بحوث في علم الأصول - ج ١

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١

إرادة لا كلية ولا جزئية كما هو واضح.

الرّأي المختار في حقيقة الوضع

وتحقيق الكلام في تشخيص حقيقة الوضع. أن يقال : بأن الله سبحانه وتعالى قد جعل من الإحساس بالشيء سببا في انتقال الذهن إلى صورته فالانتقال الذهني إلى الشيء استجابة طبيعية للإحساس به وهذا قانون تكويني ويوجد قانونان تكوينيان ثانويان يوسعان من دائرة تلك الاستجابة الذهنية.

أحدهما : قانون انتقال صورة الشيء إلى الذهن عن الطريق إدراك مشابهة ، كانتقال صورة الحيوان المفترس إلى الذهن بسبب رؤية رسم مشابه له على الورق.

ثانيهما : قانون انتقال صورة الشيء إلى الذهن عن طريق إدراك الذهن لما وجده مشروطا ومقترنا بذلك الشيء على نحو أكيد بليغ فيصبح هذا القرين في حكم قرينة من حيث إيجاد نفس الأثر والاستجابة الذهنية التي كان يحدثها على الذهن عند الإحساس به. وهذا هو ما يسمى في المصطلح الحديث بالمنية الشرطي والاستجابة الحاصلة منه بالاستجابة الشرطية.

وهذا الاقتران والأشراط الّذي يوجب الاستجابة المذكورة لا بد وأن يكون على وجه مخصوص ، أي لا يكفي فيه مطلق الاقتران بل لا بد وأن يكون اقترانا مركزا مترسخا في الذهن اما نتيجة كثرة تكرر الاقتران خارجا أمام إحساس الذهن ، وهذا هو العامل الكمي لتركيز الاقتران ، أو نتيجة ملابسات اكتنفت الاقتران ولو دفعة واحدة جعلته لا ينمحي عن الذهن ، وهذا هو العامل الكيفي.

والإنسان تحدث استجاباته الذهنية وفق هذه القوانين الثلاثة ، فإذا أطلق شخص مثلا صوتا مشابها لزئير الأسد انتقل إلى الذهن تصور ذلك الصوت نتيجة الإحساس المسمعي به وهو تطبيق للقانون الأول ، ثم ينتقل الذهن من ذلك إلى تصور الزئير نتيجة المشابهة بينهما وهذا تطبيق للقانون الثانوي الأول ، ثم ينتقل من ذلك إلى صورة الأسد نفسه الملازم خارجا مع صوته وهذا تطبيق للقانون الثانوي الثاني.

وقد حاول الإنسان أن يستفيد من القانونين التكوينيين الثانويين في مقام التعبير

٨١

عن مقصوده ونقله إلى ذهن مخاطبه ، فاعتمد على القانون الثانوي الأول في استخدام الإشارات التعبيرية والتصويرية التي تنقل المعاني إلى الذهن على أساس التشابه ، ولما كان قد اعتاد ان ينتقل من الأصوات إلى أسبابها وأشكال مناشئها على أساس الاقتران الخارجي فقد اتجه إلى توسيع نطاق الاستفادة من الأصوات واستخدامها في مجال تفهيم الآخرين أيضا باستخدام القانون الثانوي الثاني عن طريق جعل لفظ أو صوت مخصوص مقترنا ومشروطا بمعنى مخصوص اقترانا أكيدا ناشئا من التكرار أو نتيجة عامل كيفي معين وبذلك نشأت العلقة الوضعيّة ، أعني السببية والاستتباع بين ذلك الصوت المخصوص والمعنى المخصوص.

وهكذا تولدت ظاهرة اللغة في حياة الإنسان وبدأت تتكامل وتتوسع من صيغ بدائية محدودة إلى صيغ متكاملة أكثر شمولا واستيعابا للألفاظ والمعاني.

هذا هو حقيقة الوضع ؛ فالواضع بحسب الحقيقة يمارس عملية الإقران بين اللفظ والمعنى بشكل أكيد بالغ ، وهذا الاقتران البالغ إذا كان على أساس العامل الكمي ـ كثرة التكرار ـ سمي بالوضع التعيني وإذا كان على أساس العامل الكيفي سمي بالوضع التعييني.

مميزات النظرية المختارة في الوضع

وفي ضوء هذا التحليل لحقيقة الوضع تتضح الأمور التالية :

١ ـ ان الوضع ليس مجعولا من المجعولات الإنشائية والاعتبارية كالتمليك بعوض المجعول في باب البيع مثلا. وإنما هو أمر تكويني يتمثل في أشراط مخصوص بين اللفظ والمعنى المحقق لصغرى قانون الاستجابة الشرطية الّذي هو قانون طبيعي.

وقد يستخدم الإنشاء لإيجاد هذا الأشراط ـ كما في الوضع التعييني ـ ولكن هذا لا يعني ان الأشراط هو المنشأ بل نفس الإنشاء بما هو عملية تكوينية تصدر خارجا يحقق الأشراط المطلوب.

٢ ـ ان الدلالة التي تتحقق بالوضع دلالة تصورية دائما ، ولهذا لا فرق في انتقال السامع إلى المعنى بين أن يسمعه من لافظ ذي شعور أو من جهة غير شاعرة كالجدار

٨٢

مثلا ، لأن الاقتران الأكيد الّذي هو ملاك الدلالة الوضعيّة ثابت في الحالتين ولا مجال للتفكيك بينهما بعد أن تم الأشراط بين اللفظ والمعنى واما الدلالة الكاشفة عن إرادة التفهيم أو غير ذلك فهي موقوفة على ملاكات أخرى من ظهورات حالية وسياقية.

وبذلك يظهر وجه النّظر فيما وجهه السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ على القائلين بأن الدلالة الوضعيّة تصورية من أن الوضع حيث انه فعل اختياري للواضع الحكيم فإطلاقه لأمثال هذه الموارد التي لا يترتب على الوضع فيها أثر يكون لغوا وعبثا (١).

فان هذا مبني على افتراض الوضع مجعولا اعتباريا إنشائيا على حد ساير المجعولات التشريعية ، واما بعد إن عرفنا حقيقة الوضع في الاقتران المخصوص بين اللفظ والمعنى فلا يتصور إيجاد هذا الاقتران في حالة دون حالة ، بل أمره دائر بين الوجود والعدم لا الإطلاق والتقييد.

٣ ـ ويستخلص مما سبق توقف فعلية الدلالة الوضعيّة غالبا على العلم بالوضع ، لأنه إنما تتحقق الدلالة بالإشراط والاقتران فلا بد وأن يعيش الشخص ذهنيا حالة الأشراط والاقتران بين اللفظ والمعنى لينتقل إلى المعنى عند سماع اللفظ وهذا يكون غالبا على أساس العلم بالوضع ، وقد يحصل على أساس تلقيني ، كأن تقرن أمام طفل مثلا بين اللفظ والمعنى على نحو خاص فتحصل العلقة في ذهنه عن طريق هذا التلقين فتؤثر هذه العلقة أثرها وإن لم يكن الطفل عالما بنفس هذه العلقة.

الفصل الثاني في تشخيص الواضع

اختلفوا في تشخيص الواضع بين اتجاهين الاتجاه القائل بإلهية الوضع والاتجاه القائل ببشريته.

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٥٢

٨٣

أدلة القول بإلهية الوضع

ومن أنصار الاتجاه الأول من أعلام الأصوليين المحقق النائيني ( قده ) وقد حاول تعزيز موقفه بأمرين :

١ ـ ما نشاهده من استيعاب الأوضاع اللغوية لدقائق فنية ـ سواء ما كان منها ترتبط بجانب اللفظ أو المعنى ـ تفوق عادة طاقة جماعة من الناس وقدرتهم على نسجها وإبداعها فما ظنك بشخص واحد.

٢ ـ لو كان هناك واضع بشري معين قد أبدع كل هذا النظام اللغوي المنسق المتكامل لنقل ذلك في التاريخ ولخلد ذكره في الشعوب بينما لا يوجد شيء من ذلك في تاريخ أي لغة من اللغات (١).

مناقشة القول بإلهية الوضع

وقد نوقش في كلا هذين الأمرين من قبل أنصار الاتجاه الثاني : بأن مدعي بشرية الوضع لا يفترض وجود شخص معين من البشر قد قام بإبداع كل هذا النظام اللغوي الدّقيق ، وإنما يدعي أن الإنسان بذكائه الملهم من قبل الله سبحانه وتعالى اتجه ـ نتيجة إحساسه بالحاجة إلى التفاهم مع الآخرين من بني نوعه ـ إلى استخدام الأساليب البدائية الساذجة في بادئ الأمر من الإشارات والتصويرات وتقليد الأصوات في مقام التعبير عما يدور في ذهنه ونقله إلى الآخرين ، ثم نمت عنده تلك الأساليب وتطورت تدريجا حتى أصبحت بالشكل المنسق المتكامل الّذي عليه اليوم فهي إذن عملية قد اشتركت في إبداعها خبرات أجيال من البشر وليست من صنع إنسان معين لكي يستبعد ذلك على أساس عدم نقل التاريخ لاسمه أو على أساس استحالة وقوعه في نفسه.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٢

٨٤

مبعدات بشأن القول ببشرية الوضع

هذا ، ولكن بالإمكان أن تذكر في قبال اتجاه بشرية الوضع مبعدات أخرى.

منها ـ انه كيف قدر لإنسان ما قبل اللغة البدائي أن يلتفت إلى إمكانية الاستفادة من الألفاظ ووضعها بإزاء المعاني لو لا إلهام من الله تعالى وتدخل منه بهذا الشأن.

ومنها ـ ان ظاهرة اللغة في ضوء المسالك المعروفة في تفسير الوضع تتطلب درجة بالغة من النضج الفكري والتطور الاجتماعي تؤهل الإنسان البدائي لفهم معاني التعهد والالتزام أو الجعل والاعتبار مع ان مثل هذه المرتبة من النضج العقلي والاجتماعي إنما حصل للإنسان في مراحل متأخرة عن صيرورته إنسانا اجتماعيا قادرا على التفهيم ونقل أفكاره إلى الآخرين.

ومنها ـ أنه لو سلم إدراك إنسان ما قبل اللغة لمثل هذه القضايا المعنوية الدقيقة مع ذلك يقال : كيف قدر لهذا الإنسان أن يفهم الآخرين ويتفاهم معهم ويتفق في تلك الأفكار لأنها ليست على حد القضايا الساذجة المحسوسة في الخارج لكي يمكن التفاهم عليها بالرموز والإشارات.

ومنها ـ أنه كيف نفسر اتفاق مجموعة من الناس على لغة معينة فهل كان ذلك من باب أنهم جميعا قد انقدح في أذهانهم صدفة أن لفظة الماء يناسب وضعها بإزاء المعنى المعين ولفظة الهواء بإزاء المعنى الآخر وهكذا ، وان ذلك حصل عند أحدهم ثم أتبعه فيه الآخرون والتزموا بقراره؟ اما الأول فبعيد جدا بحساب الاحتمالات.

واما الثاني ، فغير متناسب مع وضع إنسان ما قبل اللغة البدائي ، فان حالة التبعية الجماعية الرئيس أو شيخ عشيرة مثلا إنما حصلت في تاريخ الإنسان متأخرا عن ظاهرة اللغة بكثير.

٨٥

فذلكة الموقف في تشخيص الواضع

هذا ، ولكن هذه المبعدات لا تتجه بناء على ما سلكناه نحن في تفسير الوضع ، لما عرفت من أن عملية الوضع لا تعدو أن تكون عملية ، طبيعية بسيطة هي الإشراط بين منبه اللفظي مع المعنى في إحساس الإنسان ، المحقق لصغرى قانون الاستجابة الشرطية الذهنية. الأمر الّذي كان مألوفا لديه في حياته الطبيعية بلا حاجة إلى افتراض إدراك معان دقيقية أو اعتبارات عقلائية معقدة. والقانون الطبيعي المذكور وتطبيقاته الطبيعية في حياة الإنسان نسبته إلى المجموعة البشرية على حد واحد لأنهم جميعا مزودون به كبرويا ويمارسون تطبيقاته الخارجية في الحياة الطبيعية كثيرا ، فيكون من المعقول افتراض أن مجموعة متقاربة من الناس في مواطن العيش وظروفهم الطبيعية قد اتفقوا فيما بينهم تدريجا على اختيار ألفاظ مخصوصة وتعيينها بإزاء معان مخصوصة بشكل بدائي ساذج ثم تطور ذلك عندهم بمرور الزمن وتنامي خبراتهم.

ولكن ، مع ذلك نحن لا نملك برهانا قاطعا على نفي اتجاه إلهية الوضع وأن الوضع ونشوء ظاهرة اللغة في حياة الإنسان كان من صنع نفسه مائة بالمائة. بل من المحتمل أن تكون قد بدأت هذه الظاهرة في حياة الإنسان أول ما بدأت بتدخل وعناية من الله سبحانه وتعالى ، بأن يكون قد ألهم آدم فعلمه الأسماء والألفاظ وكيفية استخدامها في مجال نقل أفكاره وخواطره إلى الآخرين ، بل فرضية الإلهام بأصل اللغة لعلها هي المناسبة مع ما هو الملاحظة في جملة من النصوص الدينية التي تؤكد على أن الخليفة الأولى من البشر ـ آدم وزوجته ـ كانا على معرفة واطلاع بلغة مكنتهما من الحوار والتفاهم فيما بينهما قبل أن يهبطا إلى الدنيا ويمارسا نشاطهما الطبيعي والاجتماعي فيها ، وهذا من المستبعد جدا أن يحصل من دون افتراض إلهام رباني كان بذرة في طريق نشوء هذه الظاهرة بعد ذلك في حياة الإنسان.

٨٦

الفصل الثالث

أقسام الوضع

يقسم الوضع تارة : بلحاظ أقسام المعنى الموضوع له اللفظ ؛ وأخرى بلحاظ أقسام اللفظ الموضوع. وثالثة : بلحاظ أنحاء نشوء العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى. فهنا تقسيمات عديدة نذكرها فيما يلي :

١ ـ التقسيم الأول

قد يقسم الوضع بالنظر إلى المعنى الموضوع بإزائه اللفظ إلى أربعة أقسام :

١ ـ الوضع العام والموضوع له العام.

٢ ـ الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ.

٣ ـ الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

٤ ـ الوضع الخاصّ والموضوع له العام.

والمراد من عموم الوضع وخصوصه في هذا التقسيم كلية الصورة الذهنية التي يستحضرها الواضع في مقام تخصيص اللفظ ووضعه بإزائها وجزئيتها. كما أن المراد من عموم الموضوع له وخصوصه كلية الصورة التي قد وضع وخصص بإزائها اللفظ فعلا وجزئيتها ، وعلى هذا الأساس يكون التقسيم المذكور حاصرا عقلا كما هو واضح.

ولا كلام في إمكان القسمين الأولين من هذه الأقسام ، بل لا ريب في وقوعهما في اللغات طرا فان أسماء الأجناس تمثل القسم الأول وأسماء الأعلام تمثل القسم الثاني ولا تخلو منهما لغة ، وإنما البحث والجدال حول إمكان القسمين الأخيرين وامتناعهما. والمشهور إمكان القسم الثالث بل وقوعه ، وامتناع القسم الرابع.

أما القسم الثالث : فقد ذكر في وجه إمكانه : بأن المفهوم الكلي الّذي يتصوره الواضع في مقام الوضع باعتبار انطباقه على الأفراد والجزئيات لكونه عين حقيقتها في الخارج فيصلح أن يكون عنوانا حاكيا عنها بحيث لا يحتاج في مقام إصدار حكم عليها إلى استحضار تلك الجزئيات بأنفسها في الذهن بل يكفي حضور ذلك العنوان الكلي

٨٧

للحكم عليها من خلاله. ولا يقدح بذلك تغاير ذلك العنوان الكلي مع الجزئيات ذاتا في بعض الأحيان كما إذا كان المفهوم الكلي معنى اسميا والجزئيات معان حرفية ، لأن المفهوم العام بعد ان كان عين تلك المعاني الجزئية بالحمل الأولي وإن كان غيرها بالحمل الشائع صح ان يحكم عليها من خلاله ، لأنه يكفي في مرحلة إصدار الحكم على موضوع إحضاره في الذهن ولو بالحمل الأولي ولا يشترط إحضاره بالحمل الشائع وإنما يشترط ذلك في مرحلة جريان الحكم على ذلك الموضوع خارجا ، كما هو واضح.

وقد يعترض على هذا التقريب بأحد وجهين :

الأول : ان المفهوم الكلي للإنسان مثلا .. وغيره من المفاهيم الكلية ـ منتزع عن الواقع الخارجي لهذا المفهوم بلحاظ الحيثية المشتركة المحفوظة في ضمن الأفراد ، والمفاهيم الجزئية لزيد وعمرو وخالد منتزعة عن ذلك الواقع الخارجي بلحاظ الحيثية المميزة ، والألفاظ إنما تقوم العلاقة الوضعيّة بينهما وبين المفاهيم سواء كانت كلية أو جزئية لا بينهما وبين الواقع الخارجي المحكي لتلك المفاهيم ابتداء كما هو واضح ، وعليه ، فعند إرادة الوضع العام والموضوع له الخاصّ ان استحضر الواضع نفس مفهوم زيد ووضع اللفظ له فهذا خلف لأنه من الموضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، وإن استحضر مفهوم الإنسان فإذا وضع اللفظ له ملاحظا إياه على وجه الموضوعية كان من الوضع العام والموضوع له العام وهو خلاف المقصود ، وإذا وضع اللفظ له ملاحظا إياه بما هو فان في واقعة وحاك عن الخارج بحيث يكون المقصود قيام العلاقة الوضعيّة بالمحكي والمفني فيه فهذا غير معقول في المقام لأن مفهوم الإنسان لا يكون فانيا في المفاهيم الجزئية بل في الواقع الخارجي المحكي بالمفهومين الكلي والجزئي بلحاظين ، فيؤدي ذلك إلى إقامة العلاقة الوضعيّة بين اللفظ والخارج ابتداء وهو باطل ـ كما تقدم ـ لأن طرف العلاقة الوضعيّة يجب أن يكون مفهوما دائما.

نعم لو أمكن أن يلحظ مفهوم الإنسان فانيا في المفاهيم الجزئية ويوضع له اللفظ بهذا اللحاظ لحصل مدعي الوضع العام والموضوع له الخاصّ على مقصوده ولكنه غير صحيح لأن المفهوم الكلي والمفهوم الجزئي متباينان وإن كانا متحدين صدقا بلحاظ محكيها.

٨٨

وهذا التقريب من الإشكال يتجه الجواب عنه : بأن المفهوم العام الّذي يتصوره الواضع في حالات الوضع العام والموضوع له الخاصّ ليس هو المفهوم العام المنتزع من الخارج ابتداء فحسب ، كمفهوم الإنسان الّذي لا يصلح أن يكون فانيا إلا في الواقع الخارجي المنتزع منه ، بل المفهوم العام المنتزع من نفس المفاهيم الجزئية التي يراد الوضع لها فيكون من المعقولات الثانوية ، كمفهوم الفرد من الإنسان أو الجزئي من الإنسان ونحو ذلك ، فان هذا مفهوم منتزع عن مفهوم زيد وعمرو وخالد وهكذا ؛ وبحكم ذلك يكون صالحا لأن يلاحظ بما هو فان في تلك المفاهيم وحاك عنها ويوضع له اللفظ بهذا اللحاظ ، فتكون العلاقة الوضعيّة قائمة بتلك المفاهيم وبذلك يتحقق الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

الثاني : أن يقال بأن كل مفهوم جامع بين الأفراد لا يعقل جامعيته بينهما إلا بأن يجرد عن كل الخصوصيات التي يمتاز بها فرد على فرد ولا يؤخذ فيه شيء منها ، لأن طريقة انتزاع الجامع هي إلغاء الخصوصيات وإبقاء ما به الاشتراك. وعليه ، فلا يمكن أن يكون الجامع حاكيا عن الأفراد بخصوصياتها فكيف يستخدمه الواضع ويتوسل به للوضع للأفراد. وإن شئت قلت : أن الجامع جزء تحليلي من الفرد والفرد هو المركب منه ومن الجزء الآخر المميز له ولا يمكن الاكتفاء بتصور الجزء للوضع للكل ، فالوضع العام والموضوع له الخاصّ من قبيل أن يتصور الجنس أو الفصل فيوضع اللفظ النوع ، فكما لا يكفي تصور الجنس أو الفصل للوضع للنوع كذلك لا يكفي تصور الكلي للوضع للأفراد ، لما عرفت من أن نسبة إلى الفرد نسبة الجزء إلى الكل.

وجواب ذلك : أن الكلي انما يكون جزءا تحليليا بمعنى من المعاني لما هو فرده بالذات ـ كالإنسان بالنسبة إلى زيد وعمرو ـ فان طريقة الحصول على الكلي الجامع بين أفراده بالذات هي التجريد وفرز الخصوصيات على نحو لا يبقي إلا الحيثية المشتركة وهذا معنى كون الجامع جزءا من الفرد ، وهذا الكلام كما يصدق على الجامع من المعقولات الأولية كالإنسان بالنسبة إلى أفراده بالذات يصدق أيضا على الجامع من المعقولات الثانوية ـ بحسب اصطلاح الحكيم أو المنطقي ـ كالإمكان بالنسبة إلى أفراده بالذات من الإمكانات المتعددة ، والجزئية المقابلة للكلية إلى أفرادها بالذات من

٨٩

الجزئيات المتعددة.

واما الجامع بالنسبة إلى أفراده بالعرض فليس الأمر فيه كذلك ، وهذا من قبيل الجامع العرضي الانتزاعي بالنسبة إلى مناشئ انتزاعه ، كالإمكان بالنسبة إلى ماهية الإنسان وماهية الحصان وغيرهما من الماهيات الممكنة وكالجزئي بالنسبة إلى مفهوم زيد ومفهوم عمرو وهكذا ، فان ماهية الإنسان وماهية الحصان بفرز ما به امتياز كل منها على الآخر ـ وهو الفصل ـ لا نحصل على مفهوم الإمكان وإنما نحصل على الجنس بل الإمكان في كل منها قائم بالماهية بخصوصيتها وبفصلها المميز لها عن الماهية الأخرى ، ولما كان الجامع العرضي قائما بكل منشأ من مناشئ انتزاعه بخصوصيته أمكن أن يلحظ بما هو فان في مناشئ انتزاعه بخصوصياتها ، ومن هنا إذا أريد الحكم على نحو يثبت للحيوان الناطق بما هو ناطق وللحيوان الصاهل بما هو صاهل فلا يتحقق ذلك بأخذ مفهوم الحيوان فانيا في معنونه لأن الحكم حينئذ إنما يثبت للحيوان الناطق والصاهل بما هما حيوانان لا بما هما نوعان مخصوصان وإنما يتحقق بأخذ جامع من قبيل مفهوم الماهية الممكنة لوضوح ان هذا المفهوم قائم بالحيوان الصاهل بما هو صاهل وبالحيوان الناطق بما هو ناطق وعلى هذا الأساس ، ففي موارد الوضع العام والموضوع له الخاصّ لا يتوسل بجامع يكون الخاصّ فردا بالذات له ـ كالإنسان مع زيد ـ ليرد الإشكال المذكور ؛ بل بجامع عرضي يكون الخاصّ بما هو خاص منشأ لانتزاعه ـ كمفهوم الفرد من الإنسان ـ فانه جامع عرضي منتزع من المفاهيم الجزئية لزيد وعمرو وغيرهما بخصوصياتها ؛ فان مثل هذا الجامع باعتبار قيامه بكل فرد بخصوصه يكون قابلا للحكاية عن الأفراد بخصوصياتها على النحو المناسب من الحكاية للعنوان الانتزاعي عن مناشئ انتزاعه.

والحاصل : ان حيثية الجامع تارة : تكون ثابتة في أفراده ضمنا فلا يعقل حكايته عن الأفراد بخصوصياتها لأن مرجعه إلى حكاية الجزء عن الكل وهذا ما يكون دائما في الجامع مع أفراده بالذات. وأخرى : تكون حيثية الجامع قائمة بأفراده قياما عرضيا على نحو تكون قائمة بهذا الفرد بخصوصه وبذاك بخصوصه ، وفي مثل ذلك يمكن أن يتخذ الجامع مرآة للأفراد بخصوصياتها وفانيا فيها في مقام إصدار الحكم عليها ، وهذا ما يمكن

٩٠

أن يكون في الجامع الانتزاعي العرضي مع أفراده بالعرض أي مناشئ انتزاعه.

وعلى ضوء ما تقدم يتضح وجه النّظر فيما أفاده المحقق العراقي ـ قده ـ حيث عالج المشكلة وصار بصدد تصوير حكاية الجامع عن الفرد بخصوصيته عن طريق دعوى : ان الجامع المقصود في المقام عنوان مخترع للذهن محضا والجامع المخترع للذهن لا يحصل بطريقة التجريد وإلغاء الخصوصيات بل بإنشاء الذهن صورة تنطبق على الفرد بتمامه (١).

ووجه النّظر : ان كون الجامع مما ينطبق على الفرد بخصوصه ويصلح للحكاية عنه بما هو كذلك ليس مرهونا بمحض اختراعية المفهوم وكونه منشأ من قبل الذهن بحتا ، إذ بعد فرض ان العنوان الانتزاعي صالح للحكاية عن منشأ انتزاعه وان حيثية العنوان الانتزاعية العرضية قد تكون قائمة بكل فرد بخصوصه يكون من المعقول ملاحظة العنوان الانتزاعي حاكيا عن الأفراد بخصوصياتها.

فإن قيل : ان انتزاع العنوان الواحد من الأمور المتباينة بما هي كذلك أمر غير معقول بل لا بد من فرض حيثية مشتركة مصححة للانتزاع ، وبذلك نرجع إلى طريقة التجريد وإلغاء الخصوصيات وانتزاع العنوان بلحاظ الحيثية المشتركة فلا يمكن أن يكون حاليا عن الأفراد بخصوصياتها بل يتعين أن يكون الحاكي عن ذلك عنوانا اختراعيا للذهن.

كان الجواب : ان افتراض حيثية مشتركة ولو عرضية مصححة لانتزاع العنوان الواحد لا ينافي ما ذكرناه ، لأن هذه الحيثية المشتركة إذا كانت قائمة بكل فرد بخصوصه كان العنوان المنتزع لا محالة منطبقا على الفرد بخصوصه وحاكيا عنه كذلك.

فإن قيل : ان قيام الحيثية المشتركة بكل فرد بخصوصه غير معقول أيضا ، لأن الأفراد بخصوصياتها متباينات فيلزم من قيام تلك الحيثية بكل واحد منها صدور الواحد بالنوع من الكثير بالنوع بما هو كذلك.

__________________

(١) مقالات الأصول ج ١ ص ١٩

٩١

كان الجواب : ما تقدم من أنه لا مجال لتطبيق مثل هذه القاعدة في أمثال المقام مما لم يكن قيام الحيثية المشتركة فيه بالفرد من سنخ قيام المعلول بالعلة على نحو التأثير والإيجاد ، وإلا فما ذا يقال عن الحيثية المشتركة المصححة لانتزاع مفهوم الشيء ، فهل هي قائمة بالإنسان بخصوصه وبالماء بخصوصه مثلا أو قائمة بالقدر المشترك بينهما؟ لا سبيل إلى الثاني ، لأن ما به امتياز أحدها على الآخر شيء أيضا بلا إشكال. وعليه ، فقيام حيثية مشتركة واحدة في لوح الواقع بأمور كثيرة بما هي كثيرة ومتمايزة ليس فيه محذور لأن لوح الواقع الّذي هو أوسع من لوح الوجود ليس بابه باب التأثير والإيجاد فليست ماهيات الإنسان والحصان والطير علل لإمكان على حد العلية في عالم الوجود لتطبق قاعدة ان الواحد لا يصدر إلا من واحد لاستكشاف قيام الإمكان بالجامع بين تلك الماهيات.

الصحيح في تصوير الوضع العام والموضوع له الخاصّ

هذا ؛ ولكن إمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ بالطريقة المذكورة إنما يعقل مبنيا على التصورات المشهورة في حقيقة الوضع من اعتباره أمرا تشريعيات بحتا. وأما بناء على ما هو الصحيح من كونه أمرا واقعيا وهو القرن المخصوص بين اللفظ والمعنى لكي تتحقق بذلك صغرى قوانين الاستجابة الذهنية الطبيعية فلا بد للواضع في مقام تحقيق هذا الهدف من استحضار المعنى الخاصّ بنفسه أي ما هو خاص بالحمل الشائع في الذهن لكي يحقق الاقتران والسببية بينه وبين اللفظ ولا يكفي تصور ما هو خاص بالحمل الأولي.

وإن شئت قلت : ان الوضع بناء على المسلك الصحيح ينشأ من الجنبة التكوينية لعملية الوضع لا الجنبة الاعتبارية ، وهذا يعني ان العلقة الوضعيّة تحصل في مرحلة إصدار الحكم لا مرحلة جريه على المحكوم عليه. فلا بد من افتراض ثبوت المعنى الخاصّ المراد وضع اللفظ بإزائه في هذه المرحلة ولا يكفي ثبوته في مرحلة الجري فقط.

والتوصل إلى نتيجة الوضع العام والموضوع له الخاصّ بناء على هذا المسلك إنما يعقل عن طريق تكرر الاقتران بين اللفظ وبين المعاني الخاصة بنحو ينتج الاقتران بين

٩٢

اللفظ وبين كل فرد من تلك المعاني.

وبتعبير آخر : ان الأشراط الذهني والربط المخصوص بين تصورين الّذي يؤدي إلى الاستجابة لأحدهما بالانتقال منه إلى الآخر لا يقتصر أثره على الطرفين بخصوصيتهما بل قد تنسحب تكوينا على الجامع ، بمعنى أنا إذا افترضنا فئتين كل فرد من إحداهما مقابل لفرد من الأخرى فتعود الذهن على الانتقال من كل فرد من الفئة الأولى مثلا إلى ما يقابله من فرد في الفئة الثانية في عدد من المرات يجعله ينتقل بعد ذلك تلقائيا من تصور فرد جديد من الفئة الأولى إلى ما يقابله من فرد في الفئة الثانية. وهذا بنفسه ما يمكن افتراضه في المقام بديلا عن الوضع العام والموضوع له الخاصّ إذ يحصل أشراط وربط مخصوص بين ( من ) الواقعة بين اسمين خاصين وبين ربط خاص بين مدلولي هذين الاسمين ، وهذا وضع خاص وموضوع له خاص ويحصل نظير ذلك بين ( من ) الواقعة بين اسمين آخرين وبين ربط مخصوص بين مدلولي هذين الاسمين وهكذا ، ولما كانت هذه الأشراطات الذهنية ينتسب أحد طرفيها إلى فئة وطرفها الآخر إلى فئة أخرى يتجه الذهن إلى أن ينتقل من كل فرد من هذه الفئة إلى الفرد المقابل له من الفئة الأخرى وبذلك تحصل نتيجة الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

ومن مجموع ما تقدم يتضح حال القسم الرابع ، وهو الوضع الخاصّ والموضوع له العام ، فان المعنى الخاصّ لا يكون صالحا للمرآتية والحكاية عن المعنى العام لعدم كونه منتزعا عنه فلا يعقل أن يتصور الواضع معنى خاصا ليضع اللفظ بإزاء المعنى الأعم منه إلا بجعل تصوره للمعنى الخاصّ قنطرة للانتقال منه إلى تصور المعنى العام فيكون من الوضع العام والموضوع له العام ، أو انتزاع عنوان إجمالي مضاف إلى المعنى الخاصّ يكون مرآة للمعنى العام ومنتزعا عنه كعنوان ( المفهوم الّذي يكون جامعا بين عمرو وزيد مثلا ) فيكون من الوضع العام والموضوع له الخاصّ بحسب الحقيقة.

ودعوى : اشتمال المفهوم الخاصّ على العام ضمنا فيمكن أن يوضع اللفظ بإزائه من خلاله يدفعها : أن تصور العام ضمن الخاصّ تصور ضمني وبشرط المخصوصية فالوضع بإزائه كذلك يعني الوضع بإزاء العام الضمني الّذي هو الخاصّ لا محالة.

ثم إنه لا إشكال ـ كما أشرنا إليه في مستهل البحث ـ في وقوع الوضع العام والموضوع

٩٣

له العام ـ كما في أسماء الأجناس ـ والوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ـ كما في أسماء الأعلام ـ وأما الوضع العام والموضوع له الخاصّ فقد اشتهر بين الأعلام تطبيقه على المعاني الحرفية والهيئات باعتبار ان معانيها سنخ معان لا يمكن أن ينالها العقل مستقلا وبما هي معان كلية ؛ وحيث أنه لا يراد تخصيص اللفظ بإزاء أحد مصاديق ذلك المعنى غير المستقل فيضطر الواضع إلى اتباع طريقة الوضع العام والموضوع له الخاصّ في التوصل إلى إيجاد العلقة الوضعيّة بين اللفظ وبين كل واحد من تلك المعاني الخاصة. وهذا ما سوف نورد الحديث عنه مفصلا في البحوث اللفظية التحليلية المقبلة.

٢ ـ التقسيم الثاني

وقد يقسم الوضع إلى الوضع الشخصي والوضع النوعيّ وهذا تقسيم بنفس ملاك التقسيم المتقدم ولكن قد لوحظ فيه جانب اللفظ الموضوع بينما الملحوظ هناك جانب المعنى الموضوع له ، حيث انه قد عرفت بأن الواضع في عملية الوضع لا بد له من تصور طرفين اللفظ والمعنى. وكما يمكنه أن يتصور المعنى بنفسه تارة وبعنوان مشير إليه أخرى كذلك الحال في طرف اللفظ. فتارة : يلحظه بنفسه ويخصصه بمعنى معين فيكون الوضع شخصيا. وأخرى : يلحظه من خلال تصور عنوان مشير إليه فيكون الوضع نوعيا. وهذه الطريقة يستعملها الواضع غالبا فيما إذا كان اللفظ المراد وضعه سنخ لفظ غير مستقل في نفسه بنحو لا يمكن لحاظه إلا بما هو حالة وكيفية للفظ آخر ، كما هو الحال في الهيئات فانها سنخ دوال لا يمكن تصورها إلا ضمن مادة معينة فيضطر الواضع في هذه الموارد إلى أن يتبع في مقام الوضع طريقة الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، فيتصور عنوانا مستقلا كعنوان الهيئة التي على وزان فاعل مثلا ويشير به إلى واقع تلك الدوال غير المستقلة ويضعها للمعنى المطلوب تفاديا عن القيام بأوضاع عديدة بعدد المواد.

ونحن نواجه في هذا التقسيم نفس ما واجهناه في التقسيم المتقدم من الاعتراض على هذه الطريقة تارة : من جهة عدم حكاية العام عن الخاصّ وأخرى : من جهة عدم وفائه بتحقيق العلقة الوضعيّة بناء على ما هو الصحيح من كونها عبارة عن الأشراط

٩٤

التكويني بين اللفظ والمعنى تصورا.

والجواب عنهما أيضا يكون بما تقدم هناك ، فان العنوان العام إذا كان صالحا للمرآتية والحكاية عما يكون منتزعا منه كفى ذلك في إمكان الحكم على الخاصّ من خلاله. وأن عملية الوضع والأشراط بين طبيعي تلك الدوال غير المستقلة وبين المعنى يكفي فيه التكرر والاقتران الحاصل بينهما بنحو يتعود الذهن على أن ينتقل من أي فرد من أفراد تلك الدوال إلى نفس المعنى فتحصل العلقة الوضعيّة بين المعنى وبين طبيعي تلك الدوال.

وأما تطبيق هذا القسم من الوضع على الهيئات والإشكال عليه بوجه الفرق بينها وبين موادها فهو بحث تطبيقي سوف نورد الحديث عنه لدى التعرض إلى مدلول الهيئات والجمل.

٣ ـ التقسيم الثالث

وقد يقسم الوضع بلحاظ مناشئه إلى الوضع التعييني والتعيني والاستعمالي :

١ ـ الوضع التعييني

اما الوضع التعييني ، فيراد به جعل العلقة الوضعيّة بجملة إنشائية محدودة ، من قبيل أن يقول الأب « سميت ابني جعفرا » وهذا لا شك في معقوليته ومرجعه على ضوء ما تقدم في تفسير الوضع إلى إيجاد القرن الأكيد بين اللفظ والمعنى بهذا الإنشاء.

٢ ـ الوضع التعيني

وأما الوضع التعيني ، فيراد به نشوء العلقة الوضعيّة بسبب كثرة الاستعمال ، وتصويره على المسلك المختار في حقيقة الوضع بأن يقال : أن هذا القرن الأكيد كما قد يحصل بعمل كيفي ، كإنشاء الوضع وجعله ، كذلك يحصل بعمل كمي وهو تكرار قرن اللفظ بالمعنى في استعمالات كثيرة على نحو يؤدي إلى قيام علاقة التلازم التصورية بينهما وهي العلاقة الوضعيّة المطلوبة.

٩٥

وقد يستشكل في ذلك : بأن اللفظ قبل أن يصبح حقيقة في هذا المعنى كان يستعمل فيه مجازا ، والاستعمال المجازي لكي يوجب انفهام المعنى وقرنه في ذهن السامع باللفظ لا بد من اقترانه بالقرينة وإذا كانت الاستعمالات الكثيرة مشتملة على القرينة في كل مورد فالاقتران الأكيد إنما يكون بين المعنى والقرينة أو بين المعنى واللفظ المقترن بالقرينة ولا يتواجد بين المعنى وذات اللفظ المستعمل فيه.

ويندفع هذا الإشكال : بأن القرينة عنوان انتزاعي ومصداقها في كل مورد قد يختلف عن مصداقها في مورد آخر لأنها تارة : تكون حالية ، وأخرى : ارتكازية ، وثالثة : لفظية ، واللفظية تختلف باختلاف صياغة الكلام. وأما اللفظ المستعمل فهو عنصر محفوظ بحده في سائر موارد الاستعمال التي أثير فيها ذلك المعنى المستعمل فيه ، وهذا يوجب حصول الأشراط والاقتران الأكيد بين هذا المعنى وذات اللفظ المستعمل لأنه العنصر الثابت الوحيد المحفوظ في جميع موارد استعمال ، فيربط الذهن بموجب قانون الاقتران بينه وبين المعنى. وإنما يتم الاستشكال المذكور لو كانت هناك قرينة محددة من سنخ واحد تتكرر بخصوصيتها دائما مع اللفظ فان الاقتران حينئذ يقوم بين المعنى والمجموع المركب من اللفظ المستعمل وتلك القرينة المحددة.

واما تصوير الوضع التعيني على نحو يتحقق بكثرة الاستعمال على مسلك الاعتبار فهو مشكل ، لأن الاعتبار وجعل العلقة الوضعيّة فعل قصدي لا يتحقق بدون قصد ، ومن الواضح ان كل استعمال بمفرده من تلك الاستعمال الكثيرة لم يقصد بها شيء من ذلك. وبعبارة أخرى : انه إن ادعي تولد الاعتبار والجعل المذكور من كثرة الاستعمال فهو غير معقول ، لأنه فعل مباشري قصدي وليس تسبيبيا. وإن ادعي ان كثرة الاستعمال تمثل مرحلة الإنشاء والإبراز لذلك الجعل والاعتبار فهو واضح البطلان ، لأن الكثرة ليست قائمة بشخص واحد بل بأشخاص متعددين ولك واحد منهم في كل استعمال له لم يقصد سوى الاستعمال فكيف يحصل الجعل والاعتبار.

وأما بناء على مسلك التعهد ، فقد يوجه الوضع التعيني بأن كثرة الاستعمال تكشف عن التزام ضمني من المستعملين بتفهيم المعنى بهذا اللفظ ، من قبيل ان تلاحظ شخصا يستعمل يمينه في أعماله عادة فيستكشف التزامه بذلك. والفرق بين الالتزام

٩٦

والجعل أو الاعتبار ان الاستمرار العملي على سلوك معين قد يكشف إنا عن الالتزام الضمني ولكن لا موجب لكشفه إنا عن أي جعل واعتبار.

ثم انه يتضح ـ على ضوء ما ذكرناه في تفسير الوضع التعيني ـ أن العلقة الوضعيّة ليست أمرا حديا متميزا ، لأنها إنما تعبر عن درجة من القرن الأكيد بين اللفظ والمعنى. ومن المعلوم أن مراتب القرن متعددة ومراتب كثرة الاستعمال متعددة أيضا ، وكل مرتبة تناسب مرتبة من القرن والربط وكلما ازدادت كثرة الاستعمال ازداد الربط والقرن بين اللفظ والمعنى.

٣ ـ الوضع بالاستعمال

وأما الوضع الاستعمالي ، فيراد به إنشاء الوضع وإيجاده باستعمال واحد بأن يستعمل اللفظ في معنى لم يكن موضوعا بإزائه ولا مستعملا فيه بعلاقة المجاز بقصد تعيينه له.

وتصوير هذا القسم من الوضع على المسلك المختار في حقيقة الوضع واضح ، لأن استعمال اللفظ في معنى لم يعهد له يكون بنفسه مصداقا للقرن الخارجي بينهما ، والمفروض ان الوضع ليس إلا عبارة عن تحقيق قرن أكيد بين اللفظ والمعنى خارجا بعمل كيفي أو كمي بنحو يحقق صغرى قانون الاستجابة الذهنية والانتقال من اللفظ كلما تصوره الذهن إلى المعنى. وهذا من الممكن أن يحصل باستعمال واحد كما هو واضح.

وأما تصويره على المسالك الأخرى في تفسير الوضع والتي تجعل منه أمرا إنشائيا مجعولا أو تعهدا عقلائيا فلا يخلو من إشكال ، لأن المجعول الاعتباري أو التعهد العقلائي أمر نفساني ويستحيل انطباقه على نفس الاستعمال أو إيجاده به ، بل لا بد من افتراض عناية زائدة على مجرد الاستعمال يستكشف بها تعهد المستعمل ضمنا بتفهيم ذلك المعنى كلما جاء باللفظ أو اعتباره معنى له.

وقد يتوهم إمكان تصوير الوضع بنفس الاستعمال في أحد فرضين :

١ ـ أن يفترض الوضع أمرا إنشائيا يتسبب إلى إيجاده خارجا باللفظ إيجادا

٩٧

إنشائيا لا حقيقيا ، على حد ما يقال في باب الإنشائيات من أنها إيجاد للمعنى باللفظ خارجا فيمكن للمستعمل في المقام أن يتسبب بنفس استعماله إلى إنشاء العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى.

وفيه : عدم تمامية المبنى ، فانا لا نتعقل إنشاء المعنى باللفظ بل الأمور الإنشائية ليست إلا اعتبارات قائمة في أفق نفس المعتبر ويكون اللفظ مجرد كاشف عنها ، نعم في المعاملات العقلائية والشرعية يتسبب بالإنشاء إلى إيجاب ذلك المعنى الشرعي أو العقلائي المترتب على ذلك السبب ، إلا ان هذا إنما يصح في موارد توجد فيها مسببات كذلك لا في أمثال المقام.

٢ ـ ان يفترض الوضع عبارة عن مطلق تخصيص اللفظ بالمعنى سواء كان اعتباريا أو حقيقيا ـ ولعل هذا هو المستظهر من كلمات صاحب الكفاية ( قده ) في تفسير الوضع ـ فانه بناء على ذلك يمكن الوضع بالاستعمال باعتبار أنه يكون بنفسه مصداقا للوضع ، فإذا استعمل اللفظ في غير ما وضع له قاصدا به الحكاية عنه بنفس اللفظ فقد خصصه به وبذلك يتحقق الوضع حيث لا حقيقة للوضع إلا ذلك ؛ بخلافه في موارد الاستعمال المجازي فانه ليس تعينيا للفظ لأن يدل على المعنى بنفسه بل بالقرينة فلا يكون محققا للوضع.

وقد اعترض المحقق الأصفهاني ( قده ) على ذلك : بأن تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه مشترك بين الحقيقة والمجاز ، فان القرينة في باب المجاز بمثابة الوضع في باب الاستعمال الحقيقي مصححة لدلالة اللفظ على المعنى المجازي لا انها هي الدالة عليه. وإذن فكل استعمال مجازي هو تعيين اللفظ لأن يدل على المعنى بنفسه فيلزم أن يكون كل استعمال مجازي وضعا. ثم دفع ـ قدس‌سره ـ الاعتراض : بأن اللفظ وإن كان له تعيينان ، تعيين لأن يدل على المعنى الحقيقي بنفسه وتعيين يتبع ذلك لأن يدل على المعنى المجازي المناسب للمعنى الحقيقي كذلك ، إلا أن فعلية دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي غير موقوفة على شيء ، بخلاف فعلية دلالته على المعنى المجازي فانها موقوفة على القرينة الصارفة عن الحقيقة ، فتعين اللفظ لأن يدل على معناه الحقيقي بنفسه كاف لدلالة اللفظ بلا حاجة إلى الاستعانة في فعلية الدلالة بشيء آخر ،

٩٨

بخلاف تعيين اللفظ لأن يدل على معناه المجازي فانه لا يكفي لفعلية دلالة اللفظ عليه بل يحتاج إلى القرينة. وعلى هذا يصح أن يقال : ان الوضع هو تعيين اللفظ لأن يكون له دلالة فعلية على المعنى بمجرد التعيين بلا حاجة إلى شيء آخر والاستعمال المجازي ليس مصداقا لذلك بخلاف الاستعمال المقصود في المقام فانه إذا استعمل اللفظ في معنى بقصد الحكاية عنه بنفس اللفظ والدلالة الفعلية عليه به كان مصداقا للوضع (١).

والتحقيق : انه لا يعقل كون الاستعمال بنفسه مصداقا للوضع على هذا المسلك وذلك. اما أولا : فلأنه لو فرض تصويره بنحو يكون تعيينا للفظ لدلالة على المعنى فلا يتصور كونه كذلك إلا بالإضافة إلى شخص اللفظ المستعمل ، إذ المستعمل دائما جزئي ولا معنى لاستعمال طبيعي اللفظ فيكون الاستعمال على هذا مصداقا لوضع شخص ذلك اللفظ لأنه تعيين وضعي بالإضافة إليه خاصة وهذا غير المطلوب.

وأما ثانيا : فلأن قصد الحكاية والدلالة على المعنى بنفس اللفظ بحيث يكون نفس اللفظ سببا في الحكائية والمفهمية على حد اللفظ في موارد الاستعمال الحقيقي قصد أمر غير معقول فلا يمكن تأتيه من العاقل الملتفت ، وذلك لأن كون اللفظ دالا على المعنى بنفسه ومستغنيا في ذلك عن كل ضميمة أمر غير ممكن إلا بناء على توهم الدلالة الذاتيّة للألفاظ ، وحينئذ فلا بد لكل لفظ مستعمل في معنى من أن يكون دلالته عليه سبب ، وهذا السبب إما الوضع فقط وإما المناسبة المعبر عنها بالوضع التبعي مع القرينة والمفروض عدم الفراغ عن أي واحد منهما.

وإن شئت قلت : ان مصداقية الاستعمال للوضع قوامها بكون اللفظ المستعمل دالا على المعنى بنفسه فعلا وكونه كذلك فرع الوضع أو القرينة لبطلان الدلالة الذاتيّة فيستحيل أن يكون ما هو موقوف على الوضع محققا للوضع ، وليس محقق الوضع نفس قصد الحكاية والدلالة بذات اللفظ حتى يقال ان قصد الحكاية كذلك غير موقوف على الوضع في الرتبة السابقة بل على الوضع في ظرف الحكاية ، فان قصد الحكاية وإرادة الدلالة باللفظ ليس تعيينا وتخصيصا وإنما هو إرادة التعيين والتخصيص وإلا لكان

__________________

(١) راجع نهاية الدراية ج ١ ص ٣٥ ـ ٣٦

٩٩

الوضع يحصل بمجرد إرادة الواضع تخصيص لفظ المعنى وإن لم يخصصه بالفعل.

ثم انه قد يعترض على تصوير إيجاد الوضع بالاستعمال بوجوه :

الأول : لزوم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي اما في جانب اللفظ بدعوى : انه ملحوظ في مقام الوضع استقلالا وفي مقام الاستعمال آليا فلو اتحد المقامان لزم اجتماع اللحاظين ، أو في جانب الحكاية حيث أن الحكاية في مقام الاستعمال آلية وفي مقام الوضع استقلالية. والسر في الأمرين ان باب الاستعمال هو باب فعلية الحكاية ومقتضى فعليتها فناء الحاكي وحكايته في المحكي وإلا لم يكن حاكيا بل منظورا إليه في عرضه ، بخلاف باب الوضع فانه ليس فعلية الحكاية بل جعل اللفظ صالحا للحكاية أي جعله بحيث يحكي عنه في مقام الاستعمال.

والتحقيق : ان ما اعترض عليه بالوجه المذكور إن كان هو دعوى مصداقية الاستعمال والتعيين الاستعمالي للوضع والتعيين الوضعي ، وكأن المقصود بالاعتراض منع هذه المصداقية لأجل تقوم أحدهما باللحاظ الآلي والآخر باللحاظ الاستقلالي ، فهو متين بناء لا مبنى ولا يندفع بما في تقريرات المحقق العراقي ( قده ) : من أن الملحوظ استقلالا طبيعي اللفظ والملحوظ آليا شخص هذا اللفظ (١) فان المدعى ان التعيين الاستعمالي لشخص هذا اللفظ لا يمكن أن يكون مصداقا للوضع لأجل تقومه باللحاظ الآلي ، وكون طبيعي اللفظ ملحوظا استقلالا لا يصحح ذلك. وإن أريد بهذا الاعتراض إبطال الدعوى المذكورة بعد تسليم ان الاستعمال المذكور في نفسه مصداق للوضع ، فهو مما لا معنى له ، إذ بعد تسليم كون هذا وضعا لا معنى لدعوى تقوم الوضع باللحاظ الاستقلالي.

وإن أريد بالاعتراض المذكور إبطال دعوى أخرى ، وهي دعوى ان هذا الاستعمال مما يتسبب به إلى الوضع لا انه بنفسه مصداق للوضع ، فيتم الجواب عنه بأن الملحوظ الاستقلالي في مرحلة التسبب غير الملحوظ الآلي إذ الملحوظ الآلي هو شخص اللفظ وواقع حكايته المفنية له في المعنى وما يتسبب إليه بذلك الّذي يكون

__________________

(١) راجع مقالات الأصول ج ١ ص ١٧

١٠٠