الميزان في تفسير القرآن - ج ٣

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٩١

بهذا الوصف حيث قال : (كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ الآية ) الزمر ـ ٢٣ والمراد به لا محالة كون آيات الكتاب ذات نسق واحد من حيث جزالة النظم ، وإتقان الاسلوب ، وبيان الحقائق والحكم ، والهداية إلى صريح الحق كما تدل عليه القيود المأخوذة في الآية ، فهذا التشابه وصف لجميع الكتاب ، وأما التشابه المذكور في هذه الآية ، أعني قوله وأُخر متشابهات ، فمقابلته لقوله : منه آيات محكمات هن ام الكتاب ، وذكر اتباع : الذين في قلوبهم زيغ لها ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل ، كل ذلك يدل على أن المراد بالتشابه كون الآية بحيث لا يتعين مرادها لفهم السامع بمجرد استماعها بل يتردد بين معنى ومعنى حتى يرجع إلى محكمات الكتاب فتعين هي معناها وتبينها بياناً ، فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة ، والآية : المحكمة محكمة بنفسها كما أن قوله : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) طه ـ ٥ ، يشتبه المراد منه على السامع أول ما يسمعه ، فإذا رجع إلى مثل قوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) الشورى ـ ١١ ، استقر الذهن على أن المراد به التسلط على الملك والإحاطة على الخلق دون التمكن والاعتماد على المكان المستلزم للتجسم المستحيل على الله سبحانه ، وكذا قوله تعالى : (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) القيامة ـ ٢٣ ، إذا ارجع إلى مثل قوله : (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) الأنعام ـ ١٠٣ ، علم به أن المراد بالنظر غير النظر بالبصر الحسي ، وكذا إذا عرضت الآية المنسوخة على الآية الناسخة تبين أن المراد بها حكم محدود بحد الحكم الناسخ وهكذا.

فهذا ما يتحصل من معنى المحكم والمتشابه ، ويتلقاه الفهم الساذج من مجموع قوله تعالى : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) فإن الآية محكمة بلا شك ولو فرض جميع القرآن غيرها متشابهاً.

ولو كانت هذه الآية متشابهة عادت جميع آيات القرآن متشابهة وفسد التقسيم الذي يدل عليه قوله : منه آيات إلخ ، وبطل العلاج الذي يدل عليه قوله : هن ام الكتاب ، ولم يصدق قوله : (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) حم السجدة ـ ٤ ، ولم يتم الاحتجاج الذي يشتمل عليه قوله : ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) النساء ـ ٨٢ ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن القرآن نور وهدى وتبيان وبيان ومبين وذكر ونحو ذلك.

٢١

على أن كل من يرعى نظره في آيات القرآن من أوله إلى آخره لا يشك في أن ليس بينها آية لها مدلول وهي لا تنطق بمعناها وتضل في مرادها ، بل ما من آية إلا وفيها دلالة على المدلول : إما مدلول واحد لا يرتاب فيه العارف بالكلام ، أو مداليل يلتبس بعضها ببعض ، وهذه المعاني الملتبسة لا تخلو عن حق المراد بالضرورة وإلا بطلت الدلالة كما عرفت ، وهذا المعنى الواحد الذي هو حق المراد لا محالة لا يكون أجنبياً عن الاصول المسلمة في القرآن كوجود الصانع وتوحيده وبعثة الأنبياء وتشريع الأحكام والمعاد ونحو ذلك ، بل هو موافق لها وهي تستلزمه وتنتجه وتعين المراد الحق من بين المداليل المتعددة المحتملة ، فالقرآن بعضه يبين بعضاً ، وبعضه أصل يرجع إليه البعض الآخر.

ثم إن هذا الناظر إذا عثر بعد هذه النظرة على قوله تعالى : (مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) لم يشك في أن المراد بالمحكمات هي الآيات المتضمنة للاصول المسلمة من القرآن وبالمتشابهات الآيات التي تتعين وتتضح معانيها بتلك الاصول.

فان قلت : رجوع الفروع إلى الاصول مما لا ريب فيه فيما كان هناك اصول متعرقة وفروع متفرقة سواء فيه المعارف القرآنية وغيرها ، لكن ذلك لا يستوجب حصول التشابه ، فما وجه ذلك؟.

قلت : وجهه أحد أمرين ، فإن المعارف التي يلقيها القرآن على قسمين : فمنها معارف عالية خارجة عن حكم الحس والمادة ، والافهام العادية لا تلبث دون أن تتردد فيها بين الحكم الجسماني الحسي وبين غيره كقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) الفجر ـ ١٤ وقوله تعالى : (وَجَاء رَبُّكَ ) الفجر ـ ٢٢ فيتبادر منها إلى الذهن المستأنس بالمحسوس من الاحكام معان هي من اوصاف الاجسام وخواصها ، وتزول بالرجوع إلى الاصول التي تشتمل على نفي حكم المادة والجسم عن المورد ، وهذا مما يطرد في جميع المعارف والابحاث غير المادية والغائبة عن الحواس ، ولا يختص بالقرآن الكريم بل يوجد في غيره من الكتب السماوية بما تشتمل عليه من المعارف العاليه من غير تحريف ، ويوجد أيضاًً في المباحث الإلهية من الفلسفة ، وهو الذي يشير إليه القرآن بلسان آخر في قوله تعالى : (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا الآية ) الرعد ـ ١٧ وقوله : (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف ـ ٤

٢٢

ومنها ما يتعلق بالنواميس الاجتماعية والاحكام الفرعية ، واشتمال هذا القسم من المعارف على الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى تغير المصالح المقتضية للتشريعات ونحوها من جهة ، ونزول القرآن نجوماً من جهة اخرى يوجب ظهور التشابه في آياتها ، ويرتفع التشابه بإرجاع المتشابه إلى المحكم ، والمنسوخ إلى الناسخ.

قوله تعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ) ، الزيغ هو الميل عن الاستقامة ، ويلزمه اضطراب القلب وقلقه بقرينة ما يقابله في ذيل الآية من قوله : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ) ، فإن الآية تصف حال الناس بالنسبذ إلى تلقي القرآن بمحكمه ومتشابهه ، وأن منهم من هو زائغ القلب ومائله ومضطربه فهو يتبع المتشابه ابتغاءً للفتنه والتأويل ، ومنهم من هو راسخ العلم مستقر القلب يأخذ بالمحكم ويؤمن بالمتشابه ولا يتبعه ، ويسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلبه بعد الهداية.

ومن هنا يظهر : أن المراد باتباع المتشابه اتباعه عملاً لا إيماناً ، وان هذا الاتباع المذموم اتباع للمتشابه من غير ارجاعه إلى المحكم ، إذ على هذا التقدير يصير الاتباع اتباعاً للمحكم ولا ذم فيه.

والمراد بابتغاء الفتنه طلب إضلال الناس ، فإن الفتنة تقارب الاضلال في المعنى ، يقول تعالى : يريدون باتباع المتشابه إضلال الناس في آيات الله سبحانه ، وأمراً آخر هو أعظم من ذلك ، وهو الحصول والوقوف على تأويل القرآن ومآخذ أحكام الحلال والحرام حتى يستغنوا عن اتباع محكمات الدين فينتسخ بذلك دين الله من أصله.

والتأويل من الاول وهو الرجوع ، فتأويل المتشابه هو المرجع الذي يرجعِ إليه ، وتأويل القرآن هو المأخذ الذي يأخذ منه معارفه.

وقد ذكر الله سبحانه لفظ التأويل في موارد من كلامه فقال سبحانه : (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ) الاعراف ـ ٥٣ ، أي بالحق فيما أخبروا به وأنبأوا أن الله هو موليهم الحق ، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ، وان النبوة حق ، وأن الدين حق وأن الله يبعث من في القبور ، وبالجملة

٢٣

كل ما يظهر حقيقته يوم القيامة من أنباء النبوة وأخبارها.

ومن هنا ما قيل : إن التأويل في الآية هو الخارج الذي يطابقه الخبر الصادق كالامور المشهودة يوم القيامة التي هي مطابقات ( اسم مفعول ) أخبار الأنبياء والرسل والكتب.

ويرده : ان التأويل على هذا يختص بالايات المخبرة عن الصفات وبعض الافعال وعن ما سيقع يوم القيامة ، وأما الايات المتضمنة لتشريع الاحكام فإنها لاشتمالها على الانشاء لا مطابق لها في الخارج عنها ، وكذا ما دل منها على ما يحكم به صريح العقل كعدة من أحكام الاخلاق فإن تأويلها معها ، وكذا ما دل على قصص الأنبياء والامم الماضية فإن تأويلها على هذا المعنى يتقدمها من غير أن يتأخر إلى يوم القيامة ، مع ان ظاهر الآية يضيف التأويل إلى الكتاب كله لا إلى قسم خاص من آياته.

ومثلها قوله تعالى : ( وما كان هذا القرآن أن يفتري إلى أن قال أم يقولون افتريه إلى ان قال : (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) يونس ـ ٣٩ ، والايات كما ترى تضيف التأويل إلى مجموع الكتاب.

ولذلك ذكر بعضهم : أن التأويل هو الأمر العيني الخارجي الذي يعتمد عليه الكلام ، وهو في مورد الاخبار المخبر به الواقع في الخارج ، إما سابقاً كقصص الأنبياء والامم الماضية ، وإما لاحقاً كما في الايات المخبرة عن صفات الله وأسمائه ومواعيده وكل ما سيظهر يوم القيامة ، وفي مورد الانشاء كآيات الاحكام المصالح المتحققة في الخارج كما في قوله تعالى : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) أسرى ـ ٣٥ ، فإن تأويل إيفاء الكيل وإقامه الوزن هو المصلحة المترتبة عليهما في المجتمع وهو استقامة أمر الاجتماع الإنساني.

وفيه اولا : أن ظاهر هذه الآية : أن التأويل أمر خارجي وأثر عيني مترتب على فعلهم الخارجي الذي هو إيفاء الكيل وإقامة الوزن لا الأمر التشريعي الذي يتضمنه قوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ ) الآية ، فالتأويل أمر خارجي هو مرجع ومآل لامر خارجي آخر فتوصيف آيات الكتاب بكونها ذات تأويل من جهة حكايتها

٢٤

عن معان خارجية ( كما في الاخبار ) أو تعلقها بأفعال أو امور خارجية ( كما في الانشاء ) لها تأويل ، فالوصف وصف بحال متعلق الشيء لا بحال نفس الشيء.

وثانياً : أن التأويل وإن كان هو المرجع الذي يرجع ويؤول إليه الشيء لكنه رجوع خاص لا كل رجوع ، فإن المرئوس يرجع إلى رئيسه وليس بتأويل له ، والعدد يرجع إلى الواحد وليس بتأويل له ، فلا محالة هو مرجع بنحو خاص لا مطلقاً.

يدل على ذلك قوله تعالى في قصة موسى والخضر عليهما‌السلام : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ) الكهف ـ ٧٨ ، وقوله تعالى : (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ) الكهف ـ ٨٢ ، والذي نبأه لموسى صور وعناوين لما فعله عليه‌السلام في موارد ثلث كان موسى عليه‌السلام قد غفل عن تلك الصور والعناوين ، وتلقى بدلها صوراً وعناوين اخرى أوجبت اعتراضه بها عليه ، فالموارد الثلث : هي قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ) الكهف ـ ٧١ ، وقوله تعالى : (حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ) الكهف ـ ٧٤ وقوله تعالى : (حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ) الكهف ـ ٧٧.

والذي تلقاه موسى عليه‌السلام من صور هذه القضايا وعناوينها قوله : (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ) الكهف ـ ٧١ ، وقوله : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ) الكهف ـ ٧٤ وقوله : ( لو شئت لتخذت عليه أجراً ) الكهف ـ ٧٧.

والذي نبأ به الخضر من التأويل قوله : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً ، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) الكهف ـ ٨٢ ثم أجاب عن جميع ما اعترض عليه موسى عليه‌السلام جملة بقوله : (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) الكهف ـ ٨٢ ، فالذي اريد من التأويل في هذه الآيات كما ترى هو رجوع الشيء إلى صورته وعنوانه نظير رجوع الضرب إلى التأديب ورجوع الفصد إلى العلاج ، لا نظير رجوع قولنا : جاء زيد إلى مجيء زيد في الخارج.

٢٥

ويقرب من ذلك ما ورد من لفظ التأويل في عدة مواضع من قصه يوسف عليه‌السلام كقوله تعالى : (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) يوسف ـ ٤ ، وقوله تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ) يوسف ـ ١٠٠ ، فرجوع ما رآه من الرؤيا إلى سجود أبويه وإخوته له وإن كان رجوعاً لكنه من قبيل رجوع المثال إلى الممثل وكذا قوله تعالى : (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) ، قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادكر بعد امة أنا انبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا إلى أن قال : (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ) يوسف ـ ٤٨.

وكذا قوله تعالى : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً) ، وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نريك من المحسنين إلى ان قال : (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) يوسف ـ ٤١.

وكذا قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) يوسف ـ ٦١ وقوله تعالى : (وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) يوسف ـ ٢١ ، وقوله تعالى : (وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) يوسف ـ ١٠١ ، فقد استعمل التأويل في جميع هذه الموارد من قصة يوسف عليه‌السلام فيما يرجع إليه الرؤيا من الحوادث ، وهو الذي كان يراه النائم فيما يناسبه من الصورة والمثال ، فنسبة التأويل إلى ذي التأويل نسبة المعنى إلى صورته التي يظهر بها ، والحقيقة المتمثلة إلى مثالها الذي تتمثل به ، كما كان الأمر يجري هذا المجرى فيما أوردناه من الآيات في قصة موسى والخضر عليهما‌السلام ، وكذا في قوله تعالى : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ ) إلى قوله : (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) الآية اسرى ـ ٣٥.

والتدبر في آيات القيامة يعطي أن المراد هو ذلك أيضاًً في لفظة التأويل في قوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) الآية ، وقوله تعالى : (هَلْ يَنظُرُونَ

٢٦

إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ الآية ) فإن أمثال قوله تعالى : (لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق ـ ٢٢ ، تدل على أن مشاهدة وقوع ما أخبر به الكتاب وأنبأ به الأنبياء يوم القيامة من غير سنخ المشاهدة الحسية التي نعهدها في الدنيا كما أن نفس وقوعها والنظام الحاكم فيها غير ما نألفه في نشأتن ، ا هذه وسيجيء مزيد بيان له فرجوع أخبار الكتاب والنبوة إلى مضامينها الظاهرة يوم القيامة ليس من قبيل رجوع الإخبار عن الأمور المستقبلة إلى تحقق مضامينها في المستقبل.

فقد تبين بما مر أولا : أن كون الآية ذات تأويل ترجع إليه غير كونها متشابهة ترجع إلى آية محكمة.

وثانياً : أن التأويل لا يختص بالآيات المتشابهة بل لجميع القرآن تأويل فللآية المحكمة تأويل كما أن للمتشابهة تأويلا.

وثالثاً : أن التأويل ليس من المفاهيم التي هي مداليل للألفاظ بل هو من الامور الخارجية العينية ، واتصاف الآيات بكونها ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلق ، وأما إطلاق التأويل وإرادة المعنى المخالف لظاهر اللفظ ، فاستعمال مولد نشأ بعد نزول القرآن لا دليل أصلاً على كونه هو المراد من قوله تعالى : وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله الآية ، كما لا دليل على أكثر المعاني المذكورة للتأويل مما سننقله عن قريب.

قوله تعالى : (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ) ظاهر الكلام رجوع الضمير إلى ما تشابه ، لقربه كما هو الظاهر أيضاًً في قوله : وابتغاء تأويله وقد عرفت أن ذلك لا يستلزم كون التأويل مقصوراً على الآيات المتشابهة ، ومن الممكن أيضاًً رجوع الضمير إلى الكتاب كالضمير في قوله : ما تشابه منه.

وظاهر الحصر كون العلم بالتأويل مقصوراً عليه سبحانه ، وأما قوله : والراسخون في العلم ، فظاهر الكلام أن الواو للاستيناف بمعنى كونه طرفاً للترديد الذي يدل عليه قوله في صدر الآية : فأما الذين في قلوبهم زيغ ، والمعنى : أن الناس في الأخذ بالكتاب قسمان : فمنهم من يتبع ما تشابه منه ومنهم من يقول إذا تشابه عليه شيء منه : آمنا به كل من عند ربنا ، وإنما اختلفا لاختلافهم من جهه زيغ القلب ورسوخ العلم.

٢٧

على أنه لو كان الواو للعطف ، وكان المراد بالعطف تشريك الراسخين في العلم بالتأويل كان منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو أفضلهم وكيف يتصور أن ينزل القرآن على قلبه وهو لا يدري ما اريد به ، ومن دأب القرآن إذا ذكر الامة أو وصف أمر جماعة وفيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفرده بالذكر أولاً ويميزه بالشخص تشريفاً له وتعظيماً لأمره ثم يذكرهم جميعاً كقوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ) البقره ـ ٢٨٥ ، وقوله تعالى : (ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) التوبه ـ ٢٦ وقوله تعالى : (لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ) التوبه ـ ٨٨ ، وقوله تعالى : (وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ) آل عمران ـ ٦٨ ، وقوله تعالى : (لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) التحريم ـ ٨ ، إلى غير ذلك ، فلو كان المراد بقوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، إنهم عالمون بالتأويل ـ ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم قطعاً ـ كان حق الكلام كما عرفت أن يقال : وما يعلم تأويله إلا الله ورسوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، هذا وإن أمكن أن يقال : إن قوله في صدر الآية ، هو الذي أنزل عليك الكتاب « الخ » يدل على كون النبي عالماً بالكتاب فلا حاجة إلى ذكره ثانياً.

فالظاهر أن العلم بالتأويل مقصور في الآية عليه تعالى ، ولا ينافي ذلك ورود الاستثناء عليه كما أن الآيات دالة على انحصار علم الغيب عليه تعالى مع ورود الاستثناء عليه كما في قوله تعالى : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) الجن ـ ٢٧ ، ولا ينافيه أيضاًً : كون المستثنى الراسخين في العلم بعينهم ، إذ لا منافاة بين أن تدل هذه الآية على شأن من شئون الراسخين في العلم ، وهو الوقوف عند الشبهة والإيمان والتسليم في مقابل الزائغين قلباً وبين أن تدل آيات اخر على أنهم أو بعضاً منهم عالمون بحقيقة القرآن وتأويل آياته على ما سيجيء بيانه.

قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ) ، الرسوخ هو أشد الثبات ، ووقوع الراسخين في العلم في مقابلة الذين في قلوبهم زيغ ثم توصيفهم بأنهم يقولون آمنا به كل من عند ربنا يدل على تمام تعريفهم ، وهو أن لهم علماً بالله وبآياته لا يدخله ريب وشك ، فما حصل لهم من العلم بالمحكمات ثابت لا يتزلزل ، وهم يؤمنون به ويتبعونه أي يعلمون به وإذا وردت عليهم آية متشابهة لم يوجب تشابهها اضطراب قلوبهم فيما عندهم من العلم الراسخ بل آمنوا بها وتوقفوا عن اتباعها عملاً.

٢٨

وفي قولهم : آمنا به كل من عند ربنا ذكر الدليل والنتيجة معاً فإن كون المحكم والمتشابه جميعاً من عند الله تعالى يوجب الإيمان بالكل : محكمه ومتشابهه ، ووضوح المراد في المحكم يوجب اتباعه عملاً ، والتوقف في المتشابه من غير رده لأنه من عند الله ولا يجوز اتباع ما ينافي المحكم من معانيه المتشابهة لسطوع البيان في المحكم فيجب أن يتبع من معانيه المحتملة ما يوافق معنى المحكم ، وهذا بعينه إرجاع المتشابه إلى المحكم فقوله : كل من عند ربنا بمنزلة الدليل على الأمرين جميعاً ، أعني : الإيمان والعمل في المحكم ، والإيمان فقط في المتشابه والرجوع في العمل إلى المحكم.

قوله تعالى : (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ) ، التذكر هو الانتقال إلى دليل الشيء لاستنتاجه ، ولما كان قولهم : كل من عند ربنا كما مر استدلالاً منهم وانتقالاً لما يدل على فعلهم سماه الله تعالى تذكراً ومدحهم به.

والألباب جمع لب وهو العقل الزكي الخالص من الشوائب ، وقد مدحهم الله تعالى مدحاً جميلاً في موارد من كلامه ، وعرَّفهم بأنهم أهل الإيمان بالله والإنابه إليه واتباع أحسن القول ، ثم وصفهم بأنهم على ذكر من ربهم دائماً فأعقب ذلك أنهم أهل التذكر أي الانتقال إلى المعارف الحقة بالدليل وأهل الحكمة والمعرفة ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) الزمر ـ ١٨ ، وقال تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ) آل عمران ـ ١٩١ وهذا الذكر الدائم وما يتبعه من التذلل والخضوع هو الانابة الموجبة لتذكرهم بآيات الله وانتقالهم إلى المعارف الحقة كما قال تعالى : (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ ) الغافر ـ ١٣، وقد قال : (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ) البقره ـ ٢٦٩ ، آل عمران ـ ٧.

قوله تعالى : (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) ، وهذا من آثار رسوخهم في العلم فإنهم لما علموا بمقام ربهم ، وعقلوا عن الله سبحانه أيقنوا أن الملك لله وحده ، وأنهم لا يملكون لأنفسهم شيئاًً فمن الجائز أن يزيغ قلوبهم بعد رسوخ العلم فالتجأوا إلى ربهم ، وسألوه أن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم ، وأن يهب لهم من لدنه رحمة تبقى لهم هذه النعمة ، ويعينهم على السير في

٢٩

صراط الهداية ، والسلوك في مراتب القرب.

وأما سؤال أن يهبهم رحمة بعد سؤال أن لا يزيغ قلوبهم فلأن عدم إزاغه القلب لا يستلزم بقاء الرسوخ في العلم فمن الجائز أن لا يزاغ قلوبهم وينتزع عنها العلم فتبقى سدى مهملة لا سعداء بالعلم ولا أشقياء بالازاغة بل في حال الجهل والاستضعاف ، وهم في حاجة مبرمة إلى ما هم عليه من العلم ، ومع ذلك لا تقف حاجتهم في ما هم عليه من الموقف بل هم سائروا طريق يحتاجون فيه إلى أنواع من الرحمة لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله سبحانه ، وهم مستشعرون بحاجتهم هذه ، والدليل عليه قولهم بعد : ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه.

فقولهم : (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ) ، استعاذه من نزول الزيغ إلى قلوبهم وإزاحته العلم الراسخ الذي فيها ، وقولهم : (وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) استمطار لسحاب الرحمة حتى تدوم بها حياة قلوبهم ، وتنكير الرحمة ، وتوصيفها بكونها من لدنه إظهار منهم الجهل بشأن هذه الرحمة ، وأنها كيف ينبغي أن تكون غير أنهم يعلمون أنه لولا رحمة من ربهم ولولا كونها من لدنه لم يتم لهم أمر.

وفي الاستعاذة من الزيغ إلى الله محضاً واستيهاب الرحمة من لدنه محضاً دلالة على أنهم يرون تمام الملك لله محضاً من غير توجه إلى أمر الأسباب.

قوله تعالى : (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) ، هذا منهم بمنزلة التعليل لسؤال الرحمة ، وذلك لعلمهم بان إقامة نظام الخلقة ودعوة الدين وكدح الإنسان في مسير وجوده كل ذلك مقدمة لجمعهم إلى يوم القيامة الذي لا يغني فيه ولا ينصر أحد إلا بالرحمة كما قال تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ، إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ ) الدخان ـ ٤٢ ولذلك سألوا رحمة من ربهم وفوضوا تعيينها وتشخيصها إليه لينفعهم في أمرهم.

وقد وصفوا هذا اليوم بأنه لا ريب فيه ليتجه بذلك كمال اهتمامهم بالسؤال والدعاء ، وعللوا هذا التوصيف أيضاًً بقولهم : (إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) لأن شأنهم الرسوخ في العلم ، ولا يرسخ العلم بشيء ولا يستقر تصديق إلا مع العلم بعلته المنتجة ، وعلة عدم ارتيابهم في تحقق هذا اليوم هو ميعاد الله سبحانه به فذكروه.

٣٠

ونظير هذا الوجه جار في تعليلهم قولهم وهب لنا من لدنك رحمة ، بقولهم : ( إنك أنت الوهاب ) ، فكونه تعالى وهاباً يعلل به سؤالهم الرحمة ، وإتيانهم بلفظة أنت وتعريف الخبر باللام المفيد للحصر يعلل به قولهم : من لدنك ، الدال على الاختصاص ، وكذا يجري مثل الوجه في قولهم : (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا ) ، حيث عقبوه بما يجري مجرى العله بالنسبة إليه ، وهو قولهم بعد إذ هديتنا ، وقد مر آنفاً أن قولهم : آمنا به ، من حيث تعقيبه بقولهم ، كل من عند ربنا ، من هذا القبيل أيضاًًً.

فهؤلاء رجال آمنوا بربهم وثبتوا عليه فهداهم الله سبحانه ، وكمل عقولهم فلا يقولون الا عن علم ، ولا يفعلون الا عن علم فسماهم الله تعالى راسخين في العلم ، وكنى عنهم باولي الألباب ، وأنت إذا تدبرت ما عرف الله به اولى الألباب وجدته منطبقاً على ما ذكره من شأنهم في هذه الآيات ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) الزمر ـ ١٨ فوصفهم بالإيمان ، واتباع أحسن القول ، والإنابة إلى الله سبحانه ، وقد وصف بهذه الأوصاف الراسخين في العلم في هذه الآيات.

وأما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله ان الله لا يخلف الميعاد فلأن هذا الميعاد لا يختص بهم بل يعمهم وغيرهم فكان الأولى تبديل قولهم : ربنا ، إلى لفظة الجلالة لأن حكم الالوهية عام شامل لكل شيء.

كلام تفصيلي في المحكم والمتشابه والتأويل

هذا الذي أوردناه من الكلام في معنى المحكم والمتشابه والتأويل فيما مر هو الذي يتحصل من تدبر كلامه سبحانه ، ويستفاد من المأثور عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام سيجيء في البحث الروائي.

لكن القوم اختلفوا في المقام ، وقد شاع الخلاف واشتد الانحراف بينهم ، وينسحب ذيل النزاع والمشاجرة إلى الصدر الأول من مفسري الصحابة والتابعين ، وقلما يوجد في ما نقل الينا من كلامهم ما يقرب مما مر من البيان فضلاً عن أن ينطبق

٣١

عليه تمام الانطباق.

والسبب العمدة في ذلك الخلط بين البحث عن المحكم والمتشابه وبين البحث عن معنى التأويل ، فأوجب ذلك اختلالاً عجيباً في عقد المسألة وكيفية البحث والنتيجة المأخوذة منه ، ونحن نورد تفصيل القول في كل واحد من أطراف هذه الأبحاث وما قيل فيها وما هو المختار من الحق مع تمييز مورد البحث بما تيسر في ضمن فصول :

١ ـ المحكم والمتشابه

الإحكام والتشابه من الألفاظ المبينة المفاهيم في اللغة ، وقد وصف بهما الكتاب كما في قوله تعالى : (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ) هود ـ ١ ، وقوله تعالى : (كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ ) الزمر ـ ٢٣ ، ولم يتصف بهما الا جملة الكتاب من جهة إتقانه في نظمه وبيانه ومن جهة تشابه نظمه وبيانه في البلوغ إلى غاية الإتقان والإحكام.

لكن قوله تعالى : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) الآية ، لما اشتمل على تقسيم نفس آيات الكتاب إلى المحكمات والمتشابهات علمنا أن المراد بالإحكام والتشابه هاهنا غير ما يتصف به تمام الكتاب ، وكان من الحري البحث عن معناهما وتشخيص مصداقهما من الآيات ، وفيه أقوال ربما تجاوزت العشرة :

أحدها : أن المحكمات هو قوله تعالى في سورة الأنعام : (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً إلى آخر الآيات الثلاث ) الأنعام ـ ١٥٢ و المتشابهات هي التي تشابهت على اليهود ، وهي الحروف المقطعة النازلة في أوائل عدة من السور القرآنية مثل ألم وألر وحم وذلك أن اليهود أولوها على حساب الجمل ، فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الامة وعمرها فاشتبه عليهم الأمر. نسب إلى ابن عباس من الصحابة.

وفيه أنه قول من غير دليل ولو سلم فلا دليل على انحصارهما فيهما ، على أن لازمه وجود قسم ثالث ليس بمحكم ولا متشابه مع أن ظاهر الآية يدفعه.

لكن الحق أن النسبة في غير محلها ، والذي نقل عن ابن عباس : أنه قال : إن

٣٢

الآيات الثلاث من المحكمات لا أن المحكمات هي الآيات الثلاث ، ففي الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الله بن قيس سمعت ابن عباس يقول في قوله منه آيات محكمات ، قال : الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات : قل تعالوا ، والآيتان بعدها.

ويؤيد ذلك ما رواه عنه أيضاًًً في قوله : آيات محكمات ، قال من هاهنا : قل تعالوا إلى آخر ثلاث آيات ، ومن هاهنا : وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه إلى آخر ثلاث آيات فالروايتان تشهدان أنه إنما ذكر هذه الآيات مثالا لسائر المحكمات لا أنه قصرها فيها.

وثانيها : عكس الأول وهو أن المحكمات هي الحروف المقطعة في فواتح السور والمتشابهات غيرها. نقل ذلك عن أبي فاختة حيث ذكر في قوله تعالى : هن ام الكتاب أنهن فواتح السور منها يستخرج القرآن : ألم ذلك الكتاب ، منها استخرجت البقره : ( وألم اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) ، منها استخرجت آل عمران. وعن سعيد بن جبير مثله في معنى قوله : هن ام الكتاب ، قال : أصل الكتاب لأنهن مكتوبات في جميع الكتب ، انتهى. ويدل ذلك على أنهما يذهبان في معنى فواتح السور إلى أن المراد بها ألفاظ الحروف بعناية أن الكتاب الذي نزل عليكم هو هذه الحروف المقطعة التي تتألف منها الكلمات والجمل ، كما هو أحد المذاهب في معنى فواتح السور.

وفيه : مضافاً إلى أنه مبني على ما لا دليل عليه أصلاً أعني تفسير الحروف المقطعة في فواتح السور بما عرفت أنه لا ينطبق على نفس الآية فإن جميع القرآن غير فواتح السور يصير حينئذ من المتشابه ، وقد ذم الله سبحانه اتباع المتشابه ، وعده من زيغ القلب مع أنه تعالى مدح اتباع القرآن بل عده من أوجب الواجبات كقوله تعالى : (وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ ) الأعراف ـ ١٥٧ ، وغيره من الآيات.

وثالثها : أن المتشابه هو ما يسمى مجملاً والمحكم هو المبين.

وفيه : أن ما بين من أوصاف المحكم والمتشابه في الآية لا ينطبق على المجمل والمبين. بيان ذلك : أن اجمال اللفظ هو كونه بحيث يختلط ويندمج بعض جهات

٣ ـ الميزان ـ ٣

٣٣

معناه ببعض فلا ينفصل الجهة المرادة عن غيرها ، ويوجب ذلك تحير المخاطب أو السامع في تشخيص المراد وقد جرى دأب أهل اللسان في ظرف التفاهم أن لا يتبعوا ما هذا شأنه من الألفاظ بل يستريحون إلى لفظ آخر مبين يبين هذا المجمل فيصير بذلك مبيناً فيتبع فهذا حال المجمل مع مبينه ، فلو كان المحكم والمتشابه هما المجمل والمبين بعينهما كان المتبع هو المتشابه إذا رد إلى المحكم دون نفس المحكم ، وكان هذا الاتباع مما لا يجوزه قريحة التكلم والتفاهم فلم يقدم على مثله أهل اللسان سواء في ذلك أهل الزيغ منهم والراسخون في العلم ولم يكن اتباع المتشابه أمراً يلحقه الذم ويوجب زيغ القلب.

رابعها : أن المتشابهات هي الآيات المنسوخة لأنها يؤمن بها ولا يعمل بها ، والمحكمات هي الآيات الناسخة لأنها يؤمن بها ويعمل بها ، ونسب إلى ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة ، ولذلك كان ابن عباس يحسب أنه يعلم تأويل القرآن.

وفيه : أنه على تقدير صحته لا دليل فيه على انحصار المتشابهات في الآيات المنسوخة فإن الذي ذكره تعالى من خواص اتباع المتشابه من ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل جار في كثير من الآيات غير المنسوخة كآيات الصفات والأفعال ، على أن لازم هذا القول وجود الواسطة بين المحكم والمتشابه.

وفيما نقل عن ابن عباس ما يدل على أن مذهبه في المحكم والمتشابه أعم مما ينطبق على الناسخ والمنسوخ ، وأنه إنما ذكرهما من باب المثال ففي الدر المنثور : أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عليّ عن ابن عباس قال : المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ، والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به انتهى.

خامسها : أن المحكمات ما كان دليله واضحاً لائحاً كدلائل الوحدانية والقدرة والحكمة ، والمتشابهات ما يحتاج في معرفته إلى تأمل وتدبر.

وفيه : أنه إن كان المراد من كون الدليل واضحاً لائحاً أو محتاجاً إلى التأمل والتدبر كون مضمون الآية ذا دليل عقلي قريب من البداهة أو بديهى وعدم كونه كذلك كان لازمه كون آيات الأحكام والفرائض ونحوها من المتشابه لفقدانها الدليل العقلي اللائح الواضح ، وحينئذ يكون اتباعها مذموماً مع انها واجبه الاتباع ، وإن

٣٤

كان المراد به كونه ذا دليل واضح لائح من نفس الكتاب وعدم كونه كذلك فجميع الآيات من هذه الجهة على وتيرة واحدة ، وكيف لا ؟ وهو كتاب متشابه مثاني ، ونور ، ومبين ولازمه كون الجميع محكماً وارتفاع المتشابه المقابل له من الكتاب وهو خلف الفرض وخلاف النص.

سادسها : أن المحكم كل ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي ، والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به كوقت قيام الساعة ونحوه.

وفيه : أن الأحكام والتشابه وصفان لآية الكتاب من حيث أنها آية أي دالة على معرفة من المعارف الإلهية ، والذي تدل عليه آية من آيات الكتاب ليس بعادم للسبيل ، ولا ممتنع الفهم إما بنفسه أو بضميمة غيره ، وكيف يمكن أن يكون هناك أمر مراد من لفظ الآية ولا يمكن نيله من جهدة اللفظ ؟ مع أنه وصف كتابه بأنه هدى ، وأنه نور ، وأنه مبين ، وأنه في معرض فهم الكافرين فضلاً عن المؤمنين حيث قال : ( تنزيل تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) حم السجدة ـ ٤ وقال تعالى : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) النساء ـ ٨٢ ، فما تعرضت له آية من آيات الكتاب ليس بممتنع الفهم ، ولا الوقوف عليه مستحيل ، وما لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت قيام الساعة وسائر ما في الغيب المكنون لم يتعرض لبيانه آية من الآيات بلفظها حتى تسمى متشابهاً.

على أن في هذا القول خلطاً بين معنى المتشابه وتأويل الآية كما مر.

سابعها : أن المحكمات آيات الأحكام والمتشابهات غيرها مما يصرف بعضها بعضاً ، نسب هذا القول إلى مجاهد وغيره.

وفيه : أن المراد بالصرف الذي ذكره إن كان مطلق ما يعين على تشخيص المراد باللفظ حتى يشمل مثل التخصيص بالمخصص ، والتقييد بالمقيد وسائر القرائن المقامية كانت آيات الأحكام أيضاًًً كغيرها متشابهات ، وإن كان خصوص ما لا إبهام في دلالته على المراد ولا كثرة في محتملاته حتى يتعين المراد به بنفسه ، ويتعين المراد بغيره بواسطته كان لازم كون ما سوى آيات الأحكام متشابهة أن لا يحصل العلم بشيء

٣٥

من معارف القرآن غير الأحكام لأن المفروض عدم وجود آية محكمة فيها ترجع إليها المتشابهات منها ، ويتبين بذلك معانيها.

ثامنها : أن المحكم من الآيات ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً كثيرة ونسب إلى الشافعي ، وكأن المراد به أن المحكم ما لا ظهور له إلا في معنى واحد كالنص والظاهر القوي في ظهوره والمتشابه خلافه.

وفيه : أنه لا يزيد على تبديل اللفظ باللفظ شيئاًً ، فقد بّدل لفظ المحكم بما ليس له إلا معنى واحد ، والمتشابه بما يحتمل معاني كثيرة ، على أنه أخذ التأويل بمعنى التفسير أي المعنى المراد باللفظ وقد عرفت أنه خطأ ، ولو كان التأويل هو التفسير بعينه لم يكن لاختصاص علمه بالله ، أو بالله وبالراسخين في العلم وجه فإن القرآن يفسر بعضه بعضاً ، والمؤمن والكافر والراسخون في العلم وأهل الزيغ في ذلك سواء.

تاسعها : أن المحكم ما احكم وفصل فيه خبر الأنبياء مع اممهم ، والمتشابه ما اشتبهت ألفاظه من قصصهم بالتكرير في سور متعددة ، ولازم هذا القوم اختصاص التقسيم بآيات القصص.

وفيه : أنه لا دليل على هذا التخصيص أصلاً ، على أن الذي ذكره تعالى من خواص المحكم والمتشابه وهو ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل في اتباع المتشابه دون المحكم لا ينطبق عليه ، فإن هذه الخاصة توجد في غير آيات القصص كما توجد فيها ، وتوجد في القصة الواحدة كقصة جعل الخلافة في الأرض كما توجد في القصص المتكررة.

عاشرها : أن المتشابه ما يحتاج إلى بيان والمحكم خلافه وهذا الوجه منسوب إلى الامام أحمد.

وفيه أن آيات الأحكام محتاجة إلى بيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنها من المحكمات قطعاً لما تقدم بيانه مراراً ، وكذا الآيات المنسوخة من المتشابه كما تقدم مع عدم احتياجها إلى بيان لكونها نظائر لسائر آيات الأحكام.

الحادي عشر : أن المحكم ما يؤمن به ويعمل به والمتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به ، ونسب إلى ابن تيمية ، ولعل المراد به : أن الأخبار متشابهات والإنشاءات

٣٦

محكمات كما استظهره بعضهم وإلا لم يكن قولاً برأسه لصحة انطباقه على عدة من الأقوال المتقدمة.

وفيه : أن لازمه كون غير آيات الأحكام متشابهات ، ولازمه أن لا يمكن حصول العلم بشيء من المعارف الإلهية في غير الأحكام إذ لا يتحقق فيها عمل مع عدم وجود محكم فيها يرجع إليه ما تشابه منها ، ومن جهة اخرى : الآيات المنسوخة إنشائات وليست بمحكمات قطعاً.

والظاهر أن مراده من الإيمان والعمل بالمحكم والإيمان من غير عمل بالمتشابه ما يدل عليه لفظ الآية : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ، إلا أن الأمرين أعني الإيمان والعمل معاً في المحكم والإيمان فقط في المتشابه لما كانا وظيفتين لكل من آمن بالكتاب كان عليه أن يشخص المحكم والمتشابه قبلاً حتى يؤدي وظيفته وعليهذا فلا يكفي معرفة المحكم والمتشابه بهما في تشخيص مصداقهما وهو ظاهر.

الثاني عشر : أن المتشابهات هي آيات الصفات خاصة أعم من صفات الله سبحانه كالعليم والقدير والحكيم والخبير ، وصفات أنبيائه كقوله تعالى في عيسى بن مريم عليهما‌السلام : ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) النساء ـ ١٧١ ، وما يشبه ذلك ، نسب إلى ابن تيمية.

وفيه : أنه مع تسليم كون آيات الصفات من المتشابهات لا دليل على انحصارها فيها.

والذي يظهر من بعض كلامه المنقول على طوله : أنه يأخذ المحكم والمتشابه بمعناهما اللغوي وهو ما احكمت دلالته وما تشابهت احتمالاته والمعنيان نسبيان فربما اشتبهت دلالة آية على قوم كالعامة وعلمها آخرون بالبحث وهم العلماء ، وهذا المعنى في آيات الصفات أظهر فإنها بحيث تشتبه مراداتها لغالب الناس لكون أفهامهم قاصرة عن الارتقاء إلى ما وراء الحس ، فيحسبون ما أثبته الله تعالى لنفسه من العلم والقدرة والسمع والبصر والرضا والغضب واليد والعين وغير ذلك اموراً جسمانية أو معاني ليست بالحق ، وتقوم بذلك الفتن ، وتظهر البدع ، وتنشأ المذاهب ، فهذا معنى المحكم

٣٧

والمتشابه ، وكلاهما مما يمكن أن يحصل به العلم ، والذي لا يمكن نيله والعلم به هو تأويل المتشابهات بمعنى حقيقة المعاني التي تدل عليها أمثال آيات الصفات ، فهب أنّا علمنا معنى قوله : إن الله على كل شيء قدير ، وإن الله بكل شيء عليم ونحو ذلك لكنا لا ندري حقيقة علمه وقدرته وسائر صفاته وكيفية أفعاله الخاصة به ؛ فهذا هو تأويل المتشابهات الذي لا يعلمها إلا الله تعالى ، انتهى ملخصاً ، وسيأتي ما يتعلق بكلامه من البحث عند ما نتكلم في التأويل إنشاء الله.

الثالث عشر : أن المحكم ما للعقل إليه سبيل والمتشابه بخلافه.

وفيه : أنه قول من غير دليل ، والآيات القرآنية وإن انقسمت إلى ما للعقل إليه سبيل وما ليس للعقل إليه سبيل ، لكن ذلك لا يوجب كون المراد بالمحكم والمتشابه فيهذه الآية استيفاء هذا التقسيم ، وشيء مما ذكر فيها من نعوت المحكم والمتشابه لا ينطبق عليه انطباقاً صحيحاً على أنه منقوض بآيات الأحكام فإنها محكمة ولا سبيل للعقل إليها.

الرابع عشر : أن المحكم ما اريد به ظاهره والمتشابه ما اريد به خلاف ظاهره ، وهذا قول شائع عند المتأخرين من أرباب البحث ، وعليه يبتني اصطلاحهم في التأويل : أنه المعنى المخالف لظاهر الكلام ، وكأنه ايضا مراد من قال : إن المحكم ما تأويله تنزيله : والمتشابه ما لا يدرك إلا بالتأويل.

وفيه : أنه اصطلاح محض لا ينطبق عليه ما في الآية من وصف المحكم والمتشابه فإن المتشابه إنما هو متشابه من حيث تشابه مراده ومدلوله ، وليس المراد بالتأويل المعنى المراد من المتشابه حتى يكون المتشابه متميزاً عن المحكم بأن له تأويلاً ، بل المراد بالتأويل في الآية أمر يعم جميع الآيات القرآنية من محكمها ومتشابهها كما مر بيانه على أنه ليس في القرآن آية اريد فيها ما يخالف ظاهرها ، وما يوهم ذلك من الآيات إنما اريد بها معان يعطيها لها آيات اخر محكمة والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، ومن المعلوم أن المعنى الذي تعطيه القرائن ـ متصلة أو منفصلة ـ للفظ ليس بخارج عن ظهوره وبالخصوص في كلام نص متكلمه على أن ديدنه أن يتكلم بما يتصل بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ويرتفع كل اختلاف وتناف مترائي بالتدبر ، فيه قال تعالى : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) النساء ـ ٨٢

٣٨

الخامس عشر : ما عن الأصم : أن المحكم ما اجمع على تأويله والمتشابه ما اختلف فيه وكأن المراد بالإجماع والاختلاف كون مدلول الآية بحيث يختلف فيه الأنظار أو لا يختلف.

وفيه : أن ذلك مستلزم لكون جميع الكتاب متشابهاً وينافيه التقسيم الذي في الآية إذ ما من آيه من آي الكتاب إلا وفيه اختلاف ما إما لفظاً أو معنى أو في كونها ذات ظهور أو غيرها ، حتى ذهب بعضهم إلى أن القرآن كله متشابه مستدلاً بقوله تعالى : (كِتَاباً مُّتَشَابِهاً) الزمر ـ ٢٣ ، غفلة عن أن هذا الاستدلال منه يبتني على كون ما استدل به آية محكمة وهو يناقض قوله ، وذهب آخرون إلى أن ظاهر الكتاب ليس بحجة أي أنه لا ظاهر له.

السادس عشر : أن المتشابه ما أشكل تفسيره لمشابهته غيره سواء كان الاشكال من جهة اللفظ أو من جهة المعنى ، ذكره الراغب.

قال في مفردات القرآن والمتشابه من القرآن ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره إما من حيث اللفظ ، أو من حيث المعنى ، فقال الفقهاء المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده ، وحقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب محكم على الاطلاق ومتشابه على الاطلاق ومحكم من وجه متشابه من وجه.

فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب متشابه من جهة اللفظ فقط ومتشابه من جهة المعنى فقط ، ومتشابه من جهتهما. والمتشابه من جهة اللفظ ضربان : أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة ، وذلك إما من جهة غرابته نحو الأبّ ويزفّون وإما من جهة مشاركة في اللفظ كاليد والعين ، والثاني يرجع إلى جملة الكلام المركب ، وذلك ثلاثة أضرب : ضرب لاختصار الكلام نحو ( وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) وضرب لبسط الكلام نحو ليس كمثله شيء لأنه لو قيل ليس مثله شيء كان أظهر للسامع ، وضرب لنظم الكلام ( نحو أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيماً تقديره الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً ، وقوله : ولو لا رجال مؤمنون إلى قوله لو تزيلوا.

والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة ، فإن تلك

٣٩

الصفات لا تتصور لنا ، إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه ، أو لم يكن من جنس ما لم نحسه.

والمتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعاً خمسة أضرب : الأول : من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو اقتلوا المشركين ، والثاني : من جهة الكيفية كالوجوب والندب نحو فانكحوا ما طاب لكم ، والثالث : من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو اتقوا الله حق تقاته ، والرابع : من جهة المكان أو الامور التي نزلت فيها نحو وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ، وقوله : انما النسيء زيادة في الكفر ، فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية ، والخامس : من جهة الشروط التي بها يصح الفعل أو يفسد كشروط الصلوة والنكاح.

وهذه الجملة إذا تصورت علم : أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم نحو قول من قال المتشابه ألم ، وقول قتادة : المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ ، وقول الأصم : المحكم ما اجمع على تأويله والمتشابه ما اختلف فيه.

ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب : ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة وخروج دابة الأرض وكيفية الدابة ونحو ذلك. وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة وضرب متردد بين الأمرين ، يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم ، وهو الضرب المشار إليه بقوله عليه‌السلام في علي رضي الله عنه : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ، وقوله لابن عباس مثل ذلك ، انتهى كلامه وهو أعم الأقوال في معنى المتشابه جمع فيها بين عدة من الأقوال المتقدمة.

وفيه : أولا : أن تعميمه المتشابه لموارد الشبهات اللفظية كغرابة اللفظ وإغلاق التركيب والعموم والخصوص ونحوها لا يساعد عليه ظاهر الآية ، فإن الآية جعلت المحكمات مرجعاً يرجع إليه المتشابهات ، ومن المعلوم أن غرابة اللفظ وأمثالها لا تنحل عقدتها من جهة دلالة المحكمات ، بل لها مرجع آخر ترجع إليه وتتضح به.

وأيضاًًً : الآية تصف المتشابهات بأنها من شأنها أن تتبع لابتغاء الفتنة ، ومن المعلوم : أن اتباع العام من غير رجوع إلى مخصصه ، والمطلق من غير رجوع إلى مقيده

٤٠