بحوث في علم الأصول - ج ١

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١

وأيضا تختم بحوث علم الأصول بخاتمة في التعارض الواقع في الأدلة والأصول وأقسامه وأحكامه.

مقارنة بين التقسيمين

والملحوظ ان التقسيم الثاني أقرب إلى المنهج القديم في الدراسات الأصولية ؛ حيث كان يدرج فيها البحث عن حجية الخبر في البحث عن السنة لكونه عن عوارض السنة ، أي مثبتات الدليل الشرعي ، في حين ان التقسيم الأول أوفق بالمنهج المتداول في الدراسات الأصولية الحديثة.

كما أنه يتميز التقسيم الثاني بأنه يلحظ فيه تقسيم البحوث إلى مجاميع بنحو متطابق مع أنحاء تجمعها في مجال الاستدلال الفقهي ، فالقواعد الأصولية العامة في الدليل اللفظي ، كأبحاث الأوامر والنواهي وغيرها ، لا تنفصل عادة في مجال التطبيق والاستدلال الفقهي عن القواعد الأصولية الدخيلة في إثبات السند ، كحجية خبر الواحد والتواتر والسيرة والإجماع. لأن الفقيه حينما يستنبط الحكم من دليل لفظي يلتفت إلى دلالته وسنده معها ويعمل القواعد الأصولية المناسبة في كل من الجهتين ، فالتقسيم المذكور يراعي ذلك ويوحد التبحث عن مجموع تلك القواعد تحت عنوان الدليل الشرعي. وهذا معنى ان التصنيف فيه بنحو يناظر وضع القواعد الأصولية في مجال التطبيق والاستدلال الفقهي بينما ليس التقسيم الأول كذلك ، لأن أبحاث الظواهر والألفاظ فصلت فيه عن بحث حجية الخبر ، بل عن بحث حجية نفس الظهور أيضا مع أن الظهور وحجيته عنصران متلازمان عند الاستناد إليهما في عملية الاستدلال الفقهي.

وفي مقابل ذلك يتميز التقسيم الأول بإجراء التصنيف على أساس نوع الدليليّة للقاعدة الأصولية وتجميع كل مجموعة تتفق في سنخ الدليليّة وفي كونها لفظية أو عقلية برهانية أو استقرائية أو تعبدية بجعل الشارع في نطاق مستقل. وهذا يتيح الحديث في كل نطاق من نطاقات هذا التصنيف عن سنخ تلك الدليليّة التي هي السمة المشتركة للقواعد الأصولية الداخلة في ذلك النطاق ومنهجها وقواعدها العامة. فالأدلة

٦١

الاستقرائية مثلا بوصفها صنفا خاصا في التقسيم المذكور يمكن الحديث في نطاقها عن أصل المنهج الاستقرائي ، والحجج الشرعية بوصفها تمثل صنفا آخر من الدليلية ـ وهو الدليليّة التعبدية بحكم الشارع ـ يمكن الحديث في نطاقها عن أصل الحجية التعبدية وتحليلها. وبهذا يستهل كل صنف بما يكون بمثابة المنطق أو المنهج بالنسبة إليه ، بينما لا يتأتى ذلك. بنفس الدرجة من السهولة والدقة في التقسيم الثاني ، إذ قد تندمج بموجبة القاعدة ذات الدلالة اللفظية والأخرى الاستقرائية والثالثة التعبدية في صنف واحد لمساهمتها جميعا في الاستنباط من دليل واحد.

وبهذا قد يصح أن يقال : بأن التقسيم الأول هو الأفضل إذا نظر إلى علم الأصول بنظرة تجريدية ، أي بصورة منفصلة عن تطبيقه في علم الفقه. وان التقسيم الثاني هو الأفضل حينما ينظر إليه موزعا من خلال التطبيق وعلم الفقه. ومسألة تعيين أحد التقسيمين مسألة اختيار وتفضيل حسب وجهة النّظر.

وسنسير في بحوثنا هذه سيرا يقارب منهج التقسيم الأول ، لأنه بذلك يكون أقرب إلى الانطباق على المنهج المألوف في الكتب الأصولية التي وضعتها مدرسة الشيخ الأنصاري في الأصول. غير أننا فضلنا منهج التقسيم الثاني في الحلقات الدراسية الجديدة التي وضعناها كبديل للكتب الدراسية الأصولية القائمة فعلا لأنه في رأينا أكثر قدرة على إعطاء الطالب صورة أوضح عن دور القاعدة الأصولية في المجال الفقهي ، ورؤية أجلى لكيفية الممارسة الفقهية لقواعد علم الأصول.

٦٢

مباحث الدليل اللفظي

المدخل

٦٣
٦٤

تقسيم البحث

المبحث الأول ـ الدلالة اللفظية وتفسيرها

١ ـ نظرية الدلالة على المعنى الحقيقي

تفسير العلقة الوضعيّة ـ تشخيص الواضع ـ تقسيمات الوضع ـ

تبعية الدلالة الإرادة ـ الاشتراك والترادف

٢ ـ نظرية الدلالة على المعنى المجازي

المبحث الثاني ـ نظرية الاستعمال

حقيقة الاستعمال ـ شروطه ـ المرآتية والعلامية ـ تفسير ظاهرة

المرآتية ـ مقارنة بين الاستعمال والإيجاد ـ إطلاق اللفظ وإرادة

شخصه ـ إطلاق اللفظ وإرادة نوعه ـ استعمال اللفظ في أكثر من معنى

المبحث الثالث ـ علامات الحقيقة وتشخيص المعنى

علامية التبادر ـ علامية صحة الحمل ـ علامية الاطراد ـ الأثر العملي

لتشخيص المعنى الحقيقي ـ تعارض الأحوال

المبحث الرابع ـ تطبيقات مختلف فيها

الحقيقة الشرعية ـ الصحيح والأعم

٦٥
٦٦

تقسيم البحث

استعرض علماء الأصول في مقدمة هذا العلم جملة من القضايا ذات الارتباط الوثيق بقسم مباحث الألفاظ من بحوث علم الأصول التي تعتبر من المسائل الأصولية الرئيسية المفتقر إليها عند اعتماد الدليل اللفظي في مجال استنباط الحكم الشرعي.

وهذه القضايا رغم أنها بحثت في المقدمة على شكل أمور متفرقة لا رابط فيما بينها سوى أنها تعتبر مبادئ تمهد لفهم جملة من المسائل الأصولية القائمة إلا أنه بالإمكان أن تذكر بشأنها منهجة فنية يتضح في ضوئها الموضوع الطبيعي لكل بحث من تلك البحوث التمهيدية وعلاقته بغيره ، ذلك ان هذه البحوث ترتبط كلها باللفظ وأنحاء ماله من مدلول في مقام إفادة المعاني بالألفاظ وهذا المقام له جانبان : أحدهما جانبه من ناحية السامع ، وهذا الجانب يمثل دلالة اللفظ على المعنى التي توجب انتقال ذهن السامع من اللفظ إلى معناه والثاني جانبه من ناحية المتكلم ، وهذا الجانب يمثل عملية استعمال اللفظ في المعنى وتوظيفه لإفادته من قبل المتكلم. والجانب الثاني مترتب على الجانب الأول إذ لو لم تكن للفظ دلالة على المعنى لما استعمله المتكلم فيه.

والجانب الأول ينقسم إلى قسمين لأن الدلالة تارة : تنشأ من الوضع الخاصّ مباشرة وهي دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي ، وأخرى : لا تنشأ كذلك وهي دلالة

٦٧

اللفظ على المعنى المجازي. واما اللفظ في موارد الإطلاق الإيجادي كإطلاقه وإرادة شخصه فليس له دلالة في عالم الذهن لعدم الثنائية على ما سيأتي توضيحه.

والبحث في هذين القسمين يقع تارة : بحسب مقام الثبوت الّذي يتكفل تفسير هاتين الدلالتين وكيفية نشوئهما وأقسامهما الممكنة. وأخرى : بحسب مقام الإثبات ويستعرض فيه ما يمكن أن يكون دليلا على تشخيص المدلول الحقيقي عن غيره لجعله علامة فارقة يرجع إليها في تشخيص دلالة لفظ مخصوص على معنى مخصوص. وثالثة : في بعض التطبيقات المختلف بشأن ما هو المدلول الحقيقي فيها.

وعلى هذا الأساس سوف نورد بحوث هذا التمهيد خلال المباحث التالية :

المبحث الأول : ويتضمن الحديث عن دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي ودلالته على المعنى المجازي بحسب مقام الثبوت.

المبحث الثاني : ويتكفل البحث عن الاستعمال ومقوماته وبعض تطبيقاته.

المبحث الثالث : في علامات الحقيقة والمجاز وحالات الشك في نوع العلاقة بين اللفظ والمعنى.

المبحث الرابع : ونذكر فيه التطبيقات المختلف بشأن ما هو مدلولها الحقيقي المناسب بحثها في مقدمة علم الأصول وتتمثل في مسألتين ـ الحقيقة الشرعية والصحيح أو الأعم ـ.

وأما البحث عن مدلول المشتقات والحروف والهيئات فهو كسائر البحوث الأصولية من العناصر المشتركة في الاستدلال الفقهي على ما سوف يتبين في محله ، ولذلك أدرجناه في الفصل الأول من بحوث هذا القسم.

٦٨

المبحث الأول

٦٩
٧٠

الدلالة اللفظية وتفسيرها

١ ـ النظرية العامة للدلالة على المعنى الحقيقي

دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي يقصد بها الدلالة القائمة في اللفظ على أساس الوضع والعلاقة اللغوية التي هي الأساس في فهم المعاني من الألفاظ بشكل عام.

وتمتاز هذه الدلالة عن الدلالة على المعنى المجازي في أنها هي الدلالة الأولى للفظ لأنها علاقة قائمة بين اللفظ والمعنى الحقيقي مباشرة ، وأما دلالة اللفظ على المعنى المجازي فهي علاقة قائمة بينهما في طول علاقة اللفظ بمعنى سابق ، فالمعنى المجازي يفترض دائما معنى حقيقيا سابقا للفظ بخلاف المعنى الحقيقي ، ومناسبة المعنى المجازي للفظ دائما بلحاظ حد أوسط بينهما ، بينما المناسبة بين المعنى الحقيقي واللفظ بالمباشرة.

والكلام في الدلالة على المعنى الحقيقي وتحقيق النظرية العامة لهذه الدلالة يقع في عدة فصول :

الفصل الأول : في تفسير هذه الدلالة وشرح كنه العلاقة الوضعيّة المسببة لها.

الفصل الثاني : في تشخيص الواضع.

الفصل الثالث : في أقسام الوضع وتقسيماته المختلفة.

الفصل الرابع : في تحديد هوية الدلالة التي ينتجها الوضع وهل أن الدلالة تابعة

٧١

للإرادة أو لا؟

الفصل الخامس : في مدى إمكان اشتراك علاقتين وضعيتين في لفظ واحد أو معنى واحد ( الاشتراك والترادف ).

الفصل الأول في تفسير العلاقة الوضعيّة

لما كانت دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي في حقيقتها ترجع إلى نحو من الاستتباع والسببية بمعنى كون الوجود الذهني للفظ سببا للوجود الذهني للمعنى فلا يمكن أن تحصل بدون مبرر ، ومن هنا حاول الأصوليون تبرير هذه السببية فوجد اتجاهان.

أحدهما : الاتجاه الذاتي القائل بأن العلاقة بين اللفظ والمعنى ذاتية كالعلاقة بين النار والحرارة.

والآخر ـ الاتجاه الموضوعي القائل بأنها علاقة تحصل نتيجة لعامل خارجي وبجعل جاعل المعبر عنه بالوضع وليست نابعة من طبيعة اللفظ والمعنى.

ولا شك في خطأ الاتجاه الأول وعدم صلاحيته لتفسير ما نعيشه من دلالات لغوية ثبت عدم كونها ذاتية ، لا لمجرد اختلاف الناس فيها ليقال بأن مرد الدلالة الذاتيّة إلى ميول لغوية غريزية وقد يختلف الناس في ميولهم وغرائزهم. بل لما تكشفه الملاحظة والتجربة لنا من عدم وجود أي ميل أصيل سابق على الاكتساب والتعلم للانتقال من لفظ مخصوص إلى معنى مخصوص. فالصحيح هو الاتجاه الموضوعي الّذي يفسر العلاقة اللغوية بين اللفظ والمعنى على أساس عامل خارج عن ذاتي اللفظ والمعنى يسمى بالوضع وفيما يلي نتحدث عن تشخيص حقيقة هذا العامل وكيف يستوجب السببية بين اللفظ ومعناه.

حقيقة الوضع

اختلفت كلمات الأعلام في تشخيص حقيقة الوضع بعد الاتفاق على أصل الاتجاه الموضوعي في تفسير العلاقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى وبإمكاننا أن نقسم

٧٢

أقوالهم في إطار هذا الاتجاه إلى مذهبين رئيسين :

الأول : مذهب الجعل الواقعي للسببية القائل : بأن الواضع يجعل السببية مباشرة بين طبيعي اللفظ والمعنى فتكون الملازمة والاستتباع بينهما أمرا واقعيا على حد واقعية الملازمات والسببيات الثابتة في لوح الواقع ولكن تحققها في المقام يكون ببركة الوضع والجعل.

الثاني : المذهب القائل : بأن الجاعل يقوم بعملية يترتب عليها قيام السببية بين اللفظ والمعنى أي يحدث في اللفظ صفة خاصة فيصبح اللفظ بعد اكتسابه تلك الصفة سببا لإخطار المعنى.

وقد اعترض على المذهب الأول في كلمات السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ بأنه : « ان أريد بوجود الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له وجودها مطلقا حتى للجاهل بالوضع فبطلانه من الواضحات التي لا تخفي على أحد ، فان هذا يستلزم أن يكون سماع اللفظ وتصوره علة تامة الانتقال الذهن إلى معناه ولازمه استحالة الجهل باللغات مع أن إمكانه ووقوعه من أوضح البديهيات. وإن أريد به ثبوتها للعالم بالوضع فقط دون غيره فيرد عليه : ان الأمر وإن كان كذلك يعني ان هذه الملازمة ثابتة له دون غيره إلا أنها ليست بحقيقة الوضع بل هي متفرعة عليها ومتأخرة عنها رتبة ، ومحل كلامنا هنا في تعيين حقيقته التي تترتب عليه الملازمة بين تصور اللفظ والانتقال إلى معناه » (١)

وكأنه يراد أن يقال : بأن الملازمة باعتبارها مشروطة بالعلم بالوضع تكون متأخرة رتبة عنه فلا يعقل أن يكون الوضع هو نفس هذه الملازمة وإلا يلزم تأخر الشيء عن نفسه.

وهذا المقدار يمكن أن يجاب عليه : بأن الوضع هو جعل هذه الملازمة المشروطة لانفسها ، ولا يلزم حينئذ تأخر الشيء عن نفسه لأن المتأخر عن العلم بالوضع الملازمة المجعولة باعتبارها مشروطة بالعلم والعلم بالوضع لا يراد به العلم بهذه الملازمة المجعولة بل بجعلها ونتيجة ذلك ان فعلية الملازمة تتوقف على جعلها كبرويا وهذا هو الوضع

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١ ص ٤٢ ـ ٤٣

٧٣

وعلى تحقق الشرط المأخوذ في مقام جعلها قيدا وهو العلم بذلك الجعل.

وبالجملة ، إذا افترض الاعتراف بأصل إمكان جعل السببية الواقعية فلا محذور بعد ذلك في اختصاصه بالعالم بالوضع فان هذا نظير ما صورناه في بحوث حجية القطع.

من إمكان أخذ القطع بجعل حكم كبرويا قيدا في موضوع الحكم المجعول بذلك الجعل.

ولكن الصحيح رفض ما افترض من إمكان إيجاد السببية الواقعية بين شيئين بمجرد الوضع والجعل ، فان السببية صفة ذاتية للسبب الحقيقي فلا يمكن جعلها تكوينا لما ليس بسبب فضلا عن وضعها تشريعا واعتبارا.

فالصحيح من المذهبين في تشخيص حقيقة الوضع هو الثاني الّذي يفترض بأن الواضع يقوم بعمل تمهيدي يترتب عليه قيام السببية بين اللفظ والمعنى.

ولكننا في إطار هذا المذهب نواجه مشكلة تشخيص تلك العملية التمهيدية التي قام بها الواضع صانع اللغة فأوجب السببية بين اللفظ والمعنى. وقد انقسم أنصار هذا المذهب في علاج هذه النقطة إلى فريقين ، أحدهما آمن بنظرية الاعتبار ، والآخر بنظرية التعهد. وفيما يلي نتحدث عن النظريتين مع ما ينبغي التعليق به على كل منهما.

١ ـ نظرية الاعتبار

ويقول أصحاب هذه النظرية : بأن الواضع يمارس عملية اعتبارية إنشائية تتولد على أساسها العلاقة اللغوية بين اللفظ والمعنى. وهناك صيغ مختلفة في التكييف الإنشائيّ لهذا الاعتبار الوضعي.

الصياغات المختلفة لنظرية الاعتبار مع مناقشتها

الصيغة الأولى : أن الواضع يجعل اللفظ على المعنى كما تجعل الإشارات الحمراء مثلا على مواقع معينة لتكون علامة على الخطر ، غاية الفرق ان الوضع هناك حقيقي وهنا اعتباري إذ لم يجعل اللفظ حقيقة على أمر خارجي ـ كما توضع الشارة الحمراء على

٧٤

الموضع المعين ـ بل لا يعقل ذلك في اللفظ وإنما المعقول ادعاء وضعه عليه فيكون الجعل اعتباريا.

وقد اعترض على هذه الصيغة في كلمات السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ بما يكون أشبه بالمؤاخذة على التعبير ومحصله : ان وضع اللفظ ليس من سنخ الوضع الحقيقي ، والوجه في ذلك : هو ان الوضع الحقيقي يتقوم بثلاثة أركان : الموضوع ـ وهو الشارة الحمراء ـ والموضوع عليه ـ وهو المكان الموضوع عليه الشارة ـ والموضوع له ـ وهو الدلالة على الخطر ـ وهذا بخلاف الوضع في باب الألفاظ فانه يتقوم بركنين : الموضوع ـ وهو اللفظ ـ والموضوع له ـ وهو دلالته على معناه ـ ولا يحتاج إلى شيء ثالث ليكون هو الموضوع عليه ، وإطلاقه على المعنى الموضوع له لو لم يكن من الأغلاط الظاهرة فلا أقل من أنه لم يعهد في الإطلاقات المتعارفة والاستعمالات الشائعة مع أن لازم الصيغة المذكورة أن يكون المعنى هو الموضوع عليه (١).

ويمكن دفع ما أفيد : بأن الإشكال إن كان من جهة مجرد عدم صدق عنوان الموضوع عليه على المعنى فهذا مما لا يسلم به من يدعي ان الوضع معناه جعل اللفظ على المعنى وكون المعنى موضوعا عليه فتكون دعوى عدم الصدق المذكورة مصادرة. وإن كان من جهة انه لا يتصور في المقام شيئان أحدهما يكون موضوعا عليه والآخر يكون موضوعا له كما هي الحالة في موارد الوضع الحقيقي ، فحين توضع الشارة الحمراء يكون هناك موضوع عليه وهو المكان ـ وموضوع له ـ وهو الخطر ـ وليس المقام كذلك. فيرد عليه : انه إن أريد بالتعدد كون الموضوع له والموضوع عليه متباينين وجودا فهذا غير لازم في موارد الوضع الحقيقي ، بل الموضوع له غالبا صفة قائمة بالموضوع عليه ، فالعلامة توضع على مكان معين للإشارة إلى انه خطير أو أنه رأس فرسخ ونحو ذلك من الصفات. وإن أريد بالتعدد المعنى المحفوظ في الصفة والموصوف فهذا بالإمكان افتراضه في الوضع الاعتباري بأن يقال : ان الواضع يضع لفظ الماء اعتبارا على الصورة الذهبيّة للدلالة على أنها صورة الماء فالموضوع عليه هو الصورة الذهنية الخاصة والموضوع له الدلالة على

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٤٧

٧٥

أنها صورة الماء وبناء على أن كل مستعمل واضع كما يختار السيد الأستاذ بإمكان هذه الصيغة ان تقول : ان كل استعمال هو وضع اعتباري ، بمعنى انه وضع للفظ اعتبارا على الصورة الذهنية الثابتة في ذهن المستعمل للدلالة على أنها ماء أو هواء أو غير ذلك من المعاني ، فالصورة الذهنية في الوضع الاعتباري بمثابة المكان في الوضع الحقيقي وكونها صورة للمعنى الفلاني بمثابة كون هذا المكان فرسخا أو فرسخين.

وعلى هذا يصح أن يقال : في كل من الوضع الحقيقي والوضع الاعتباري ان الموضوع له هو الدلالة على قضية والموضوع عليه هو المعنى الأفرادي المتحصل من تلك القضية ، وبهذا يكون التغاير بين الموضوع عليه والموضوع له محفوظا دائما.

والصحيح في الجواب عن أصل الصيغة : أن مجرد جعل شيء على شيء آخر حقيقة فضلا عن جعله اعتبارا لا يعطيه صفة يكون بها سببا حقيقيا له. وإن شئت قلت : ان الوضع الاعتباري لا يكون أحسن حالا من الوضع الخارجي الحقيقي ، ونحن نلاحظ في الوضع الحقيقي ان مجرد وضع الشارة الحمراء على موضع الخطر لا يكفي لحصول الدلالة المطلوبة ما لم تضم إليه عناية أخرى ، كالتعهد والالتزام بأن لا توضع الشارة الحمراء إلا لذلك ، فلا بد من إبراز نكتة أخرى قد تكفي وحدها لتفسير السببية بين اللفظ والمعنى بلا حاجة إلى الوضع الاعتباري.

هذا ، مضافا : إلى أن الفرق بين العلقة الوضعيّة وبين العلامات الموضوعة أساسا ليس من ناحية كون وضع اللفظ اعتباريا ادعائيا ووضعها حقيقيا خارجيا ، بل بينهما فرق جوهري في نوع العلاقة المتولدة فيهما فان العلاقة بين اللفظ والمعنى علاقة تصورية لا تقتضي أكثر من التلازم والتداعي بين تصور اللفظ وتصور المعنى ، بينهما هي في العلامات الخارجية علاقة تصديقية بين وجود العلامة ووجود ذيها خارجا فلا يصح التوحيد بينهما في المناشئ والآثار واعتبارهما من واد واحد.

الصيغة الثانية : اعتبار اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى بوجوده الخارجي ومتحدا معه فتسري إليه آثاره التي منها تصوره عند الإحساس به.

وقد ناقش فيها السيد الأستاذ ـ دام ـ ظله ـ بما يرجع إلى مجموع أمرين.

الأول : ان هذا الاعتبار لا بد وان يرجع إلى الحكومة والتنزيل بلحاظ الآثار.

٧٦

الثاني : أنا لا نجد ترتب شيء من أحكام المعنى الخارجي وآثاره على وجود اللفظ فما معنى كونه وجودا تنزيليا له؟ (١)

ويمكن في دفع هذه المناقشة منع كلا الأمرين. ففيما يتعلق بالأمر الأول يقال : بأن رجوع الاعتبار إلى التنزيل بلحاظ الآثار دائما غير صحيح ، بل هناك نحو من الاعتبار والحكومة يكون متمحضا في ادعاء أن هذا ذاك. وقد بين الفرق بينهما في كلمات المحقق النائيني ـ قده ـ في البحث عن كيفية جعل الطريقية للأمارات ، حيث كان يورد عليه : بأن الآثار المطلوبة في القطع الطريقي ليست شرعية فكيف يصح التنزيل بلحاظها. فكان جوابه ـ قده ـ بيان الفرق بين التنزيل بلحاظ الآثار وبين اعتبار ما ليس بعلم علما.

وفيما يتعلق بالأمر الثاني يقال : ان أهم أثر من آثار المعنى الخارجي ـ وهو الانتقال إليه تصورا عند الإحساس به ـ يترتب على اللفظ أيضا ببركة هذا التنزيل ، فلتكن الحكومة بهذا المقدار.

والصحيح في الإجابة عن هذه الصيغة : ما ذكرناه الآن في إبطال الصيغة الأولى من أن السببية والاستتباع بين اللفظ والمعنى لا يعقل أن تكون متولدة من مجرد الاعتبار والجعل ، وإلا لأمكن جعل كل شيء سببا لشيء آخر بمجرد الاعتبار.

هذا ، مضافا : إلى ان تنزيل اللفظ منزلة الوجود الخارجي للمعنى أو اعتباره وجودا للمعنى لا يجعل منه بالاعتبار سوى مصداق عنائي للمعنى ومن الواضح ان تصور المصداق الحقيقي ليس سببا بذاته للانتقال إلى تصور الطبيعي فكيف بالمصداق العنائي الاعتباري. فلا بدّ ان تبدل الصيغة السابقة إلى صيغة تقول : بأن الوضع هو اعتبار اللفظ نفس المعنى ، أي اعتبار العينية بالحمل الأولي بينهما. وهذا غاية ما ينتجه ان يكون تصور اللفظ تصورا لذات المعنى بالاعتبار ولا يفسر كيف يحصل تصور للمعنى حقيقة.

ومنه يعرف الجواب على الصيغة الثالثة لنظرية الاعتبار القائلة : بأن الوضع هو

__________________

(١) راجع هامش أجود التقريرات ج ١ ص ١٢

٧٧

اعتبار اللفظ أداة لتفهيم المعنى فان صيرورة اللفظ أداة حقيقية لتفهيم المعنى لا تتحقق من مجرد الاعتبار والجعل ، وإلا لأمكن جعل أي شيء أداة لشيء آخر.

وقد يكون هذا النقص الظاهر في نظرية الاعتبار بمختلف صيغها هو السبب في ظهور النظرية الأخرى في تفسير العلقة الوضعيّة ، وهي نظرية التعهد ، وإن لم يوضح ذلك في كلمات أنصارها.

٢ ـ نظرية التعهد

وتتلخص هذه النظرية : في أن الوضع ليس اعتبارا وإنما هو تعهد من قبل الواضع بأن لا يتلفظ بالكلمة إلا إذا كان يريد افهام المعنى الخاصّ الّذي يحاول ربطه بها. وهذا التعهد يؤدي إلى أننا متى ما سمعناه ينطق بتلك الكلمة انتقل ذهننا إلى تصور ذلك المعنى وعرفنا أن المتكلم أراد تفهيمه لنا ، وهذا معنى قيام السببية بين اللفظ والمعنى.

وقد تبنى السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ هذه النظرية واعتبارها التفسير الصحيح الحقيقة الوضع (١).

مميزات نظرية التعهد

وتتميز هذه النظرية بنقاط ثلاث :

١ ـ أن التعهد يفسر التلازم بين اللفظ والمعنى المحقق للدلالة بقضية شرطية يتعهد بها الواضح طرفاها النطق باللفظ وافهام المعنى وعلى أساسه ينفي وجود أي داع آخر للنطق باللفظ سوى افهام المعنى.

٢ ـ ان الدلالة الناتجة عن الوضع على أساس هذه النظرية تكون دلالة تصديقية لا تصورية فحسب ، لأن اللفظ بعد التعهد المذكور يكشف كشفا تصديقيا عن إرادة المتكلم لإفهام المعنى وهذا الكشف هو السببية المتولدة من الوضع عند أصحاب هذه

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٤٨

٧٨

النظرية. وأما الدلالة التصورية بين اللفظ والمعنى فهي وإن حصلت نتيجة الأنس الذهني بينهما إلا أنها ليست هي الدلالة الوضعيّة.

٣ ـ ان كل مستعمل ينقلب إلى واضع حقيقة على ضوء هذه النظرية لأنه متعهد ضمنا بأن لا ينطق باللفظ إلا عند إرادة افهام معناه الخاصّ ولا فرق بينه وبين الواضع إلا أن الأخير هو المتعهد الأول الأسبق زمانا وإلا فكل شخص مسئول عن تعهداته ولا يعقل أن يكون تعهد الواضع محققا للدلالة على قصد افهام المعنى من قبل غيره ، كما هو واضح.

التعليق على نظرية التعهد

وتعليقنا على هذه النظرية كما يلي :

١ ـ ان القضية المتعهد بها إن كانت هي أنه « كلما قصد تفهيم معنى الحيوان المفترس مثلا نطق بلفظ الأسد » فهذا لا يجدي في إيجاد الدلالة التصديقية المطلوبة من التعهد ، لأنه يستوجب استلزام قصد تفهيم المعنى للنطق باللفظ دون العكس الّذي هو المطلوب. وإن كانت هي أنه « كلما نطق باللفظ فهو يقصد معناه » فالتعهد بمثل هذه القضية وإن كان يحقق الاستلزام المطلوب ولكنه ليس عقلائيا ، لوضوح ان الإتيان باللفظ ليس هو الّذي يدفع بالمستمعل إلى إرادة معناه بل الأمر بالعكس. مضافا إلى ما سيأتي من استلزامه التعهد بعدم الاستعمال المجازي. وإن كانت القضية المتعهد بها « أن لا يأتي باللفظ إلا حينما يكون قاصدا تفهيم المعنى » فالتعهد بذلك معقول ومحقق للاستلزام المطلوب بين اللفظ المعنى ، غير أنه ينطوي على تعهد ضمني بعدم الاستعمال المجازي وواضح أن الوضع لا يعني التعهد بعدم المجاز. ولا يمكن إصلاحه بدعوى : تقييد التعهد الوضعي بعدم الإتيان بالقرينة اما في حالة الإتيان بالقرينة فلا تعهد. وذلك لأن الإنسان العرفي ليس ملتزما بعدم استعمال اللفظ في المعنى المجازي إلا بقرينة ، إذ كثيرا ما يتعلق الغرض من الاستعمال بالإجمال والإبهام.

هذا ، إضافة : إلى ان المراد بالقرينة إن كان هو القرينة المتصلة خاصة لزم التعهد الضمني بعدم الاستعمال المجازي مع الاعتماد على قرينة مفصلة. وإن كان مطلق

٧٩

القرينة لزم مع الشك في القرينة المنفصلة إجمال الخطاب ويتعذر نفيه حينئذ بالأصل العقلائي ، لما سوف يأتي في محله من أن الأصول العقلائية لا تكون تعبدا بحتا بل هي بملاك وجود كاشفية في موردها ـ كالظهور في محل الكلام ـ والمفروض توقفه على عدم القرينة المنفصلة ، فلا يعقل التمسك به لنفيها.

٢ ـ ان الدلالة اللغوية على أساس هذه النظرية تتضمن عملية استدلالية وانتقالا منطقيا عقلائيا على أساس الالتزام العقلائي بالتعهد من أحد طرفي الملازمة التعهدية إلى طرفها الآخر مع ان نشوء ظاهرة اللغة في حياة الإنسان منذ عهوده الأولى وقبل أن تتكامل مدركاته العقلانية لا يساعد على هذا الافتراض ، بل يبرهن على أن عملية الوضع وإيجاد العلقة الوضعيّة والاستفادة منها في مجال المحاورة لا تتوقف على تعقيدات ومصادرات عقلائية كما يفترضه هذا التفسير ، على ما سوف يتضح من خلال شرح التفسير الصحيح الحقيقة الوضع.

٣ ـ ربما يحاول إبطال نظرية التعهد بتوجيه اعتراض الدور إليها بتقريب : ان الإتيان باللفظ ليس مطلوبا نفسيا بل غيري أي بقصد تفهيم معناه للسامع ، وإرادته كذلك فرع كونه موضوعا لذلك والمفروض ان وضعه متوقف على قضية شرطية هي إرادة افهام معناه كلما جيء به ، فيلزم الدور بلحاظ الإرادة الاستعمالية.

ولا يندفع الإشكال : بافتراض ان الموقوف على الوضع هو الإرادة الشخصية في مرحلة الاستعمال وهي إرادة غيرية والمتوقف عليه الوضع هو الإرادة الكلية للإتيان باللفظ كلما كان قاصدا افهام المعنى وهي إرادة نفسية.

لأن الإرادتين إرادة واحدة بحسب الحقيقية ، غاية الأمر تارة : تلحظ قبل تحقق شرطها بالفعل فترى إرادة كلية بنحو القضية الحقيقية ، وأخرى : تلحظ بعد فعلية الشرط فترى إرادة شخصية.

والصحيح في دفع الشبهة أن يقال : بأن الوضع عند أصحاب هذه النظرية عبارة عن نفس التعهد الّذي هو من مقولة الالتزام لا الإرادة. نعم طرف هذا التعهد والالتزام هو الإرادة وقصد التفهيم لا أن حقيقة الوضع هو هذا القصد ، فالموقوف عليه الإرادة الاستعمالية إنما هو ثبوت نفس التعهد والالتزام بالقضية الشرطية وهو ليس

٨٠