دروس تمهيديّة في الفقه الإستدلالي - ج ١

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

دروس تمهيديّة في الفقه الإستدلالي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : الفقه
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: توحيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٣

١
٢

٣
٤

المقدمة

لقد بات اصلاح الكتب الدراسية الحوزوية طموحاً لم يتحقق بعد كما ينبغي ، إذ لم تكن مصاعب الطريق مع همم الإصلاح متكافئة.

وبالرغم من تعرض الكتب الدراسية للإصلاح فيما يرتبط ببعض العلوم الحوزوية كالمنطق والفلسفة واصول الفقه والصرف والنحو والبلاغة ... غير انّ علم الفقه والّذى يُعدّ عَصب الحياة الحوزوية لم تتعرّض كتبه الدراسية للإصلاح عبر قرون عديدة بالرغم من انّه يشغل مساحة واسعة من حياة الطالب العلميّة.

ويمرّ الطالب عادةً فى دراسته الفقهية بمرحلتين : احداهما تمهيدية (مرحلة السطح) والاُخرى عالية (مرحلة الخارج) وتتّخذ الدراسة فى مرحلتها التمهيدية اُسلوب البحث فى كتب معيّنة مؤلّفة فى ذلك العلم يدرسها الطالب على يد الاساتذة الأكفاء ، ليتهيّأ من خلال ذلك لحضور أبحاث الخارج.

وقد جرى العرف العام فى حوزاتنا جميعاً على اختيار « الروضة البهية فى شرح اللمعة الدمشقية » كأوّل كتاب دراسى فقهى استدلالى للمرحلة الاُولي؛ إذ يجمع جميع أبواب الفقه فيمرّ الطالب من خلال دراسته له بدورة فقهيّة استدلالية مبسطة

٥

وكاملة تقريباً ويمتاز هذا الكتاب أيضاً بإتقان العبائر وإيجازها بالإضافة الي عمق الاستدلال والنظر فى جملة بحوثه.

لكن هذا الكتاب ـ كغيره من الكتب الدراسية الموروثة ـ لم يؤلّف لهدف التدريس وإنّما أُلّف ليعبّر عن آراء مؤلّفه ، فهو يستحقّ أن يكون مرجعاً مهمّاً للمتفقّه ولايصلح أن يكون كتاباً دراسيّاً ، إذ لم تتوفّر فيه مميّزات الكتاب الدراسي الذى يراعى فيه مستوى الطالب وقدراته وثقافته العامّة وثقافته اللغوية ومشكلات عصره وحاجاته الواقعية والأهداف التى يُراد إيصاله إليها خلال هذه المرحلة من حياته الدراسية ، على أنّ الإيجاز الشديد فى بعض العبارات يبعّد الطالب عن هدف الفهم والاستيعاب للمفهوم من خلال النص الدراسي.

بالإضافة الى عدم وجود ضرورة لأن يدرس الطالب بحوثاً تتعلق بموضوعات لايعايشها وقد لايجد مصداقاً واحداً لها فى حياته الحالية كبحوث كتاب العتق ومنزوحات البئر.

بعد تطوّر أساليب التعليم لمادّة الرياضيات لايحتاج الطالب الى أساليب الحساب القديمة والمعقدة كما هو المتداول فى كتاب الإرث.

وهناك فروع فقهية يكثر ابتلاء الطالب اليوم بها ولايجدها فى مثل الروضة البهية التى هى من مصنّفات القرنين الثامن والعاشر الهجريين « وكلّ مؤلف محكوم بمشكلات عصره والتحديدات الزمنية التى تواجه المجتمع الذى يعيش فيه وليس بالإمكان أن يتجاوز مشكلاته الحاضرة ... ونتوقع منه رفد الطالب اليوم بما يتناسب مع حاجاته وهو يريد أن يمرّ فى هذه المرحلة الدراسية بدورة

٦

فقهية كاملة ولايتيسّر له بعد ذلك أن يقرأ لا فى مرحلة « السطح » ولا فى مرحلة « الخارج ».

ومن هنا يلزم أن تتوفّر فى الكتاب الدراسى جميع الفروع الفقهية المهمّة للطالب فى هذا العصر والتى يكثر الابتلاء بها ، وهذا ما لايمكن تحقيقه من خلال هذا النصّ الفقهى القيّم. وليس فى هذا انتقاص لقيمة هذا الكتاب ولا لمؤلّفه.

ولايسعنا فى هذا المجال إلاّ أن نستشعر بعمق ما لأصحاب هذه الكتب الفقهية قدس سرهم من فضل عظيم على الحوزة العلمية ومسيرتها العلمية ... والتى تخرّج من حلقاتها الدراسية الآلاف من الطلبة الذين وجدوا فيها سلّمهم الى أبحاث الخارج.

فلا يمكن أن ننسى هذا الجميل لهؤلاء المؤلفين العظام ونحن نبتهل الى اللّه تعالى أن يتغمّدهم بعظيم رحمته ويثيبهم بأفضل ثواب المحسنين.

غير أن هذا لايحول دون أن نحاول تطوير الكتب الدراسية وتحسينها إذا وجدت مبرّرات تدعو الى ذلك وأمكن وضع كتب دراسية أكثر قدرة على أداء دورها العلمى فى تنمية الطالب وإعداده للمرحلة العليا. (١)

والكتاب الذى بين يديك يمثّل محاولة جادّة فى هذا المضمار فى حقل الفقه بالذات يضاف الى سائر المحاولات التى نجدها فى هذه الأيّام.

خصائص هذا الكتاب ومميّزاته

١ ـ تصدَّر الكتاب بحثٌ قيّم حول « خصائص مدرسة أهل البيت الفقهيّة » و

__________________

١ ـ من مقدمة الشهيد المجدّد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر على الحلقات الثلاث فى علم الاصول.

٧

أدوار الفقه الإمامى وهو بحث مهمّ للطالب المبتدي ء بدراسة الفقه ، إذ يفتح ذهنه على جذور البحث الفقهى ومراحل تطوّره حتى العصر الحاضر(١).

٢ ـ لقد ميّز المؤلّف فى كلّ مسألة بين الفتوى (الحكم) والدليل (المستند) ولم يترك حكماً شرعيّاً يرد ذكره بلا دليل يدلّ عليه.

٣ ـ لم يتعرّض المؤلف لاستقصاء الأقوال وذكر أصحابها فى كلّ مورد ، باعتباره كتاباً استدلاليّاً يراد تدريسه فى أوّل مرحلة لمن يريد الدخول الى علم الفقه ، فلا يستحسن الاستقصاء بل يكفى ذكر أهمّ الآراء مع جملة من أدلّتها لغرض التعرّف على اُسلوب الاستنباط من دون أن يتجشم مشكلة عرض الأقوال والأدلّة.

٤ ـ آثر المؤلف سهولة التعبير ووضوحه الى جانب متانة المحتوى وقوّته ، محاولاً إبطال المغالطة القائلة : أن التفقّه والاجتهاد يتوقّفان على دراسة الكتب المعقدة التعبير ، وانّ سهولة العبارة تنتج السطحيّة والسذاجة العلميّة.

وهل فى مطالبنا العلميّة ضعف لنحاول تغطيته من خلال تعقيد الألفاظ؟

وهل من المفضَّل إتعاب الذهن بالضمائر والغاز الألفاظ وعدم منحه الفرصة بعد ذلك للتأمل فى صحّة المطلب وسقمه؟

٥ ـ مال المؤلف فى رأيه الفقهى فى جملة من الموارد الى خلاف الرأي المشهور ، لكنّه أشار الى وجه مخالفته للمشهور بعد استعراضه لأدلّة المشهور ومناقشتها طبعاً.

٦ ـ اتّبع المؤلف فى التبويب الفقهى لكتابه هذا ، التبويب الرباعى للمحقق

__________________

١ ـ للتفصيل راجع : تاريخ التشريع الإسلامي ، للدكتور عبدالهادى الفضلي ، فهو أحدث وأوسع محاولة فى هذا الحقل.

٨

الحلى قدس‌سره والذى سار عليه عامّة الفقهاء من بعده وهو تقسيم الفقه الي : (العبادات ، العقود ، الإيقاعات ، الأحكام) وأشار الى أنّ هذا التبويب يحتاج الى التطوير والإكمال ولكنّه آثر السير عليه فى هذه الحلقة وذلك لغرض ايجاد ربطٍ وحلقة وصلٍ للطالب بين التراث الفقهى الموروث الذى سوف يضطرّ لمراجعته فيما بعد وبين ما استقرّ عليه الفقه فى العصر الحاضر.

٧ ـ والمصادر الاُولى للكتاب هى القرآن الكريم والسنة الشريفة التى تمثّلت فى المجموعة الحديثية المعروفة بـ « وسائل الشيعة » ، وقلّما أرجع المؤلف الطالب الى المصادر الفقهيّة الاُخرى أو تعرّض لمناقشتها مادام المستند الأساسي هو الوحى المتمثّل فى القرآن والسنة.

٨ ـ حاول المؤلف أن يقدّم فى كلّ مسألة نصّاً روائياً واحداً ليتربّى الطالب على معرفة النصوص الروائية التى يحتاجها فى المرحلة المتطوّرة من دراسته المسمّاة بـ « البحث الخارج ». وبذلك يكون قد وفّر لنفسه المقدّمات اللازمة لاستيعاب البحوث الفقهية المعمّقة.

وإذا كان بين النصوص تعارض حاول تدريب الطالب على كيفيّة علاجه.

واذا كان بعض أسناد النصوص بحاجة الى وقفة قصيرة عنده ، فقد لا يترك ذلك.

وهذه نقطة مهمّة نفقد وجودها فى الروضة البهية ، فالطالب حينما ينهى دراسة ذلك الكتاب لا تكون له المامة بالروايات فيواجه الطفرة حينما ينتقل الى مرحلة الخارج ويجد امامه كمّاً هائلاً من الروايات والنكات السنديّة والرجالية التي لم تطرّق ذهنه مسبقاً.

٩

٩ ـ كما حاول المؤلف أن لايذكر حكماً فقهياً من دون دليل يدلّ عليه ، وهذا ما لانجده فى الروضة البهية أو الكتب الفقهية الاُخرى المتداولة للتدريس فى هذه المرحلة.

١٠ ـ وحيث تميّزت المدارس الفقهية الإمامية فى العصر الحاضر بخصائص معيّنة فى مجال الإستدلال الفقهى مجتازة أساليب استدلال القدماء ومناهجهم ، حاول المؤلف أن يتعرّض لها ليقف الطالب على نماذج من الإستدلال الفقهي المعاصر أيضاً.

١١ ـ على أنّ المؤلّف جهد فى استعراض الأحكام الفقهية الأساسية ولم يول اهتمامه بالتفريع ، لأنّ ملكة الاجتهاد لاتحصل بمجرّد كثرة الإطّلاع على الفروع واستيعابها فهماً وحفظاً ، وإنّما تتحقّق بالوقوف على مناهج الاستنباط وفهم أساليبه بشكل منهجى مدروس قبل كل شي ء.

١٢ ـ نتمكّن أن نقول انّ الطالب بانهائه للروضة البهية لايحسّ من نفسه التقدم خطوة الى ملكة الاستنباط وإنّما يحسّ التقدم خطوة أو خطوات الى ثروة علمية لا أكثر على العكس حينما يدرس هذا الكتاب.

إنّ هذه الخصائص التى تميّز بها هذا الكتاب لاتحول دون نقده وتطويره.

فان هذه المحاولة ليست هى الاُولى والأخيرة فى هذا المجال ، وإنّما هى خطوة اُولى فحسب ، ومن هنا فإنّا نستقبل كل النقود البنّاءة والإقتراحات التى يتفضّل بها علينا الفقهاء العظام والمحقّقون من الأساتذة الكرام لتطوير هذا الكتاب الفقهي الدراسى برفع النقص منه وإكماله كما هو شأن أيّ عمل يُراد له الكمال.

١٠

كما يقدم المركز العالمى للدراسات الإسلامية جزيل الشكر لفضيلة الاُستاذ الحجّة سماحة الشيخ باقر الإيروانى « حفظه اللّه » إذ تقبّل اقتراح المركز برحابة صدر وتصدّى لكتابة هذا السفر القيّم فنسأله تعالى أن يتقبّل منه ومنّا بأحسن القبول ودوام التوفيق إنّه وليّ ذلك.

كما نشكر المراجع والأساتذة والفقهاء الذين تفضّلوا علينا بمطالعته ونقده والملاحظة عليه بما يرفع النقص عنه ويمدّه بالكمال والإتقان.

وختاماً نرجو أن نكون قد وفّقنا لتحقيق شيء من طموحات قائد الثورة الإسلامية المباركة سماحة آية الله السيد الخامنئى ـ دام ظلّه ـ فى مجال تطوير المستوى الدراسى والعلمى فى حوزاتنا المباركة آملين الفوز برضا مولانا صاحب العصر والزمان (ارواحنا له الفداء).

المركز العالمى للدّراسات الإسلامية

مكتب مطالعة وتدوين المناهج الدراسيّة

١١
١٢

كيف تَطوَّر فقه أهل البيت عليهم السلام

الفقه لغة وإصطلاحا

مدرسة النصّ ومدرسة الرأى

مصادر التشريع فى فقه أهل البيت عليهم‌السلام

مستندات حقّانيَّة مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام

الأدوار الثلاثة لفقه أهل البيت عليهم‌السلام

١٣
١٤

الفقه لغةً واصطلاحا

الفقه لغة : الفهم والعلم. ولعلّ منه قوله تعالي : قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا ممّا تَقول (١).

واصطلاحا عبارة عن : مجموع الأحكام الشرعيّة الفرعيّة. ولعلّ منه قوله تعالي : ( فلولا نفر من كلِّ فرقةٍ منهم طائفة ليتفقَّهوا فى الدين وليُنذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلَّهم يحذرون ) (٢) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من يُرِد اللّه به خيرا يفقّهه فى الدين » (٣) ، فإنّ التفقّه فى الدين إذا لم يرد منه خصوص العلم بالأحكام الشرعيّة فلا أقلّ من شمول إطلاقه لها.

وأمّا الاجتهاد ، فكان يطلق سابقا على إعمال الرأى والظنون. وهو اليوم بمعنى الاستنباط والقدرة على تحصيل الأحكام من مصادرها الأصلية الآتية.

ومنه يتَّضح أنَّ تعريف الفقه بـ « العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية » (٤) تعريف للاجتهاد دونه.

__________________

١ ـ هود : ٩١.

٢ ـ التوبة : ١٢٢.

٣ ـ امالى المفيد : ١ / ١٥٨ ؛ صحيح البخاري : ١ / ١٦.

٤ ـ معالم الدين / ٦٦.

١٥

مدرسة النصّ ومدرسة الرأى

يلتحق الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرفيق الأعلى بعد إكمال رسالته الخالدة بشهادة القرآن الكريم : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيتُ لكم الإسلام ديناً ) (١) وتبرز إثر ذلك مدرستان : « مدرسة النصّ » و « مدرسة الرأى ».

ونعنى بالمدرسة الاُولي ، مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام المتمثّلة بشخص رئيسها امير المؤمنين عليه‌السلام ومن بعده الذرّيَّة الطاهرة من ولده عليهم‌السلام.

والطابع اللائح على هذه المدرسة اعتمادها فى مصادر التشريع على الكتاب والسنَّة لاغير. وحركة الاجتهاد لديها تتحرّك داخل حدود المصدرين المذكورين.

وتنطلق هذه المدرسة فى اقتصارها على المصدرين المذكورين على فكرة وفاء القرآن الكريم وسنَّة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله بكلِّ ما يحتاج اليه المسلمون من أحكام. فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أودع من السنَّة الشريفة لدى امير المؤمنين والذرّيَّة الطاهرة عليهم‌السلام من ولده ما يغنى المسلمين عن الحاجة الى الإعتماد على غير النصّ.

ونعنى بالمدرسة الثانية مدرسة الخلفاء بشخص رئيسها الخليفة الثانى والتى امتدَّت من بعده وبلغت أوجها على يد إمام الأحناف أبى حنيفة الى حدِّ كان يخالف النصّ لأجل الرأى والاستحسان ، فقد روى الخطيب البغدادى فى تاريخه إنَّ أباحنيفة كان يقول :

« لو ادركنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأدركته ، لأخذ بكثير من قولى وهل الدين إلاّ الرأى الحسن » (٢).

__________________

١ ـ المائدة : ٣.

٢ ـ تاريخ بغداد : ١٣ / ٣٩٠.

١٦

وتعتمد هذه المدرسة فى مصادر التشريع إضافة الى الكتاب والسنَّة على الرأي. وحركة الاجتهاد لديها لاتقتصر على داخل حدود النصّ بل تتعدّاه الى خارجه وتجتهد وفق الرأى والاستحسان أيضاً.

وتنطلق المدرسة المذكورة فى عقيدتها هذه من فكرتها الخاصّة حول الكتاب والسنَّة الشريفين وانَّهما غير وافيين بما يحتاج اليه المسلمون من أحكام.

وقد برزت جذور هذه المدرسة فى عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله والسِنى الاُولى من عصر الرسالة ، فكان النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الذى لاينطق عن الهوى يقول شيئا وجذور المدرسة المذكورة تحكّم رأيها واجتهادها فى مقابل النصّ.

وعلى سبيل المثال كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمر بكتابة سنَّته والمدرسة تمنع ، ففى حديث عبداللّه بن عمرو بن العاص :

« كنت اكتب كلَّ شيء أسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنهتنى قريش وقالوا تكتب كلَّ شيء سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسول اللّه بشرٌ يتكلّم فى الغضب والرضا؟ فامسكتُ عن الكتابة فذكرتُ ذلك لرسول اللّه فأَومأ بإصبعه الى فيه وقال : اُكتُب فو الّذى نفسى بيده ما خرج منه إلاّ حق » (١).

وأمَرَ صلى‌الله‌عليه‌وآله فى اُخريات حياته بإحضار كتاب يكتب لهم فيه ما لا يضلّون بعده أبدا فامتنعت المدرسة وقال بعض رجالها فى حق النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله قد غلبه الوجع. وقد حدّثنا البخارى فى صحيحه عن ابن عباس :

« لما حُضر النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال : هَلمَّ

__________________

١ ـ سنن ابى داود : ٢ / ١٢٦ ؛ مسند احمد : ٢ / ١٦٢ ، ٢٠٧ ، ٢١٦ ؛ سنن الدارمي : ١ / ١٢٥.

١٧

اكتب لكم كتابا لن تَضلّوا بعده ، قال عمر : إنَّ النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله غلبه الوجع وعندكم كتاب اللّه فحسبنا كتاب اللّه ، واختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول ما قال عمر ، فلمّا أَكثروا اللغط والاختلاف ، قال : قوموا عنّى ولا ينبغى عندى التنازُع » (١).

وينقل البخارى فى موضع آخر من صحيحه انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « آتونى بكتاب اكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا ، فقالوا : يَهجُر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٢).

ويأمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله بتنفيذ جيش أسامة ويجتهد آخرون فى مخالفته. يقول الشهرستاني :

« والخلاف الثانى فى مرضه انّه قال : «جهّزوا جيش أسامة ، لعن اللّه من تخلَّف عنه » فقال قوم : يجب علينا امتثال أمره وأسامة قد برز من المدينة. وقال قوم : قد اشتدَّ مرض النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا تسع قلوبنا مفارقته والحال هذه فنصبر حتى نبصر ايّ شيءٍ يكون من أمره». (٣)

يقول احمد امين :

« نقل عن كثير من كبار الصحابة قضايا ، أفتوا فيها برأيهم كأبى بكر وعمر وزيد بن ثابت ... وكان حامل لواء هذه المدرسة أو هذا المذهب فيما نرى عمر بن الخطاب » (٤).

__________________

١ ـ صحيح البخاري ، كتاب العلم ، باب العلم : ١ / ٢٢.

٢ ـ صحيح البخاري ، كتاب الجهاد ، باب جوائز الوفد : ٢ / ١٢٠.

٣ ـ الملل والنحل : ٢٣ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد : ١ / ٥٣.

٤ ـ فجر الاسلام : ٢٤٠.

١٨

لماذا الحاجة الى مصدر ثالث

إنَّ بروز فكرة الاعتماد على الرأى كمصدر ثالث للتشريع فى عهد الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله والسِنى الاولى من رحيله الى الرفيق الأعلى له أسبابه السياسية الخاصة المعروفة ، ولكن لِمَ أخذت الفكرة المذكورة بالاختمار أكثر حتى بلغت أوجها على يد إمام الحنفية النعمان بن الثابت؟ ذلك يعود الى المنع من تدوين سنَّة الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله على يد الخلفاء واستمرارا على يد معاوية وحتى خلافة عمر بن عبدالعزيز الّذى حاول رفع الحصار حيث أمر ابن شهاب الزهرى بتدوين الحديث(١).

ويحدث الذهبى أنَّ الخليفة الأوَّل جمع الناس بعد وفاة النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً : « إنّكم تُحدِّثون عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشدّ اختلافا ، فلاتحدثوا عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً ، فمن سألكم ، فقولوا : بيننا وبينكم كتاب اللّه فاستحِلّوا حلاله وحرِّموا حرامه » (٢).

ويروى الذهبى أيضاً أنَّ الخليفة الثانى حبس ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري ، قائلاً لهم : « أكثرتم الحديث عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٣). وكان يقول أيضاً للصحابة : « اقلّوا الرواية عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ فيما يعمل به » (٤).

وفى عهد الخليفة الثالث أعلن على المنبر : « لا يحلّ لأحد يروى حديثا لم يسمع

__________________

١ ـ طبقات ابن سعد : ٥ / ١٤٠ ؛ فتح الباري ، باب كتابة العلم : ١ / ٢١٨.

٢ ـ تذكرة الحفاظ : ١ / ٢ ـ ٣.

٣ ـ تذكرة الحفاظ : ١ / ٧.

٤ ـ تاريخ ابن كثير : ٨ / ١٠٧.

١٩

به فى عهد أبى بكر ولا فى عهد عمر » (١).

وفى عهد معاوية برزت ظاهرة جديدة وهى الحثّ على اختلاق أحاديث فى فضائل الخلفاء. يقول الطبري :

« إنَّ معاوية لمّا استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين وامّره عليها دعاه وقال له : «قد أردت ايصاءك بأشياء كثيرةٍ ، أنا تاركها إعتمادا على بصرك ولست تاركا ايصاءك بخصلة : لا تترك شتم عليّ وذمّه واكثر الترحم على عثمان والاستغفار له والعيب لأصحاب عليّ والإقصاء لهم والإطراء لشيعة عثمان والادناء لهم. فقال له المغيرة : قد جَرَّبتَ وجُرِّبتُ وعملتُ قبلك لغيرك ، فلم يذممنى وستبلو فتَحمِد أو تذمّّ فقال : بل نَحمِد إن شاء اللّه » (٢).

هذا فى مدرسة الرأى والعكس تماما نجده فى مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام فالإمام الصادق عليه‌السلام يقول : « اكتبوا فانّكم لاتحفظون حتى تكتبوا » (٣) و « احتفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون اليها » (٤) و « اعرفوا منازل الناس على قدر رواياتهم عنّا » (٥).

مناقشة أهل البيت عليهم‌السلام لمدرسة الرأى

وللإمام الصادق عليه‌السلام مناقشات متعددة ودقيقة لمدرسة الرأي. ففى يوم قال

__________________

١ ـ منتخب الكنز بهامش مسند احمد : ٤ / ٦٤.

٢ ـ تاريخ الطبري : ٢ / ١١٢ ؛ تاريخ ابن الأثير : ٣ / ١٠٢.

٣ ـ وسائل الشيعة : باب ٨ من ابواب صفات القاضي ، حديث ١٦.

٤ ـ وسائل الشيعة : باب ٨ من أبواب صفات القاضي ، حديث ١٧.

٥ ـ وسائل الشيعة : باب ٨ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٧.

٢٠