بحوث في علم الأصول - ج ١

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١

الناطقية مثلاً ، وامَّا الثاني فهو غير معقول لعدم انحفاظها.

نعم ، لو قيل بالجامع الذاتي بين أشخاص النسب لكان فرض ذلك هو فرض تجريد هذا الجامع من خصوصيات أشخاص الطرفين ، ومعه يكون له تقرر ماهوي في مرحلة سابقة على عالم الوجود ، بخلاف ما إذا برهنّا على امتناع ذلك الجامع ، ولهذا كانت المرحلة الثالثة أساساً لما نقرّره في هذه المرحلة من أنَّ التقرّر الماهوي للمفهوم الحرفي في طول عالم الوجود وأمَّا التقرر الماهوي للمفهوم الاسمي فعالم الوجود في طوله بالنظر التحليلي وبهذا يتّضح الفارق الثاني من الفوارق الأساسية بين المفهوم الاسمي والمفهوم الحرفي.

٥ ـ انَّ المفهوم الاسمي للنار الموجود في الذهن إذا لوحظ بما هو موجود في الذهن ، أي بالنظر التصديقي ، فهو جزئي ذهني نسبته إلى النار الخارجية نسبة المماثل إلى المماثل ، وإذا لوحظ ذات المفهوم الاسمي بقطع النّظر عن وجوده الذهني ، أي بالنظر التصوّري ، فهو مفهوم ينطبق على النار الخارجية انطباق الكلّي على فرده. وهذا النحو من الانطباق لا يتصوّر للنسبة الذهنية القائمة في ذهن المتكلّم مع النسبة الخارجية ، لأنَّها إن لوحظت متقومة بشخص طرفيها فهي نسبة جزئية مغايرة للنسبة الخارجية المتقومة هي الأخرى بشخص طرفيها ، وإن قطع النّظر عن شخص الطرفين فليس لها في هذه المرتبة تقرّر ماهوي أصلاً لتكون قابلة للانطباق على النسبة الخارجية على حدّ انطباق الكلّي على فرده.

وأمَّا كيفيّة حكاية المفهوم الحرفي عن الخارج مع عدم انطباقه عليه على حدّ انطباق الكلّي على فرده ، فهي بسبب الطرفين إذا نظر إليهما بالنظر التصوّري الآلي بما هما عين الخارج فبهذا النّظر ترى النسبة تبعاً بأنَّها عين النسبة الخارجية إذ لا تعدد ولا تغاير بين النسبتين إلا بلحاظ التغاير والتعدد في اشخاص الطرفين ، فإذا لوحظ طرفا النسبة الذهنية بما هما خارجيان فبهذا اللحاظ لا ترى النسبة الذهنية مغايرة للنسبة الخارجية.

وبما ذكرناه في المراحل الخمس يتّضح : ما هو المظنون في مقصود شيخ المحققين المحقق النائيني ( قده ) حيث ذهب إلى إيجاديّة معاني الحروف وكان بيانه مشوباً بشيء

٢٤١

من الغموض بحيث حمله حتى بعض الأجلة من مقرّري بحثه على معنى غريب جدّاً إذا افترض انَّ مقصوده قدس‌سره ان نفس الحرف يكون موجوداً لمعناه في عالم الكلام واللفظ دون أن يكون لهذا المعنى أي تحقّق قبل الكلام. فاعترض عليه : بأن الحرف وإن كان موجداً للربط في عالم الكلام واللفظ ولكن موجوديّته لذلك انَّما هي بلحاظ دلالته على معنى والكلام في تشخيص ذلك المعنى.

ولكن الظاهر أن المحقق النائيني ( قده ) لا يقصد إيجادية الحرف بل إيجاديّة معاني الحروف ، فكون المعنى الحرفي كالمعنى الاسمي ثابتاً في الذهن قبل الكلام أمر بديهي مفروغ عنه ، وانَّما المدّعى انَّ المعنى الحرفي سنخ معنى إيجادي والمعنى الاسمي إخطاري. وهذه الإيجادية في معاني الحروف لها ثلاثة أركان :

أولا : انَّ المعاني الحرفية لا بدَّ أن تكون عين حقيقتها عنواناً ووجوداً أي بالنظر التصديقي فضلاً عن التصوّري ، بخلاف المعاني الاسمية التي يتحقّق الغرض من إحضارها أن تكون عين حقيقتها بالنظر التصوّري.

ثانياً : انَّ المفاهيم الحرفية تقرّرها الماهوي والذاتي في طول عالم الوجود ـ ذهناً أو خارجاً ـ بخلاف التقرر الذاتي للمفاهيم الاسمية فانَّه محفوظ في المرتبة السابقة على الوجود الذهني والاستعمال.

ثالثاً : انَّ المفاهيم الحرفية نسبتها إلى ما يوازيها من النسب في الخارج نسبة المماثل إلى المماثل وليست كنسبة الكلّي إلى فرده بنحو ينطبق عليه ، خلافاً للمفاهيم الاسمية التي نسبتها إلى الخارج بالنظر التصوّري نسبة الكلّي إلى فرده بنحو ينطبق عليه ولهذا تكون حكاية المعنى الحرفي عن الخارج بتبع حكاية المعنى الاسمي.

الوجوه المختلفة في تفسير نسبيّة المعنى الحرفي

وتذكر ـ عادة ـ في إطار الاتجاه الثالث عدّة وجوه ادّعي اختلافها في تحقيق المعاني الحرفية ضمن هذا الإطار.

٢٤٢

١ ـ إيجاديّة المعنى الحرفي

الوجه الأول : ما نسب إلى المحقق النائيني ( قده ) إذ قيل : بأنَّه يرى أن مدلول الحرف هو الربط الكلامي وبهذا كان إيجاديّاً ، بخلاف المعاني الاسمية فانَّها مفاهيم استقلالية بحد ذاتها وأنفسها وبهذا كان المعنى الاسمي إخطاريّاً (١).

مناقشة السيد الأستاذ في إيجادية الحروف

وقد فهم السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ من هذا الكلام انَّ المقصود هو وضع الحروف للربط بين أطراف الكلام في مرحلة الاستعمال. فاعترض عليه : بأنَّ ربط الحروف بين المفاهيم الاسمية في التراكيب الكلامية غير المربوطة بعضها ببعض انَّما هو من جهة دلالتها على معانيها التي وضعت بإزائها لا من جهة إيجادها المعاني الربطية في مرحلة الاستعمال والتركيب الكلامي (٢).

وفهم دليل المحقق النائيني في ضوء ذلك بأنَّ الحروف بعد ان لم يكن يخطر منها في الذهن معنى مستقل فلا محالة يتعيّن في أن تكون معانيها إيجادية. فاعترض عليه بقوله : « الثاني ـ إن عدم استقلالية المعاني الحرفية في حدّ أنفسها وتقوّمها بالمفاهيم الاسمية المستعملة لا يستلزم كونها إيجادية ، لا مكان أن يكون المعنى غير مستقل في نفسه ومع ذلك لا يكون إيجاديّاً » (٣).

توضيح معنى إيجادية الحروف

والمظنون قويّا أن مقصود المحقق النائيني ( قده ) ملاحظة مرحلة المعنى وإيجادية المعاني الموضوعة بإزائها الحروف لا انَّها توجد الربط بين أطراف الكلام بلا أن تكون موضوعة لمعنى ، ولكن باعتبار ان سنخ معانيها الموضوعة بإزائها سنخ معانٍ لا يمكن

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٦٣

(٢) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٧

(٣) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٦٨ ـ ٦٩

٢٤٣

إحضارها في الذهن مستقلاً لعدم ثبوت تقرّر ذاتي لها بقطع النّظر عن مرحلة وجودها ضمن اشخاص أطرافها كانت إيجادية ـ بالنحو المتقدّم شرحه في الفوارق الثلاثة بين معاني الحروف والأسماء ـ فلا مجال لشيء من هذين الاعتراضين.

وبكلمة أخرى : ان الإيجاديّة إذا لم يرد بها الإيجادية في نفس مرحلة الكلام في مقابل تقرّر المعنى الحرفي بقطع النّظر عن المرحلة الكلامية بل أريد بها الإيجادية في مرحلة الصورة الذهنية لمدلول الكلام في مقابل ان يكون للمعنى تقرّر في مرتبة ذاته وبقطع النّظر عن مرحلة الوجود الذهني فلا يرد عليها الاعتراضان المذكوران.

مناقشة المحقق العراقي في الإيجادية

ومنه يظهر : أنَّه لا مجال لاعتراض أورده المحقق العراقي ( قده ) من أن هذا مبني على القول بإمكان وجود الماهية المهملة ـ الموضوع لها الاسم ـ في الذهن مجرّداً عن الإطلاق والتقييد ليوجد فيها التقييد بالحرف ، مع استحالة ذلك ، لأنَّ الطبيعة اللا بشرط المقسمي لا تأتي في الذهن إلا في ضمن الطبيعة بشرط شيء أو الطبيعة لا بشرط. وعلى الأول ، يكون التقييد ثابتاً في مرحلة سابقة على الكلام وهو خلف الإيجادية. وعلى الثاني ، يستحيل إيجاد الربط والتقييد لأنَّ المطلق لا يقبل التقييد إلا بإزالة تلك الصورة واستبدالها بصورة أخرى ويعود حينئذ نفس التشقيق (١).

فانَّه لم يكن المقصود انَّ معاني الحروف توجد التقييد في معاني الأسماء بعد وجودها في الذهن مهملة لكي يكون خلاف التحقيق ، وانَّما المقصود من الإيجادية الخصائص الثلاث المتقدّمة ، وهي لا تستلزم وجود المعنى الاسمي الواقع طرفا للمعنى الحرفي في الذهن بنحو مهمل قبل وجوده.

هذا ، مضافاً : إلى أنَّه لو سلّم انَّ المقصود من الإيجادية ما توهّم فلا يرد عليه الإشكال المذكور أيضا ، لأنَّ الطبيعة اللا بشرط المقسمي وإن كان لا يعقل وجودها على جامعيتها في الذهن إلا أن إحدى حصتيها ـ وهي الطبيعة اللا بشرط القسمي ـ

__________________

(١) راجع مقالات الأصول ج ١ ص ٢٢

٢٤٤

قابلة للوجود في الذهن ولطرو التقييد عليها ، لأن هذه الحصة متقومة بعدم لحاظ التقييد لا بلحاظ عدم التقييد فإذا طرأ عليها الربط الكلامي زال بذلك قيدها ولا يلزم من ذلك تبدّل الصورة رأساً. والحاصل : انَّ المطلق بإطلاق لحاظي لا يعقل طرو التقييد عليه إلا بتبديل شخص هذا اللحاظ ، وأمَّا المطلق الّذي يرجع إطلاقه إلى أمر عدمي وهو عدم لحاظ القيد فيعقل طرو التقيد عليه مع حفظ شخص لحاظه ، غاية الأمر يبدل عدم لحاظ القيد فيه إلى لحاظه وأمَّا ما أفاده المحقق العراقي قدس‌سره من النقض على الإيجادية بأن لازمها كون مقدمات الحكمة الدالة على الإطلاق إيجادية أيضا ، لأن الإطلاق أمر زائد على الطبيعة المهملة كالتقييد. ففيه : أن مقدمات الحكمة ليست موازية للحرف في مرحلة الدلالة ، لأن دلالتها تصديقيّة وفي مرحلة المدلول الجدّي للكلام ـ كما حققناه في محله ـ والكلام في الحرف انَّما هو في مرحلة المدلول التصوّري فلا معنى لقياس أحدهما بالآخر.

مناقشات أخرى للمحقق العراقي مع جوابها

وقد نسب إلى المحقق العراقي ( قده ) في تقريرات بحثه (١) عدد آخر من الاعتراضات لا تخلو من غرابة.

منها ـ انَّ الهيئة التي تطرأ على المادة متأخرة بالطبع عن المادة المتأخرة عن مدلولها وهو المعنى الاسمي ، فلو كانت الهيئة موجودة لمعناها في المعنى الاسمي لكان معناها متأخراً عنها وبالتالي يتأخر عن مدلول المادة بثلاث رتب ، وبما انَّه مقوم لموضوعه يلزم أن يكون في رتبته فيتقدّم على علته بثلاث رتب وهذا خلف.

ويرد عليه : ـ لو سلّم ان المقصود من الإيجادية ما توهّم ـ ان المعنى الحرفي مقوم للمقيد بما هو مقيد وما تكون المادة متأخرة عنه تأخر الدال عن المدلول ذات المقيد بما هو معنى اسمي لا المقيد بما هو مقيد ، فلا يلزم كون المتأخر مقوماً للمتقدم.

ومنها ـ انَّ المعنى الحرفي إذا كان إيجاديّاً في مرحلة الكلام ولا واقع له وراء ذلك

__________________

(١) بدائع الأفكار ج ١ ص ٤٣

٢٤٥

يلزم أن لا يكون للحرف مدلول بالعرض ومفني فيه ، وهذا يعني انَّ القضية في مرحلة المدلول بالعرض تظلّ ناقصة وغير متطابقة مع مرحلة المدلول بالذات. ويرد عليه : انَّه لو سلّم انَّ المقصود من الإيجادية ما توهّم ـ فيمكن لمدعي هذا النحو من الإيجادية أن يقول : بأنَّ الربط الكلامي له محكي وهو الربط الخارجي في مرحلة المدلول بالعرض ولكنه ليس على نحو حاكية المفهوم الذهني عن مصداقه لأنَّه خلف الإيجادية بالمعنى المفترض بل على نحو حكاية المماثل عن مماثله. وبذلك يظهر الجواب عن اشكاله الثالث ؛ وهو انَّ مدلول الحرف في قول الآمر « سِر من البصرة بحكم كونه إيجاديّاً يكون في صقع الطلب ومثله في التأخر عن المطلوب رتبة وباعتباره من قيود المطلوب يكون متقدّماً فان ما هو في صقع الطلب الربط الكلامي وما هو من قيود المطلوب لبّ محكيه بالمعنى الّذي عرفته. على أن كون شيء موجوداً في صقع الطلب لا يعني انَّه في رتبته وكون شيء في رتبة الطلب لا يعني تأخّره رتبة عن المطلوب.

٢ ـ وضع الحروف للوجود الرابط

الوجه الثاني : ما نسب إلى المحقق الأصفهاني ( قده ) إذ ادّعي أنَّه يرى وضع الحرف للوجود الرابط الخارجي. واعترض عليه السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ.

أوّلاً : انَّ الوجود الخارجي أو الذهني ليس مأخوذاً في المعنى الموضوع له الكلمة ، بل اللفظ يوضع بإزاء ذات المعنى لأنَّ الوضع انَّما هو لأجل الانتقال الذهني إلى مدلوله وما يعقل انتقال الذهن إليه ذات المعنى لا الوجود.

وثانياً : انَّ الوجود الرابط كثيراً ما لا يكون موجوداً في موارد الاستعمال ، كما في موارد استعمال اللام في قولنا « الوجود لله واجب » إذ لا يعقل الوجود الرابط بين الله ووجوده.

وثالثاً : انَّ الوجود الرابط الخارجي أساساً لا موجب للالتزام به ، إذ لا برهان على وجود أمر ثالث في الخارج زائداً على الذات والعرض سوى ما يدّعي : من انَّا قد نعلم بوجود زيد وبوجود علم ونشك في قيام هذا العلم بزيد ، وحيث انَّ المشكوك غير المعلوم فيجب أن يكون هناك في حالة علم زيد أمر ثالث وراء ذات زيد وذات العلم

٢٤٦

وهو الوجود الرابط وهذا البرهان مدفوع : بأن العلم والشك حيث انَّهما متقوّمان بالصور الذهنية لا بالخارج ابتداءً فلا يقتضي فرض العلم والشك إلا فرض صورتين ذهنيّتين متغايرتين في عالم الذهن ولا ينافي كون مطابقهما واحداً في الخارج (١)

توضيح المقصود من الوجود الرابط

والتحقيق : أنَّ المتراءى من عبائر المحقق الأصفهاني ( قده ) انَّه يقول بوضع الحرف لماهيّة النسبة التي هي عين الاستهلاك والاندكاك والتي يكون تقرّرها الماهوي في طول صقع الوجود ذهناً أو خارجاً لا للوجود الرابط الخارجي ، فكون النسبة موجودة خارجاً أو موجودة ذهناً غير مأخوذ في مدلول الحرف وانَّما المدلول نفس ماهية النسبة. وهذا لا يعني أيضا كون الماهية جامعاً ذاتياً بين الربط الذهني والوجود الرابط الخارجي الموازي له لما تقدّم من استحالة الجامع الذاتي بين ربطين سواءً كانا خارجيَّين أو ذهنيَّين أو مختلفين ، لأنَّ كلّ ربط متقوّم ذاتاً بشخص وجود طرفيه. وبذلك يظهر : أنَّ النسبة المتقومة بالطرفين في عالم الذهن وافية بالمعنى الحرفي عند المحقق الأصفهاني ، ولهذا جاء في كلامه تشبيه المعنى الحرفي والاسمي في الذهن بالوجود الرابط والوجود المحمولي ، فالمعنى الحرفي بالنسبة إلى المعنى الاسمي في عالم المفاهيم في الذهن كالوجود الرابط بالنسبة إلى الوجود المحمولي في الخارج لا انَّ المعنى الحرفي هو الوجود الرابط. وممَّا يوضح ذلك : أنَّه قدس‌سره قد صرّح بانحفاظ النسبة التي هي مدلول الحرف حتى في موارد هل البسيطة (٢) مع بداهة انَّه لا وجود رابط خارجي بين وجود الشيء وماهيته.

وعلى هذا الأساس ، تندفع الإشكالات الثلاثة. امَّا الأول ، فلوضوح أنَّ الوجود الخارجي لم يؤخذ في مدلول الكلمة ليقال انَّه لا يقبل الانتقال الذهني إليه ، حيث انَّ الحرف لم يوضع للوجود الرابط الخارجي بل وضع لذات ماهية النسبة بقطع النّظر عن

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٧٢ ـ ٧٧

(٢) راجع نهاية الدراية ج ١ ص ٢٤

٢٤٧

نحوي وجودها. غير انَّ النسبة متقومة دائماً بشخص وجود طرفيها وبهذا كانت النسبة القائمة في ذهن المتكلم والنسبة القائمة في ذهن السامع ماهيتين متغايرتين وكلّ منهما قابلة للانتقال الذهني ، وذلك بأن توجد في صقع الذهن تبعاً لطرفيها بالنحو المناسب لها من الوجود. وأمَّا الثاني ، فلأنَّه مبني على تخيّل كون المدّعي وضع الحرف للوجود الرابط الخارجي وقد عرفت عدمه.

ثمَّ لا ندري هل كان نظره الشريف في تسجيل هذا النقض إلى وضوح صدق قولنا الوجود لله مع انَّه لا وجود رابط بين الطرفين ، أو إلى وضوح كونه كلاماً له مفاد مع انَّه إذا كان اللام يدلّ على الوجود الرابط فليس له في هذا الكلام مدلول بالذات فلا يكون الكلام ذا مفاد؟ فان كان النّظر إلى الأول ، فيرد عليه : انَّه لا بدَّ من تسجيل الإشكال في رتبة أسبق بالتقريب الثاني ، لأنَّ الكلام سواءً كان صادقاً أو كاذباً لا بدَّ أن يكون مدلوله بالذات محفوظاً فإذا كان المدلول بالذات نفس الوجود الخارجي فيكون عدم الصدق مساوقاً لعدم المفاد رأساً. وإن كان النّظر إلى الثاني فلا نعلم لما ذا لم ينقض بجميع موارد استعمال الحرف في حالات كذب المتكلّم حتى في مثل قولنا « السواد للجسم ثابت » حيث انَّ المدلول بالذات لا يتصوّر حينئذ فيلزم خلو الجملة من كونها ذات مفاد في نفسها.

ومنه يظهر : انَّ الإشكال الثالث وهو إنكار الوجود الرابط الخارجي لا يضرّ بالمدعى علاوة على أنَّه خلاف التحقيق ، إذ لو أريد إنكار ثبوت وجود ثالث خارجاً على وجود المنتسبين فهو صحيح لكنَّه ليس هو المراد بالوجود الرابط. وإن أريد إنكار ثبوت واقعية ثالثة في الخارج وراء واقعية المنتسبين فهو غير صحيح ، لوضوح انَّ هناك أمراً واقعيّاً ثابتاً في لوح الواقع الّذي هو أوسع من لوح الوجود نفتقده عند ما نفترض ناراً وموقداً غير منتسبين وهذه الواقعية هي منشأ انتزاع مثل عنوان الظرفية أو المظروفية وهي منشأ واقعيتهما لو قيل بأنَّهما من الأمور الواقعية لا الاعتباريّة.

٢٤٨

٣ ـ وضع الحروف للتخصيص

الوجه الثالث : ما أفاده السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ من انَّ الحرف موضوع لتخصيص المفهوم الاسمي وتضييقه بمعنى انَّ المفهوم الاسمي قابل في نفسه للتخصيص إلى حصص كثيرة والانطباق عليها ، فان أريد تفهيم ذات المعنى أمكن الاكتفاء بالاسم ، وامَّا إذا أريد تفهيم حصّة خاصة منه فحيث انَّ الاسم لا يفي بذلك فلا بدَّ من تفهيمها بنحو تعدد الدال والمدلول بأن يكون الاسم دالاً على ذات المعنى والحرف دالاً على تحصصه وضيق دائرة قابلية الانطباق فيه (١).

والصحيح : انَّ تحصيص مفهوم اسمي بلحاظ مفهوم اسمي آخر لا يعقل أن يكون إلا بلحاظ افتراض نسبة بين المفهومين بحيث يقع أحد المفهومين طرفا لنسبة مع المفهوم الآخر ـ من قبيل نسبة الظرفية بين النار والموقد ـ ويصبح بذلك حصّة خاصة من النار وينشأ ضيق في دائرة انطباقه يوجب امتناع انطباقه على الفاقد للنسبة ، وما لم تفرض في المرتبة السابقة نسبة بين مفهومين لا يعقل ان يتضيّق أحدهما بلحاظ الآخر. وعلى هذا فان أريد بالوضع للتخصيص كون الحرف موضوعاً لما هو ملاك التحصيص أي النسب التي بها تتحصّص المفاهيم الاسمية بعضها بالبعض الآخر فهذا نفس المدّعى السابق الموضح في الاتجاه الثالث وليس شيئاً آخر في قباله ، وإن أريد كون الحرف موضوعاً لنفس التحصيص فيرد عليه.

أولا : انَّ التحصيص والضيق لما كان في طول أخذ نسبة بين المفهومين لا محالة فلا بدَّ من دال على تلك النسبة فان لم يكن هناك دال عليها بقي المدلول ناقصاً ، وحيث لا يتصوّر دال غير الحرف فيتعيّن كون الحرف دالاً عليها ومعه يكتمل مدلول الكلام ولا معنى لأخذ الضيق والتحصيص في مدلول الحرف حينئذ.

وثانياً : انَّ التحصيص والضيق في طول النسبة وممَّا يستتبعه المعنى الحرفي لا انَّه بنفسه المعنى الحرفي وفي طول المعنى الحرفي ، ولهذا نجد انَّه ليس مساوقاً مع جميع المعاني

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٨٠ ـ ٨٥

٢٤٩

الحرفية بل انَّ بعض المعاني الحرفية لا يشمل على التحصيص وهذا شاهد على عدم إمكان دعوى كون الحروف موضوعة للتخصيص ابتداءً ، وذلك كما في معاني حرف العطف والاستثناء والتفسير والإضراب. فمثلاً في حرف العطف حينما يقال « جاء إنسان وحصان » لا يدلّ الواو على الحصة الخاصة. فان توهّم : أنَّه أيضا يدلّ على التحصيص وانَّ الجائي هو الحصة الخاصة من الإنسان المقترنة بالحصان ، قلنا فما ذا يقال في مثل قولنا « الحرارة والبرودة لا تجتمعان » فانَّه من الواضح انَّ المقصود من هذا الكلام ليس أن نقول انَّ الحصة الخاصة منهما لا تجتمعان فأين التحصيص؟ وكذلك في مثل قولنا « أكرم العشرة إلا واحداً » فان مفهوم العشرة لم يكن تحته حصتان إحداهما التسعة والأخرى التسعة زائداً واحد ليكون الحرف دالاً على تحصيصه بالأولى. وهناك توجيه محتمل في كلام الأستاذ ـ دام ظلّه ـ تأتي الإشارة إليه.

ثمَّ انَّ الأستاذ قد ربط بين الوجه الّذي اختاره في الحروف وبين مسلكه في تفسير الوضع ، وهو مسلك التعهد ، حيث أفاد : « انَّ ما سلكناه في باب الوضع من ان حقيقته التعهد والتباني ينتج الالتزام بذلك القول لا محالة ضرورة ان المتكلّم إذا قصد تفهيم حصة خاصة فبأيّ شيء يبرزه إذ ليس المبرز له إلا الحرف أو ما يقوم مقامه » (١) مع أنَّه لا ارتباط بين البحثين بوجه ، لأنَّ المبحوث عنه في المقام هو الفارق بين ما هو المدلول التصوري للحروف والأسماء وانَّهما من سنخ واحد أو سنخين سواءً كانت حقيقة الوضع تخصيص اللفظ بإزاء نفس هذا المدلول التصوّري أو الالتزام بقصد تفهيم ذلك المعنى للغير. وكما انَّ التعهّدات العقلائيّة لا بدَّ وأن تكون مستوعبة ووافية بإشباع كلّ الحاجات اللغوية كذلك حكمة الوضع تقتضي إشباعها على حدّ واحد.

وبتعبير آخر : انَّ الخلاف في حقيقة الوضع بين أصحاب التعهد وأصحاب الاعتبار ليس في تشخيص حكمة الوضع وانَّ الغرض من الاعتبار تمكين المستعمل من حاجته ، بل في ان طريق سدّ هذه الحاجة ما هو؟ فإذا كانت الحاجة تقتضي جعل ما يدل على الحصة الخاصة فهذا ما يقتضي الوضع لذلك مهما كان معنى الوضع.

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٨٤

٢٥٠

وهكذا ، يتّضح حتى الآن ، الاتجاه الثالث مدّعى وبرهاناً. ويتبيّن : أن جملة من الأقوال يمكن أن تكون مجرّد تعبيرات مختلفة عن ذلك المدّعى الّذي أوضحناه في تنقيح هذا الاتجاه.

٤ ـ وضع الحروف للأعراض النسبية

وهناك قول في المعاني الحرفية نسب إلى المحقق العراقي ( قده ) في تقريرات بحثه (١) وإن كانت مقالاته غير متطابقة مع تمام ما نسب إليه في هذا القول ، وهو مذهب يتأرجح بين الاتجاهات.

وحاصل ما نسب إليه : انَّ الموجودات في العين على أنحاء. منها ، وجود الجوهر. ومنها ، وجود العرض بأقسامه التسعة المعبر عنه بالوجود الرابطي. ومنها ، ربط الاعراض بموضوعاتها أي الوجود الرابط والعرض قد يتقوّم بموضوع واحد ، ـ كمقولة الكيف ـ وقد يحتاج في تحققه إلى موضوعين ـ كالأين والإضافة ـ والسيرة العقلائيّة على جعل دوال على كلّ هذه الأمور ، وقد جعلت الأسماء دالة على الجواهر وجملة من الأعراض ، والهيئات دالة على الربط بأنحائه ، فبقي أن يدلّ الحرف على الاعراض الإضافية النسبية التي تحتاج إلى موضوعين ، والهيئة في الجملة المشتملة على الحرف تدلّ على ربط هذا العرض بكلّ من موضوعيه. وبكلمة أخرى : انَّنا نستفيد من الجملة المذكورة العرض النسبي والربط المخصوص معاً ، فلا بدَّ امَّا من افتراض دلالة الحرف على الأول والهيئة على الثاني أو العكس والثاني باطل ، لوجدانية انَّ الهيئة لا تدلّ على العرض فيتعيّن الأول وهو المطلوب.

ويرد عليه : أولا : انَّ الألفاظ ليس من الضروري ان تتطابق مع قائمة المقولات الحقيقية والوجودات الخارجية العينيّة بمراتبها وأن نجد مدلول كل واحد منها ضمن هذه القائمة ، لأن معنى اللفظ قد يكون أمراً اعتباريّاً أو انتزاعيّاً أو عدماً صرفاً وليس من المقولات بوجه سواءً في الأسماء ـ كلفظ العدم مثلاً ـ أو في الحروف ، إذ كثيراً

__________________

(١) بدائع الأفكار ج ١ ص ٤٢

٢٥١

ما لا يكون المعنى الحرفي معبّراً عن وجود خارجي لا ربطي ولا رابطي.

وثانياً : انَّ المقصود من استفادة العرض النسبي من قولنا « زيد في الدار » إن كان استفادة معنى الأين بما هو هيئة قائمة بالمتأين بلحاظ نسبة خاصة بينه وبين ظرفه ومكانه ، فهذا ممَّا لا يستفاد بالمطابقة من اللفظ أصلاً وإن كان المقصود استفادة النسبة الخاصة القائمة بين المتأين والمكان الّذي يتواجد فيه ، فهذا صحيح غير انَّ هذه النسبة بنفسها نحو من الربط ليست بحاجة إلى ربط آخر بطرفيها ليقال بأنَّ الهيئة تتكفّل بربطها بطرفيها.

وثالثاً : انَّ مفاد الحرف إذا كان عرضاً نسبيّاً. فان أريد العرض النسبي بوصفه مفهوماً من المفاهيم ، فهذا يعني كونه مفهوماً مستقلاً في عالم الذهن على حدّ استقلالية سائر المفاهيم الاسمية ، لوضوح انَّ مفهوم العرض بما هو قابل للوجود الاستقلالي في الذهن ، فيبقى السؤال عن الفرق بين الحرف والاسم الموازي له وإن كان وجوده في الخارج في نفسه عين وجوده لموضوعه. وإن أريد العرض النسبي بوجوده الخارجي الرابطي ، فهو واضح البطلان ، لأنَّ الوجود الخارجي لا يعقل أن يكون مدلولاً بالذات للكلام ، لأنَّ المدلول بالذات للكلام يجب أن يكون قابلاً لطرو الوجود الذهني واللحاظ عليه كما هو واضح.

تعديل الاتجاه الثالث وتصحيحه

وبعد ان اتّضح الاتجاه الثالث مدّعى وبرهاناً ، وتبيّن انَّ جملة من الأقوال يمكن أن تكون مجرّد تعبيرات مختلفة عنه نقول : انَّ التحقيق انَّ هذا الاتجاه بحاجة إلى تعديل وإصلاح. ذلك أن مقتضى ما ذكرناه في توضيح هذا الاتجاه انَّ في صقع الذهن موجودات ثلاثة عند تصوّرنا لمفاد « النار في الموقد » اثنان منهما موجودان في أنفسهما وهما الصورة الذهنية للنار والصورة الذهنية للموقد ، والثالث موجود لا في نفسه وهو الربط القائم بينهما ، وهذا المعنى مستحيل بالبرهان. فنحن ننكر أن لدينا في هذه الحالة وجودين ذهنيين مغايرين أحدهما للنار والآخر للموقد وهناك نسبة واقعية في عالم الذهن قائمة بينهما ، إذ لو كان هناك وجودان ذهنيّان كذلك لاستحال الربط

٢٥٢

بينهما في عالم الذهن بنحو يحكي عن الربط الخارجي ، وذلك لأنَّ ما يربط به الوجود الذهني للنار والوجود الذهني للموقد إن كان هو مفهوم النسبة المكانية فهذا بنفسه مفهوم اسمي ويستحيل إيجاد الربط به ، وإن كان هو واقع النسبة المكانية بنحو تكون لدينا نسبة مكانية واقعية في الذهن موازية للنسبة المكانية الواقعية في الخارج فهذا أيضا مستحيل ، لأنَّ واقع النسبة المكانية يستحيل قيامه بين الصور الذهنية في أنفسها ، لأنَّها أعراض وكيفيّات نفسية والمكان إنَّما هو من شئون الجسم لا العرض النفسانيّ ، وإن كان هو واقع نسبة أخرى من النسب التي تناسب الصور والمفاهيم في عالمها الذهني من قبيل نسبة التقارن بين الصورتين فهذا أيضا غير صحيح لأنَّ نوعاً من النسبة يستحيل أن يحكي عن نوع آخر منها فكيف يمكن أن تحكي القضية المعقولة عندئذ عن النسبة المكانية الخارجية مع اختلاف سنخ النسبتين ، وهكذا يتعيّن بالبرهان أن لا يكون عندنا وجودان ذهنيان متغايران بينهما نسبة ، بل ليس في الذهن إلا وجود ذهني واحد ولكن الموجود بهذا الوجود الواحد مركّب تحليلي من نار وموقد ونسبة ، فالنسبة التي هي بإزاء الحرف ليست نسبة واقعية وجزءاً واقعياً في الوجود الذهني للنار في الموقد ، بل نسبة تحليلية وجزءاً تحليليّاً ، فالنسبة بالإضافة إلى الوجود الذهني الوحدانيّ كأجزاء الماهية التحليلية من الجنس والفصل بالإضافة إلى الوجود الخارجي الوحدانيّ ، وهذا يعني أن مفاد الحروف النسبة التحليلية الذهنية لا النسبة الواقعية. ولعلَّ هذا المعنى كان هو المركوز لدى السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ فاستنكر بوجدانه أن تكون الحروف موضوعة للنسبة الحقيقية عيناً أو ذهناً ، فهو لم يكن يرى وجداناً إلا وجوداً ذهنياً واحداً ممَّا اضطره إلى أن يدّعى وضع الحروف للتخصيص وتضييق دائرة صدق المعاني الاسمية فان كان يقصد من ذلك أن نشأة الذهن البشري تقتضي أن يتضيّق الوجودان الخارجيّان ويندكان في وجود ذهني واحد يمكن تحليله إلى أركان ثلاثة فهو مطلب صحيح.

٢٥٣

المعاني النسبية للحروف تحليلية

والمتلخّص : أن هناك نسبة واقعية خارجيّة ، ونسبة واقعية ذهنية ، ونسبة تحليلية ذهنية. والنسبة الواقعية تستدعي لا محالة طرفين وجوديين متغايرين في صقع وجودها ذهناً أو خارجاً ، بخلاف النسبة التحليلية التي هي جزء تحليلي من ماهية الموجود وليست ثابتة في صقع الوجود على وجه الجزئية ، وما هو مدلول الحرف انَّما هو النسبة التحليلية لا النسبة الواقعية في صقع الذهن فضلاً عن صقع الخارج ، لأنَّ النسبة الواقعية الذهنية تستدعي طرفين وجوديين متغايرين ومتى ما افترضنا طرفين كذلك استحال إيجاد الربط بينهما بنحو قابل للحكاية عن النسبة الخارجية كما برهنَّا عليه.

فان قيل ـ يمكن المناقشة في البرهان المذكور باختيار دعوى إيجاد الربط بقيام النسبة الواقعية المكانية ، لكن لا بين اللحاظين ليقال انَّهما وجودان ذهنيّان وعرضان نفسيّان ، ولا معنى لقيام النسبة المكانية بينهما ، بل بين الملحوظين.

قلنا ـ إن أريد بقيام النسبة بين الملحوظين قيامهما بين الملحوظين بالذات ، فمن الواضح أن الملحوظ بالذات نفس اللحاظ ، وبهذا يرجع إلى قيامهما بين نفس اللحاظين ، وإن أريد قيامهما بين الملحوظين بالعرض بما هما ملحوظان بالعرض ، أي بالمقدار المطابق لما هو الملحوظ بالذات ، فمن الواضح انَّ هذا لا يمكن إلا مع أخذ ما يكون قابلاً للحكاية عن تلك النسبة في مرتبة الملحوظ بالذات ، لأنَّ الملحوظ بالعرض لا يرى إلا بمنظار الملحوظ بالذات وقد عرفت سابقاً امتناع ذلك ، وإن أريد قيامهما بين الملحوظين بالعرض بذاتيهما لا بما هما ملحوظان ، فهذا صحيح غير أنَّه لا ينفع لإيجاد الربط في عالم الذهن الّذي هو المطلوب كما هو واضح.

وإن قيل ـ انَّنا ندّعي ان في الذهن وجوداً لحاظيّا لماهية النار ووجوداً لحاظيّا آخر لماهية الموقد ، وكما انَّ كلّ واحد من هذين الوجودين رغم كونه وجوداً لماهية النار أو الموقد بحيث يرينا بالنظر التصوّري ناراً وموقداً ليس في الحقيقة وبالنظر التصديقي ناراً وموقداً بل صورة ذهنية ، كذلك نفرض وجوداً لحاظيّا للربط بين ذينك الوجودين الذهنيّين ، وهذا الوجود الربطي بالنظر التصوّري نسبة مكانية كما انَّ طرفيه بالنظر

٢٥٤

التصوّري نار وموقد ولا ينافي ذلك أن لا يكون بالنظر التصديقي نسبة مكانية كما انَّ طرفيه بالنظر التصديقي ليسا ناراً وموقداً. وبكلمة أخرى : انَّ قيام ما هو نسبة مكانية بالنظر التصديقي بين الوجودين الذهنيين للنار والموقد مستحيل ، ولكن قيام ما هو نسبة مكانية بالنظر التصوّري بينهما ليس مستحيلاً ، وهذا يكفي للحصول على رؤية بالنظر التصوّري للنار في الموقد بنحو الارتباط.

قلنا ـ انَّ هذا غير متصوّر في المقام ، وذلك لأنَّ العقل لو كان ينال من النسبة الخارجية المكانية ماهية على حدّ ما ينال من النار الخارجية ماهيتها ومن الموقد الخارجي ماهيته لأمكن القول بأنَّ هذه الماهية التي ينالها من النسبة المكانية الخارجية توجد بوجود ذهني ويكون هذا الوجود عين النسبة المكانية الحقيقية بالنظر التصوّري وإن كان غيرها بالنظر التصديقي ، كما هو الحال في الوجود الذهني للنار ، غير أنَّنا برهنا سابقاً على أنَّ كلّ نسبة ليس لها تقرّر ماهوي ولا انحفاظ مفهومي على حدّ انحفاظ الموجودات المحمولية في ماهياتها ، وأنَّ العقل لا يمكن أن ينال من النسبة الخارجية ماهيتها الحقيقة لأنَّ ماهيتها متقوّمة بشخص وجود طرفيها في أفقها ، وكلّ ما يناله من النسبة الخارجية انَّما هو مفهوم عرضي من قبيل مفهوم النسبة المكانية ، وهو مفهوم اسمي ولا يتحقق به الربط بإيجاد نسبة واقعية في الذهن ، وهذه النسبة إن كانت نسبة مكانية فإيجادها بين الصور الذهنية مستحيل ، وإن كانت نسبة أخرى فالحكاية بها عن النسبة المكانية الخارجية مستحيلة.

وهكذا يتّضح : أنَّ الذهن يختلف عن الخارج من حيث انَّ الخارج يحتوي على نسب واقعية متقومة بطرفين خارجيين متغايرين في أفقها ، وامَّا الذهن فهو حينما يريد أن يحصل على صورة لواحدة من تلك النسب لا يوجد طرفين متغايرين من الوجود الذهني وينشئ بينهما نسبة موازية للنسبة الواقعية الخارجية ، وانَّما يتحقّق وجود واحد في الذهن هو وجود لمركّب تحليلي أحد أجزائه النسبة.

٢٥٥

النسب الأوليّة والنسب الثانوية

إلا أنَّا إنَّما نقول بأن ما بإزاء الحروف هو النسب التحليلية في موارد النسب الأولية لا النسب الثانوية. توضيح ذلك : انَّ الذهن كما يحصل في باب المفاهيم الاسمية على معقولات أولية تتحصل لديه من الخارج ، كمفهوم الماء والبياض ، ومعقولات ثانوية تتحصل لديه في طول الحصول على المعقولات الأولية ، كالنوعية والجنسية ، كذلك في باب المفاهيم الحرفية هناك نسب أولية يحصل عليها الذهن من الخارج بحيث يكون موطنها الأصلي هو الخارج والذهن طفيلي عليها ، كالنسب المكانية والاستعلائية والابتدائية والانتهائية ونحو ذلك ، وهناك نسب ثانوية يحصل عليها الذهن في طول معقول ذهني سابق ويكون موطنها الأصلي هو الذهن ، كالنسبة الإضرابية والاستثنائية والتأكيدية والعاطفة ونحو ذلك ، ففي قولنا « جاء زيد بل عمرو » هناك نسبة بين زيد وعمرو ، وهي النسبة المصححة لانتزاع عنوان المعدول عنه من زيد والمعدول إليه من عمرو ، وهذه النسبة موطنها الأصلي هو الذهن إذ لو قطع النّظر عن الذهن فلا معنى للإضراب في الخارج. والحاصل : انَّ النسبة الإضرابية بروحها وحاقها يمكن قيامها في الذهن ، خلافاً لمثل النسبة المكانية التي هي من النسب الأولية ، وعليه فمن المتصوّر قيام نسبة واقعية إضرابية في الذهن بين طرفين متغايرين ويكون الحرف موضوعاً بإزاء هذه النسبة.

ويتلخّص من مجموع ما تقدّم : انَّ الحروف الواردة في مورد النسب الأولية الخارجية موضوعة بإزاء نسب تحليلية ، وانَّ الحروف الواردة في موارد النسب الثانوية موضوعة بإزاء نسب واقعية.

ومن نتائج وضع الحروف للنسب التحليلية كون مفادها نسبة ناقصة لا يصحّ السكوت عليها ـ على ما سيأتي تفصيل ذلك عند الكلام حول مفاد هيئات الجمل ـ فقولنا « النار التي في الموقد » جملة ناقصة على الرغم من اشتمالها على نسبة ، ونقصان الجملة بسبب نقصان النسبة ، ونقصان النسبة انَّما هو بنكتة كونها تحليلية ، لأنَّ معنى النسبة التحليلية انَّها ليست نسبة واقعية في صقع الذهن ، بل لا يوجد في صقع الذهن

٢٥٦

إلا مفهوم افرادي مركّب تحليلاً بحيث لو حلّل بنظرة ثانية لقيل أنَّه ينحل إلى نسبة وطرفين فلا يصحّ أن يعتبر الدال على هذا المفهوم الإفرادي كلاماً يصحّ السكوت عليه ، وهذا بخلاف النسبة الواقعية الثابتة في صقع الذهن بما هي نسبة. ويأتي تتمة الكلام في ذلك.

وما قلناه من أنَّ الحروف موضوعة للنسبة التي تستدعي طرفين ولو بنحو الاندماج هو الأمر الغالب ، ولكن قد يتّفق أن يكون مفاد الحرف خصوصية في المعنى الاسمي ، وحرفيتها لا باعتبار كونها نسبة بين طرفين بل باعتبار كونها خصوصية في الصورة الذهنية التي تكون بإزاء المدخول كما في اللام الدالة على التعيين بأحد أنحائه من الجنسي وغيره ، كما في قولنا ( العالم ) فانَّ اللام تستوفي مدلولها الحرفي هنا بطرف واحد ، ولو كان مدلولها نسبة بين شيئين لما كانت كذلك ، وسيأتي لذلك بعض التوضيح في البحث عن هيئة الفعل.

تلخيص وتعميق

يمكننا أن نعبر عن كل ما قدّمناه في تحقيق المعاني الحرفية وإرجاعها إلى نسب تحليلية لا واقعية على أساس القاعدة التالية وهي : أنَّ الماهيات على قسمين : أحدهما : ماهيّات لها تقرّر واستقلال ماهوي ، وهي ما يعبر عنها بالمفاهيم الاسمية.

والآخر ـ ماهيات ليس لها تقرر كذلك بل هي ناقصة في مرحلة ذاتها ومتقومة ذاتاً بغيرها. وهي يعبّر عنها أصوليّاً بالمفاهيم الحرفية. فالقسم الأول له وجودان حقيقي وذهني والماهية محفوظة في كلا الوجودين على النحو المبين في براهين إثبات الوجود الذهني ، وهي تشكّل جامعاً ذاتياً بين الوجود الحقيقي الخارجي والوجود الذهني على حدّ جامعيتها بين الوجودات الحقيقية الخارجية ، وامَّا القسم الثاني من الماهيات فهي لنقصانها الذاتي يستحيل أن يكون لها وجود ذهني وهو الوجود اللحاظي التصوري لأنَّ معنى ذلك انحفاظ ماهيتها في ضمن الوجودين وهو يساوق افتراض الجامع الذاتي بين فردين من النسبة مع أنا برهنا على استحالة الجامع الذاتي بين فردين من النسبة ، وهذا برهان على استحالة الوجود الذهني للماهية النسبية وليس مقصودنا بالوجود الذهني

٢٥٧

مطلق الوجود في عالم النّفس بل الوجود اللحاظي التصوري ، إذ ليس كل وجود في عالم النّفس ذهنياً فالإرادة كيف نفساني موجود في نفس العطشان بالنسبة إلى الماء ، ووجوده فيه خارجيّ لا ذهني. ويترتّب على ما ذكرناه : أن النسبة كلّما كان موطنها الأصلي خارج عالم النّفس فلا يمكن أن توجد في صقع الذهن حقيقة لا بوجود حقيقي ولا بوجود لحاظي تصوري ، امَّا الأول فلأنَّه خلف ما فرضناه من أنَّ موطنها الأصلي خارج عالم النّفس. وأمَّا الثاني فلما برهنا عليه من استحالة الوجود الذهني للنسبة ، فلا بدَّ في مقام اقتناص الذهن لها أن تكون تحليلية ومرجعه إلى انَّ الحصة الخاصة لها وجودان وجود خارجي ووجود ذهني ، فالوجود الذهني دائماً يكون لمفهوم اسمي بمطلقه أو بحصة خاصة منه. وبهذا يمكن إيقاع التصالح بين الاتجاهين الإخطاري والإيجادي في المعاني الحرفية فلعلّ القائل بإخطاريتها كأن يقصد إخطارية الحصة الخاصة المستبطنة للنسبة تحليلاً ، فانَّها إخطارية كإخطارية المعنى الاسمي المطلق فانَّه لا فرق بين أن توضع بإزاء الحصة الخاصة اسماً واحداً كالفانوس مثلاً أو ألفاظ متعددة كالنار في الزجاج مثلاً وكلَّما كان الموطن الأصلي للنسبة عالم النّفس وحقّها الحقيقي في الوجود في هذا العالم ، فهي يمكن أن توجد في عالم النّفس بوجودها الحقيقي لا بوجود لحاظي تحليلي فقط. ويترتب على ذلك انَّ النحو الأول من النسبة يعتبر نسبة ناقصة ، والنحو الثاني منها يعتبر نسبة تامة.

٢٥٨

البحوث اللفظية التحليلية

الهيئات

٢٥٩
٢٦٠