بحوث في علم الأصول - ج ١

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١

البحوث اللفظية اللغوية

المشتق

المشتق عند الأصوليين ـ ما ذا يراد بالحال في

عنوان النزاع؟ تصوير معنى عام للمشتق على

القولين ـ المختار في معنى المشتق ـ ما استدلّ به

على الوضع للمتلبّس ـ التفصيل بين بعض

المشتقات وبعض ـ ما يقتضيه الأصل العملي

عند الشك.

٣٦١
٣٦٢

تمهيد

عرفنا فيما سبق من البحوث التحليلية مقدار ما تصيبه الهيئات الإفرادية بما فيها هيئة المشتق من مفاد الكلمة المشتملة عليها.

والبحث الآن عن المشتق من ناحية تحديد مفاده ومدلوله اللغوي أو العرفي وتعيين أنَّه موضوع للمتلبس بالمبدإ خاصة أو لمفهوم أعم يشمل المتلبس ومن انقضى عنه المبدأ على السواء. وهذه حيثية من البحث أصولية ينطبق عليها ميزان المسألة الأصولية لأنَّها تشكل عنصراً مشتركاً في عمليات الاستنباط صالحاً للدخول في كلّ باب من أبواب الفقه.

المشتق عند الأصوليين

لا ريب في أنَّ موضوع هذا البحث هو الأسماء دون الحروف والأفعال وإن كان الأخير مشتقاً بمصطلح آخر ، إلا انَّ الأسماء أيضا فيها الجامد وفيها المشتق ، والمشتق فيه ما يكون وصفاً ـ كأسماء المفاعيل ـ وما لا يكون ـ كأسماء المصادر ـ.

وقد ذكر جملة من المحققين بهذا الصدد : انَّ الضابط في الاسم الّذي يقع موضوعاً لهذا البحث ان يتوفّر على شرطين :

٣٦٣

١ ـ أن يصحّ حمله على الذات ، إذ البحث عن صحة إطلاق المشتق على المنقضي عنه المبدأ فرع أن يكون ممَّا يجري على الذات ويحمل عليها وبذلك خرجت المصادر عن هذا البحث.

٢ ـ أن لا تكون حيثية المبدأ التي بها صح حمل الاسم على الذات ذاتية لها بحيث يستحيل انفكاكها عنها كما في أسماء الماهيات من الأجناس والأنواع ، لعدم انحفاظ ما يمكن أن يصدق عليه الاسم فيها بعد انقضاء المبدأ.

وقد اعترض على هذا الشرط : باستلزامه خروج ما تكون حيثية المبدأ فيه عرضية ولكنَّها لازمة ، كالواجب والممكن والزوج وغيرها من الأسماء المشتملة على مبادئ قد يصطلح عليها بالذاتي في كتاب البرهان.

وقد اضطر السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ في مقام الجواب على هذا الاعتراض أن يجعل النزاع في سعة مفهوم الهيئة الاشتقاقية وضيقه بقطع النّظر عن المادة التي تدخل عليها ، فذاتية المبدأ لا تضرّ بوضع الهيئة الداخلة عليها للأعم.

ولو أريد من استحالة الانفكاك في الشرط الثاني الاستحالة المنطقية لا الفعلية لارتفع الإشكال ، لأنَّ الاستحالة المنطقية هي عبارة عمَّا يؤدّي افتراضه إلى التناقض فاشتراط عدمها في المقام يعني اشتراط المغايرة بين المبدأ والذات ـ ولو كان لازماً له ـ وهذا لا بدَّ منه ، إذ لو كان المبدأ متّحداً مع الذات بحيث كان فرض انفكاكه عنها تناقضاً ، كما في الكليّات الخمسة ، لم يجر هذا النزاع فيه لأنَّه لا يعقل حينئذٍ فرض الذات فارغة عن التلبّس بمبدئها ولو فرضاً وتصوراً باعتباره تناقضاً في عالم التصوّر مستحيلاً ، وهذا بخلاف ما إذا لم تكن استحالة الانفكاك منطقية فان فرض الذات فارغة عن مبدئها معقول حينئذٍ وإن لم يكن واقعاً خارجاً بل يستحيل وقوعه ، فان تحديد معاني الألفاظ لا يتوقّف على وقوعها في الخارج بالفعل.

إن قيل : فما ذا يقال في مثل الناطق والصاهل ونحوها ممَّا يدخل في محلّ النزاع بحسب هيئاتها رغم كونها من الكليات الذاتيّة؟

قلنا : المراد بالكلّي الذاتي ما يكون كذلك حقيقة ، كالإنسان والحيوان ومثل هذه الأوصاف الاشتقاقية وإن عبر عنها مسامحة بالفصول لكنَّها ليست ذاتية لأنَّها جميعاً

٣٦٤

مطعمة بمعانٍ حدثيّة ، كما لا يخفى على من تأمَّل.

وعلى هدى هذين الشرطين ذكر المحققون : انَّ الأسماء الجامدة يخرج منها عن النزاع ما كان منتزعاً عن الذات كالإنسان والحجر والشجر ونحوها لانثلام الشرط الثاني فيه ، ويدخل منها فيه غير ذلك كالزوج والسيف والمنشار ونحوها لتوفّر كلا الشرطين فيه ولو كان فيه ما ينتزع عن الذات بملاحظة لازم لها يستحيل انفكاكه عقلاً.

وما ذكروه من التفصيل بين القسمين لا يشقّ له غبار في القسم الثاني ، وأمَّا القسم الأول فبحاجة إلى تمحيص وتعديل. وذلك انَّ الماهيات الخارجية ذات مراتب أربع مترتبة من حيث الذاتيّة والعرضية بحسب مصطلحات المناطقة المطابقة أيضا مع الإلهام الفطري واللغوي للإنسان « المادة والصورة الجسمية والصورة النوعية والحالات الطارئة ، ولا إِشكال عندهم في ذاتية المادة ( الهيولى ) والصورة الجسمية ، كما لا إشكال في عرضية المرتبة الرابعة أعنى الحالات الطارئة على الموجود الخارجي ، كالشكل المعين العارض على الحديد فيجعله سيفاً أو منشاراً أو فأساً.

وهو مطابق أيضا مع الإلهام الفطري اللغوي للإنسان فانَّ الذهن العرفي يرى الجسم المركّب من المادة والصورة الجسمية جوهراً بخلاف الإشكال العارضة على الجسم فيراها خارجة من صميم الذات. وامَّا الصورة النوعية ، وهي التي تتميّز بها الأنواع كالإنسان والحجر والشجر ، فهناك خلاف بين الحكماء حول جوهريتها وعرضيتها. والجهة الملحوظة للأصولي في هذا البحث ملاحظة انَّ أيّاً من هذه الحيثيّات للموجود الخارجي ممَّا يساوق انفكاكه انتفاء الموضوع فيكون خارجاً عن البحث.

وبهذا الصدد نقول : لا ينبغي الشك في انَّ المرتبتين الأولى والثانية ـ المادة والصورة الجسمية ـ ممَّا تتقوّم بهما الذات بحسب الفهم العرفي الفطري بحيث يستحيل انفكاكهما عنها استحالة منطقية ، وانَّما لم نجعل الذات نفس الهيولى ـ كما في الفلسفة ـ لعدم إدراك الذهن الفطري للمادة مجرّدة عن الصورة وانَّما هو أمر يدعى انَّه أثبته البرهان الفلسفي فحسب ولهذا ليس هناك ما تحمل عليه الجسمية عرفاً عدا مثل مفهوم الشيء ونحوه المنتزع من الجسمية نفسها ، وأمَّا الصورة النوعية ، كالحجرية والحديدية ، فقد اعتبرها

٣٦٥

الأصوليون مقومة للذات وبالتالي خارجة عن هذا النزاع. إلاّ انَّ هذا على إطلاقه ممَّا لا يمكن المساعدة عليه ، سواءً فسّرنا الاستحالة في الشرط الثاني للدخول في محل النزاع بالاستحالة المنطقية أو العقلية أمَّا على الأول فلعدم وقوع تهافت منطقي في افتراض انفكاك الصورة النوعية عن الذات بشهادة حملها عرفاً على الصورة الجسمية فيقال « هذا الجسم حديد أو شجر ».

وأمَّا على الثاني : فهناك بحث في إمكان انفكاك الذات عن صورتها النوعية من جهة البحث في مدى تقوم الصورة الجسمية بها ، فهناك اتجاه يقول بأنَّها كالأعراض لا دخل لها في الصورة الجسمية ، واتَّجاه آخر يدعى أصحابه تقوم الصورة الجسمية بإحدى الصور النوعية على سبيل البدل ، واتجاه ثالث يرى تقومها بأشخاص الصور النوعية ، فالنخلة إذا ما قطعت مثلاً فأصبحت خشبة فبزوال صورتها النوعية النامية تتبدّل جسميتها أيضا. وحينئذٍ بناء على الاتجاه الأخير قد يدعى خروج هذه الجوامد عن النزاع ، ولكن الصحيح أنَّه لا وجه لملاحظة الفهم الدقي والبرهاني في تشخيص الأوضاع اللغوية وانَّما الميزان ملاحظة الفهم الفطري العرفي ، ولا ريب في انَّ العرف في مثال النخلة يرى انحفاظ الذات والصورة الجسمية بعد زوال صورتها النوعية أيضا ولو لم تكن منحفظة بحسب البرهان الفلسفي كما انَّه ربّما يرى عدم انحفاظها ، كما في استحالة الكلب ملحاً ، فانَّه يرى عرفاً جسماً آخر غير الكلب ومن هنا يحكم بطهارته في الفقه ولو فرض انحفاظ الصورة الجسمية بالدقة العقلية.

فالصحيح إمكان النزاع في أسماء الأنواع أيضا فيما إذا لم يكن تغيرها بنحو الاستحالة العرفية وإن لم يقع ذلك بين المحققين ، حيث انَّ الظاهر اتفاق كلمة المتنازعين على اختصاص أسماء الأنواع بالمتلبس بالمبدإ.

وامَّا الأسماء المشتقة فالصحيح أن يستثنى منها أسماء المصادر كما أشير إليه في الشرط الأول.

وامَّا الأوصاف الاشتقاقية فقد استثني منها بعض الأسماء.

منها : استثناء الميرزا ( قده ) لاسم الآلة كمفتاح ، فانَّه بالرغم من كونه وصفاً اشتقاقيّاً يصدق على كلّ ما يقبل الفتح ولو لم يكن متلبساً بالفعل.

٣٦٦

وفيه : انَّ المبدأ المأخوذ في اسم الآلة إن لوحظ بنحو الفعلية فلا محالة يلتزم بعدم الصدق في مورد النقض بناء على الوضع للمتلبس ، وإن لوحظ بنحو الشأنية والقابلية فدخوله في محلّ النزاع لا بدَّ وأن يقاس مع انقضاء شأنية المبدأ لا فعليته. وسوف يأتي البحث عن مثل هذه المشتقات.

ومنها : استثناء الميرزا ( قده ) أيضا اسم المفعول لأن الهيئة فيها وضعت لأن تدلّ على وقوع المبدأ على الذات وهو ممَّا لا يعقل فيه الانقضاء لأن ما وقع لا ينقلب عمَّا وقع عليه.

وفيه : انَّه إن أريد دعوى الفرق ثبوتاً بين نسبة الفعل إلى فاعله ونسبته إلى مفعوله فمن الواضح انَّ كلّ نسبة متقومة بوجود طرفها ، وإن أريد دعوى : الفرق إثباتاً وأن هيئة المفعول موضوعة لغة لنسبة أعم من ذلك فمضروب مثلاً موضوع بهيئته لمن وقع عليه الضرب لا من يقع عليه الضرب بالفعل فهو غير مسلَّم ، إذ من المستبعد أن يلحظ معنى مفعولي في اسم المفعول دون أن يلحظ ما يقابله من المعنى الفاعلي في اسم الفاعل فإنَّهما متقابلان بحسب الفهم الفطري العرفي. ويشهد لما نقول ما نجده في مثال المطلوب والمعلوم والمصبوغ من عدم الصدق حين انقضاء الطلب والعلم والصبغ ، وامَّا مثال المضروب فلو فرض استفادة توسعة فيه بالنحو المزعوم فلخصوصية في مادة الضرب ولذلك نشعر بها في الضارب أيضا.

ومنها : استثناء صاحب الكفاية ( قده ) مصادر الزمان كالمقتل لعدم إمكان انحفاظ الذات التي هي نفس الزمان فيها بعد انقضاء المبدأ (١).

وأجيب عنه بوجوه عديدة :

١ ـ ما ذكره صاحب الكفاية نفسه من أنَّ الذات الملحوظة في اسم الزمان وإن لم تكن توجد إلا ضمن الفرد المنقضي بانقضاء المبدأ إلا انَّ ذلك لا يمنع عن وضع الاسم بناء على الأعم للأعم منها ومن الفرد المستحيل ـ وهو المنقضي عنه المبدأ ـ ونظائره كثيرة في المسمَّيات كلفظ الواجب مثلاً (٢).

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٢٣ ( ط ـ مشكيني )

(٢) نفس المصدر

٣٦٧

وكأنَّه يريد الإشارة إلى ما ذكرناه فيما سبق من عدم توقّف صحّة الاستعمال أو الوضع على إمكان وقوعه خارجاً بل إمكان تصوره ذهناً بلا استحالة منطقية.

وفيه : وجود استحالة منطقية في افتراض انحفاظ ذات الزمان بعد انقضاء مبدئه الّذي هو نفس الزمان أيضا ما لم تبرز عناية أخرى.

٢ ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) والسيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ من انَّ الموضوع له فيها هو الأعم من الظرف الزماني والمكاني وليست مختصة بالزمان وبقاء ذات الظرف بهذا المعنى الأعم مع انقضاء المبدأ أمر معقول ولو بلحاظ ظروف المكان لا الزمان (١).

وفيه : ان أريد الوضع لمفهوم الظرف فهو واضح البطلان فانَّ مفهوم الظرف كمفهوم الفاعل والمفعول معانٍ اسمية منتزعة عن المعنى الحرفي النسبي الّذي هو مدلول الهيئات الاشتقاقية بحسب الفرض وإن أريد واقع النسبة الظرفية المتقومة بالظرف والمظروف فمن المعلوم انَّ النسبة الظرفية في ظروف الزمان تختلف سنخاً عن النسبة الظرفية المكانية حقيقة وعرفاً ولذلك كانت إحداهما مقومة لمقولة ( الأين ) والأخرى مقومة لمقولة ( المتى ) ولا جامع حقيقي بين المقولات.

إن قيل : يكفي وجود جامع انتزاعي كالظرفية الأعم من الزمانية أو المكانية لأن يوضع اللفظ بإزاء النسب الظرفية بنحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ كما هو الشأن في كلّ المعاني الحرفية بل كما هو الواقع في كلمة « في » الموضوع لمطلق النسبة الظرفية فيجري النزاع حينئذٍ في تشخيص انَّ العنوان العام الملحوظ حين الوضع قد أخذ فيه فعلية التلبّس أو الأعم من المتلبّس والمنقضي.

قلنا : هذا خلف ما أشرنا إليه من اختلاف المعنى الملحوظ في هذه الأسماء حينما يراد منها الزمان عمَّا إذا أريد منها المكان فانَّ خصوصية كون الظرفية زمانية أو مكانية يفهمها العرف منها لا من دال آخر.

٣ ـ ما أفاده المحقق العراقي ( قده ) من انحفاظ الذات بعد انقضاء المبدأ في أسماء

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢٦١

٣٦٨

الزمان أيضا ولو عرفاً ، لأنَّ اللحظة الزمنية التي وقع فيها المبدأ وإن كانت تنقضي بانقضاء المبدأ إلا انَّ الاتصال الموجود بين اللحظات الزمنية يجعلها أمراً واحداً محفوظاً بشخصه بين المبدأ والمنتهى فيرى بهذا الاعتبار بقاء الذات الزمنية وانقضاء المبدأ المنتسب إليها.

وهذا الوجه صحيح ، ولا يرد عليه ما أورده المحقق الأصفهاني ( قده ) من انَّ اتصال الهويات المتغايرة لا يصحح بقاء تلك الهوية التي وقع فيها الحدث حقيقة بل مجازاً ومن باب نسبة ما يوصف به الجزء إلى الكلّ.

فان الاعتراض متّجه في الجزء والكل العرضيين لا التدريجيين ، لأن الكل التدريجي يكون موجوداً بتمامه بوجود كلّ جزءٍ من أجزائه فالنهار موجود بشخصه لا بجزئه في جميع الآنات المتدرجة منه.

نعم قد يقال : انَّه يلزم على القول بالوضع للأعم حينئذٍ صحّة إطلاق اسم الزمان على الزمان إلى يوم القيامة فيقال : عن هذا الزمان مثلاً بأنَّه « مقتل زكريا » لأنَّه متّصل بزمان قتله.

والجواب عنه : انَّ المناط في تقطيع الزمان بالنظر العرفي الّذي يقطع الزمان إلى دهر وسنين وشهور وأسابيع وأيّام وساعات ويرى انَّ كلّ قطعة منها لها وجود مستقل ويرى انَّ الذات الزمنية فيها تزول بانتهاء تلك القطعة فالمقتلية مثلاً ليست وصفاً للدهر كلّه بل لتقطيع يدخل فيه لحظة القتل.

ما ذا يراد بالحال في عنوان النزاع؟

قد جرى على أقلام المتقدمين من علماء الأصول عند تحرير عنوان هذا البحث التعبير بأن المشتق هل وضع للمتلبس بالمبدإ في الحال أو للأعم منه فأوهم اعتبار زمان الحال في مدلوله على القول بوضعه للمتلبّس ، وتصدّى المحققون المتأخرون لإزالة هذا الوهم وانَّ الاسم المشتق من هذه الناحية على حدّ الاسم الجامد لم يؤخذ فيه الزمان وإن كان انطباقه على مصداقه الخارجي لا يكون إلا في حال وجدانه للمبدإ كما هو الحال في الجوامد أيضا.

٣٦٩

وهذا هو الصحيح ، فإنَّا لا نتبادر من المشتقات زمان الحال ولا أي زمن من الأزمنة لا بنحو المعنى الاسمي ولا الحرفي. ويدلّ عليه : انَّ الزمان بنحو المعنى الاسمي لا دال عليه في المشتقات إذ لو أريد استفادته من موادها فالمفروض انَّها لم توضع إلا للدلالة على المبدأ بنحو الوضع النوعيّ القانوني وان أريد استفادته من هيئاتها فهي لا تدلّ على معنى اسمي. وامَّا استفادة الزمان بنحو المعنى الحرفي فلها صيغتان كلتاهما ممَّا لا يمكن المساعدة عليهما :

الأولى : أن يدعى تقيد النسبة المدلول عليها بهيئة المشتق بالمقارنة لزمان النطق.

الثانية : أن يدعى تقيدها بالتقارن لزمان الجري والتطبيق ـ أي زمان الحكم واسناده فيه إلى موضوع في نسبة تامة وامَّا النسبة الناقصة المدلول عليها بالمشتق نفسه فلست جرياً لأنَّها مفهوم افرادي كما تقدّم ـ ويرد على الفرضية الأولى ـ :

١ ـ لزوم أن يكون قولنا « زيد ضارب بالأمس أو غداً » مجازاً وهو خلاف الوجدان العرفي.

٢ ـ ان أريد التقيد بمفهوم زمان النطق فهو واضح الفساد ، وان أريد التقيد بواقع زمان النطق ووجوده التصديقي الخارجي فكلمة « عالم » مثلاً موضوعة للمتلبس بالعلم مقارناً مع صدور النطق به من شخص فلازمه أن لا يتصور معنى للفظ من دون تحقق نطق خارجاً ، مضافاً : إلى استلزامه أن يكون المدلول الوضعي التصوري متقيداً بأمر تصديقي وهو غير معقول على ما حقّقناه سابقاً.

ويرد على الفرضية الثانية :

١ ـ ما أوردناه ثانياً على الفرض السابق.

٢ ـ انَّ واقع الحكم لو كان هو القيد فهو في طول المحمول المنتسب إلى موضوعه فكيف يعقل أن يؤخذ فيه. فالصحيح عدم تقيد المشتق بالزمان على القول بوضعه للمتلبّس.

ويتفرّع على ذلك اختلاف مدرك الظهور في قولنا « زيد عالم » الّذي لا إشكال في انَّ المتفاهم منه عرفاً انَّه عالم حين النطق ، فانَّه لو قلنا بأخذ التقيد بزمان النطق في المشتق ـ كما هو مقتضى الصيغة الأولى ـ كانت الدلالة المذكورة وضعية ولو قلنا بأخذ

٣٧٠

التقيد بزمان الجري والنسبة فيه ـ كما هو مقتضى الصيغة الثانية ـ فالمدلول الوضعي تلبس زيد بالعلم حين اسناد هذا الحكم وامَّا تعيين زمان النطق للإسناد فيكون على أساس الظهور الانصرافي إذ كون النّظر حين اسناد وربط حكم بموضوع إلى زمان آخر غير زمان الربط نفسه فيه مزيد عناية وبحاجة إلى قرينة على ملاحظته وامَّا على ما هو الصحيح من دلالة المشتق على الذات المتلبسة بالمبدإ دون قيد زائد ، فكلا الظهورين السابقين غير وضعيين بل يتعيّن زمان النسبة في زمان النطق بالظهور الانصرافي المتقدم ويتعيّن زمان التلبس في زمان الجري والنسبة بظهور الجملة في الاتحاد والعينية بين الموضوع والمحمول بما هو وصف.

تصوير معنى عام للمشتق على القولين

لا ريب في أنَّ الأسماء المشتقة تكون من متحد المعنى بمعنى أنَّها تدلّ على معنى عام ، ولذلك تقع موضوعاً للإطلاق والعموم على حدّ أسماء الأجناس. وهذا يعني ضرورة البحث عن إمكان تصوير معنى عام جامعي على كلا القولين وإلا فلو ثبت عدم وجود معنى جامع على أحد القولين كان ذلك بنفسه دليلاً على بطلان ذلك القول ، وعلى هذا الأساس نقول :

أمَّا على القول بوضع المشتق للمتلبّس فلا ينبغي التردد في وجود معنى جامع له ، سواءً قيل ببساطة المشتق أو تركبه ، فانَّه على التقديرين يكون المتلبس بالمبدإ معنى جامعاً ينطبق على كلّ ما فيه التلبس وتوهّم : انَّ المشتق على القول بالتركيب يتضمّن معنى نسبيّاً حرفيّاً فلا يكون عاماً ، لا مأخذ له على ضوء ما تقدّم من أنَّ نسبيّة المعنى لا تقتضي جزئيته بلحاظ المصاديق الخارجية ما لم تتغير أطرافها.

كما أنَّه لا ينبغي التردد في عدم معقولية الجامع الأعم بناء على القول ببساطة المشتق وأنَّه موضوع بإزاء المبدأ ملحوظاً لا بشرط من حيث الحمل لعدم صدق المبدأ على الفاقد له ولو لوحظ لا بشرط من حيث الحمل بداهة ركنية المبدأ حينئذٍ في صدقه.

وامَّا تصوير معنى جامع أعم على القول بتركّب المشتق ، فيمكن أن يذكر بشأنه عدة وجوه :

٣٧١

١ ـ أن يفرض المعنى الجامع عبارة عن الذات التي لها التلبس بالمبدإ في أحد الزمانين الماضي أو الحاضر.

وفيه : ما تقدّم من عدم أخذ الزمان في مدلول المشتق.

٢ ـ انَّ الجامع هو الذات التي صدر عنها المبدأ بأن يكون مفاد الفعل الماضي بنحو النسبة الناقصة مأخوذاً في مدلول المشتق « فعالم » يعني « من علم » و « قائم » « من قام » وهكذا ، فيصدق على المتلبس والمنقضي عنه التلبس بالمبدإ معاً.

وفيه : أولا : يلزم عدم صدق المشتق على الذات بلحاظ آن حدوث المبدأ ، لأن الفعل الماضي لا يصدق إلا حينما يكون المبدأ حادثاً قبل زمان الجري ، سواءً كان من جهة أخذ الزمان الماضي فيه أو أخذ ما يساوقه في الزمانيات ، وهو خلاف الضرورة العرفية في المشتق. كيف ولازمه أن يكون المشتق حقيقة في المنقضي خاصة إذا كان المبدأ فيه آني الحدوث بحيث لا يبقى في الآن الثاني.

وثانياً : يلزم عدم صحة إجراء المشتق بلحاظ المستقبل إذ لا يصحّ أن يقال « زيد من قام غداً » ولو أرجعنا زمان الغد إلى الحمل ، لعدم عرفية إجراء الماضي بلحاظ المستقبل.

وثالثاً : عدم صحة أخذ مفاد الفعل الماضي في جميع المشتقات ، كما يتّضح بمراجعة أسماء الآلة أو المكان والزمان أو غيرها من المشتقات.

ورابعاً : انَّ الفعل الماضي يدلّ على حركة المبدأ وصدوره من ذات ومثل هذا المعنى غير مأخوذ في المشتقات فانَّها تحكي عن الذات المتّصفة بالمبدإ ولا تحكي عن حيثية حركة المبدأ وصدوره منها.

٣ ـ ما أفاده السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ بقوله : « انَّا لو سلّمنا انَّ الجامع الحقيقي بين الفردين غير ممكن إلا انَّه يمكننا تصوير جامع انتزاعي بينهما وهو عنوان أحدهما » (١).

وفيه : انَّ مجرد معقولية جامع انتزاعي ، كعنوان أحدهما الّذي يمكن أن ينتزع من النقيضين فضلاً عن غير هما ، لا يكفي إذ المقصود تصوير جامع يحتمل بشأنه أن يكون

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢٦٤

٣٧٢

هو المعنى الموضوع له للمشتقات ولا إشكال في عدم انفهام مفهوم أحدهما عن المشتق. ولو كان المشتق موضوعاً بإزاء مفهوم أحد الفردين المتلبس والمنقضي لزم عدم تعقل الشمولية فيه لأن عنوان أحدهما أو واحد منها عنوان بدلي دائماً.

٤ ـ ما أفاده السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ أيضا من أنَّ الجامع عبارة عن الذات المنتقض عدم المبدأ فيها بالوجود أو قُل خروج المبدأ فيها من العدم إلى الوجود (١).

وفيه : أولا ـ عدم انفهام انتقاض عدم المبدأ أو خروجه من العدم في المشتقات بل العرف بشكل عام يفهم معاني المشتقات من طرف وجود المبادئ فيها ابتداءً لا بتوسيط إعدامها.

وثانياً : إن أريد أخذ مفهوم الانتقاض الاشتقاقي كعنوان المنتقض فهو أيضا مشتق لا بدَّ من تحديد معنى جامع له لكي لا يختص بالمنتقض فيه العدم بالفعل ، وإن أريد أخذ الانتقاض بنحو الفعل الماضي رجع إلى الوجه الثاني المتقدم وقد عرفت عدم المساعدة عليه وإن أخذ مبدأ الانتقاض منسوباً إلى الذات بنحو النسبة الناقصة كان كنسبة أي مبدأ اشتقاقي بحاجة إلى تصوير معنى جامع يشمل صورة انقضائه وتلبّس الذات به.

٥ ـ أن يكون الجامع عبارة عن الذات المنتقض عدم المبدأ الأزلي فيه ، وهو صادق على المنقضي لأنَّ عدم المبدأ فيه ليس بأزلي.

وفيه : ما تقدم في الاعتراض الأول على الوجه السابق.

وهكذا يتّضح : عدم إمكان تصوير معنى جامع حقيقي بين المتلبّس بالمبدإ والمنقضي عنه.

وإذا اتّضحت هذه المقدمات نشرع في بيان المختار في معنى المشتق مع استعراض ما يمكن أن يذكر بشأنه من وجوه الاستدلال.

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢٦٥

٣٧٣

المختار في معنى المشتق

والواقع انَّ قليلاً من التدبّر والتأمّل في إطلاقات المشتق كافٍ في رأينا للجزم بوضعها للمتلبس بالمبدإ خاصة ، لأنَّ المشتق له مادة وهيئة ، أمَّا المادة فموضوعة للدلالة على الحدث ، وامَّا الهيئة فللدلالة على نسبة ذلك الحدث إلى الذات وتلبّسها به على اختلاف أنحائه وكيفيّاته وهي فرع وجود الحدث وعدم انقضائه.

ويكفينا دليلاً على بطلان الوضع للأعم ما تقدّم من عدم تيسّر تصوير معنى جامع بين المتلبّس والمنقضي عنه المبدأ.

ما استدلّ به على الوضع للمتلبّس

وقد استدلّ مع ذلك على الوضع لخصوص المتلبس بوجوه عدّة.

منها : دعوى تبادر المتلبس خاصة.

واعترض عليه : باحتمال استناده إلى الانصراف الناجم عن كثرة الاستعمال في المتلبس.

وأجيب عن الاعتراض : بأنَّ الاستعمال في موارد الانقضاء أكثر منه في موارد التلبّس ، واضطرّ المجيب حينئذٍ أن يفسّر كثرة الاستعمال في حالات الانقضاء بنحو لا ينافي مع الوضع للمتلبس خاصة ، وذلك بافتراض ان أكثر موارد استعمال المشتقات لا يكون التلبس بالمبدإ فيها فعليّاً حين الاستعمال بل منقضياً. وحينئذٍ لو قيل بالوضع للمتلبس خاصة تعيّن حملها على انَّ الإسناد بلحاظ حال التلبس دفعاً للمجاز الكثير بل الأكثر المنافي مع حكمة الوضع وإن قيل بالوضع للأعم كان الإطلاق بلحاظ حال الاستعمال والنطق لعدم استلزام المجاز وبذلك حاول أن يمنع على القائل بالأعم دعوى كثرة الاستعمال في المتلبس.

ولنا في المقام تعليقان : أحدهما على مقالة المجيب ، والثاني على الاعتراض.

ففيما يتعلّق بكلام المجيب نحن لا نسلّم كثرة الاستعمال في المنقضي بناء على الوضع للأعم لأنَّ موارد الاستعمالات امَّا أن تكون جملاً تطبيقية أو لا تكون جملاً

٣٧٤

تطبيقية ، كما إذا وقع المشتق في سياق إنشاء كما في قولنا « أكرم العالم » ولا إشكال في عدم صحة الاستشهاد بالجمل غير التطبيقية على الاستعمال في المنقضي كما هو واضح ، والجمل التطبيقية منها ما تكون إسنادية كقولنا « ضرب العالم » أو « ضربت العالم » ومنها ما تكون حملية ولا إشكال أيضا في انَّ الاستعمال في الجمل الإسنادية تكون بلحاظ زمان اسناد الفعل لا النطق ولو قيل بالوضع للأعم ، والجمل التطبيقية الحملية منها ما لا تكون الذات المحمول عليها المشتق محفوظة حين الاستعمال كقولنا « شيخ المفيد عالم » ممَّا يتعيّن أن يكون الجري فيها بلحاظ زمان التلبّس على القولين معاً ، فلا يبقى عدا موارد انحفاظ الذات حين الاستعمال مع كون الجملة تطبيقية حملية وهي ليست بتلك الكثرة في نفسها فضلاً من ان تكون أغلب مواردها ممَّا قد انقضى على الذات زمان التلبس بالمبدإ.

وفيما يتعلّق بأصل الاعتراض نقول : انَّ استناد التبادر إلى الانصراف الناشئ عن كثرة الاستعمال في التلبس ـ لو سلّم يكشف عن تعين اللفظ فيه تدريجاً على أساس غلبة الاستعمال وكثرة الحاجة إليه ، فلو لم تكن هذه الحيثية بنفسها كاشفة عن انَّ الوضع من أول الأمر كان للمتلبس خاصة فلا أقلّ من كشفه عن تعيّنه لذلك عرفاً وهو على حدّ الوضع التعييني من وجهة غرض الفقيه من هذا البحث.

ومنها : لزوم انتفاء التضاد بين الأوصاف الاشتقاقية بناء على الوضع للأعم ، فيصدق في مورد واحد مثلاً « العالم » و « الجاهل » معاً باعتبار تلبسه بالجهل سابقاً.

وهذا الوجه يصلح أن يكون منبهاً وجدانيّاً لمن يعيش ارتكازية التضاد بين الأوصاف في نفسه على أساس ارتكاز الوضع للمتلبس عنده ولكنه غافل عنه ، وأمَّا الّذي يدّعي الوضع للأعم فيمكنه الاعتراض بعدم التضاد بين الأوصاف الاشتقاقية إلا حيث ما يلحظ في الاتصاف زمان واحد ، ومجرّد التضاد بين مبادئ المشتقات لا يكفي دليلاً على التضاد فيما بينها بعد ان كانت ذات معنى زائد على المبدأ وهو التلبس الّذي يعقل افتراضه بنحو يمنع عن التضاد.

ومنها : الاستدلال بصحة سلب المشتق عن المنقضي عنه التلبّس فيصحّ أن يقال « زيد ليس بجاهل ».

٣٧٥

واعترض عليه : بأنَّه لو أريد سلب مطلق المبدأ فهو كذب ، وإن أريد سلب من له المبدأ فعلاً فهو صحيح ولكنَّه لا يفيد لأنَّ سلب الأخص لا يثبت سلب الأعم الّذي هو المعنى الموضوع له عند الخصم.

وهذا الاعتراض نشأ من الخلط بين تقييد الوصف الاشتقاقي بالفعلية وتقييد مبدأ الاشتقاق ، فانَّ الّذي لا يضرّ بمقالة الخصم تقييد مبدأ الاشتقاق بالفعلية وأمَّا تقييد جري المشتق نفسه بذلك في قولنا « زيد الآن ليس بجاهل » فهو ضار بمقالته لا محالة.

والصحيح المناقشة في كبرى علامية صحّة السلب بالنحو الّذي تقدّم شرحه في علامات الحقيقة والمجاز.

ومنها : ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) ويتألّف من خطوتين :

أولا لهما : انَّ مدلول المشتق أمر بسيط كمدلول المصدر نفسه ولكن ملحوظاً لا بشرط من ناحية الحمل.

الثانية : انَّ المشتق إذا كان بسيطاً فلا يعقل وضعه للأعم لعدم الجامع عندئذٍ بين حالتي التلبّس والانقضاء.

والخطوة الثانية من هاتين صحيحة على ما تقدّم أيضا ، إلا انَّ الأولى منهما محل تأمّل بل منع على ما تقدّم الكلام فيه مفصلاً في الهيئات الإفرادية.

هذه مهم الوجوه التي استدلّ بها لإثبات وضع المشتق بإزاء المتلبّس خاصة. ومن خلال التأمّل فيها يتّضح أيضا أوجه المفارقة في الأدلة التي ساقوها لإثبات الوضع للأعم فلا موجب للتعرّض إليها.

التفصيل بين بعض المشتقات وبعض

نعم مقالة التفصيل بين أسماء الحرف والصناعات والملكات وأسماء الآلة ونحوها وبين سائر المشتقات تستحقّ شيئاً من العناية.

وأحسن ما يمكن أن يستدلّ به عليها أن يقال : لا إشكال في صدق هذه الأسماء حتى مع عدم تلبس الذات بالحدث المأخوذة في مباديها حرفياً فيقال لزيد مثلاً « انَّه صائغ » ولو كان نائماً في بيته. وهذا يرجع لا محالة امَّا إلى توسعة في مدلول الهيئة بدعوى

٣٧٦

وضعها للأعم أو التصرّف في غير ذلك من الجهات ، وبإبطال الأخير يتعيّن الأول. وجه البطلان : انَّ هذا التصرّف يتصوّر بأحد وجوه أربعة كلّها ممَّا لا يمكن المساعدة عليها.

١ ـ ان يوسع من مدلول المادة فيدعى : وضع مادة « صائغ » مثلاً لحرفة الصياغة. ويبطله : انَّه خلاف ما هو المقرر من انَّ المواد الاشتقاقية ذات وضع نوعي واحد في جميع الاشتقاقات.

٢ ـ ان يتصرّف في مدلول الهيئة بحملها على التلبس الشأني لا الفعلي ولا الأعم.

ويرد عليه : ما أبطلنا به الوجه السابق فانَّ الهيئات الاشتقاقية أيضا ذات وضع نوعي واحد في جميع المشتقات مع وضوح عدم دلالة هيئة « قائم » على شأنية التلبس بالقيام.

٣ ـ ان يتصرّف في الجملة المستعمل فيها هذه المشتقات فقولنا « زيد صائغ » وإن كانت لغويّاً تقتضي فعلية تلبّس زيد بالصياغة ولكن معهودية كون الصياغة حرفة قرينة عرفاً على استفادة شأنية التلبس بها.

وفيه : انَّ التوسعة المذكورة مفهومة من هذه المشتقات ولو لم ترد في جملة تامة.

٤ ـ دعوى عناية ادعاء عرفي يقضي بإلغاء الفواصل الزمنية المتخللة بين فترات صدور المبدأ من الذات في هذه المشتقات بنكتة تكرّر صدور المبادئ فيها ، فكأن الذات بهذا الاعتبار متلبسة بها دائماً.

وفيه : انَّ لازمه صحّة استعمال وصف اشتقاقي آخر مكانها بأن يقال « زيد متلبس بالصياغة أو الكتابة في حال نومه » مثلاً لأن الفترات الزمنية الفاصلة ملغاة بحسب الفرض مع انَّه خلاف الفهم العرفي جدّاً ممَّا يعني اختصاص النكتة بهذه المشتقات بالذات.

فإذا بطلت هذه الوجوه تعيّن وضعها للأعم.

إلا انَّ الصحيح مع ذلك عدم التفصيل بين المشتقات ، لعدم إمكان المصير إلى وضع شيء منها بإزاء الأعم ، وذلك :

إمَّا أولا : فلما تقدّم من عدم معقولية معنى جامع بين المتلبس والمنقضي يصحّ

٣٧٧

اعتباره المعنى الأعم.

وإمَّا ثانياً : فلأنَّ الأسماء التي ادّعي في التفصيل وضعها للأعم أيضا لا تصدق حقيقة على الذات بعد زوال مباديها بالنحو الملحوظ فيها بشهادة العرف واللغة على عدم صدق « الصائغ » مثلاً على من كانت حرفته الصياغة في الزمن السابق إلا مجازاً على حدّ صدق القائم على من كان متلبساً بمبدإ القيام ممَّا يعني انَّها أيضا موضوعة بإزاء المتلبس بالمبدإ غير انَّه لوحظ نحو توسعه في مفادها لا بدَّ من تخريجه بشكل أو آخر.

والصحيح : انَّ هذه التوسعة ملحوظة في مدلول هيئاتها على النحو المتقدّم في الوجه الثالث من الوجوه الأربعة :

وما قيل في إبطاله : من استلزامه تعدد وضع الهيئات الاشتقاقية وهو بخلاف المقرر في موضعه. يرد عليه :

أولا : انَّ هذا اللازم لا بدَّ من الالتزام به على كلّ حال بعد ثبوت الفرق وجداناً بين هذه الأسماء وغيرها ، غاية الفرق : انَّ المفصل يدعي وضعها للأعم من المتلبس والمنقضي ونحن ندعي وضعها لخصوص المتلبس مع التوسعة في معنى التلبس لعدم إمكان المساعدة على الوضع للأعم.

وثانياً : لا لزوم لتعدد الوضع لإمكان دعوى وضعها جميعاً بإزاء هذا المعنى الموسع من التلبس ، غاية الأمر : لا مصداق له في مثل ضارب وقائم إلا في التلبس الفعلي لعدم صلاحية مباديه لغير هذا النحو من التلبس.

وهكذا يتّضح : انَّ الصحيح وضع المشتق بإزاء المتلبس بالمبدإ خاصة ، وانَّما الفرق في كيفيات التلبس وأنحائها.

ما يقتضيه الأصل العملي عند الشك في معنى المشتق

ثمَّ لو فرض الشك في ما هو المعنى الموضوع له المشتق فما هو مقتضى الأصل العملي؟ والحديث عن الأصل العملي تارة : يقع بلحاظ المسألة الأصولية ، وأخرى : بلحاظ المسألة الفقهية.

٣٧٨

١ ـ حكم الأصل في المسألة الأصولية

ففيما يتعلّق بالأصل العملي في المسألة الأصولية ـ أعني ما يمكن أن نثبت به الوضع للأعم أو للمتلبس ـ ربّما يتمسّك باستصحاب عدم أخذ خصوصية التلبس قيداً في مقام الوضع زائداً على الجامع وبذلك ينفي الوضع للمتلبس خاصة.

إلا انَّ هذه الدعوى لا مأخذ لها. إذ يرد عليه من أوجه المفارقة :

أولا : ابتنائه على تخيّل انَّ لحاظ المعنى الأعم أو الأخص من باب المطلق والمقيد الّذي يكون أصل الجامع متيقّناً في مقام لحاظه والشك في الخصوصية وهو غير صحيح ، فانَّ المعنيين وإن كانا متّحدين بحسب الصدق في الخارج إلا انَّهما بحسب عالم اللحاظ والمفهوم متباينان ـ بناء على إمكان تصوير معنى جامع أعم ـ فليس الشك فيما لاحظه الواضع حين الوضع دائراً بين الأقل والأكثر لينفي الزائد بالأصل.

وثانياً : ابتنائه على كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب لا تقابل الضدّين ـ كما اختاره السيد الأستاذ ـ أو العدم والملكة كما يظهر من المحقق النائيني وإلا كان إثبات الوضع للأعم ينفي الخصوصية من الأصل المثبت.

وثالثاً : انَّ غاية ما يثبت من نفي لحاظ الخصوصية انَّ الواضع قد لاحظ حين الوضع المعنى الأعم الجامع بين المتلبس والمنقضي وما هو موضوع الحكم الشرعي بالحجية انَّما هو الظهور المسبب من الوضع فلا يمكن تعيينه في الأعم بالاستصحاب المذكور إلا بالأصل المثبت أيضا.

٢ ـ حكم الأصل في المسألة الفقهية

وفيما يتعلّق بالأصل في المسألة الفقهية الفرعية ، إن أريد إجراء الاستصحاب الموضوعي ونعني به : استصحاب بقاء صدق المشتق بعد الانقضاء لترتيب أثره الشرعي. ففيه : انَّه من الأصل في الشبهة المفهومية وهو خلاف ما حقّقناه في موضعه من بحوث الاستصحاب وإن أريد استصحاب بقاء الحكم المترتّب على المشتق ، فتارة : يفرض انَّ الحكم مرتّب على المشتق بنحو الإطلاق البدلي على صرف وجوده كما إذا قال « أكرم عالماً » وأخرى : يفرض ترتّبه على مطلق وجوده كما إذا قال « أكرم كلّ

٣٧٩

عالم » ففي الفرض الأول الّذي يكون الشك فيه بحسب الحقيقة في متعلّق الحكم لا موضوعه ـ فيما إذا لم يفرض انحصار العالم في المنقضي عنه المبدأ ـ يكون الدوران بين التعيين والتخيير الّذي هو مجرى أصالة البراءة عن التعيين عندنا مطلقاً ، فيجوز الاكتفاء في مقام الامتثال بإكرام من كان عالماً سابقاً.

وفي الفرض الثاني : فصل صاحب الكفاية ( قده ) بين ما إذا تنجز الحكم بعد انقضاء المبدأ وما إذا كان متنجّزاً من حين التلبس فشك في ارتفاعه بانقضاء التلبس ، فحكم باستصحاب عدم الحكم في الأول واستصحاب بقاء الحكم في الثاني (١).

وفي كلا الشقّين من هذا التفصيل كلام.

امَّا الشقّ الأول ، فلان مقتضى التحقيق المطابق مع مسالكه قدس‌سره أيضا التفصيل بين حالتين :

الأولى : ما إذا تأخّر جعل الحكم عن زمان التلبس ، فتجري أصالة البراءة عن التكليف أو استصحاب عدمه لكونه من الشك في حدوث التكليف.

الثانية : ما إذا كان الجعل ثابتاً في زمان التلبس أيضا ولكنَّه كان معلّقاً على شرط ـ كنزول المطر مثلاً ـ يتحقق بعد انقضاء التلبس ، وفي مثله يجري استصحاب الحكم بنحو القضية التعليقية ، حيث يقال انَّ المطر لو كان قد نزل قبل الانقضاء كان الحكم فعلياً ويشك في فعليّته بعده لاحتمال دخل فعلية التلبس فيه كاحتمال دخل العنبية في حرمة العصير المغلي فيجري الاستصحاب التعليقي عند القائلين به.

وامَّا الشق الثاني : فقد أورد عليه السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ :

أولا : بأنَّه شبهة حكمية ولا يجري فيها الاستصحاب.

وثانياً : انَّه شبهة مفهومية ولا يصحّ إجراؤه فيها أيضا (٢).

والاعتراض الأول اعتراض مبنائي. وقد ذكرنا في موضعه من بحوث الاستصحاب أن الصحيح جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية والموضوعية جميعاً.

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٢١ ( ط ـ مشكيني )

(٢) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢٧٠ ( مطبعة الآداب في النجف )

٣٨٠