بحوث في علم الأصول - ج ١

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١

البحث في فلسفة اللغة لأنَّه بحث تحليلي في مدلول اللغة بما هو مدلول بينما الفلسفة الاعتيادية تبحث في تحليل الشيء بما هو لا بما هو مدلول. ويدخل في هذا النطاق بحث الحروف والهيئات.

وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقسم البحث في مدلول اللفظ إلى قسمين :

الأول : بحث لغوي اكتشافي ـ تحديدي ـ وهو البحث عن تعيين مدلول اللفظ بغية أن يصبح ذهننا قادراً على الانتقال إلى الصورة الذهنية المناسبة عند سماع اللفظ. وهذا بحث يغير من واقع ما يجري في الذهن ، فالأجنبي عن اللغة العربية بعد أن يتعلّم هذه اللغة تحصل في ذهنه عند سماع قولنا ( البياض في الجسم ) صورة لم تكن تحصل قبل ذلك.

الثاني : بحث فلسفي تحليلي لمدلول اللفظ بما هو مدلول ، أي للصورة الذهنية بهذه الحيثية. وهذا بحث لا أثر له على واقع ما يجري في الذهن ولا يوصل إلى صورة جديدة بسبب سماع الكلام ، لأنَّ الفهم اللغوي له مكتمل سابقاً وانَّما هو مجرّد تحليل.

وقد لاحظ علماء الأصول : أن في كلّ من هذين البحثين قصوراً على مستوى الممارسات العملية له. أمَّا البحث الأول ، فهو وإن كان من وظيفة علماء اللغة إلا انَّ جملة ممَّا يدخل في هذا المجال لم تف بحوثهم بتوضيحه إمَّا لغفلتهم عنه بسبب عدم صلته بالأغراض العملية المحدودة التي تستهدفها علوم اللغة ، وهي أغراض لا تزيد على حاجة الإنسان العرفي في مقام التعبير عادة من قبيل دلالة صيغة الأمر على الوجوب إثباتاً ونفياً ، إذ اكتفي اللغويّون ببيان دلالتها على الطلب دون توضيح خصوصيّات الطلب. وإمَّا لأنَّ المسألة ليست مرتبطة بمجرّد نقل موارد الاستعمال عند العرب وانَّما هي بحاجة إلى عناية واجتهاد ، كالبحث عن دخول الزمان في مدلول الفعل أو شمول المشتق لما انقضى عنه المبدأ.

وأمَّا البحث الثاني ، فلم تكن له أيّ ممارسة جادة قديماً حيث كانت الفلسفة وقتئذٍ متّجهة إلى تحليل حقائق الأشياء الذهنية والخارجية بما هي أشياء لا بما هي مدلولات للكلام ولما أحسّ الأصوليّون بهذا النقص كان هذا الإحساس سبباً تدريجيّاً لمحاولات تنامت على مرّ الزمن لسدّ هذا النقص وملأ شيء من هذا الفراغ.

٢٢١

ومن أجل ذلك دخلت في علم الأصول أبحاث من قبيل دلالة صيغة الأمر والنهي على الوجوب والحرمة ، ودلالة أداة الشرط على المفهوم ؛ وهذا ما يدخل في القسم الأول. وأبحاث من قبيل تحليل المعاني الحرفية ومداليل الهيئات في الجمل الناقصة والتامّة والخبريّة والإنشائيّة ، وهذا ما يدخل في القسم الثاني.

ولما لم يكن علم الأصول علماً لغويّاً أو فلسفيّاً بطبيعته ، بل هو علم العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، كان حريّاً به أن لا يتناول بصورة أساسية من تلك الأبحاث إلا ما يشكّل عنصراً مشتركاً في عملية الاستنباط على نحو ينطبق عليه الميزان المتقدّم للمسألة الأصولية. وهذا ما كان بالنسبة إلى ما يندرج من البحوث الأصولية في القسم الأول وما يندرج منها في القسم الثاني.

امَّا بالنسبة إلى القسم الأول ، فقد ميّز الأصوليّون بين الدلالة اللغوية الصالحة لأن تكون عنصراً مشتركاً في عملية الاستنباط فبحثوها في علم الأصول ، كدلالة الأمر على الوجوب ، وأداة الشرط على المفهوم ، وهيئة اسم الفاعل على الأعم ، بالرغم من أنَّ بعضهم ذكر بعض هذه الأبحاث في المقدّمات والمبادئ ، لأنَّ عدم الرؤية الفنيّة الواضحة لميزان المسألة الأصولية كان يوجب باستمرار التشويش في الجانب التصنيفي والتنسيقي للمسائل ، بينما الشعور الأصولي الفطري كان هو الموجّه الأساسي لذكر ما ينبغي أن يذكر.

وتركت ـ على هذا الأساس ـ أبحاث لغويّة لم تف اللغة بحقّها على الرغم من دخلها في الاستنباط أحياناً ، وذلك لعدم كونها عنصراً مشتركاً في عملية الاستنباط ، فتحمل مسئوليتها الفقه في الموارد التي يكون لها دخل في استنباط الحكم فيها ، كتفسير كلمة ( الصعيد ) أو ( الكعب ) أو ( الريبة ) ونحو ذلك.

وأمَّا بالنسبة إلى القسم الثاني ، فنجد أن المصبّ الرئيسي للبحث أصولياً متّجه إلى تمييز المعاني الاستقلالية عن المعاني الربطية والآلية ، وتوضيح خصائص كلّ منهما بما في ذلك قابلية المعنى الاستقلالي للحاظ والتوجّه المؤدّي إلى صلاحيته للإطلاق والتقييد وعدم قابلية المعنى الربطي والآلي لذلك المؤدّي إلى عدم صلاحيته للإطلاق والتقييد. وقد أدّت المسالك المختلفة تجاه المعنى الحرفي وآليته وربطيته إلى مواقف مختلفة

٢٢٢

في عدّة مسائل منها ـ إمكان إرجاع القيد إلى الهيئة في الواجب المشروط ، وبذلك كان هذا البحث التحليلي في مدلول اللغة يشكّل ـ إثباتاً ونفياً ـ عنصراً مشتركاً في عملية الاستنباط. وسيأتي ـ تفصيل الكلام عن ذلك في موضعه المناسب.

وفي ضوء ذلك نعرف : أن البحوث الأصولية في دلالات الألفاظ تنقسم إلى قسمين : أحدهما : بحوث تحليلية. والآخر : بحوث لغوية تحديدية. غير أنَّ المزيد من التعميق والتدبّر في هذه البحوث اللغوية وتقييمها يكشف على ما سيأتي إن شاء الله تعالى : ان جلّ البحث فيها تفسيري وليس لغويّاً.

وبهذا يظهر فارق جوهري بين دور الأصولي في بحث تلك المسائل ودور علوم اللغة. ولنضرب مثالاً لتوضيح الفكرة ، وذلك بالبحث عن دلالة صيغة الأمر على الوجوب ، فانَّ هذه المسألة وإن طرحت في علم الأصول في البداية وكأنَّ المطلوب حقيقة التفهم على مدلول الصيغة والتوصّل إلى ما يفهمه العرف منها ، ولكنَّها بالتدريج لم تعد كذلك ، وأصبح من المتسالم عليه انَّها تدلّ على الوجوب ، وإنَّما البحث في تفسير هذه الدلالة. فهل هي دلالة بالوضع ، أو بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، أو بحكم العقل والعقلاء؟ وهو بحث تفسيري تترتّب عليه ثمرات في الفقه ، لأنَّ التعامل مع الدلالة في مورد التعارض والتقديم والتخصيص ونحو ذلك يختلف باختلاف نوع الدلالة وبهذا اكتسب البحث الأصولي عمقاً واحتاج إلى أساليب دقيقة في مقام إثبات المطلوب في هذه المسائل ، بينما لا يحتاج تشخيص المدلول العرفي النهائيّ على إجماله إلى بحث معمّق على هذا المستوى لأن المعتمد فيه بصورة رئيسية هو الانسباق والفهم العرفي العام.

وعلى هذا الأساس ، نستطيع أن نصنّف الاتجاه في الأبحاث اللغوية الأصولية إلى اتجاهين :

الأول : اتجاه تفسيري ، وهو ما شرحناه. ومنهج هذا الاتجاه ان تجمع في البداية كلّ الدلالات العرفية المتّصلة باللفظ المبحوث عنه وبعد التأكد من عرفيتها وسلامتها يبحث عن تفسيرها ، ويكون التفسير ناجحاً بالقدر الّذي يستطيع أن يقدّم نظرية لتفسير تلك الدلالات جميعاً دون أن يلزم نقض أو تنثلم دلالة ، وهذا نهج علمي يشبه النهج العلمي الّذي يمارسه العالم الطبيعي في تفسير ظاهرة طبيعية بكلّ آثارها

٢٢٣

وشئونها ، وهو يختلف بصورة أساسية عن نهج علوم اللغة. وهذا هو النهج الّذي ستجد ممارسته في الأبحاث المقبلة إن شاء الله تعالى.

الثاني : اتّجاه اكتشافي ، وهو الاتجاه إلى معرفة المدلول العرفي للكلمة أو الكلام الّذي يعالج دفع شك حقيقي في انَّ اللفظ هل يدلّ على المعنى الفلاني أو لا ، وهو اتجاه يتّفق في روحه العامة مع الاتجاه اللغوي. وفي هذا المجال توجد وسيلتان رئيسيّتان بغض النّظر عن الوسائل المستمدة من علوم اللغة.

إحداهما : الانسباق والتبادر ، وهي وسيلة تدلّ على الوضع كما تقدّم والتبادر قد يكون تبادراً لنفس المعنى الموضوع للفظ ، كما إذا تبادر خصوص المتلبّس بالمبدإ من اللفظ المشتق ، وأخرى يكون لملازمات المعنى التي يستكشف منها المعنى ، كما إذا تبادر التضاد فيما بين المشتقات الدال على وضعها لخصوص المتلبس لا محالة.

لا يقال : كيف يمكن التفكيك بين الانسباقين بحيث يفترض في المثال عدم تبادر خصوص المتلبس الّذي هو المعنى الموضوع له ولكن تتبادر خصوصية التضاد الملازمة مع كون المعنى خصوص المتلبس ، فان تبادر اللازم يساوق دائماً تبادر الملزوم ومعه لا حاجة إلى تبادر اللازم.

فانَّه يقال : يمكن ذلك فيما إذا فرض رجوع المستعلم إلى تبادر أهل العرف للازم فانَّه قد يفترض انَّ ارتكازهم للتضاد مثلاً بين المشتقات أوضح وأبين من تبادر هم أصل المعنى.

أضف هذا إلى أنَّه بناء على ما هو الصحيح في تفسير الوضع من كونه عبارة عن الأشراط بين اللفظ والمعنى تصوراً من المعقول أن يكون بعض جهات المعنى الموضوع له أو ملازماته أشدّ التصاقاً وإشراطاً باللفظ من المعنى بحدّه وحاقه.

والأخرى ـ البرهان ، ويكون وسيلة لتشخيص المعنى الموضوع له في أحد مجالين :

١ ـ في نفي أحد المعنيين أو المعاني المحتملة في اللفظ ، فيكون وسيلة سلبية على المعنى. وقد استعمل علماء الأصول هذه الوسيلة في بحث الصحيح والأعم حيث حاول بعضهم نفي احتمال الوضع للصحيح بإقامة البرهان على استحالة وجود معنى جامع بين الأفراد الصحيحة بالخصوص.

٢٢٤

٢ ـ في التطبيق. وهذا ما يحصل عادة حين يبحث عن تطبيق كبرى مقدمات الحكمة على مورد فيقال : انَّ الجملة الشرطية مثلاً هل يتصوّر فيها إطلاق يدلّ على الانتفاء عند الانتفاء أو لا ، فانَّ هذا بحث تطبيقي لأنَّ كبرى مقدمات الحكمة مفروغ عنها على نحو لا يحتمل التخصيص فيها وإنَّما الكلام في تشخيص صغراها.

فإن قيل : أي معنى للبرهنة على أنَّ اللفظ يدلّ على المعنى الفلاني فانَّ الانسباق أمر وجداني أو قريب من الوجدان دائماً ، فمع وجوده لا شك في الدلالة ومع عدمه كيف يمكن إثبات الدلالة ببرهان.

قلنا : أمَّا في المجال الأول ، فقد عرفت أنَّ البرهان لا يكون وسيلة على إثبات المعنى ابتداءً بل وسيلة سلبية على نفي أن يكون أحد المحتملين أو المحتملات معنى للفظ لعدم كونه مفهوماً متقرراً واحداً في نفسه ، وهذا من شأن البرهان إثباته أو نفيه.

وأمَّا في المجال الثاني ، فلأن كبرى دلالة قد يفرغ عنها ، كدلالة مقدمات الحكمة على نحو لا يحتمل التخصيص في اقتضائها وانَّما يكتنف الغموض صغراها ؛ فقد لا يكون الانطباق واضحاً حتى عرفاً ولكن على نحو بحيث لو بيّن الانطباق لأحسّ العرف بالدلالة تطبيقاً لمقدمات الحكمة. ولكن مع هذا قد يتوهّم : ان خفاء الدلالة على العرف لا بدَّ أن يكشف عن خلل في نظر هم في انطباق تلك الكبرى على المورد ومعه يكون نظرهم متبعاً.

إلا أنَّ الصحيح انَّ الأمر ليس كذلك دائماً بل يختلف ، فقد يكون على هذا النحو ، كما في خفاء استفادة الوجوب من صيغة الأمر بالإطلاق بتقريب : انَّ الوجوب هو الطلب المطلق والاستحباب هو الطلب المقيّد لأنَّه فرد ضعيف من الطلب والفرد الضعيف يرجع إلى المقيد بحدّ عدمي. لوضوح انَّ هذه القيدية ليست عرفية ومقدمات الحكمة انَّما تنفي القيد العرفي. وقد لا يكون على هذا النحو ، كما في خفاء استفادة المفهوم من الشرط بلحاظ افتراض علة أخرى يساوق عدم كون الشرط دخيلاً بعنوانه وهو خلاف ظاهر اللفظ ، فانَّ هذا التقريب لو تمّ لا يضرّ به خفاء النتيجة المستخلصة منه فعلاً لأنَّ هذا الخفاء مرجعه إلى عدم إدراك العرف للتلازم بين هذه النتيجة وما يفهمه من اللفظ فعلاً من دخل الشرط بعنوانه فإذا أمكن إثبات هذا التلازم ولو بالبرهان تمّ المطلوب.

٢٢٥

ثمَّ إنَّ الاتجاه التفسيري يصبح في عدد من الحالات كافياً لاكتشاف المطلب وإثباته ، وذلك انَّ الاتجاه الاكتشافي ـ كما عرفت ـ يعالج دفع شك حقيقي في انَّ اللفظ هل يدلّ على المعنى الفلاني أو لا يدلّ بينما الاتجاه التفسيري يعني انَّ الدلالة مفروغ عنها وانَّما نريد أن نفسرها. ولكن الشك الحقيقي في دلالة لفظ على معنى ـ كدلالة الجملة الشرطية على المفهوم ـ على نوعين :

أحدهما : أن يكون شكّا حقيقياً غير ناشئ من شبهة. والآخر : أن يكون شكّا حقيقياً ناشئاً من شبهة معيّنة ، وهي وجود وجدانات عرفية متعددة لا يتمكن الملاحظ من تفسيرها جميعاً فيتبلبل ويشكك ، كما إذا كان يحسّ بوجدانه من ناحية بمفهوم الشرط ويحسّ بوجدانه من ناحية أخرى أيضا بأنَّ استعمال الشرطية في موارد عدم المفهوم ليس مجازاً ، فيقول الملاحظ لو كانت الشرطية موضوعة لإفادة العليّة الانحصارية الموجبة للمفهوم فكيف لا يلزم التجوّز؟ ولو لم تكن الشرطية مجازاً في مورد عدم المفهوم فكيف نفسّر دلالتها على المفهوم؟ وهذا العجز عن وضع تفسير نظري لكلّ الوجدانات يصير في كثير من الأحيان باعثاً على الشك ، وهذا نسمّيه بالشك الناشئ من شبهة ، وفي مثل ذلك يكون للاتجاه التفسيري دور مهم في الإثبات وإزالة هذا الشك فيما إذا أمكن له أن يجمع كلّ الوجدانات العرفية المتعلقة بالقضية المطروحة للبحث ويضع نظرية لتفسيرها جميعاً على نحو يحسّ الإنسان العرفي بعد ذلك بالاطمئنان إلى وجداناته ويزول منه الشك فالاتجاه التفسيري كما قد يكون تفسيريّاً لغرض ترتيب آثار هذه الخصوصية أو تلك كذلك قد يكون لغرض الإقناع وإزالة شك حقيقي ، وذلك بممارسة المنهجة العلمية التي شرحناها. وستأتي في البحوث المقبلة تطبيقات لهذه المنهجة العلمية وكيفية استخدام الاتجاه التفسيري في هذا المجال هذه هي المنهجة العامة لعلم الأصول في القسمين السابقين من البحوث.

وبعد أن تحدّد دور علم الأصول في بحوث هذين القسمين والفوارق الجوهرية بينهما والمنهج العام للبحث في كلّ منهما ، نستعرض فيما يلي قسم البحوث التحليلية أولا ثمَّ قسم البحوث اللغوية ثانياً.

٢٢٦

البحوث اللفظية التحليلية

الحروف

٢٢٧
٢٢٨

تمهيد

الاتجاهات المعروفة في معنى الحروف

١ ـ علامية الحروف

٢ ـ آليّة المعنى الحرفي

٣ ـ نسبية المعنى الحرفي

ـ الوجوه المختلفة في تفسير نسبية المعنى الحرفي

١ ـ إيجادية الحروف

٢ ـ وضعها للوجود الرابط

٣ ـ وضعها للتخصيص

٤ ـ وضعها للأعراض النسبية

تعديل الاتجاه الثالث وتصحيحه

المعاني النسبية للحروف تحليلة

النسب الأوليّة والنسب الثانوية

تلخيص وتعميق

٢٢٩
٢٣٠

تمهيد

ذكر علماء العربية بإزاء كلّ حرف معنى معيّناً ف ( من ) موضوعة للابتداء و ( في ) للظرفية و ( هل ) للاستفهام وهكذا. وقد لاحظ علماء الأصول أنَّ هناك فرقاً واضحاً بين شرح اللغوي وتحديده لمعاني الأسماء أو الأفعال ، كأن يقول مثلاً ( الأسد ) هو الحيوان المفترس أو ( جلس ) بمعنى قعد ، وبين تحديداتهم تلك لمعاني الحروف من حيث انَّ شرح الاسم أو الفعل ينبئ عن مرتبة من الترادف والتوحّد في المعنى بين الكلمة المشروحة والكلمة الشارحة ، بحيث يصحّ استبدال إحداهما بالأخرى في مجال الاستعمال دون أن يختل التركيب الذهني لصورة المعنى المعطاة بالكلام ، بينما لا يتأتى ذلك في معاني الحروف. فالظرفية مثلاً لا يمكن أن يستعمل بحال من الأحوال بدلاً عن حرف ( في ) ولا الابتداء بدلاً عن ( من ).

وقد استأثرت هذه الظاهرة باهتمام الأصوليين فدفعتهم إلى مواصلة البحث والتنقيب في مدلولات الحروف ليخرجوا بالتحليل النهائيّ الّذي على أساسه يمكن تفسير واقع الفروق بين المعاني الحرفية والمعاني الاسمية. ولذلك كان هذا البحث الأصولي اللفظي تحليليّاً لا لغوياً ، إذ لا يواجه الأصولي فيه شكّا حقيقيّاً في أصل مدلول الحرف يراد دفعه ، وليس هناك غموض فيه يطلب علاجه بهذا البحث. بل معنى كلّ

٢٣١

حرف وموضع استعماله واضح لديه بنحو الإجمال ، ولو فرض الشك في مدلول حرف معيّن أمكن رفعه بالرجوع إلى كتب اللغة أو اتّباع وسائل تشخيص المعنى المشكوك فيه التي تقدّمت الإشارة إليها وسوف يأتي تطبيقها في البحوث اللفظية اللغوية.

وإنَّما يعالج هذا البحث ـ بعد الفراغ عن صحة ما ذكر بإزاء كلّ حرف من المعاني لغويّاً ـ حقيقة الفرق بين كيفيّة تصوّر الذهن للمعاني الحرفية وتصوّرها للمعاني الاسمية ، الأمر الّذي نلمس أثره الظاهر في عدم إمكان استعمال أحدهما مكان الآخر رغم كونه شرحاً له وتحديداً لمحتواه.

الاتجاهات المعروفة في المعنى الحرفي

والمتلخص من مجموع كلمات الأعلام في تشخيص معاني الحروف وفرقها عن معاني الأسماء اتجاهات ثلاثة رئيسية نستعرضها فيما يلي تباعاً.

١ ـ علامية الحروف

ويقيس أصحاب هذا الاتجاه الحروف بالحركات الإعرابيّة ، فيدّعى بأنَّها لم توضع بإزاء معنى خاص وانَّما هي لمجرّد التنبيه على أنَّ مدخولها مظروف أو مبدوء به وهكذا ، كما يقال في الحركات الإعرابية من أنَّها علامة على خصوصية الفاعلية أو المفعولية.

والاعتراض على هذا المسلك : بأنَّ إفادة الخصوصيات أيضا يساوق الوضع بإزاء معنى إذ لا يشترط في المعنى أن يكون معنى تاماً مستقلاً. يمكن الإجابة عليه من قبل أصحاب هذا الاتجاه : بأنَّ المقصود وضع الاسم المقيّد بالحرف للمعنى الخاصّ بحيث لا يبقى للحرف مدلول إضافي في الكلام يستفاد منه بنحو تعدّد الدال والمدلول كما هو المطلوب.

والصحيح أن يقال : انَّ هذا الاتجاه إن أريد به فراغ الحروف من الدلالة والتأثير في تكوين المدلول نهائيّاً فهو باطل بضرورة الوجدان اللغوي والعرفي ، لأنَّ لازمه أن لا يكون حذف الحرف المساهم في تكوين الجملة مضراً بمعناها أصلاً وهو خطأ واضح.

٢٣٢

وإن أريد به : انَّ الحرف ليس له مدلول في عرض مدلول الاسم الّذي يشاركه في تكوين الجملة وانَّما مدلوله طولي دائماً ، بمعنى أنَّه يشخص المراد من الاسم. ففي قولنا « الصلاة في المسجد » تدلّ ( في ) على أنَّ المراد من الصلاة فعل مخصوص بخصوصية الوقوع في المسجد ، ومن أجل ذلك يشبه بالحركات الإعرابية. فيرد عليه : انَّه إن قصد بذلك انَّ الحرف يشخص انَّ المراد الاستعمالي من كلمة الصلاة ذلك فهو غير صحيح ، لأنَّ استعمال لفظ الصلاة في الحصة الخاصة بخصوصها مع كونها موضوعة للطبيعة الجامعة مجاز ، وإن قصد بذلك انَّ الحرف يشخص المراد الجدّي من كلمة الصلاة فهذا يعني نظر الحرف إلى مرحلة المراد الجدّي وهو واضح البطلان ، فانَّ الحرف يساهم في تكميل الجملة في مرحلة المدلول الاستعمالي ، ولهذا لا تكون الجملة تامّة بدون الحرف سواءً كان لها مدلول جدّي أو لا.

وإن أريد به : انَّ الحرف ليس دالاً مستقلاً كما هو الحال في الاسم بل يستحيل أن يكون إلا دالاً ضمنيّاً والدال المستقل هو المجموع المركّب من الحرف والاسم ، فهذا معنى دقيق وعميق وهو الّذي يقتضيه منهجنا العام في تحقيق المسألة ـ على ما يأتي ـ إذ يتّضح ان من لوازم عدم استقلالية المعنى عدم استقلالية الدلالة.

٢ ـ آليّة المعنى الحرفي

وقد ذهب أصحاب هذا الاتجاه ومنهم المحقق الخراسانيّ ( قده ) في كفاية الأصول ـ إلى أنَّ معاني الحروف هي نفس معاني الأسماء ذاتاً ، وإنَّما الفرق بينهما في اختصاص كلّ منهما بوضع معيّن ، حيث وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه ووضع الحرف ليراد به معناه لا كذلك بل بما هو آلة وحالة لغيره ، وهذا الاختلاف في الوضع هو الّذي يكون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر وإن اتّفقا فيما له الوضع (١).

ويستفاد من كلامه مجموع أمرين :

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ١٥ ( ط ـ مشكيني )

٢٣٣

١ ـ انَّ الاختلاف بين معاني الحروف والأسماء بلحاظ أمر عرضي خارج عن ذات المعنى ، وهو كيفية لحاظ الذهن للمعنى حين الاستعمال من الآلية والاستقلالية.

٢ ـ أن آليّة اللحاظ واستقلاليّته لا يمكن أن تكون قيداً في الموضوع له أو المستعمل فيه بل في الوضع نفسه.

وكأنَّه ( قده ) فرغ عن صحة الأمر الأول ، فلم يكلّف نفسه مئونة إثباته وانَّما أشبع البحث في الأمر الثاني ، مع أنَّ المهمّ إثبات أصل المدّعى من وحدة المعنيين وعدم تغاير هما ذاتاً.

وقد أورد عليه في كلمات المحققين اعتراضات عديدة.

منها ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) في تعليقته على الكفاية بقوله « انَّ الاسم والحرف لو كانا متّحدي المعنى وكان الفرق بمجرّد اللحاظ الاستقلالي والآلي لكان طبيعي المعنى الوحدانيّ قابلاً لأن يوجد في الخارج على نحوين كما يوجد في الذهن على طورين ، مع انَّ الحرفي كأنحاء النسب والروابط لا يوجد في الخارج إلا على نحو واحد وهو الوجود لا في نفسه ولا يعقل أن توجد النسبة في الخارج بوجود نفسي » (١).

وكأنَّه ( قده ) يفترض مطابقة عالم الخارج مع الذهن في أنحاء الوجود أصلاً موضوعيّاً مسلماً فيعترض بأن المعنى الواحد لو كان يوجد في الذهن على طورين آليّ واستقلالي لزم أن يوجد في الخارج كذلك مع أنَّ المعنى الحرفي لا يوجد خارجاً إلا في غيره.

ولكن لا مأخذ للأصل الموضوعي المزعوم ، إذ لا برهان على ضرورة التطابق بين الوجود الذهني والوجود الخارجي ، بل البرهان على خلافه ، فان العرض لحاظه في الذهن يمكن أن يكون مستقلاً عن موضوعه مع انَّه في الخارج لا يوجد إلا في موضوعه.

ومنها ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من أنَّ تقييد الواضع واشتراطه الآليّة في استعمال الحرف والاستقلاليّة في استعمال الاسم ليس ملزماً ولا يترتّب عليه عدم صحّة الاستعمال للفظ في معناه الموضوع له. ولو سلّم فغايته عدم صحّته بقانون الوضع

__________________

(١) نهاية الدراية الجزء الأول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ٤٣ ( المطبعة العلمية ـ قم )

٢٣٤

لا عدم صحّته مطلقاً ولو بالنحو الّذي يصحّ به الاستعمال المجازي ، مع وضوح انَّ استعمال الحرف في مورد الاسم وبالعكس غير صحيح مطلقاً (١).

امَّا الجانب الأول من كلامه ( قده ) فيمكن دفعه بتقريب : انَّ تقييد الواضع لا يرجع إلى شرط على المستعمل على حدّ الشرط الفقهي من باب الالتزام في ضمن الالتزام بل إلى تقييد العلقة الوضعيّة بحالة خاصة ، ومعه لا وضع للحرف غير التوأم مع اللحاظ الآلي لانتفاء قيد الوضع فلا يصحّ استعماله في معناه من أجل ذلك.

وإذا تمَّ هذا الجواب أمكن على ضوئه دفع الجانب الثاني من كلامه ( قده ) لأنَّ الحرف في حالة عدم اللحاظ الآلي يكون مهملاً لعدم الوضع في هذه الحالة ، والمهمل لا يصحّ استعماله في معنى لا حقيقة ولا مجازاً ، امَّا الأول ، فلأنَّه خلف الإهمال. وامَّا الثاني ، فلأنَّه فرع ان يكون له معنى حقيقي فعلاً ، لأنَّ المصحح للاستعمال في المعنى المجازي والحدّ الأوسط بينه وبين اللفظ هو المعنى الحقيقي ومع عدم الحدّ الأوسط لا ربط بين اللفظ والمعنى الآخر.

ولكن كلّ هذا بناء على تعقّل كبرى تقييد العلقة الوضعيّة وإمكان التعامل مع الوضع على حدّ التعامل مع سائر المجعولات الاعتباريّة. وقد سبق في بحوث الوضع ما هو التحقيق في إبطال ذلك.

ومنها ـ ما ذكره السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ من أن لحاظ المعنى آلة لو كان موجباً لكونه معنى حرفيّاً لزم منه كون كلّ معنى اسمي يؤخذ معرفاً لغيره في الكلام وآلة للحاظه كالعناوين الكليّة المأخوذة في القضايا معرفات للموضوعات الواقعية معنى حرفيّاً (٢).

وفيه : انَّ المراد بالآليّة هنا فناء مفهوم في مفهوم آخر لإفناء العنوان في المصداق الخارجي الّذي ليس من هذا الباب ، بل من باب ملاحظة المفهوم الواحد بالحمل الأوّلي فيرى به المعنون ولذلك يحكم عليه بأحكام في المعنون وإن كان في واقعه وبالحمل الشائع مغايراً مع المعنون.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٥

(٢) هامش أجود التقريرات ج ١ ص ١٥ ـ ١٦

٢٣٥

وصريح كلام صاحب الكفاية ( قده ) يشهد بإرادة هذا المعنى حيث قال : « انَّه لا يكاد يكون المعنى حرفيّاً إلا إذا لوحظ حالة لمعنى آخر ومن خصوصياته القائمة به » وقال : في موضع آخر من كلامه : « حاله كحال العرض ، فكما لا يكون في الخارج إلا في الموضوع كذلك هو لا يكون في الذهن إلا في مفهوم آخر » (١).

ومنها ـ ما أورده السيد الأستاذ أيضا بقوله : « كما انَّ لحاظ المعنى حالة لغيره لو كان موجباً لكونه معنى حرفيّاً لزم منه كون جميع المصادر معاني حرفية ، فانَّها تمتاز عن أسماء المصادر بكونها مأخوذات بما أنَّها أوصاف لمعروضاتها بخلاف أسماء المصادر الملحوظ فيها الحدث بما انَّه شيء في نفسه مع قطع النّظر عن كونه وصفاً لغيره » (٢).

وهذا النقض يمكن دفعه : بأن المصادر تحتوي على مادة وهيئة ، فان أريد النقض بموادها فهي موضوعة لذات الحدث. وإن أريد النقض بهيئاتها فقد يسلّم بكونها كالحروف وسائر الهيئات ، كما هو أحد القولين فيها.

ومنها ـ ما أورده السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ أيضا من أنَّ المعنى الحرفي قد يكون هو المقصود بالإفادة في كثير من الموارد ، وذلك كما إذا كان ذات الموضوع والمحمول معلومين عند شخص ولكنَّه كان جاهلاً بخصوصيّتهما فسأل عنها فأجيب على طبق سؤاله فهو والمجيب انَّما ينظران إلى هذه الخصوصية نظرة استقلالية (٣).

وفيه : علاوة على أنَّه مخالف لمبناه ومبنى مشهور المتأخرين من أن معاني الحروف غير استقلالية بذاتها في مرحلة تقررها الماهوي فلا يعقل وجودها لا ذهناً ولا خارجاً إلا بما هي عليه من الآلية والفناء. يمكن تفسير مورد النقض بأحد نحوين :

١ ـ أن ينتزع المستعمل مفهوماً اسميّاً مشيراً إلى واقع المعنى الحرفي الخاصّ ويجعله مدخول الاستفهام ، نظير قولنا : ما هي الكيفيّة التي سافر بها زيد؟

٢ ـ أن يكون اللحاظ الاستقلالي متعلّقاً بطرف المعنى الحرفي أي بالمعنى الاسمي المتحصص به بما هو متحصّص فيكون لحاظ التحصص تبعيّاً ، كما لو سأل : أن زيداً هل

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ١٦ ( ط ـ مشكيني )

(٢) هامش أجود التقريرات ج ١ ص ١٦

(٣) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٦٢

٢٣٦

جاء في البرّ أو البحر؟

وهكذا يتبيّن أن شيئاً من أوجه المفارقة المذكورة لتفنيد الاتجاه الّذي سار عليه صاحب الكفاية ( قده ) في معاني الحروف لا يتمّ برهانيّاً.

والصحيح في تفنيد هذا الاتجاه أن يقال : لو أريد بعدم استقلاليّة معاني الحروف كونها تلحظ حالة لمعاني الأسماء ومندكّة فيها فسوف يأتي لدى عرض الاتجاه الثالث أن هذه الحالية والاندكاك تنجم عن الفرق بينهما سنخاً وذاتاً وليست مجرّد حالة طارئة على المعنى. ولو أريد كونها آلة ومرآتاً لملاحظة المصاديق الخارجية الخاصة فيرد عليه :

أولا : انَّ كلّ مفهوم يكون مرآة لمصاديقه الخارجية بمقدار ما أخذ فيه منها ، فان كان مفهوماً كليّاً لا يكون مرآة إلا عن الحيثيّة المشتركة بين الأفراد ويستحيل أن يكون مرآتاً عن الخصوصيّات ، وإن كان جزئيّاً وخاصاً ـ ولو بالحمل الأوّلي ـ كان حاكياً عن الخاصّ الخارجي ، فلا يصلح هذا لأن يكون تمييزاً بين معاني الحروف والأسماء.

وثانياً : ما يأتي في إثبات الاتجاه القادم من اختلاف المعنى الحرفي عن المعنى الاسمي ذاتاً وحقيقة.

٣ ـ نسبية المعنى الحرفي

والاتجاه الثالث هو الاتجاه القائل بالتغاير والتمايز الذاتي بين معاني الحروف والأسماء مع قطع النّظر عن الخصوصيات العرضية الناشئة من طرو اللحاظ الآلي أو الاستقلالي عليها في مرحلة الاستعمال وهذا هو الاتجاه الّذي ذهب إليه أكثر المحقّقين المتأخّرين من علماء الأصول.

وتوضيح هذا الاتجاه وتحقيقه يتمّ خلال خمس مراحل من الكلام.

١ ـ عند ما يواجه الذهن ناراً في الموقد مثلاً ينتزع مفهوماً بإزاء النار والموقد وينتزع مفهوماً بإزاء الارتباط والعلاقة القائمة بين النار والموقد حيث نواجه ناراً وموقداً مرتبطين فيما بينهما.

٢٣٧

وهذان نوعان من المفاهيم يختلفان في الدور الّذي يقوم به كلّ منهما في عالم الإدراك ويختلفان على أساس من ذلك في الجوهر والحقيقة.

فالنوع الأول مفاهيم ترد إلى الذهن من الخارج لغرض الاستطراق إلى التمكّن من إصدار الحكم على الخارج ، إذ ليس الغرض من إحضار مفهوم النار مثلاً أن توجد خصائص حقيقة النار وشئونها التكوينية من الحرارة والإحراق ونحو هما في الذهن بل تمام الغرض هو التوصل إلى إصدار الحكم بتوسط إحضار هذا المفهوم وملاحظته بما هو فان في الخارج. وقد ذكرنا فيما سبق من بحوث الوضع أنه يكفي من أجل إصدار الحكم على شيء خارجي أن نستحضره في الذهن بالحمل الأوّلي فنحكم عليه ويكون ثابتاً لما يكون مصداقاً له بالحمل الشائع.

وبخلاف ذلك النوع الثاني ، أعني المفهوم المنتزع بإزاء علاقة النار بالموقد ، فانَّ الغرض من إحضاره ليس هو صرف التمكّن من إصدار الحكم بل تحصيل خصائص حقيقة ذلك المفهوم من الربط بين مفهومين في الذهن أو أكثر ؛ لوضوح انَّ المقصود إيجاد الالتصاق والربط بين مفهوم النار في الذهن ومفهوم الموقد في الذهن ، وبما أنَّ هذا الربط ربط حقيقي في مرحلة الإدراك بين المفهومين فلا بدَّ وان يكون هذا النوع من المفاهيم ربطاً بالحمل الشائع ولا يكفي أن يكون ربطاً بالحمل الأوّلي. هذا هو الفارق بين النوعين من حيث الوظيفة والغرض ، ويلزم من ذلك أن يكون النوع الأول مفاهيم مستقلّة في ذاتها ويكون النوع الثاني مفاهيم تعلقية في ذاتها ، لأنَّ حقيقتها في الذهن عين التعلّق والربط على حدّ الربط الخارجي بين النار والموقد ، غاية الفرق ان الربط هناك بين وجودين خارجيين وهنا بين مفهومين وامَّا الربط نفسه فحقيقي فيهما معاً.

وبذلك يتّضح : أول الفوارق بين معاني الحروف ومعاني الأسماء ، وهو انَّ المعنى الاسمي سنخ معنى يحصل الغرض من إحضاره في الذهن بالنظر التصوّري الأوّلي وإن كان مغايراً له بالنظر التصديقي ، والمعنى الحرفي سنخ مفهوم لا يحصل الغرض من إحضاره في الذهن إلا بأن يكون عين حقيقته بالنظر التصديقي.

٢ ـ يتّضح ممَّا تقدّم : أن الحروف لا يمكن أن تكون موضوعة بإزاء مفهوم النسبة

٢٣٨

أو مفهوم الربط والعلاقة ، لما ذكرنا من أن الغرض من إحضار المفهوم الحرفي الحصول على خصائص وشئون حقيقته وهذا لا يكون إلا بأن يكون الحاضر عين الحقيقة بالنظر التصديقي ومفهوم الربط والنسبة ليس عين النسبة بالنظر التصديقي وإن كان عينها بالنظر التصوّري ، ولذلك لا يمكن أن نربط به بين مفهوم النار في الذهن ومفهوم الموقد في الذهن مهما تصوّرناه أو تصوّرنا ما يشابهه من المفاهيم الاسمية.

٣ ـ انَّنا نلاحظ ثلاث نسب :

إحداهما : النسبة بين النار والموقد في الخارج.

والثانية : النسبة بين النار والموقد في ذهن المتكلّم.

والثالثة : النسبة بين النار والموقد في ذهن السامع. وهذه النسب الثلاث ليس بينها جامع ذاتي ماهوي ، ومفهوم النسبة وإن كان جامعاً بينها ولكنَّه ليس ذاتيّاً بل عرضي وذلك بالبرهان المركّب من الأمور الثلاثة الآتية :

أولا : انَّ انتزاع الجامع الذاتي بين الأفراد لا بدَّ فيه من انحفاظ المقوّمات الذاتيّة للأفراد مع إلغاء الخصوصيّات العرضية لها ، فحين نريد الحصول على جامع ذاتي بين زيد وعمرو لا بدَّ من التحفّظ على المقوّمات الذاتيّة لكلّ منهما ـ وهي الحيوانية والناطقيّة ـ وطرح الباقي.

ثانياً : انَّ كلّ نسبة من النسب الثلاث المذكورة متقوّمة بشخص وجود طرفيها ، فالنسبة الذهنية القائمة في أفق ذهن المتكلّم متقوّمة بشخص الوجود الذهني للنار وشخص الوجود الذهني للموقد القائمين في أفق ذهنه. وبهذا يتّضح : أن المقومات الذاتيّة لكلّ نسبة تختلف عن المقومات الذاتيّة للنسبة الأخرى. ولا يتوهّم : أن النسب الثلاث لما كان يوجد جامع مفهومي بين موصوفها ـ وهو مفهوم النار ـ وبين وصفها ـ وهو مفهوم الموقد ـ فيكون المقوّم لكلّ واحد من تلك النسب الثلاث هو عين المقوّم للنسب الأخرى وهو مفهوم النار ومفهوم الموقد. لأنَّ هذا التوهّم مندفع : بأن المقوم لكل نسبة هو طرفها ، وطرف النسبة هو شخص وجود النار الثابت في أفق تلك النسبة. نعم لا إشكال في انَّ شخص وجود النار في ذهن المتكلّم وشخص وجود النار في ذهن السامع وشخص وجود النار في الخارج ينتزع منها جميعاً مفهوم النار الحاكي

٢٣٩

عنها على حدّ حكاية الكلّي عن فرده ولكن هذا المفهوم المنتزع ليس هو طرف النسبة فلا يكون هو المقوم لها.

ثالثاً : حيث ثبت انَّ المقوّمات الذاتيّة لكلّ نسبة مختلفة عن المقومات الذاتيّة للنسبة الأخرى. يتبرهن استحالة انتزاع الجامع الذاتي بين تلك النسب لأنَّه إن تحفّظنا على المقومات الذاتيّة لأشخاص النسب فلا يمكن تحصيل مفهوم واحد يكون جامعاً ، لأنَّ مقومات كلّ نسبة مغايرة لمقومات النسبة الأخرى ، وما لم تلغ الخصوصيات التي تتغاير بها الأفراد لا يمكن الحصول على الجامع بينها. وإذا ألغينا المقومات لكل نسبة استحال الحصول على جامع ذاتي ، لأنَّ الجامع الذاتي لا بدَّ أن تنحفظ فيه المقومات الذاتيّة للأفراد.

٤ ـ وهي متفرعة على الثالثة على حدّ تفرّع المرحلة الثانية على الأولى وحاصلها : أنَّه يتبرهن على أساس عدم الجامع الذاتي بين تلك النسب انَّ المفهوم الحرفي سنخ مفهوم ليس له تقرّر ذاتي في مرحلة سابقة على الوجود بخلاف المفهوم الاسمي. وتوضيحه : انَّنا حينما نتصور النار يمكننا بنظرة تحليلية أن نحلل هذه النار الموجودة في ذهننا إلى ماهية ووجود ونعقد على أساس ذلك قضية موضوعها ذات الماهية ـ أي النار ـ ومحمولها الوجود. وهذا يعني انَّ مفهوم النار قد فرض موضوعاً في القضية دون أن يلحظ معه عالم الوجود ثمَّ نسب إلى عالم الوجود فقيل النار موجودة ، فالنار إذن لها نحو تقرر باعتبارها موضوعاً لتلك القضية القائمة على نظر تحليلي بقطع النّظر عن عالم الوجود ، وهذا هو معنى أن المفهوم الاسمي له تقرّر ذاتي في مرحلة سابقة على الوجود. وامَّا المفهوم الحرفي ، فهو ليس كذلك لأنَّ شخص النسبة بعد أن ثبت أنَّها متقومة ذاتاً بشخص وجود طرفيها بحيث يكون شخص وجود الطرفين بالإضافة إلى النسبة المتقومة بها كالجنس والفصل بالإضافة إلى المفهوم الاسمي للنار أو للإنسان ، فلا يعقل أن يكون لتلك النسبة نحو تقرّر ذاتي في مرحلة سابقة على عالم الوجود ، إذ في هذه المرحلة لا انحفاظ للمقوّمات الذاتيّة لتلك النسبة. ففرق بين فرض النار أو الإنسان في مرحلة سابقة على الوجود ثمَّ الحكم عليه بأنَّه موجود أو غير موجود ، وفرض شخص النسبة في مرحلة سابقة كذلك ، فان الأول معقول لانحفاظ المقومات الذاتيّة له وهي الحيوانية

٢٤٠