بحوث في علم الأصول - ج ١

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١

واحد جامع بين موضوعات مسائله ، إما لكونها قضايا جعلية اعتبارية فلا يعقل في حقها جامع حقيقي ، واما باعتبار ان موضوعاتها من مقولات متباينة بل متنافرة أحيانا فكيف يكون بينها جامع ذاتي (١).

ويمكن المناقشة فيما أفاده ـ دام ظله ـ بأن الأحكام الشرعية وإن كانت قضايا اعتبارية بلحاظ المعتبر والمنشأ إلا أنها حقيقية بلحاظ نفس الاعتبار ومبادئ الحكم لكونها من مقولة الكيف النفسانيّ ، وهي بهذا الاعتبار تكون موردا لحكم العقل بحق الطاعة والعبودية الّذي هو الغرض الملحوظ في علم الفقه.

وأما تباين موضوعات المسائل الفقهية فجوابه : انه لا بد وأن يراد بالموضوع الواحد لكل علم وجود محور واحد تدور حوله كل بحوث العلم الواحد وهذا قد لا يتطابق مع ما يجعل موضوعا للمسائل بحسب التدوين خارجا لأن مرحلة التدوين قد تتأثر بعوامل ومناسبات تقتضي نهجا آخر تعرض من خلاله مسائل العلم وبحوثه. ولذلك نجد أن بحوث علم الفلسفة والحكمة العالية التي تدور كلها حول الوجود قد صيغت في مرحلة التدوين بشكل لا يتطابق فيه ما جعل موضوعا للمسائل مع الوجود الّذي هو موضوع العلم حيث جعل الجوهر والعرض والواجب وغير ذلك موضوعا في المسألة الفلسفية بحسب مرحلة التدوين وجعل الوجود محمولا لها ، فقيل. العرض موجود والجوهر موجود والواجب موجود وهكذا مع أن الجوهر أو العرض أو الواجب تعينات للوجود أو الموجود الّذي هو موضوع الفلسفة ومحور أبحاثها ومثل ذلك يمكن بالنسبة إلى مسائل علم الفقه ، فيقال : أن الموضوع العام الّذي تدور حوله بحوث علم الفقه إنما هو الحكم الشرعي ويكون البحث في المسائل الفقهية عن تعينات الحكم الشرعي وتمثله في وجوب الصلاة أو الصوم أو حرمة الكذب أو غير ذلك.

والواقع ، أن قاعدة إن لكل علم موضوعا واحدا تدور حوله بحوثه ويمتاز به عن غيره من العلوم تشير إلى مطلب ارتكازي مقبول بأدنى تأمل لو لا وقوع التباس في البين نتيجة مجموع أمرين :

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢١

٤١

١ ـ تخيل ان المراد بالموضوع ما جعل موضوعا للمسائل في مرحلة تدوينها وتأليفها في البحوث والمصنفات ، مع أن المقصود بالموضوع ما يكون محورا لبحوث العلم بحسب المناسبات الواقعية التي تطلبها طبيعة تلك البحوث ومقتضياتها ، وأقوى دليل على إرادة هذا المعنى من موضوع العلم ما تقدم نقله عن الفلسفة العالية التي تمثل العلم الحقيقي لدى من أخذت منهم قاعدة ان لكل علم موضوعا يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، فانهم اتفقوا على ان موضوعها هو الوجود أو الموجود مع انهم يصوغون موضوعات مسائلها في مرحلة التدوين بشكل آخر كما عرفت.

٢ ـ تفسير القوم للعرض الذاتي بما يعرض للشيء أو يحمل عليه بعد الفراغ عن ثبوته ، مما أدي إلى صعوبة تطبيق القاعدة على بحوث كثير من العلوم وسوف يأتي توضيح الخطأ الواقع في هذه النقطة قريبا.

وبعد تصحيح هاتين النقطتين صح أن يقال : ان لكل علم موضوعا يوجد بحوثه في محور واحد بنحو يتميز به عن العلوم الأخرى وهذه الوحدة ثابتة ارتكازا ووجدانا لكل علم في مرتبة أسبق من مرتبة تدوينه التي هي مرتبة لاحقة ومتأثرة بعوامل ثانوية خارجة عن مناسبات طبيعة العلم في نفس الأمر والواقع ، فلا غرو أن نجد اختلافا في بعض الأحيان بين ما يكون موضوعا لبحوث علم واقعا وما يجعل موضوعا لمسائله في مرحلة التدوين والعرض. فبحوث علم النحو مثلا موضوعها الكلمة العربية وهي كذلك بحسب مرحلة تدوين المسائل النحوية أيضا ، ولكن بحوث الفلسفة العالية أو علم الفقه مثلا موضوعها الوجود والحكم الشرعي مع أنهما يحتلان مركز المحمول في المسائل الفلسفية والفقهية بحسب التدوين ، وبحوث علم الصحة مثلا تدور حول موضوع واحد هو صحة البدن مع انه بمثابة الغرض المترتب على مسائل علم الصحة بحسب مرحلة تدوينها حيث يبحث فيها عن الأسباب والعلل المؤثرة في صحة الأبدان طردا وعكسا. فالتطابق بين ما هو موضوع للمسائل بحسب التدوين وما هو موضوع للعلم ومحور لبحوثه غير لازم.

ومنه يظهر حال النزاع الّذي أثاره صاحب الكفاية ( قده ) من أن تمايز العلوم هل يكون بتمايز موضوعاتها أن باختلاف الأغراض المترتبة عليها؟ فانه لو أريد بالموضوع أو

٤٢

الغرض ما وقع موضوعا أو كان غرضا للمسائل بحسب مرحلة التدوين فلا ضابط يمكن إعطاؤه كقاعدة عامة لجميع العلوم بل قد يكون امتياز علم عن غيره بما جعل موضوعا لمسائله وقد يكون بما يكون غرضا لها. وإن أريد بالموضوع ما يكون محورا تدور حوله بحوث العلم ومسائله التي تبحث عن الأعراض الذاتيّة لذلك الموضوع بالمعنى الّذي سوف يأتي في معنى العرض الذاتي فالصحيح ان تمايز العلوم بتمايز موضوعاتها.

٢ ـ العرض الذاتي والعرض الغريب

ذكروا في تعريف العرض الذاتي : بأنه ما يعرض على الشيء بلا واسطة أو مع واسطة مساوية ، والعرض الغريب ما يعرض على الشيء بواسطة أمر أخص أو أعم داخليا ـ أي جزءا من ماهيته ـ أم خارجيا أم مباينا ـ أي غير متحد معه أصلا ـ وقد أثيرت حول هذا التعريف اعتراضات مختلفة من قبل علماء الأصول ، ولعل أجودها ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) ، ونقتصر في هذا المجال على عرضه مع التعليق عليه.

وتوضيح ما أفاده : أن الأوصاف المنتسبة إلى شيء تتصور على أحد الأنحاء التالية :

١ ـ أن يكون العرض منتزعا عن مرحلة ذات الشيء فيوصف به باعتباره جزءا منه ووصفا داخليا له ، وهذا هو الذاتي في كتاب الكليات الخمس ( الإيساغوجي ) بحسب مصطلح المناطقة.

٢ ـ أن يكون منتزعا عن أمر خارج عن ذات الشيء ولكنه من اقتضاءاتها بحيث يكفي ثبوت ذات الموضوع وحده للاتصاف به بلا حاجة إلى جهة خارجية كالحرارة للنار والزوجية للأربعة ، وهذا هو الذاتي في كتاب البرهان بمصطلح المناطقة.

٣ ـ أن يكون عارضا بواسطة أمر خارج عن ذات الشيء غير أنه واسطة تعليلية تقتضي ثبوت العرض لنفس الشيء فيكون هو المعروض لا الواسطة ـ وهو الّذي يصطلح عليه بالواسطة الثبوتية ـ كالمجاورة التي تكون واسطة لعروض الحرارة على الماء ، ولا يفرق هنا بين أن تكون الواسطة الخارجية أعم أو أخص أو مساويا أو مباينا طالما ليست هي المعروضة للوصف.

٤٣

٤ ـ أن يكون عارضا بواسطة أمر خارجي يكون حيثية تقييدية في العروض ، أي تكون الواسطة هي المعروضة للوصف حقيقة ـ وهو الّذي يصطلح عليه بالواسطة في العروض ـ ويشترط في هذا القسم أن يكون ذو الواسطة جزءا تحليليا من الواسطة. ومثاله ما يعرض على الجنس بواسطة النوع.

٥ ـ أن يكون عارضا بواسطة تقييدية ـ كما في القسم السابق ولكن مع افتراض كون الواسطة جزءا من ذي الواسطة ـ وهو عكس ما مر في ذلك القسم ـ من قبيل ما يعرض على النوع بواسطة الجنس. ولازم ذلك أن لا يكون ذو الواسطة في هذا القسم معروضا للوصف كما كان في القسم السابق لا ضمنا ولا استقلالا.

٦ ـ أن يكون عارضا بواسطة تقييدية مباينة عن ذيها تمايز الواسطة ذاتا ووجودا ، من قبيل ما يعرض على الجسم وينسب إليه من البطء أو السرعة مع كونه عرضا الحركة الجسم المباينة معه في الوجود أيضا.

وقد أفاد في حكم هذه الأقسام : بأن ذاتية العرض وغرابته إن كانت بلحاظ صحة الحمل والإسناد الحقيقيّين فالأقسام كلها باستثناء الأخير تكون من العرض الذاتي لصحة الحمل الحقيقي فيها جميعا ، وإن كانت بلحاظ صحة الاتصاف والعروض الحقيقي للشيء فالأقسام الثلاثة الأولى تكون من الذاتي بلا إشكال لكون الموضوع فيها هو المعروض الحقيقي للوصف ، كما أنه لا إشكال في ان الأقسام الثلاثة الأخيرة لا تكون من العرض الذاتي لكون الأوصاف فيها غير عارضة على الشيء حقيقة ، وأما القسم الوسط ـ وهو الرابع ـ فاعتباره من الذاتي أو الغريب مرتبط باشتراط استقلالية العروض وعدمه ؛ فلو لم يشترط ذلك كان من الذاتي أيضا لكون الشيء معروضا فيه للوصف ولو ضمنا.

وقد استظهر ـ قده ـ من كلمات الحكماء في هذا المجال ـ مستشهدا بكلام للمحقق الطوسي ـ ان ميزان ذاتية العرض وغرابته صحة العروض لا الإسناد ، كما استظهر منها

٤٤

اشتراط استقلالية العروض فليس غير الأقسام الثلاثة الأولى عرض ذاتي فيما تقدم من الأقسام.

وبهذا أبطل ما اشتهر بينهم من أن العرض الذاتي ما يعرض بلا واسطة أو مع واسطة مساوية ، إذ الواسطة إذا كانت تقييدية فالعرض غريب لأن العروض غير حقيقي وإن كانت الواسطة مساوية ، وإذا كانت تعليلية فالعروض ذاتي وإن كانت الواسطة غير مساوية ، فالمناط تعليلية الواسطة لا مساواتها مع ذي الواسطة.

وفيما يلي تعليقنا على ما أفاده هذا المحقق من عدة نقاط.

١ ـ ان ما أسنده إلى كلمات الحكماء من كون مناط ذاتية العرض استقلالية العروض غريب في بابه ، فان كلام المحقق الطوسي ( قده ) الّذي استشهد به في إثبات مدعاه أيضا ـ صريح في خلاف ما أفاد وكأنه لم يلاحظ ذيله الّذي قال فيه « ... العلوم تتناسب وتتخالف بحسب موضوعاتها فلا يخلوا اما أن يكون بين موضوعاتها عموم وخصوص أم لا يكون ، فان كان فاما أن يكون على وجه التحقيق أو لا يكون ، والّذي يكون على وجه التحقيق هو الّذي يكون العموم والخصوص بأمر ذاتي وهو أن يكون العام جنسا للخاص كالمقدار والجسم التعليمي الذين أحدهما موضوع الهندسة ، والثاني موضوع المجسمات ، والعلم الخاصّ الّذي يكون بهذه الصفة يكون تحت العام وجزءا منه ، والّذي ليس على وجه التحقيق هو الّذي يكون العموم والخصوص بأمر عرضي وينقسم إلى ... وبعد أن قسم هذا إلى قسمين أيضا ـ قال : والعلم الخاصّ الّذي يكون على هذين الوجهين يكون تحت العام ولكنه لا يكون جزءا منه » (١).

وكأن المحقق العراقي ( قده ) لاحظ صدر هذا الكلام فاستفاد منه أن الموضوعين اللذين يكون أحدهما أعم من الآخر وجنسا له يكون كل منهما موضوعا لعلم مستقل ، فالبحث عن عوارض الموضوع الأخص لا يكون من مسائل العلم الّذي يبحث عن الموضوع الأعم وهذا يعني أن عوارض الموضوع الأخص لا تكون أعراضا ذاتية للموضوع الأعم وإن كان الأعم جزءا من الأخص كالجنس بالنسبة للنوع. وهذا كما يدل

__________________

(١) شرح الإشارات للمحقق الطوسي ج ١ ص ٣٠٢ ( ط ـ طهران )

٤٥

ـ بحسب فهمه ـ على اشتراط كون العروض حقيقيا وعدم كفاية صحة الإسناد الحقيقي ـ وإلا فأوصاف الجنس تنسب إلى النوع حقيقة ـ كذلك يدل على اشتراط استقلالية العروض وعدم كفاية العروض الضمني المحفوظ في عوارض الجنس بواسطة النوع.

الا أن ذيل عبارة الطوسي ( قده ) صريح في أن الموضوع الأخص إذا كان تخصصه بالفصل ، أي كان نوعا وكان الموضوع الأعم جنسا له ، فالعلم الخاصّ يكون تحت العلم العام وجزءا منه أي انه ليس علما مستقلا في قباله ، وإذا كان تخصصه بأمر عرضي لم يكن العلم الخاصّ جزءا من العام بل كان علما مستقلا وهذا يعني ان العوارض الذاتيّة للأخص الذاتي عوارض للأعم أيضا ولذلك كانت مسائله جزءا من بحوث الأعم.

٢ ـ ان العرض تارة : يلحظ مضافا إلى موضوعه في عالم الوجود. وأخرى : يلحظ مضافا إليه في عالم التحليل وفي الحالة الأولى ، كل ما يكون محمولا على الشيء حقيقة يكون عارضا عليه كذلك أيضا ، لأن الوجود الخارجي للمعروض واحد على كل حال وإن كان ذا أجزاء بحسب عالم التحليل. فالأقسام كلها ما عدا الأخير تكون من العرض الذاتي على كلا الميزانين المذكورين في كلامه ( قده ). وفي الحالة الثانية ، ما لا يكون عارضا على شيء حقيقة لا يصح حمله عليه كذلك فأعراض الجنس كما لا تكون أعراضا للفصل حقيقة كذلك لا تكون محمولة عليه لأن الجنس والفصل بحسب التحليل متباينان لا ينسب أحدهما أو ما له من أعراض إلى الآخر.

وهكذا يتضح : أن التفصيل بين الأقسام المذكورة على أساس الحمل أو العروض لا محصل له ، وإنما الصحيح هو التفصيل على أساس العالم الملحوظ فيه العروض فان كان عالم الوجود فالأقسام الستة من العرض الذاتي وإن كان عالم التحليل انحصر العرض الذاتي بالأقسام الثلاثة الأولى.

٣ ـ إن ثمة نسبتين مختلفتين بين الشيء وما يعرض عليه :

إحداهما : نسبة المحلية.

الثانية : نسبة المنشئية

ونقصد بالمحلية : أن يكون الشيء محلا وموضوعا للعرض. ونقصد بالمنشئية : أن

٤٦

يكون سببا لوجود العرض. وهاتان النسبتان قد تتطابقان وقد تفترقان ، فالحرارة تنتسب إلى النار بالمحلية والمنشئية معا بينما لا تنتسب إلى الماء إلا بالمحلية ، وإلى المجاورة مع النار إلا بالمنشئية.

والمحقق العراقي ( قده ) ـ شأن من عداه من علماء الأصول ـ فسر ذاتية العروض بكون المعروض محلا للعرض حقيقة ، ومن هنا حار في كيفية تطبيق هذا المعنى على العارض بواسطة أمر مساو كما جاء في تعريف الحكماء للعرض الذاتي. لأن الواسطة إذا كانت تقييدية تمنع عن كون ذي الواسطة محلا للعرض حقيقة وإذا كانت تعليلية فلا موجب لتخصيص الواسطة بالمساوي ما دام العروض على ذي الواسطة حقيقيا.

مع ان ظاهر الحكماء ان نظرهم في ذاتية العرض إلى النسبة الثانية أعني المنشئية والاستتباع ، فكل عرض كان ثبوته لموضوع بذاته أو لأمر يرجع إلى ذاته من دون أن يساهم في ذلك واسطة خارجة عن حريم الموضوع فهو عرض ذاتي وكل ما كان ثبوته لموضوعه بأمر خارج عن ذات الموضوع فعرض غريب.

وهذا التفسير لذاتية العرض وغرابته علاوة على انسجامه مع الأعراض المبحوث عنها في العلوم ـ على ما يأتي توضيحه في النقطة القادمة ـ هو المطابق مع كلمات الحكماء في تعريف العرض الذاتي في المقام وتوضيح ذلك : انهم جعلوا العرض الذاتي منحصرا في قسمين : ما يعرض بلا واسطة أو بواسطة أمر مساو وغيرهما عرض غريب. ولا وجه لهذا التقسيم إلا إذا أردنا بالعروض المنشئية والاستتباع ، فان العرض إذا كان يعرض بلا واسطة فالموضوع تمام المنشأ والعلة لاستتباع العرض وإذا كان يعرض بواسطة أمر مساو فالواسطة لا بد وأن تكون عارضة على الموضوع أيضا إما بلا واسطة فيكون موضوع هو تمام المنشإ في استتباعها واستتباع العرض أو بواسطة أمر مساو أيضا ـ لاستحالة عروضها بواسطة أمر أعم أو أخص وإلا كانت هي أيضا أعم أو أخص ـ فيكون كالواسطة الأولى المساوية من حيث منشئية الموضوع لاستتباعه ، من دون فرق في ذلك بين كون الواسطة داخلية أم خارجية.

لا يقال ـ ما يعرض على النوع بسبب الفصل يكون من العارض بواسطة أمر مساو مع أن المنشأ الحقيقي له الفصل لا النوع.

٤٧

فانه يقال ـ باعتبار مساوقة وجود النوع لوجود الفصل وكون الفصل هو المحصل الحقيقي لماهيته تكون المنشئية والاستتباع ثابتة للنوع أيضا بحيث كلما وجد خارجا كان العرض موجودا أيضا وكلما ارتفع كان مرتفعا وهذا بخلاف عوارض النوع بواسطة الجنس.

وأما إذا كان العروض بواسطة أمر أخص فلا يكون العرض ذاتيا إذا كانت الواسطة خارجية ، أي أمرا عرضيا ، لأن المنشأ عندئذ إنما هو الواسطة فلا يكون الموضوع منشأ لاستتباع العرض.

وأما إذا كانت الواسطة داخلية ، كعوارض الجنس بسبب الفصل ، فالعرض ذاتي كما أشار إليه المحقق الطوسي ( قده ) في كلامه المتقدم « والّذي يكون على وجه التحقيق هو الّذي يكون العموم والخصوص بأمر ذاتي وهو أن يكون العام جنسا للخاص كالمقدار والجسم التعليمي ... والعلم الخاصّ الّذي يكون بهذه الصفة يكون تحت العام وجزءاً منه ».

والوجه في اعتبار هذا القسم من العرض الذاتي مع أن الجنس قد ينفك عن الفصل المسبب للعروض فلا يكون وجوده مستتبعا لوجود العرض ـ يرتبط بمسلكهم في تصوير كيفية عروض الفصل على الجنس المعبر عنه لديهم ( بالتشكيك الخاصي ) فقد ذكروا : أن عروض الفصل على الجنس في مثل قولنا بعض الحيوان ناطق يكون بأمر أخص ، وهو تلك الحصة الخاصة من الحيوانية التوأمة مع الفصل خارجا ، إلا أن هذه الواسطة الخاصة تمتاز على ما عداها من الوسائط العامة أو الخاصة المغايرة ذاتا مع ذيها في أنها عين ذيها بلا ميز ، ببرهان أنها إذا كانت مغايرة عنها ذاتا لكانت هي الفصل ومن هنا قالوا : أن ما به امتياز هذه الحصة الخاصة عن غيرها من حصص الجنس هو عين ما به. اشتراط الحصص. فعلى هذا الضوء إذا أخذنا به نستطيع أن نعرف الوجه في ذاتية العارض بواسطة أمر أخص داخلي كعوارض الجنس بسبب الفصل ، لأن الموضوع وهو الجنس وإن لم يكن وجوده مستتبعا دائما لوجود العرض إلا إنه باعتبار عدم حيلولة أمر غريب بين الفصل العارض على الجنس في الوجود كانت المنشئية الحقيقة بين الجنس والفصل وعوارضه ثابتة أيضا. وهذا بخلاف العارض

٤٨

بواسطة أخص خارجي أو بواسطة أعم داخليا كان أم خارجيا إذ لا يبقى وجه لاعتبارهما ذاتيين بعد عدم استتباع الموضوع لهما.

وأما العارض بواسطة أمر مباين. فالواقع ان هذا القسم قد جاء من إضافات الأصوليين على تعريف العرض الذاتي والغريب ، فانهم بعد أن فسروا العروض بالمحلية الحقيقية فسروا المساواة والأعمية والأخصية بلحاظ عالم الصدق والاتحاد الخارجي فبقيت صورة تباين الواسطة عن ذيها في الوجود الخارجي غير مشمولة للتعريف فأضافوها كقسم من أقسام العرض الغريب.

ولكن بعد أن اتضح ان القصد من العروض المنشئية الحقيقية لا المحلية يتضح أيضا : أن المراد بالمساواة والأعمية والأخصية ما يكون كذلك بحسب المورد خارجا سواء كان متحدا في الوجود مع الموضوع أو لا ، لأن المنشئية والاستتباع لا يفرق فيها بين كون المنشأ متحدا في وجوده مع الناشئ أم مباينا معه وعلى هذا الأساس لا يشكل العارض بواسطة أمر مباين قسما جديدا للعرض الغريب بل إذا كانت الواسطة مستتبعة لنفس الموضوع كان العرض ذاتيا وإلا كان غريبا.

وقد تلخص من مجموع ما تقدم : أن العرض الذاتي هو ما يكون بينه وبين موضوعه المنشئية الحقيقية سواء كانت بينهما نسبة المحلية أيضا أم لا.

ثم إنا لا نريد بالمنشئية خصوص العلية الفاعلية بل مطلق الاستتباع والاستلزام الحقيقي ، بحيث يكون فرض وجود الموضوع مساوقا مع وجود العرض وإن لم يكن علة فاعلية له ، فإذا اتفق ان كان المحل ـ العلة المادية ـ مثلا لشيء مستتبعا لوجود العرض أيضا لكون علته الفاعلية مفروضة على كل حال ، صح أن يعتبر ذلك العرض ذاتيا لذلك المحل ومندرجا في مسائل العلم الّذي يبحث عن عوارضه. من قبيل علم النبات أو الأحياء مثلا اللذان يبحثان عن عوارض الموت والحياة والنموّ وغيرها للحيوان والنبات مع أنهما من العلل المادية لهذه الأعراض وعلتها الفاعلية الحقيقية إرادة الله سبحانه وتعالى ، ولكن باعتبار انه لا قصور في فيض تلك العلة الفاعلة وإنما القصور في استعداد المادة الحيوانية أو النباتية بحيث كلما تم الاستعداد وجبت تلك الأعراض كان البحث عنها بحثا عن العوارض الذاتيّة المستتبعة لهما وهذا بخلاف ما إذا لم يكن

٤٩

المحل أو الغاية مستتبعا لوجود العرض لعدم توافر الشرائط الأخرى لوجوده كما في عروض السريرية على الجسم أو الحرارة على الماء مثلا ، ولهذا لم يكن البحث عنهما مندرجا في علم يتكفل البحث عن الأجسام أو المياه رغم كون العروض بمعنى المحلية الحقيقية محفوظا فيهما أيضا.

٣ ـ ما يبحث عنه في مسائل العلم

يستفاد من الكلام المتقدم عن الحكماء : أن العلم لا بد وأن يبحث فيه عن العوارض الذاتيّة لموضوعه مما يعني أن مسائل العلم ومحمولاتها عبارة عن أعراض ذاتية لما هو موضوع العلم.

وقد نوقش هذا الكلام من قبل علماء الأصول بمناقشات عديدة نقتصر على نموذجين منها :

الأول ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) ووافقه عليه جملة من المحققين : من اشتمال مسائل العلوم كثيرا على البحث عما لا يكون عرضا ذاتيا الموضوع العلم لدخالته في الغرض المطلوب من بحوث ذلك العلم (١).

وأضاف عليه السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ : بأن مسائل العلم قد لا تشتمل على ما يكون عرضا ذاتيا لموضوع المسألة فضلا عن موضوع العلم فمسائل علم الفقه مثلا محمولاتها عبارة عن أحكام شرعية وهي أعراض غير حقيقية فضلا من أن تكون ذاتية للموضوع (٢).

وهذه المناقشة يظهر حالها بعد ملاحظة مجموع أمرين :

١ ـ ما تقدم في شرح مرادهم من العرض الذاتي وهو الاستتباع والمنشئية الحقيقية.

٢ ـ أن نظر الحكماء في مثل هذه الكلمات والتحديدات إلى ما يصطلحون عليه بالعلم البرهاني وهو منحصر عندهم في الحكمة العالية والحكمة الطبيعية والحكمة

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٥ ( ط ـ عبد الرحيم )

(٢) راجع هامش أجود التقريرات ج ١ ص ٥

٥٠

التعليمية « الرياضيات » وأما سائر العلوم فهي من الفنون والصناعات. إذ العلم البرهاني لديهم هو اليقين بثبوت المحمول للموضوع الحاصل على أساس الضرورة واستحالة الانفكاك لا الصدفة ، وذلك لا يكون إلا في ما إذا كان المحمول ضروري الثبوت لموضوعه أي عارضا عليه بلا واسطة أو بواسطة أمر يكون ثبوته له ضروريا ليكون ثبوت المحمول ضروريا في النهاية وهذا ينحصر عندهم في المسائل الفلسفية كما أشرنا.

وعلى هذا الضوء يعرف وجه قولهم بأن مسائل العلم تبحث عن العوارض الذاتيّة لموضوعه لا غير ، إذ لو لم تكن العوارض المحمولة على موضوع العلم ذاتيا له بمعنى أنها ناشئة منه بالذات أو بواسطة أمر ذاتي لم يكن التصديق بثبوتها علما بحسب اصطلاحهم فما لا يكون موردا للميزان المذكور كعلم الفقه والأصول ونحوهما خارج عن هذه القاعدة موضوعا.

الثاني : الإشكال المعروف من النقض بمحمولات المسائل التي تعرض على موضوع العلم بواسطة موضوعاتها وهي في الغالب أخص من موضوع العلم فتكون من العارض بواسطة أمر أخص ، وهو عرض غريب.

وقد اتضح جواب هذه المناقشة أيضا على ضوء ما عرفت في معنى العرض الذاتي وأن ما يعرض بواسطة أمر أخص يكون تخصصه ذاتيا ـ كأعراض الجنس بسبب الفصل ـ عرض ذاتي أيضا.

وبملاحظة مجموع ما ذكرنا يتبين لك أوجه المفارقة في كثير من كلمات علماء الأصول التي ذكروها في هذا المقام نقتصر فيما يلي على الإشارة إلى ما حاوله المحقق الأصفهاني ( قده ) في دفع الإشكال المعروف المتقدم حيث حاول تفسير العرض الذاتي بما يعرض على الشيء بلا واسطة أو بواسطة أمر يكون جعله بعين جعل ذي الواسطة لا بجعل آخر ، ولذلك كان ما يعرض على موضوع علم كالجسمية العارضة على الموجود في مسائل علم الحكمة بواسطة موضوعات المسائل الأخص ، كالجوهرية أو الإمكان حيث يقسم الموجود إلى ممكن وواجب والممكن إلى جوهر وعرض ويقسم الجوهر إلى عقل ونفس ومادة وصورة والأخيران يشكلان الجسم ـ عرضا ذاتيا لأن جعل الجوهرية

٥١

أو الإمكان بنفس جعل الجسمية ، بخلاف عروض مثل السواد على الإنسان بواسطة كونه زنجيا مثلا فانه عرض غريب (١).

والواقع ان ما أفاده ليس تفسيرا للعرض الذاتي بقدر ما هو تفسير للعرض الأولي ، حيث ميز العرض الأولي في كلمات الحكماء بما يكون جعله بنفس جعل موضوعه فيكون أوليا لكونه عينه في الوجود وإن كان غيره في التحليل. ومسائل العلوم لا تبحث عن خصوص العوارض الأولية لموضوع العلم ولا موجب لاشتراط ذلك فيها وإنما الاعتبار يقضي بأن يكون المبحوث عنها في مسائل العلم الحقيقي ـ وهو العلم البرهاني ـ العوارض الثابتة الموضوع العلم ثبوتا ذاتيا لكونه منشأ لها بحيث يستحيل انفكاكه عنها سواء كان ثبوتها بلا واسطة أو بواسطة وسواء كانت الواسطة أولية أو ثانوية وقد صرح شيخ الحكماء الرئيس ابن سينا في مقدمة كتاب البرهان بأن محمولات المسائل البرهانية لا يشترط فيها أن تكون أعراضا أولية لموضوعاتها.

٤ ـ موضوع علم الأصول

وعلى ضوء مجموع ما تقدم يعرف أن موضوع علم الأصول هو الأدلة المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصة. ويكون البحث في المسائل علم الأصول عن دليليتها وجواز استناد الفقيه إليها في مقام الاستنباط.

إن قيل : ان جملة من القواعد الأصولية يكون البحث فيها عن أصل ثبوت تلك القاعدة وعدم ثبوتها ، كالبحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته أو حرمة ضده وكالبحث عن ثبوت قاعدة قبح العقاب بلا بيان ولا يكون البحث عن دليليتها.

قلنا : ان مرجع هذه البحوث إلى البحث عن دليلية الأمر بشيء على وجوب مقدمته أو حرمة ضده أو دليلية الشك وعدم البيان عقلا على المعذرية فان صياغة هذه البحوث بحسب التدوين الخارجي المسائل علم الأصول وإن كانت عن أصل ثبوت

__________________

(١) نهاية الدراية المجلد الأول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ٣

٥٢

القاعدة أو الملازمة وعدمه إلا ان ما هو مستند الفقيه في الاستدلال الفقهي إنما هو نفس الأمر بالشيء أو الاحتمال بلا بيان.

وهذا التحديد لموضوع علم الأصول يلتقي إلى حد كبير مع التحديد المعروف لموضوع علم الأصول عند المتقدمين من أن موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة. فانهم بحسب ارتكازهم العلمي أدركوا بأن هذا العلم يبحث عن قواعد الاستدلال الفقهي وأدلته العامة ، وإلا أنه حيث لم تكن الأدلة عندهم محدودة ولا مصنفة بعد إلا في حدود تلك الأدلة الأربعة التي كانت هي الأدوات الرئيسية للاستدلال في الفقه اعتبروا موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة ، فالكتاب والسنة يعبران عن الدليل اللفظي والشرعي والإجماع يعبر عن الدليل العقلي الاستقرائي والعقل يعبر عن الدليل العقلي البرهاني والعملي.

٥٣
٥٤

تقسيم علم الأصول

التقسيم المعروف

يقال عادة في تقسيم بحوث علم الأصول : ان القواعد الأصولية على أربعة أقسام :

١ ـ ما يوصل إلى معروفة الحكم الشرعي بعلم وجداني. وهذا هو مباحث الاستلزام العقلي.

٢ ـ ما يوصل إلى معروفة الحكم الشرعي بعلم تعبدي ، وهذا على ضربين :

الأول : ما يكون البحث فيه عن الصغرى بعد الفراغ عن الكبرى وهذا هو مباحث الألفاظ بأجمعها.

الثاني : ما يكون البحث فيه عن الكبرى. وهذا هو مباحث الحجج والأمارات الظنية.

٣ ـ ما يبحث فيه عن الوظيفة العملية الشرعية للمكلفين عند العجز عن معرفة الحكم الواقعي بعلم وجداني أو تعبدي. وهذا هو مباحث الأصول العملية الشرعية.

٤ ـ ما يبحث فيه عن الوظيفة العملية العقلية في مرحلة الامتثال عند فقدان ما يعين الوظيفة الشرعية. وهذا هو مباحث الأصول العملية العقلية (١).

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٦ ـ ٨

٥٥

وهذا التقسيم لبحوث علم الأصول إن كان مجردا اختيار تصنيف معين للمسائل الأصولية فلا كلام. وإن كان على أساس ملاحظة نكتة فنية تقتضي هذا الترتيب بين المسائل الأصولية ، فان كانت تلك النكتة هي الطولية والترتب بين الأقسام المذكورة في عملية الاستنباط بحيث لا يمكن الانتهاء إلى قسم الا حيث يفقد القسم الأسبق. اتجه عليه :

أولا : عدم الطولية بين القسمين الأولين.

وثانيا : ثبوت الطولية داخل المجموعة الثانية والثالثة. فان الحجج والأمارات ـ العلوم التعبدية بحسب مصطلحه ـ وكذلك الأصول العملية الشرعية ليست كلها في مرتبة واحدة بل بعضها مقدم على بعض في عملية الاستنباط. فالعلم التعبدي الحاصل من دلالة دليل قطعي السند مقدم على الحاصل من دلالة دليل ظني. والوظيفة الشرعية المقررة بالاستصحاب مقدمة على الوظيفة المقررة بالبراءة ... وهكذا.

وثالثا : تأخر مرتبة المجموعة الرابعة على الثالثة لا يكون صحيحا على جميع المباني الأصولية في قاعدة الاشتغال العقلية ، فان من جملة المسالك علية العلم الإجمالي للموافقة القطعية التي تعني ان حكم العقل بالاشتغال تنجيزي حاكم على إطلاق دليل البراءة الشرعية.

وإن كانت تلك النكتة هي الطولية بين الأقسام من حيث مراتب الإثبات ودرجاته ، وان ذلك تارة : يكون بالعلم الوجداني ، وأخرى : بالعلم التعبدي ، وثالثة : بالأصل الشرعي ، ورابعة : بالوظيفة العقلية ، فهذا إنما يتجه على مباني مدرسة المحقق النائيني ( قده ) في تفسير الأمارات والأصول وإرجاع الفرق بينهما إلى سنخ المجعول فمتى ما كان المجعول هو العلمية والكاشفية كانت الأمارة ومتى ما كان المجعول شيئا آخر كان الأصل. واما بناء على ما هو الصحيح من أن الأمارية والأصلية ليستا بلحاظ سنخ المجعول وان صياغة المجعول وكونه بلسان جعل الطريقية أو المنجزية أو الوظيفة مجرد تعابير وألسنة لفظية وان مرد الفرق الواقعي بين الحكم الظاهري في مورد الأمارة والحكم الظاهري في مورد الأصل إلى كون الأول نتيجة لإيقاع التزاحم بين الملاكات الواقعية في مقام الحفظ وتقديم بعضها بملاك قوة الاحتمال وكون الثاني نتيجة

٥٦

للتزاحم المذكور مع تقديم بعضها بملاك أهمية المحتمل ـ كما حققناه مفصلا في محله أقول : بناء على ذلك لا يصح التصنيف المذكور المسائل علم الأصول.

هذا مضافا : إلى ان المقياس في التصنيف إذا ربط بسنخ المجعول وألسنته فيمكن افتراض الأصل المحرز كالاستصحاب قسما برأسه بين الأمارات والأصول غير المحرزة.

المقترح في تقسيم علم الأصول

والواقع ، أن المسائل الأصولية قد عرفت أنها تتضمن البحث عن الأدلة المشتركة للاستدلال الفقهي ، وهي متنوعة من حيث نوع الدلالة وكونها لفظية أو عقلية أو شرعية بتوسط الكشف عن الواقع المعبر عنه بالأمارة أولا بتوسطه المعبر عنه بالأصل. ومتنوعة أيضا من حيث نوع الدليل ذاته وكونه مرتبطا بالشارع وصادرا منه أولا ومن حيث نسخ المجعول فيه وكونه الطريقية والعلمية أو المنجزية أو الوظيفة العملية.

والبحث عن كل هذه الأنحاء يتوقف على أصل موضوعي لا بد من بحثه مسبقا ، وهو حجية القطع إذ بدونه لا أثر للبحث في أي مسألة لاحقة كما أنه حيث ان الأدلة المذكورة كلها إنما يراد بها استنباط الحكم الشرعي فلا بدّ لكل تلك الأبحاث أيضا من فكرة مسبقة عن الحكم الشرعي وحقيقته وانقساماته إلى الواقعي والظاهري والتكليفي والوضعي وغير ذلك من الانقسامات.

وعلى هذا الأساس ، فالمنهج المقترح لبحوث هذه العلم ، أن توضع مقدمة تشتمل على أمرين. أحدهما ـ البحث عن حجية القطع. والآخر ـ البحث عن حقيقة الحكم وما يتصور له من أقسام. وبعد ذلك تصنف البحوث الأصولية على أساس أحد المقياسين التاليين.

١ ـ التقسيم بلحاظ نوع الدليليّة

وهو ان يلاحظ في التقسيم نوع الدليليّة من حيث كونه لفظيا أو عقليا أو تعبديا. وعلى هذا الأساس يمكن تصنيف المسائل الأصولية إلى ما يلي :

١ ـ مباحث الألفاظ ـ ويتضمن البحث عن الدليليّة اللفظية وكل ما يرجع إلى

٥٧

تشخيص الظهورات اللغوية أو العرفية. فيندرج في هذا القسم كل البحوث اللغوية الأصولية ، كما يندرج فيه البحث عن كل ظهور حالي أو سياقي يمكن أن يكون كاشفا عن الحكم الشرعي ولو لم يتمثل في لفظ كما في دلالة فعل المعصوم عليه‌السلام أو تقريره على الحكم الشرعي.

٢ ـ مباحث الاستلزام العقلي ـ ويتضمن البحث عن الدليليّة العقلية البرهانية ـ غير الاستقرائية ـ ويندرج في هذا القسم البحث عن كل قاعدة عقلية برهانية يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي وهي على قسمين :

١ ـ غير المستقلات العقلية ـ ويبحث فيها عن القواعد العقلية التي يستنبط منها الحكم الشرعي بعد ضم مقدمة شرعية إليها ، وهذا يشمل كل أبحاث العلاقات والاقتضاءات التي يدركها العقل بين حكمين أو بين حكم وموضوعه أو متعلقه.

٢ ـ المستقلات العقلية ـ ويراد بها القاعدة العقلية التي يمكن على أساسها أن يستنبط حكم شرعي بلا توسيط مقدمة شرعية المعبر عنها بقاعدة الملازمة بين ما حكم به العقل من تحسين أو تقبيح وما حكم به الشرع. ويبدأ في هذا القسم أولا بالبحث عن حقيقة الحكم العقلي بالتحسين والتقبيح ثم يبحث عن قاعدة الملازمة.

٣ ـ مباحث الدليل الاستقرائي ـ ويتضمن البحث عن الإجماع والسيرة والتواتر التي تكون دليليتها قائمة على أساس حساب الاحتمالات والاستقراء ويبدأ البحث في هذا القسم بنبذة في شرح حقيقة الدليل الاستقرائي على نحو الإجمال.

٤ ـ الحجج الشرعية : وتتضمن البحث عن الأدلة التي تثبت دليليتها بجعل شرعي. وهي تشتمل على قسمين من الأدلة. أحدهما الأمارات ، والآخر الأصول العملية. والجدير أن توضع مقدمة قبل القسمين معا يبدأ فيها بالبحوث التي تتعلق بجعل الدليليّة والحجية شرعا وألسنتها المختلفة ، ويبحث فيها أيضا عن الفرق الجوهري بين حجية الأصل وحجية الأمارة ونوع الآثار التي تثبت بكل منهما ومقدار ما يثبت المعبر عنه بحجية المثبتات واللوازم ، ويبحث فيها أيضا عن تأسيس الأصل عند الشك في دليلية الشرعية.

٥ ـ الأصول العملية العقلية ـ وهي القواعد التي يقررها العقل تجاه الحكم

٥٨

الشرعي في موارد الشك البدوي أو المقرون بالعلم الإجمالي بالمتباينين أو الأقل والأكثر ، ويلاحظ في هذا الفصل أيضا مدى تأثير العلم الإجمالي على الوظيفة المقررة في مورد الشك شرعا لو لا العلم الإجمالي وقلبه لها ، فيشمل هذا الفصل كل مسائل الاشتغال زائدا على البحث عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان والتخيير العقليين.

ثم تختم بحوث الأدلة بخاتمة في التعارض الواقع بين الأدلة المذكورة على أقسامها وأحكام التعارض المذكور.

٢ ـ التقسيم بلحاظ نوع الدليل

وهو أن يلاحظ في التقسيم نوع الدليل من حيث ذاته ، وعلى أساسه تصنف البحوث الأصولية إلى قسمين رئيسيين :

أحدهما : الأدلة ، وهي القواعد الأصولية التي تشخص بها الوظيفة تجاه الحكم الشرعي بملاك الكشف عنه.

والآخر ـ الأصول العملية ، وهي القواعد التي تشخص الوظيفة العملية لا بتوسط الكشف.

أما القسم الأول ، فيبدأ فيه أولا بالبحوث التي تتعلق بالأدلة بصورة عامة ـ وهي التي أشرنا إليها في النهج السابق أيضا ـ ثم بعد الفراغ عنها تصنف إلى أدلة شرعية ، وهي التي تكون صادرة من الشارع. وعقلية ، وهي التي تكون قضايا مدركة من قبل العقل. فيبدأ بالدليل الشرعي ويصنف الكلام فيه إلى ثلاث جهات :

الأولى : في تحديد دلالات الدليل الشرعي.

الثانية : في إثبات صغراه أي صدوره من الشارع.

الثالثة : في حجية تلك الدلالات.

اما الجهة الأولى. فيصنف فيها الدليل الشرعي إلى لفظ وغيره ، ويميز بين دلالات الدليل الشرعي اللفظي ودلالات الدليل الشرعي غير اللفظي ( الفعل والتقرير ) وفيما يخص دلالات الدليل الشرعي اللفظي تقدم مقدمة تشتمل على مباحث الوضع والهيئات والدلالات اللغوية والمجازية ، لأن هذه المباحث ترتبط بدلالات هذا

٥٩

الصنف من الدليل. ويدخل في نطاق دلالات الدليل الشرعي اللفظي مسائل صيغة الأمر ومادته وصيغة النهي ومادته والإطلاق والعموم والمفاهيم وغير ذلك من الضوابط العامة للأدلة.

وفيما يخص دلالات الدليل الشرعي غير اللفظي يتكلم عما يمكن أن يدل عليه الفعل أو التقرير بضوابط عامة من الظهور العرفي أو القرينة العقلية الناشئة من عصمة الشارع.

وأما الجهة الثانية ، فستعرض فيها وسائل الإثبات الممكنة من التواتر والإجماع والسيرة والشهرة وخبر الواحد.

وأما الجهة الثالثة ، فيتكلم فيها عن حجية الدلالة ، وجواز الاعتماد على ظهور الكتاب والسنة وسائر ما يتصل بذلك من أقوال ، وعن تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الحجية.

وبعد ذلك ينتقل إلى الدليل العقلي. ويدخل فيه البحث عن كل قضية عقلية يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي اما بلا واسطة أو بضم مقدمة شرعية أخرى ، أي المستقلات العقلية وغير المستقلات. ويدخل في الدليل العقلي هذا كل أبحاث الملازمات والاقتضاءات.

والبحث عن الدليل العقلي ، تارة : يقع صغرويا في صحة القضية العقلية ودرجة تصديق العقل بها. أو أخرى : كبرويا في حجية الإدراك العقلي للقضية في مقام استنباط الحكم الشرعي منه.

واما بحث الأصول العملية. فيبدأ بالكلام أولا عن بحوث عامة في الأصول العملية ، كالبحث عن ألسنتها وفوارقها مع الأدلة ومدى إثباتها لمواردها وعدم ثبوت المدلول الالتزامي بها ونحو ذلك ، ثم يبحث عنها. ويشتمل البحث عنها أولا : على بيان الوظيفة المقررة للشبهة المجردة عن العلم الإجمالي بجامع التكليف.

وثانيا : على بيان مدى التغير الّذي يحدثه في الموقف افتراض علم من هذا القبيل. ويدخل في الأول بحث البراءة والاستصحاب وفي الثاني بحث الاشتغال والأقل والأكثر.

٦٠