بحوث في علم الأصول - ج ١

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١

الظرفية التحليلية ويضع الحرف أو الهيئة لواقع تلك الحصص فجملة « نار في الموقد » مثلاً موضوعة لهذه الحصة من الظرفية المتقوّمة بوجود ذهني واحد للنار والموقد والظرفية بينهما وهي حصّة غير النسبة الظرفية في جملة « زيد في الحديقة » المتقومة بوجود ذهني آخر ، وامّا أفراد ومصاديق « نار في الموقد » الخارجية فليس الوضع بلحاظها خاصاً كما كان في النسب الواقعية الذهنية لأنّ ذلك الوجود الذهني الواحد ليس متضمناً على نسبة واقعية حتى يكون متشخصاً ومتقوّماً بأطرافها.

تصوير الوضع العام والموضوع له العام في الحروف

هذا هو المختار في تحقيق الأوضاع للمعاني الحرفية. ومن الجدير بالذكر بهذا الصدد محاولة قام بها المحقق العراقي قدس‌سره لتصوير كون وضع الحروف من الوضع العام والموضوع له العام. وحاصل المحاولة : انّ الحرف موضوع للقدر المشترك الجامع بين الجزئيات ولكنّه سنخ جامع لا يمكن تصوره إلاّ في ضمن الخصوصيات خلافاً للجامع في المفاهيم الاسمية التي وضعت لها أسماء الأجناس حيث انّه سنخ جامع قابل للورود في الذهن مجرداً عن الخصوصيات وبذلك يتصوّر الوضع العام والموضوع له العام في الحروف بافتراض جامع من ذلك القبيل يكون هو مفاد الحرف وتكون الخصوصية مستفادة من دال آخر على طريقة تعدد الدال والمدلول والدليل على أن وضع الحروف على هذا الوجه تبادر الحيثيّة المشتركة من الحرف في موارد استعماله. ولنا حول هذا الكلام عدة تعليقات.

الأول : انّ المشكلة في تصوير الجامع لم تكن عبارة عن أنّ النسبة الابتدائية مثلاً لا يمكن أن ترد إلى الذهن إلاّ توأماً مع الخصوصيات حتى يقال ان هذا لا ينفي تعقل الجامع لعدم توقّف الجامع على تعقّل وروده مجرداً إلى الذهن ، فالطبيعة اللابشرط المقسمي جامع بين الطبيعة اللابشرط القسمي والطبيعة الملحوظة بشرط شيء ومع هذا فانّها لا ترد إلى الذهن إلاّ في ضمن إحدى الحصتين ، بل المشكلة في تصوير الجامع هي انّ كلّ نسبة متقومة ذاتاً وتقرراً بطرفيها ، فإذا أريد انتزاع جامع ذاتي بين نسبتين فان تحفظنا على خصوصية الطرفين لكل نسبة استحال الحصول على جامع

٣٤١

لتباين الخصوصيات ، وان ألغينا خصوصية الطرفين لم تبق نسبة إذ لا تقرر للنسبة إلاّ بطرفيها فلا يمكن الحصول على جامع بين النسبتين ، وعلى هذا الأساس فالجامع الّذي يفترض المحقق العراقي ( قده ) انّه لا يرد إلى الذهن إلاّ مع الخصوصيات إن كان في تقرّره الماهوي مستقلاً فهذا خلاف البرهان المذكور وإلاّ فهو مساوق لعدم الجامع.

الثاني : انّا لو سلّمنا تعقّل الجامع المذكور الّذي أفاده فهذا لا يفيد في إثبات كون الإفادة بنحو تعدد الدال ، لأنّ تعدد الدال والمدلول انّما يتعقّل في فرض يمكن فيه تعدد الانتقال وهو في المقام غير معقول لأنّ المفروض عدم إمكان الانتقال إلى الجامع إلاّ في ضمن الخاصّ ومع وحدة الانتقال لا معنى لتعدد الدال بل ولا لتعدد الوضع.

الثالث : انّ استدلاله على مدعاه قدس‌سره بشهادة الوجدان بتبادر الحيثية المشتركة غير واضح لأنّ الحيثيّة المشتركة لا يمكن أن ترد إلى الذهن إلاّ في ضمن الخاصّ كما افترضه ، وعليه فان ادعي شهادة الوجدان بعدم الانتقال إلى الخصوصية فهو خلف الفرض ، وان ادّعي شهادة الوجدان بعدم الانتقال من ناحية نفس الحرف إلى الخصوصية فهذا لا ينافي ما ندّعيه من كون الحرف موضوعاً بوضع ضمني على نحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ فان مقتضى ذلك انّ الخصوصية مستفادة من المجموع لا من الحرف مستقلاً.

وبالإمكان صياغة برهان آخر على مدّعى المحقق العراقي مركب من أمرين : أحدهما : وجداني ، وهو إدراك وجود تشابه بين النسب الابتدائية على نحو لا يوجد بين نسبة ابتدائية ونسبة ظرفية. والآخر : برهاني ، وهو انّ كلّ تشابه بين أمرين يرجع لا محالة إلى اشتراكهما في حيثية واحدة إذ مع التباين في كلّ الحيثيات لا يبقى فرق بين مباين ومباين ، فإذا تقرّر هذان الأمران يستكشف على أساسهما وجود حيثية مشتركة بين النسب الابتدائية ، وهذه الحيثية ليست عرضية وطارئة لوضوح انّ التشابه ملحوظ بين النسبتين الابتدائيتين بقطع النّظر عن أيّ عارض وطارئ ولا يمكن تصوّر زوال التشابه بزوال هذا العارض أو ذاك فيتعيّن أن تكون الحيثيّة المشتركة ذاتية وبذلك يثبت الجامع الحقيقي بين النسبتين.

وببيان آخر : إن النسب الابتدائية مثلاً ينتزع منها جميعاً مفهوم اسمي واحد

٣٤٢

ولا يمكن انتزاع مفهوم واحد من المتباينات بما هي متباينات ، فحينما ينتزع مفهوم واحد من أفراد عديدة فلا بدّ أن يكون منتزعاً امّا بلحاظ مرتبة ذاتها فيكون جامعاً ذاتيّاً ، أو بلحاظ مرتبة عرض من أعراضها وشأن من شئونها فيكون جامعاً عرضيّاً ، والثاني في المقام باطل لما أشرنا إليه فيتعيّن الأول.

وينحصر الجواب على هذا البرهان : بإنكار مرجعية التشابه حتماً إلى الاشتراك في جامع إلاّ فيما كان له تقرر ماهوي في مرتبة سابقة على الوجود وامّا ما كان تقرّره في طول صقع الوجود فلا يرجع التشابه والتقارب فيه إلى الاشتراك في جامع مفهومي حقيقي كما هو الحال في أنحاء الوجود نفسها ولو كان لا بدّ من جامع كذلك في كلّ تشابه لزم عند تطبيق ذلك على النسب افتراض اشتمالها على جامع ذاتي محفوظ في تمام النسب وجامع ذاتي آخر محفوظ في خصوص النسب الابتدائية مثلاً ، وبهذا تكون النسبة الابتدائية مركّبة من جزءين وهذا الجزءان بنفسيهما بينهما تشابه بالضرورة في مقابل ما لا يدخل في تكوين النسبة من مفاهيم فلا بدّ انسياقاً مع البرهان المذكور من افتراض جامع ذاتي بينهما وهكذا.

٢ ـ من ناحية اللفظ الموضوع

الناحية الثانية : في تشخيص كيفية وضع الحروف والهيئات من جانب اللفظ من حيث انّه شخصي أو نوعي ، والمعروف بين المحققين انّ الوضع في الهيئة نوعي وامّا الوضع في الحروف فلم يتكلّموا عنه وكأنّه لافتراض وضوح كون الوضع فيه شخصياً.

والتحقيق في الحروف : انّ الوضع فيها نوعي بناء على ما حققناه من أنّ الحرف ليس له وضع مستقل بل موضوع بوضع ضمني في ضمن الجملة ، وحيث انّ عناصر الجملة تختلف من مورد إلى آخر وهي غير محصورة فلا بدّ من استحضار عنوان إجمالي يشير إلى كلّ الجمل التي تتألّف من ظرف ومظروف وحرف الظرفية مثلاً ووضعها للمعنى المناسب لها ، وهذا يعني انّ الوضع نوعي لأنّ الموضوع في الحقيقة شخص كلّ جملة وشخص الجملة لم يستحضر في مقام الوضع إلاّ بنوعه.

وأمّا الهيئات ، فالمعروف كما أشرنا ان الوضع فيها نوعي إذ لم تستحضر الهيئة

٣٤٣

المتخصصة بكلّ مادة بالخصوص في مقام الوضع وانّما استحضر نوع الهيئة الملحوظة لا بشرط من حيث المادة ، وهذا بخلاف المادة فانّ وضعها شخصي.

وقد استشكل في ذلك ثبوتاً بأن التمييز بين الهيئة والمادة بالنوعية في الوضع في الأولى والشخصية في الثانية غير متعقّل ، لأن مناط نوعية وضع الهيئة إن كان عدم اختصاصها بمادة من المواد فالمواد كذلك لعدم اختصاصها بهيئة من الهيئات ، ومناط شخصية الوضع في المادة إن كان امتياز كلّ مادة عن الأخرى فالهيئات كذلك لامتياز بعضها عن بعض.

وقد وجهه المحقق الأصفهاني ( قده ) بأن المادة لما كان لها جامع يمكن استحضاره فالواضع يحضر هذا الجامع في ذهنه ويضع له المعنى فيكون الموضوع بحقيقته وشخصه مستحضراً ، ففي وضع مادة « ضرب » مثلاً يتصور الحروف الثلاثة على نحو يكون الضاد مقدماً على الراء والباء متأخراً عنهما فيقول وضعت ذلك للمعنى الحدثي الخاصّ. وامّا في جانب الهيئة ، فلا يمكن حضور الهيئة بنفسها واستحضارها مجردة عن المادة لتقومها بالمادة حيث انّها طور من أطوارها ، فلا يعقل أن يكون هناك جامع حقيقي بين هيئات « ضارب » و « عالم » و « شارب » لأنّه لا جامع بين المواد ، وذلك الجامع حيث انّه هيئة يحتاج إلى ما يقوم به ومع قيامه بمادة خاصة يتشخص فلا يكون جامعاً ، والحاصل : انّ كلّ ما يفرض جامعاً إن كان قائماً بمادة فليس هو بجامع لتخصصه بمادة من المواد وإلاّ فليس بهيئة حقيقة. وإذن فلا بدّ للواضع من إحضار عنوان انتزاعي يشير به إليها ، أو وضع بعضها وقياس الأفراد الأخرى عليه ، وبهذا يكون الوضع نوعيّاً ويختلف عن المادة لوجود الجامع الحقيقي للمادة ، وهذا طريف وجيه ، غير انّ الكلام يبقى إثباتاً في ان وضع الهيئة هل هو نوعي أو شخصي ولدينا هنا إشكال إثباتي نرى أنّه يواجه دعوى النوعية في وضع بعض الهيئات الإفرادية ، كهيئة اسم الفاعل ونحوه ، وملخصه : انّ الهيئة كهيئة اسم الفاعل أو فعل الماضي مثلاً إذا أخذت لا بشرط من حيث المادة ووضعت للذات المتلبسة بالمبدإ بناء على التركيب في المشتق وللنسبة بين الفعل والفاعل بناء على أن مفاد الفعل نسبة أولية ، فهناك أنحاء من التلبّس وأنحاء من النسب بين الفعل والفاعل فهو تارة : يكون صدوريّاً كما في « ضارب » و « ضرب »

٣٤٤

و « قاتل » و « قتل » وأخرى : حلوليّاً كما في « مائت » و « مات » و « عالم » و « علم » فان كان المأخوذ في مدلول الهيئة في مقام الوضع الجامع بين تلك النسب والتلبسات على نحو الوضع العام والموضوع له العام أو على نحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ فيلزم صحة استعمال كلّ هيئة في كلّ نحو من التلبس ، وهذا يعني صحة استعمال « قاتل » فيمن تلبس بحلول القتل عليه وهكذا وهو واضح البطلان ، وإن كان المأخوذ نحواً خاصاً من التلبس كالتلبس الصدوري مثلاً لزم ان لا يجوز استعمال أي هيئة في مورد التلبس الحلولي مع وضوح صحته في بعض الهيئات كما في « مائت » مثلاً فلم يبق إلاّ أن يكون الواضع قد لاحظ كلّ هيئة مقرونة بمادتها الخاصة ووضعها للنحو المناسب من التلبس والنسبة وهو معنى الوضع الشخصي.

ولا يصحّ أن يقال : ان اسم الفاعل موضوع للذات المتلبسة بالمبدإ بالتلبس المناسب لطبيعة ذلك المبدأ ، وحيث انّ المناسب للقتل التلبس الصدوري لم يصح استعمال لفظ « القاتل » في الذات التي حلّ فيها القتل ، وان المناسب للعلم التلبس الحلولي لم يصح استعمال لفظ « العالم » في الذات التي صدر منها العلم. فان هذا الكلام لا محصل له ، وذلك لأن كلاً من القتل والموت والعلم عرض له نسبتان ، نسبة إلى فاعل القتل والعلم ونسبة إلى محلها ، وليس أحدهما أولى من الآخر بإحدى النسبتين فلما ذا صحّ استعمال « قاتل » في فاعل القتل ولم يصح استعمال « مائت » في فاعل الموت.

ولا يصح أن يقال : انّ هيئة اسم الفاعل موضوعة للذات المنتسب إليها المبدأ بالنسبة التي أخذت في المصدر ، وحيث انّ المصادر مختلفة من هذه الجهة ففي بعضها أخذت النسبة إلى الفاعل وفي بعضها النسبة إلى المفعول وهكذا ، فاسم الفاعل يدلّ على صاحب تلك النسبة ومن هنا افترق « قاتل » عن « مائت » فان القتل أخذت فيه النسبة إلى الفاعل والموت أخذت فيه النسبة إلى الميت. فان هذا الكلام غير مستقيم حتى لو بني على تضمن هيئة المصدر للنسبة ، لأنّ النسبة المأخوذة في القتل مثلاً لا نسلم انّها النسبة إلى فاعل القتل بالخصوص بل هي النسبة إلى كل من الطرفين من الفاعل والقابل ، ولذا تكون إضافته إلى القابل على حدّ إضافته إلى الفاعل ، فكما يقال « قتل

٣٤٥

معاوية لحجر جريمة » يقال « قتل حجر من أعظم المحرمات » والوجدان شاهد على ان لفظ القتل لا يوجب انصراف الذهن إلى خصوص النسبة الفاعلية. فلم يبق وجه لاختصاص القاتل بفاعل القتل.

ولا مخلص عن هذا الإشكال إلاّ بالالتزام بأن الهيئة في ضمن كلّ مادة موضوعة بوضع شخصي للنحو المخصوص من النسبة ، أو الالتزام بأن أنحاء النسب مأخوذة في مدلول المادة ووضعها الشخصي ، بأن تكون النسبة الصدورية مثلاً مأخوذة بالخصوص في مدلول المادة ، أو تكون كلّ من النسبة الصدورية والحلولية مأخوذة في مدلولها بنحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، ويحافظ حينئذ على الوضع النوعيّ للهيئة.

٤ ـ الثمرات العملية

للبحث عن مفاد الحروف والهيئات

قد فرغنا الآن من البحث التحليلي في مداليل الحروف والهيئات ، وعلينا أن نشرح الثمرات العملية لهذا البحث ويمكن تلخيصها فيما يلي :

١ ـ رجوع القيد إلى مدلول الهيئة إمكاناً وامتناعا

إذا أفيد الحكم بنحو المعنى الحرفي ، كما إذا دلّت عليه هيئة الأمر ، وأريد ربطه بقيد ، كما في قولنا « إذا استطعت فحج » فبالإمكان ثبوتاً أن يكون القيد قيداً للحكم والوجوب وأن يكون قيداً للواجب. والمتبع في تعيين أحد الأمرين ظهور الدليل بحسب مقام الإثبات ، ولكن قد يقال بأن رجوع القيد إلى مدلول الهيئة غير معقول ثبوتاً باعتباره معنى حرفياً والمعنى الحرفي لا يعقل تقييده فيتعيّن إرجاعه إلى مرجع آخر كمادة الأمر في المثال ومن هنا أنكر جماعة من الأعلام الوجوب المشروط وفرعوا ذلك على مواقف معيّنة تجاه المعاني الحرفية اقتضت الذهاب إلى عدم إمكان تقييدها. ويمكن تلخيص تلك المواقف في الوجهين التاليين :

الوجه الأول : انّ الحرف ـ بمعناه العام الشامل للهيئة ـ موضوع بالوضع العام والموضوع له الخاصّ ، وهذا يعني انّ مدلول الحرف جزئي والجزئي لا يقبل التقييد لأن

٣٤٦

التقييد انّما يطرأ على ما يكون قابلاً في نفسه للسعة والانطباق على واجد القيد وفاقده وهذه القابلية شأن الكلّي لا الجزئي فلا يمكن إرجاع القيد إلى مفاد الهيئة.

الوجه الثاني : انّ المعنى الحرفي متقوم بالآلية في عالم اللحاظ وعدم التوجه إليه مستقلاً والتقييد يستدعي توجه الحاكم بالتقييد إلى مصبه وملاحظته له مستقلاً لكي يقيده وهو خلف طبيعة المعنى الحرفي.

مانعية الجزئية عن التقييد

امّا الوجه الأول : ومرده إلى مانعية جزئية المعنى الحرفي عن التقييد فهو يستند إلى برهان مركب من الأمور التالية :

١ ـ انّ وضع الحروف على نحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ كما برهنا عليه سابقاً.

٢ ـ انّ الخاصّ عبارة أخرى عن الجزئي الّذي لا يقبل الصدق على كثيرين.

٣ ـ انّ الجزئي كذلك لا يقبل التقييد.

ونتيجة ذلك كلّه انّ المعنى الحرفي لا يقبل التقييد.

والتحقيق : في ردّ هذا البرهان بمنع الأمر الثاني منه ، فان كون الموضوع له الحرف خاصاً لا يساوق كونه جزئيّاً بالمعنى الّذي لا يقبل الصدق على كثيرين ، وانّما هو نحو آخر من الجزئية مردّه إلى الجزئية الطرفية بمعنى انّه متقوم بأطرافه وهذا النحو من الجزئية لا يمنع عن قابلية الصدق على كثيرين وعروض التقييد له من بعض الجهات. وتوضيح ذلك : انّ أنحاء النسب ـ كما تقدّم ـ لا يعقل أن يكون بينهما جامع ذاتي لأن كلّ نسبة متقومة في حقيقتها بطرفيها ، فأخذ الجامع بإلغاء الطرفين غير معقول لأن هذا إلغاء لحقيقة النسبة فلا يكون المأخوذ جامعاً نسبيّاً حقيقيّاً ، وأخذ الجامع مع التحفظ على الطرفين غير معقول للتباين بين النسبتين حينئذٍ بتباين أطرافها ، وهذا يبرهن على أنّ الموضوع له الحرف ليس جامعاً بين النسب بل كلّ نسبة من النسب المتقومة بأطرافها ، ثمّ انّ كلّ نسبة من تلك النسب في نفسها كلية قابلة للإطلاق والتقييد ومن سائر الجهات غير جهة الأطراف المتقومة لها وليس التقييد بتلك الجهات بمعنى انّ

٣٤٧

جهة أخرى تكون مقومة للنسبة في عرض أطرافه الأخرى الّذي لازمه أن لا يكون هناك جامع بين النسبة المتخصصة بالطرف الآخر والنسبة غير المتخصصة به لعين البرهان السابق ، فان النسبتين إذا كانتا مختلفتين في الأطراف المقومة لها امتنع الجامع بينهما ، بل معناه كون التقييد بالأمر الآخر يعرض للنسبة في المرتبة المتأخرة بحيث يكون مقيداً للنسبة بعد تقومها بأطرافها وليس مقوماً لها مع أطرافها. وبتعبير آخر : انّ الشيء تارة : يكون ممّا به قوام النسبة فيكون في المرتبة السابقة عليها وتكون النسبة متعلقة به. وأخرى يكون قيداً للنسبة بعد تقومها بأطرافها بحيث يكون من شئونها وعوارضها ذهناً كحال القيود بالإضافة إلى المفاهيم الاسمية ، فالهيئة مستعملة في النسبة المتقومة بأطرافها الخاصة وهي جامعة بين النسبة المتقيدة بأمر آخر والنسبة المطلقة من سائر الجهات ، وهذا الجامع معقول لعدم استلزامه إلغاء الأطراف المقومة وهو قابل للتقييد وبذلك تندفع الشبهة.

وقد أجيب عن البرهان المذكور بوجوه أخرى :

منها ـ ما يرجع إلى منع الأمر الأول ، كجواب المحقق الخراسانيّ ( قده ) بدعوى : انّ الحروف موضوعة بالوضع العام والموضوع له العام.

ومنها ـ ما يرجع إلى منع الأمر الثاني ، كجواب المحقق الأصفهاني ( قده ) بأنّ كون مدلول الحرف خاصاً ليس بمعنى كونه جزئيّاً خارجيّاً أو ذهنيّاً بل خصوصيته بتقومه بطرفيه فلا يمكن افتراض المعنى الحرفي جامعاً بين نسبتين ، ولكن هذا لا يأبى عن إدخال مقوم ثالث على النسبة وهو القيد في محل الكلام فمدلول هيئة « افعل » الّذي هو البعث الملحوظ بما هو نسبة بين المادة والمخاطب قد يلحظ بما هو نسبة ثلاثية الأركان بين المادة والمخاطب والشرط. وفرق هذا عمّا حقّقناه في مقام الجواب انّ إرجاع القيد إلى مدلول الهيئة على ما بيّناه يكون من باب التقييد الطارئ عليه ، وعلى ما أفاده يكون بتثليث مقومات النسبة على نحو لا يعود هناك جامع بين النسبة المرتبطة بهذا المقوم الثالث والنسبة غير المرتبطة به.

ومنها ـ ما يرجع إلى منع الأمر الثالث ، من قبيل جواب المحقق الأصفهاني ( قده ) أيضا من أن المعنى الحرفي لو سلّم كونه جزئيّاً حقيقيّاً فلا ينافي ذلك التقييد بمعنى

٣٤٨

التعليق على أمر مقدّر الوجود ، فان الجزئي يقبل ذلك وانّما لا يقبل التقييد بمعنى تضييق دائرة المعنى ، وبتعبير آخر : انّ الفرد الجزئي لا بدّ له من علة ، فتارة : تكون علته فعلية فيكون فعلياً. وأخرى : تكون علته غير فعلية فيكون معلقاً عليها.

ومن قبيل جواب المحقق العراقي ( قده ) بأنّ الجزئي وإن كان لا يقبل الإطلاق والتقييد من حيث ذاته لعدم قابليته للصدق على أفراد متعددة إلاّ انّه قابل للإطلاق والتقييد من حيث أحواله ، فالتقييد المقابل للإطلاق الأحوالي معقول وإن كان التقييد المقابل للإطلاق الأفرادي محالاً.

ومن قبيل الجواب الّذي أفاده صاحب الكفاية ( قده ) من انّ مدلول الهيئة وإن كان يصبح جزئيّاً بالإنشاء ولكن يمكن تقييده أولا ثمّ إنشاؤه مقيداً ، ففي مرتبة كونه جزئياً لا تقييد فلا محذور.

هذه خمسة أجوبة والتحقيق عدم الالتزام بشيء منها.

أمّا الأول : فلما تقدّم من البرهان على أن الموضوع له في الحروف خاص وليس عاماً.

وأمّا الثاني : فلأننا إذا أنكرنا الجزئية الحقيقية للمعنى الحرفي وقلنا انّها جزئية طرفية فالتقييد العرضي للنسبة معقول على حدّ تقييد المفاهيم الاسمية ولا حاجة إلى إرجاعه إلى افتراض مقوم ثالث للنسبة كما صنعه قدس‌سره بل انّ ذلك غير صحيح ، إمّا أولا : فلأنّه لا يوجد ربط مباشر بين الشرط والمادة والمخاطب لتلحظ نسبة واحدة قائمة بالثلاثة ، بل الشرط مرتبط بمشروطه وهو الحكم الملحوظ في مرحلة المدلول التصوري بما هو نسبة بعثية أو إرسالية قائمة بين المادة والمخاطب ، فلا بدّ من ارتباط الشرط بهذه النسبة بدلاً عن ربطه بالمادة والمخاطب ابتداءً.

وإن شئت قلت : انّ الربط بنحو المعنى الحرفي الصالح لأن ينتزع منه مفهوم الشرطية بنحو المعنى الاسمي وان يحكي عن واقع الربط الّذي يكون الشرط طرفاً له انّما يقوم بين الشرط والمشروط.

وثانياً : انّ لازم ذلك عدم كون التعليق مفاداً على نحو النسبة التامة في الجملة الشرطية ، وهذا يوجب تعذّر استفادة المفهوم كما سنوضّحه إن شاء الله تعالى.

٣٤٩

أمّا الثالث : فيرد عليه : انّه مع إنكار الجزئية الحقيقية لا معنى للتعليق بنحو يقابل التقييد ، ومع افتراض كون المعنى الحرفي جزئيّاً حقيقياً فلا يتمّ الجواب المذكور لأنّ المفروض فيه كون التقييد بالشرط راجعاً إليه في المرتبة المتأخرة عن كونه جزئيّاً خارجيّاً وشخصاً خاصاً ، بمعنى انّ ما هو معروض التقييد هو الجزئي ومن المعلوم انّ ما كان جزئيّاً كما لا يقبل التضييق كذلك لا يقبل التعليق لأن فرض جزئيته الخارجية هو فرض تشخصه بوجود خاص وبعلة خاصة ولا يعقل كونه مطلقاً من ناحية علّته وإلاّ لم يكن جزئياً لأنّ معناه إطلاقه من حيث سنخ وجوده المترشح من علته. والحاصل : انّ الإطلاق المقابل للتعليق معناه قابلية الفرد للتعليق على أمور متعددة وبالتقييد يعلّق الأمر بالفعل على شيء واحد والجزئي لا يقبل التعليق على أمور متعددة بحدّ ذاته لأنّه لا يكون جزئيّاً إِلاّ بترشحه من علّة خاصة فبعد ان كان جزئيّاً لا يعقل تعليقه. وإِن شئت قلت : انّ التعليق إِن كان في مقابل الإطلاق من ناحية العلة فهو غير معقول في الجزئي كما عرفت ، وإن كان في مقابل فعلية المعلق بفعلية المعلّق عليه ، ففيه : انّ مفاد التعليق في الشرطية سنخ معنى محفوظ في فرض فعلية المعلّق عليه وفرض عدم فعليته فلا يمكن أن يراد بالتعليق معنى يقابل الفعلية. هذا ، مضافاً : إلى انّ التعليق بهذا المعنى يستدعي كون المعلّق مفهوماً كليّاً لا جزئيّاً خارجيّاً لأنّ الشيء لا يكون جزئيّاً خارجيّاً إلاّ بالوجود والتشخص وهو ينافي التعليق المذكور.

وامّا الرابع : فيرد عليه : انّ أحوال الفرد عبارة عن حدوده الوجودية والشيء وإن كان قابلاً لحدود وجودية مختلفة طولاً وقصراً إلاّ أنه في مرتبة كونه جزئياً حقيقيّاً وشخصاً خاصاً لا يكون قابلاً لحدود مختلفة حتى يضيق بحدّ خاص ، إِذ من لوازم الجزئية والتشخص أن يكون ذا حدٍّ خاص لأن كلّ جزئي محدود ومتقوّم بحدوده الخاصة فلا يعقل تضييقه بحد من الحدود الشخصية ، نعم قد يؤخذ الفرد مقارناً لحالة من حالاته فيؤخذ موضوعاً لحكم كما إذا قلنا « زيد حال كونه في النار مؤدب » وهذا غير تضييق نفس الفرد.

والحاصل : انّه إن أريد بالتقييد الأحوالي تضييق وجوده بحال خاص بحيث لا يكون لوجوده الجزئي سعة لغير ذاك الحال فهو غير معقول لأنّ الجزئي لا بدّ أن يكون

٣٥٠

متحدداً في وجوده بحدود وأحوال خاصة لا يقبل الإطلاق من جهتها ليقبل التقييد. وإن أريد أخذ مرتبة من ذاك الوجود الجزئي مقيدة بحال من أحواله فهو أمر ممكن إلاّ انّه انّما يصحّ فيما إذا أريد ترتيب حكم على الفرد في حالة مخصوصة لا فيما إذا أريد تضييق نفس الفرد وتحديد وجوده.

وامّا الخامس : فكأنّه بني على أن يراد بالجزئية الجزئية بحسب الوجود الإنشائي باعتبار انّ الوجود مساوق للتشخص والثبوت الإنشائي نحو من الثبوت والوجود ، إذ من الواضح انّ المحذور لو كان هو الجزئية الخارجية أو اللحاظية لكان المعنى جزئيّاً مع قطع النّظر عن الإنشاء فلا يمكن تقييده ولو في المرتبة السابقة على الإنشاء. والتحقيق : عدم تمامية الجواب المذكور أصلاً ، وذلك لأنّ المعنى الموضوع له إن كان كلّياً بحدّ ذاته وانّما يصير جزئياً بالإنشاء والإيقاع الإنشائي فالهيئة لا يمكن أن تستعمل على سبيل الحقيقة إلاّ في نفس ذلك المعنى العام بناء على انّ استعمال الجملة الإنشائية في مدلولها هو سنخ إيجاده بها ، فلا يمكن أن يوجد بالهيئة إلاّ ذلك المعنى العام دون المقيد ، نعم لو قيل بأن الإيجاد الإنشائي أمر وراء نفس الاستعمال أمكن إفادة المقيد في مرحلة الاستعمال أولا على طريقة تعدد الدال والمدلول ثمّ إيجاد المقيد إنشائياً بمجموع الكلام ، كما انّه لو قيل بجزئية المعنى الحرفي الذهنية على أساس أخذ اللحاظ الآلي قيداً فيه أمكن التقييد أيضا لأنّ التقييد انّما هو بلحاظ سعة انطباقه على الافراد الخارجية وهو لا ينافي التشخص في الوجود اللحاظي التصوري.

مانعية الآلية عن التقييد

وأمّا الوجه الثاني : وهو انّ آلية المعنى الحرفي تمنع عن قابليته للتقييد فيمكن أن يقرب بعدّة تقريبات :

التقريب الأول : وهو مبني على الآلية اللحاظية وانّ المعنى الحرفي متحد مع الاسمي ذاتاً ومتميز عنه باللحاظ الآلي وكونه ملحوظاً تبعاً للحاظ متعلقه استقلالاً شأن المرآة مع ذي المرآة والعنوان الملحوظ فانياً في معنونه وحاصله : انّه بناء على هذا الأساس لا يمكن تقييد المعنى الحرفي لأنّ تقييد شيء يتوقّف على ملاحظته وتصوره استقلالاً.

٣٥١

وقد يجاب على ذلك : بأن كون المعنى الحرفي ملحوظاً آليّاً انّما يمنع عن تقييده حال لحاظه كذلك ، وامّا لحاظ المعنى في نفسه أولا مقيداً بقيد ثمّ لحاظ المقيد آلياً في مقام الاستعمال فلا مانع عنه أصلاً.

والتحقيق : انّ هذا انّما يتمّ إذا كان التقييد بالشرط ومفاد هيئة الجملة الشرطية الّذي يربط مدلول هيئة الجزاء بجملة الشرط مأخوذاً على نحو النسبة الناقصة التقييدية. فان بالإمكان حينئذٍ تقييده وملاحظة الحصة الخاصة باللحاظ الآلي وإفادتها بنحو تعدد الدال والمدلول ، وامّا إذا كان مفاد هيئة الجملة الشرطية نسبة تامة أحد طرفيها مفاد الشرط والطرف الآخر مدلول هيئة الجزاء فلا يتم ما ذكر ، لأنه لا بدّ من حفظ النسبة التامة في مرحلة اللحاظ الاستعمالي وانحفاظها في هذه المرحلة مساوق للنظر إلى طرفيها بما هما متغايران لما تقدّم من انّ طرفي النسبة التامة في عالم اللحاظ الاستعمالي ملحوظان بما هما متغايران ، فان كان طرفها ملحوظاً في هذه المرحلة تبعاً فكيف يمكن إيقاع النسبة بينه وبين الطرف الآخر؟

والصحيح في إبطال هذا التقريب منعه مبنى ، وذلك لأن التغاير بين المعنى الاسمي والحرفي ذاتي لا لحاظي ومن هنا ينتقل إلى التقريب الآخر التالي.

التقريب الثاني : ان المعنى الحرفي بحكم كونه نسبيّاً لا يعقل أن يكون له وجود استقلالي لا في الذهن ولا في الخارج ، وبذلك يمتنع تعلّق اللحاظ الاستقلالي به لا لأخذ اللحاظ الآلي قيداً فيه كما هو مبنى التقريب السابق بل لأن النسبة الحقيقية سنخ ماهية ناقصة ذاتاً لا يعقل أن يكون لها وجود بحيالها وانّما هي مندكة في طرفيها دائماً. وإذا كان هذا هو نحو وجودها في الذهن فلا يعقل تقييدها لأنّ تقييد معنى يستدعي ملاحظته والتوجّه إليه وبهذا البيان اتّضح وجه النّظر فيما أفاده جملة من الأعلام ، من دفع التقريب السابق بإنكار التبعية في اللحاظ للمعنى الحرفي وتوضيح أن تبعيته ذاتية باعتبار نسبيته ، وذلك لأن هذه التبعية الذاتيّة تبرهن بنفسها على استحالة الوجود الاستقلالي لمثل هذه الماهية التي لا استقلال لها في مقام التقرر فضلاً عن مقام الوجود ، واللحاظ نحو من الوجود فينتج عدم قابلية المعنى الحرفي للحاظ الاستقلالي ويعود الإشكال.

٣٥٢

والتحقيق : انّ المعنى الحرفي إذا كان نسبة ناقصة فهذا الإشكال لا محيص عنه لأنّ النسبة الناقصة كما أوضحنا سابقاً تحليلية وهذا يعني انّها لا ثبوت لها في صقع الذهن بوجه ومعه لا يعقل إرجاع القيد إليها في مرحلة اللحاظ الاستعمالي ، إذ في هذه المرحلة لا نسبة أصلاً وإنّما هناك مفهوم افرادي قابل بنظرة ثانية للتحليل إلى أجزاء أحدها النسبة فالقيود في هذا المقام ترجع دائماً إلى الحصة الخاصة المتحصلة.

وأمّا إذا كان المعنى الحرفي نسبة تامة فيمكن تقييده لأن النسبة التامة لها ثبوت في صقع الذهن في مرحلة اللحاظ الاستعمالي. ولا يحتاج ذلك إلى أن يكون للمعنى الحرفي وجود استقلالي بل لا بدّ من توجّه استقلالي من قبل النّفس لمدلول هيئة الجزاء الّذي يراد ربطه بمدلول الشرط ، والتوجه الاستقلالي من النّفس غير الوجود الذهني الاستقلالي ، فقد يكون شيء موجوداً بوجود ذهني استقلالي ولكن النّفس غير متوجهة نحوه ، كما في الصور المركوزة في الذهن المغفول عنها فعلاً ، وقد يكون الأمر بالعكس كالتوجه نحو إضافة بين النّفس وشيء ممّا هو في صقعها وليس هو عين الحضور والوجود في ذلك الصقع. وعليه فلا محذور في تقييد مفاد هيئة الجزاء.

٢ ـ التمسّك بإطلاق مدلول الهيئة إمكاناً وامتناعا

يتمسّك عادة بإطلاق مدلول الهيئة بمعنيين :

الأول : التمسّك بإطلاقه لإثبات أن الوجوب المجعول في طرف المنطوق ليس مقيداً بقيد ، ويمثّل هذا الإطلاق ينفي كون الوجوب مشروطاً بل ينفي كونه غيريّاً أو كفائياً أو تخييريّاً بناء على رجوع هذه الخصوصيات إلى الوجوب المشروط على تفصيل يأتي في موضعه.

الثاني : التمسّك بإطلاقه في ظرف وقوعه طرفاً للتعليق في الجملة الشرطية لإثبات انّ المعلّق سنخ الحكم لا شخصه لكي ينتفي سنخ الحكم بانتفاء الشرط.

وكلّ من المعنيين يقع موضعاً للإشكال في المقام بناء على بعض المسالك المتقدمة في المعاني الحرفية. إمّا بتقريب : انّ المعنى الحرفي جزئي والجزئي لا يقبل الإطلاق الّذي هو من شئون المفاهيم الكلية. وامّا بتقريب : أن المعنى الحرفي وإن لم يكن جزئياً إلاّ انّه

٣٥٣

لا يعقل تقييده من أجل آليته ـ على ما تقدّم في الثمرة السابقة ـ وكلّ ما لا يعقل تقييده لا يمكن التمسّك بإطلاقه امّا لأن استحالة التقييد توجب استحالة الإطلاق ، وامّا لأن استحالة التقييد توجب تعذر جريان مقدمات الحكمة التي منها انَّه لو أراد المقيد لقيده وقد اتّضح الحال في كلّ ذلك ممّا تقدّم حيث ثبت انّ المعنى الحرفي يمكن تقييده فيصحّ التمسك بإطلاقه. نعم بعض الأجوبة التي صحح بها التقييد هناك لو تمّت لا تنفع لتصحيح الإطلاق بالمعنى الثاني في المقام ، كالجواب المبني على إرجاع التقييد إلى التقييد الأحوالي أو إلى التعليق في الفرد ، لأنّ هذا لا يصحح الإطلاق في مدلول الهيئة بمعنى حمله على سنخ الحكم.

٣ ـ التمسّك بإطلاق الموضوع في الجملة التامة دونه في الجملة الناقصة

وتوضيحه : انّ معنى من معاني ـ سواءً كان اسميّاً أو حرفيّاً ـ إذا وقع طرفاً لنسبة فتارة : تكون النسبة تامة ، وأخرى : ناقصة. فان كانت النسبة تامة وشك في انّ ما هو طرف هذه النسبة الّذي يحكم عليه بطرفها الآخر هل هو المطلق أو المقيد أمكن التمسك بالإطلاق وإجراء مقدمات الحكمة لإثبات انّ الطرف هو المطلق ، مثلاً إذا قلنا « وجوب الصدقة معلّق على الغنى » أو قلنا « البيع حلال » وشككنا في انّ موضوع التعليق على الغنى وموضوع الحلية هل هو طبيعي وجوب الصدقة وطبيعي البيع أو حصة خاصة أمكن بالإطلاق ان نثبت الأول ، ويتفرع عليه دلالة الجملة المذكورة على انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الغنى وامّا إذا وقع معنى طرفاً لنسبة ناقصة وصفية مثلاً وشككنا في انّ الموصوف منه بالوصف هل هو مطلقه أو مقيّده فلا يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات انّ الموصوف هو المطلق فمثلاً إذا قيل « وجوب الصدقة المعلق على الغنى ثابت » وشككنا في انّ صفة « المعلّق على الغنى » هل هي صفة لسنخ وجوب الصدقة أو لحصة خاصة فلا يمكن إجراء الإطلاق ، والنكتة في ذلك تتضح من تحليلنا المبرهن المتقدم للنسبة التامة والنسبة الناقصة ، فبعد أن ثبت انّ النسبة الناقصة تحليلية وأنّه في صقع الذهن لا يوجد إثبات شيء لشيء بل يوجد شيء خاص فلا موضوع يثبت له شيء في صقع الذهن لتجري الإطلاق في هذا الموضوع بل مفهوم افرادي

٣٥٤

واحد والقضية المركبة تحليلية لا واقعية وهذا بخلاف موارد النسبة التامة.

ومن ذلك يتّضح سر في غاية الأهمية وبيانه : انَّ اقتناص المفهوم للجملة الشرطية أو أي جملة أخرى يتوقّف ـ كما يأتي ـ على أن يكون المعلّق سنخ الحكم لا شخصه إذ لو كان المعلّق شخص الحكم فلا يقتضي التعليق أو العلية الانحصارية إِلاَّ انتفاء الشخص مع احتمال ثبوت شخص آخر والطريق إلى إثبات ان المعلّق سنخ الحكم إجراء الإطلاق في مفاد هيئة « أكرم » في قولنا « إذا جاءك ضيف فأكرمه » والإطلاق انَّما يجري في مفاد هيئة « أكرم » بلحاظ كونه موضوعاً للتعليق إذ لا معنى للإطلاق ومقدمات الحكمة إلا بهذا اللحاظ ، وحينئذ نقول : انَّ تعليق الجزاء على الشرط مستفاد من الجملة الشرطية بنحو المعنى الحرفي خلافاً للجملة المتقدمة « وجوب الصدقة معلق على الغنى » فانَّ التعليق فيها كان مستفاداً بنحو المعنى الاسمي وهذا التعليق المستفاد بنحو المعنى الحرفي ان كان نسبة تامة ويحتلّ مدلول الجزاء مركز الموضوع فيها أمكن إجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة فيها ، وإن كان نسبة ناقصة امتنع إجراء الإطلاق في مدلول الجزاء لإثبات انَّ المعلّق هو المطلق ، هذا كشف للسرّ على وجه الإجمال ويأتي تفصيله ومزيد توضيحه وتطبيقه على جميع الجمل التي يبحث عن مفهومها في بحث المفاهيم.

وعلى هذا الأساس يتّضح : انَّ ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) في الثمرة الأولى من تصوير التقييد لمفاد الهيئة بجعل الشرط طرفاً ثالثاً مقوماً للنسبة المدلول عليها بهيئة الجزاء لا يمكن أن يصحح التمسك بالإطلاق لإثبات ان المعلّق هو سنخ الحكم استطراقاً لإثبات المفهوم ، وذلك لأن فرض كون الشرط ركناً ثالثاً مقوماً للنسبة هو فرض تحصصها ذاتاً بهذا الطرف الثالث فليس لها مرتبة في صقع الذهن كانت عارية فيها عن الشرط ثمَّ يطرأ عليها الربط بالشرط والتعليق عليه لتجري الإطلاق لإثبات طرو هذا التعليق على المطلق ، كما هو الحال فيما لو كان مدلول الهيئة طرفاً لنسبة تامة.

٣٥٥
٣٥٦

مباحث الدليل اللفظي

البحوث اللفظيّة اللغوية

٣٥٧
٣٥٨

تمهيد

بينما كنَّا فيما سبق نبحث بحثاً تحليليّاً في مفاد الحرف أو الهيئة بمعنى انَّ مفاد الجملة بحدوده واضح لدينا وانَّما كنَّا نحاول التعريف على مقدار نصيب الحرف من هذا المفاد ، نبدأ الآن ببحوث لفظية لغوية وهي بحوث يراد بها تحديد المفاد ويتوقّف عليها تعيين مدلول اللفظ ذاتاً أو سعة وضيقاً غير انَّ هذه البحوث ـ كما أشرنا في البداية ـ يجب أن تشكل عناصر مشتركة في عملية الاستنباط لكي تتميز عن البحوث اللغوية البحتة.

وقد ألمعنا سابقاً إلى أنَّ البحوث اللغوية الأصولية تكون على نحوين :

١ ـ بحوث لغوية تفسيرية. وهي التي يكون منهج البحث الأصولي فيها تفسير الدلالات العرفية المتصلة باللفظ المبحوث عنه بعد التأكد من عرفيتها وسلامتها فدور الأصولي في هذا النوع من الأبحاث تقديم نظرية متكاملة تصلح لتفسير تلك الدلالات اللفظية دون أن يلزم نقض أو تنثلم دلالة ، وهذا نهج علمي ـ كما أشرنا ـ يشبه النهج العلمي الّذي يمارسه العالم الطبيعي في تفسير الظواهر الطبيعية.

٢ ـ بحوث لغوية اكتشافية ، وهي البحوث التي تعالج دفع شك حقيقي في مدلول اللفظ لمعرفة ما هو مدلول الكلمة أو الكلام. وقد أشرنا فيما سبق أن هناك وسيلتين رئيستين ـ بغضّ النّظر عمَّا قد يستند إليه من علوم اللغة ـ تعتبران هما الأساس في

٣٥٩

اكتشاف مدلول اللفظ عند الأصولي وهما التبادر والبرهان. وقد تقدّم شرح دور كلّ منهما ومجال الاستفادة منها.

وعلى هذا الأساس ، سوف نعالج فيما يأتي من البحوث اللفظية تحديد المفاد اللغوي أو العرفي لألفاظ ودلالات عامة تشكّل عناصر مشتركة في عملية الاستنباط على ضوء المنهجة التي ذكرناها.

٣٦٠