى التقريب الثالث وان الواجب غير مقيد بأنه موصل إلى امر آخر ومن دون ملاحظة هذا الفرق لا يبقى فرق بينهما في مقام الإثبات بلحاظ ما يرجع إلى ما هو مدلول الأمر مادة وهيئة واما حيثيات الأمر والغرض منه فهو خارج عن المدلول اللفظي لدليل الأمر. نعم يمكن تطوير هذا الوجه بشكل يكون به فنيا وحاصله : ان الوجوب الغيري اما ان يكون على أساس المقدمية والتوقف التكويني أو على أساس التقييد الشرعي وكل منهما خلاف الظاهر الأولي للأمر بشيء اما الأول فلأن ظاهر امر المولى بشيء ان محركيته تأسيسية لا تأكيدية أي ظاهر في ان المولى يتصدى بامره هذا إلى تحصيله بحيث لولاء لما كان يحصل والأمر الغيري على تقدير إنشاء المولى له لا يكون تأسيسا لأنه لا تكون فيه داعوية ومحركية واما الثاني فلأنه لو أريد من

١١٣

المقام الثاني ـ في ان إطلاق الأمر يقتضي التعينية أو التخييرية فلو قال أطعم ستين مسكينا وشك في انه واجب بالتعيين أو يمكن للمكلف تركه إلى عتق الرقبة مثلا ما هو مقتضى إطلاق دليل الأمر. ولا إشكال في ان مقتضاه التعيينية الا ان تقريب ذلك يختلف حسب اختلاف المسالك في تصوير حقيقة الواجب التخييري.

فلو قلنا بان الواجب التخييري يعني إيجاب كل منهما مشروطا بترك الآخر فمن الواضح ان مقتضى إطلاق مفاد صيغة الأمر حينئذ عدم الاشتراط فيكون الواجب تعيينيا.

ولو قلنا بان الواجب التخييري يعني إيجاب الجامع بين الفعلين ، أمكن إثبات التعيينية بالتمسك بظهور المادة تارة وبإطلاق الهيئة أخرى ، اما مادة الأمر فلان أخذ أي عنوان في متعلق امر ظاهر في تعلق الأمر به بعنوانه لا بعنوان آخر جامع بينه وبين أمور أخرى. واما الهيئة فلان مقتضى إطلاقها الأحوالي لما إذا تحقق ذلك الأمر الآخر عدم سقوط الوجوب ولازمه التعيينية إذ لو كان الواجب هو الجامع كان الوجوب ساقطا لا محالة.

ولو قلنا بان الواجب التخييري كالتعيني من حيث المتعلق ومن حيث إطلاق الوجوب الا انه يختلف عنه في انه وجوب ضعيف مشوب بجواز الترك إلى البدل لا مطلقا ، فهو مرتبة بين الوجوب التعييني الّذي لا يرخص في تركه مطلقا والاستحباب الّذي يرخص في تركه مطلقا.

فعلى هذا المسلك يمكن إثبات التعيينية في مقابل التخييرية بنفس الوجوه التي تقدمت في إثبات ان مقتضى صيغة الأمر الوجوب لا الاستحباب الّذي يجوز فيه الترك ، فكل تلك الوجوه ترد هنا أيضا باستثناء دعوى الوضع للوجوب.

المقام الثالث ـ في ان إطلاق الأمر هل يقتضي العينية أو الكفائية والصحيح ان مقتضاه العينية بنفس النكات والمسالك المتقدمة في المقام الثاني فلا نعيد.

__________________

الأمر بالقيد الإرشاد إلى القيدية فهذا من الواضح انه خلاف الظاهر ولو أريد انه إنشاء لإيجابه الغيري الكاشف عن القيدية في الرتبة السابقة حيث انه في طول التقييد يكون المقيد متوقفا تكوينا على إيجاد قيده فإرادة مثل هذا الأمر الغيري إضافة إلى ما ذكرناه يرد عليه : انه في طول ملاحظة ذلك التقييد في الرتبة السابقة فنفس سكوت الخطاب عن التقييد قرينة عرفية على عدم إرادته ولهذا تحمل الأوامر بالقيود والشرائط الشرعية على الإرشاد لا الإنشاء.

١١٤

دلالات صيغة الأمر

الأمر في مورد الحظر

١١٥
١١٦

« مفاد الأمر في مورد الحظر »

الجهة السادسة ـ إذا ورد الأمر عقيب الحظر أو في مورد توهمه فقد اتفقوا على انه لا يدل على الوجوب ، ووقع بحث فيما بينهم حول ظهوره حينئذ في الإباحة أو الحكم السابق أو عدم ظهوره في شيء منهما.

وقد ذكر الأستاذ ان انسلاخ الدلالة على الوجوب ثابت على كل حال سواء قلنا انها بحكم العقل أو بالإطلاق ومقدمات الحكمة أو بالوضع ، وذلك لاكتناف الخطاب بما يحتمل قرينيته وهو مورد توهم الحظر وهو كاف في رفع الظهور في الوجوب وضعيا كان أو غيره. وهذا من قبيل ما إذا استعمل لفظة ( أسد ) في الحيوان المفترس ولكنه اتصل بها ما يحتمل قرينيته على إرادة الرّجل الشجاع (١).

وهذا الكلام بهذا المقدار يمكن النقاش فيه بأن هذا معناه مجرد احتمال عدم إرادة الوجوب وهذا وحده لا يكفي لإسقاط ظهور الأمر في نفسه في الوجوب ما لم يبرز نكتة لمنع ما هو مدلول الأمر.

والتحقيق : ان الأمر له مدلول تصوري وهو النسبة الإرسالية الإلقائية ونحو ذلك من التعبيرات ، ومدلول تصديقي وهو وجود إرادة طلبية في نفس المولى. والأمر في مورد

__________________

(١) المحاضرات ، ج ٢ ، ص ٢٠٥.

١١٧

توهم الحظر مستعمل أيضا في نفس مدلوله التصوري وليس كاستعمال الأسد في الرّجل الشجاع (١) ولهذا لا يشعر بعناية المجاز ، فقوله تعالى ـ فإذا حللتم فاصطادوا ـ أيضا استعمل الأمر فيه في النسبة الإرسالية غاية الأمر المدلول التصديقي كما يناسب الطلب والإرادة في هذا المورد ، كذلك يناسب كسر التحرج ورفع الحظر ، فان المتحرج يناسب عرفا ان يكسر تحرجه بإلقائه على المتحرج منه ، وبهذا يثبت أنه لا يدل الأمر على الوجوب لأن وروده مورد توهم الحظر يوجب الإجمال على الأقل في مرتبة المدلول التصديقي. كما اتضح انه لا مورد للبحث في ظهوره في الإباحة لأن المدلول التصوري لم يتغير ولم يختلف عن سائر الموارد (٢).

وهناك نكتة نوعية أخرى موجبة لإجمال الأوامر الواردة في كثير من الأبواب الفقهية وعدم انعقاد ظهور لها في الوجوب وهي احتمال وجود ارتكاز نوعي متشرعي على عدم الوجوب في ذهن الراوي ، فانه من احتمال وجود القرينة المتصلة الموجب للإجمال عندنا ـ خلافا للمشهور بعد صاحب الكفاية ـ ولا ينفيه شهادة الراوي السكوتية كما في احتمال القرائن اللفظية المتصلة لأن الأمور الارتكازية لا يتحمل الراوي الشهادة بها إثباتا أو نفيا لكونها ارتكازية ومعاشة وغير ملتفت إليها مستقلا.

وبهذا نستطيع ان نفهم وجه عدم استفادة الوجوب من الأوامر الكثيرة الواردة في الفقه في موارد متفرقة من أبواب العبادات. فالامر بصلاة الجمعة أو الليل أو غير ذلك ، مما لم يذهب الفقهاء إلى وجوبه رغم ورود الأمر به يكون من هذا الباب فان عدم حمله على الوجوب ليس بملاك تحصيل إجماع محصل على عدم الوجوب ليقال بان شرائط تحصيل الإجماع ليست باليسيرة بل على أساس هذا التخريج.

__________________

(١) هذا على غير مبنى وضع الصيغة للنسبة الإرسالية الناشئة عن الطلب الوجوبيّ والإرادة الشديدة والا لزم المجاز وتغير المدلول.

(٢) لايتم هذا الكلام بناءً على مبنى دلالة الامر على الوجوب بحكم العقل الا اذا جعل مورد الحظر قرينة صالحة لمنع دلالة الامر على اصل الطلب وهو لا وجه له.

١١٨

دلالات صيغة الأمر

المرة والتكرار

١١٩
١٢٠