بحوث في علم الأصول - ج ١

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١

إلا أن هذا ليس تصحيحا موفقا ، إذ لم يشتمل على إبراز المائز الحقيقي الجامع بين كافة مسائل العلم وإنما هو مجرد عطف للمسائل التي لم يشملها التعريف على ما شملها من مسائل العلم ؛ الأمر الّذي كان ممكنا منذ البداية بأن يقال : ان علم الأصول هو علم مباحث الألفاظ أو الملازمات العقلية أو الأصول العملية وهكذا.

وهناك محاولتان للتغلب على هذا الإشكال بنحو آخر.

إحداهما : ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) : من أنه إذا أريد بالحكم المأخوذ في التعريف الأعم من الحكم الواقعي أو الظاهري دخلت مباحث الأصول العلمية أيضا (١).

وهذا الجواب لا يمكن المساعدة عليه. إذ يرد عليه :

أولا : ان الحكم الظاهري المحفوظ في موارده الأصول العملية يمثل نفس القاعدة الأصولية العملية وليس مستنبطا منها كما هو المطلوب في التعريف ، على ما سوف يأتي في شرح معنى الاستنباط.

وثانيا : ان جملة من الأصول العملية التي يبحث عنها في علم الأصول لا تتضمن الحكم الشرعي حتى الظاهري ، وإنما هي مجرد وظيفة عملية يقررها العقل حين يعجز عن الانتهاء إلى حكم شرعي بشأن الواقعة المشتبهة.

والأخرى ـ ما أفاده السيد الأستاذ ( دام ظله ) من أن المراد بكلمة الاستنباط في التعريف هو التوصل إلى الحجة على الحكم ، أي إثباته ولو تنجيزا أو تعذيرا لا خصوص الإثبات الحقيقي الواقعي. ولا إشكال في أن الأصول العملية بجميع أنواعها تثبت التنجيز أو التعذير تجاه الحكم الواقعي الشرعي (٢).

وهذه المحاولة صحيحة في التغلب على الاعتراض الأول.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣

(٢) بتصرف من محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٠

٢١

النقض على التعريف بالقواعد الفقهية

وأما الاعتراض الثاني ؛ فقد ذكر في مقام دفعه وجهان.

الأول : ما أفاده السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ بقوله : « ان الأحكام المستفادة من القواعد الفقهية سواء كانت مختصة بالشبهات الموضوعية ، كقاعدة الفراغ واليد ، أم كانت تعم الشبهات الحكمية أيضا ، كقاعدتي لا ضرر ولا حرج ـ بناء على جريانهما في موارد الضرر أو الحرج النوعيين ـ وقاعدتي ما يضمن وما لا يضمن وغيرها ، إنما هي من باب تطبيق مضامينها بأنفسها على مصاديقها وليست من باب الاستنباط والتوسيط ، مع ان نتيجتها في الشبهات الموضوعية نتيجة شخصية. » (١).

وهذه الإجابة غير تامة ، وذلك :

أولا : لعدم اختصاص القواعد الفقهية بالقواعد التطبيقية بل منها ما يستنبط به الحكم بنحو التوسيط ـ كما سيأتي قريبا ـ

وثانيا : ان التمييز بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية بالتطبيق نفيا وإثباتا يؤدي إلى أن أصولية المسألة كثيرا ما ترتبط بصياغتها وكيفية التعبير عنها ، فمسألة اقتضاء النهي عن العبادة لفسادها تكون أصولية إذا طرحت بصيغة البحث عن الاقتضاء لأن البطلان حينئذ مستنبط عن الاقتضاء وليس تطبيقا ، ولا تكون أصولية إذا طرحت بصيغة البحث عن أن العبادة المنهي عنها باطلة أولا ، لأن بطلان كل عبادة محرمة حينئذ يكون تطبيقا ، مع ان روح المسألة واحدة في كلتا الصياغتين وهذا يكشف عن أن المائز الحقيقي للقاعدة الأصولية عن القاعدة الفقهية ليس مجرد عدم انطباق القاعدة الأصولية على الحكم المستخرج انطباق الكلي على فرده وانطباق القاعدة الفقهية كذلك بل أمر آخر قد يكون من مظاهرة ان النسبة بين القاعدة الأصولية والنتيجة الفقهية نسبة استنباطية لا تطبيقية وهذا ما سيأتي توضيحه.

الثاني : ما ورد في كلمات السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ وكأنه وجه ثان لمحل الإشكال

__________________

(١) نفس المصدر ص ١٠

٢٢

حيث أفاد : « والصحيح انه لا شيء من القواعد الفقهية تجري في الشبهات الحكمية ، فان قاعدتي نفي الضرر والحرج لا تجريان في موارد الضرر والحرج النوعيّ ؛ وقاعدة ما يضمن أساسها ثبوت الضمان باليد مع عدم إلغاء المالك لاحترام ماله فالقواعد الفقهية نتائجها أحكام شخصية لا محالة. » (١)

وهذا الوجه بحاجة إلى تمحيص وتحديد للمقصود بالشبهة الحكمية التي أفيد بأن القواعد الفقهية لا تجري فيها ، فان ظاهر هذا الوجه ان قاعدة لا ضرر مثلا لو كان مناطها الضرر النوعيّ فهي مما تجري في الشبهة الحكمية وإذا كان مناطقها الضرر الشخصي فلا تكون جارية في الشبهة الحكمية.

فان أريد بالشبهة الحكمية الشك فيما يكون من وظيفة الشارع بيانه في مقابل الشك في الأمور الخارجية ، فمن الواضح ان وجوب الوضوء في حالة الضرر الشخصي حكم من وظيفة الشارع بيانه ويكون الشك فيه حينئذ شبهة حكمية ، وقاعدة لا ضرر تجري لتنقيح حال هذه الشبهة. وإن أريد بالشبهة الحكمية الشك فيما يكون من وظيفة الشارع بيانه على شرط أن يعم المكلفين جميعا ، فيمكن أن يفهم على هذا الأساس الفرق بين القول بأن الميزان في قاعدة لا ضرر الضرر النوعيّ والقول بأن الميزان الضرر الشخصي ، إذا على الأول تكون النتيجة ثابتة لعموم المكلفين في حالة وجود الضرر النوعيّ وعلى الثاني تختص النتيجة بمن كان الضرر فعليا في حقه ، ولكن أخذ العمومية بهذا المعنى شرطا في الشبهة الحكمية بلا موجب.

مع أن النتيجة قد تعم جميع المكلفين حتى على القول بأن الميزان هو الضرر الشخصي ، وذلك في مقام نفي أحكام هي بطبيعتها ضررية ولم يدل دليل عليها.

فلو شك في حكم الشارع بالضمان في غير موارد قيام الدليل على الضمان أمكن نفي الضمان بلا ضرر ، والنتيجة هنا عامة لا تختص بمكلف دون مكلف لأن الضرر مستنبط في الحكم بالضمان دائما فهو منفي بالقاعدة عن كل أحد.

هذا ، مضافا : إلى أن من القواعد الفقهية ما يكون الحكم المستنبط منها كليا يعم

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٠

٢٣

جميع المكلفين ، كما سيأتي في القواعد الفقهية الاستدلالية.

والتحقيق : أن ما يسمى بالقواعد الفقهية على أقسام.

الأول : ما ليس قاعدة بالمعنى الفني للقاعدة ، وذلك كقاعدة ( لا ضرر ) فان المعنى الفني للقاعدة يتقوم بأن تكون القاعدة أمرا كليا ذات نكتة ثبوتية واحدة بحيث ترجع إلى حقيقة واحدة ، فإن كانت القاعدة من المجعولات التشريعية كحجية خبر الثقة أو قاعدة الضمان باليد فوحدتها بوحدة الجعل الموجد لها تشريعا ، وإن كانت القاعدة من غير المجعولات كقاعدة الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته فوحدتها بوحدة تقررها الثبوتي بوصفها حقيقة واحدة ثابتة في نفس الأمر ، ومفاد ( لا ضرر ) ليس إلا مجموعة من التشريعات بالعدمية جمعت في عبارة واحدة ؛ فقصر وجوب الوضوء على غير حالة الضرر وقصر وجوب الصوم على غير حالة الضرر مثلا ليسا مجعولين بجعل واحد وثابتين بتقرر واحد ، بل الأول ثابت بتقييد جعل وجوب الوضوء بغير حالة الضرر والثاني ثابت بتقييد جعل وجوب الصوم بغير حالة الضرر. غاية الأمر ، ان الشارع جمع بين هذه التشريعات العدمية المتعددة بجعلها في مبرز واحد ، وفي مثل ذلك لا تصدق القاعدة إذ لا يوجب أمر كلي وحداني يكون دخيلا في إثبات كل واحد من هذه التشريفات بل هي جميعا تثبت في عرض واحد بدليل واحد ، فهذا من قبيل أن يقال : كل حكم يثبت للرجل في المعاملات فهو ثابت للمرأة. فان هذا ليس قاعدة بل هو تجتمع لجعول وأحكام متعددة تحت عنوان ثانوي مشترك وإبرازها بهذا العنوان.

وإن شئت قلت : ان القاعدة عنوان ثانوي في ( لا ضرر ) إن أريد بها نفس اللفظ الصادر من الشارع باعتباره دالا على تشريعات عدمية كثيرة فيرد على ذلك ان القاعدة أمر كلي وهذا لفظ شخصي.

وإن أريد بها مفاد هذا اللفظ فهو معنى كلي ولكن ليست له وحدة ثبوتية وإنما هو مجموعة من الأحكام والجعول المشتركة في عنوان ثانوي عبر عنها به.

نعم لو فسرنا ( لا ضرر ) على أساس أنها تشريع لحرمة الضرر ـ خلافا للتفسير المشهوري لها ـ فحرمة الضرر والإضرار أمر له وحدة ثبوتية فيصح أن تسمى قاعدة بالمعنى الفني للقاعدة ، إلا أنها سوف تكون على غرار قاعدة ( ما يضمن وما يضمن ) من

٢٤

أمثلة القسم الثاني من أقسام القواعد الفقهية التي سيأتي الحديث عنها.

وعلى ضوء ما ذكرناه من معنى القاعدة يتضح أيضا : ان القاعدة الأصولية في بحث مقدمة الواجب ليست هي ان مقدمة الواجب واجبة بل الملازمة. لأن الملازمة لها وحدة ثبوتية في تقررها ، واما وجوب مقدمة الواجب فليست له هذه الوحدة ، إذ لم يتعلق جعل بوجوب كلي مقدمة الواجب وإنما مقدمة كل واجب واجبة بوجوب مجعول بتبع وجوب ذيها وكون مقدمة الواجب واجبة مجرد تجميع لتلك الجعول.

الثاني : ما يكون بنفسه حكما واقعيا كليا مجعولا بجعل واحد كقاعدة ( ما يضمن ) الراجعة إلى الضمان باليد. وهذا يصدق عليه القاعدة بالمعنى الفني لوحدته الثبوتية جعلا وكليته ، غير انه لا يمكن أن تقع في طريق إثبات جعل شرعي لأنها هي بنفسها الجعل الصادر من الشارع وإنما تقع في طريق تطبيقات وتخصصات هذا الجعل ؛ وهذا يخرج إذا أوضحنا ان المراد بالحكم الّذي مهدت القاعدة الأصولية لإثباته الجعل لا ما يعم حصصه وتطبيقاته. فضمان المشتري للسلعة في البيع الفاسد وإن كان يستخرج من القاعدة المذكورة ولكنه ليس مجعولا برأسه بل هو حصة من الحصص المجعولة بذلك الجعل الواحد. ومن هذا القسم أيضا قاعدة ( لا ضرر ) بناء على تفسيرها بحرمة الضرر والإضرار فانها على هذا تكون بنفسها جعلا شرعيا يقع في طريق إثبات تطبيقاته وتحصصاته الخارجية ، بخلاف ما إذا فسرت بنفي الحكم الضروري بحيث يكون وزانها وزان نفي العسر والحرج فانها على هذا التفسير الّذي هو المشهور والمعروف بينهم تقع في طريق إثبات الجعل سعة وضيقا ، إلا أنها لا تكون قاعدة بالمعنى الفني لها كما تقدم.

فالقاعدة الأصولية لا بد أن تقع في طريق إثبات جعل شرعي ، وهذا هو نكتة ما لوحظ سابقا من أن نتيجة القاعدة الأصولية نسبتها إليها ليست نسبة التطبيق بل نسبة الاستنباط والتوسيط ، وهذا إنما يصح فيما إذا كانت القاعدة الأصولية جعلا شرعيا لأن التطبيق معناه حينئذ كون النتيجة من صغريات القاعدة الأصولية ومصاديقها وهذا خلف كونها جعلا مستقلا برأسه ، فلا بد من أجل ذلك أن تكون النسبة بين القاعدة الأصولية والنتيجة نسبة الاستنباط لا التطبيق.

٢٥

الثالث : ما يكون حكما ظاهريا يحرز به صغرى الحكم الشرعي ، من قبيل قاعدة الفراغ وأصالة الصحة. وهذا يخرج بنفس نكتة خروج القسم الثاني ، لأنه لا يقع في طريق إثبات جعل شرعي بل في طريق إثبات مصداق المتعلق جعل أو موضوعه.

الرابع : ما يكون حكما ظاهريا يمكن أن يتوصل به إلى الحجة على الحكم الشرعي ، أي على أصل الجعل ؛ كقاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الحكمية أيضا.

الخامس : القواعد الفقهية الاستدلالية ، وهي القواعد التي يقررها الفقيه في الفقه ويستند إليها في استنباط الحكم الشرعي ، كقاعدة ظهور الأمر بالغسل في الإرشاد إلى النجاسة التي تشبه قاعدة ظهور الأمر بشيء في وجوبه.

وهذان القسمان لا يمكن إخراجهما على الأسس التي خرجت بموجبها الأقسام الثلاثة السابقة ، بل يتوقف إخراجهما عن التعريف المدرسي على إدخال تعديل عليه.

والتعديل المقترح لذلك هو إضافة قيد ( الاشتراك ) فيكون الميزان في أصولية القاعدة عدم اختصاص مجال الاستفادة والاستنباط منها بباب فقهي معين ، وبذلك يخرج القسمان الأخيران أيضا لأن قاعدة الطهارة أو القواعد الفقهية الاستدلالية وإن كانت عامة في نفسها ولكنها لا تبلغ درجة من العمومية تجعلها مشتركة في استنباط الحكم في أبواب فقهية متعددة. وهذا هو الّذي يبرر أن يكون البحث عن كل واحدة منها في المجال الفقهي المناسب لها ، بخلاف القواعد الأصولية المشتركة في أبواب فقهية مختلفة فانه لا مبرر لجعلها جزءا من بحوث باب فقهي معين دون سائر الأبواب.

النقض على التعريف بمسائل اللغة الرّجال

وأما الاعتراض الثالث. فقد اختلفت كلمات الأعلام في محاولاتهم لعلاج التعريف من ناحيته. وفيما يلي نستعرض أهم مواقفهم في هذا المجال :

١ ـ موقف المحقق النائيني من النقض

وحاصل ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) انه أخذ قيد ( الكبروية ) في التعريف ، فذكر : ان علم الأصول هو العلم بالكبريات التي لو انضمت إليها صغرياتها استنتج

٢٦

منها حكم فرعي كلي (١).

وهذه المحاولة وإن وفقت في إخراج جملة من المسائل غير الأصولية التي قد يحتاج إليها الفقيه ، كوثاقة الراوي مثلا لكونها لا تقع كبرى قياس الاستنباط. إلا أنها تخل بالتعريف من حيث استلزامها خروج جملة من البحوث الأصولية أيضا ، من قبيل المسائل الأصولية المرتبطة بتشخيص المداليل اللغوية أو العرفية لبعض المواد فانها أيضا لا تقع إلا صغرى لكبرى حجية الظهور في قياس الاستنباط الفقهي ، وكذلك جملة من المسائل الأصولية العقلية ، كمسألة اجتماع الأمر والنهي ومسألة اقتضاء الأمر للنهي عن الضد ، فان الثمرة الفقهية المطلوبة منهما ـ على ما سيأتي في موضعه ـ تتوقف على تطبيق كبرى حجية الظهور أو قواعد التعارض بين الأدلة التي تنقح في هاتين المسألتين صغرياتها لا أكثر.

٢ ـ موقف السيد الأستاذ من النقض

وحاصل ما حاوله السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ انه أخذ قيد عدم الاحتياج إلى ضميمة أخرى في قياس الاستنباط ؛ فذكر : ان علم الأصول هو العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكلية الإلهية من دون الحاجة إلى ضميمة كبرى أو صغرى أصولية أخرى إليها (٢).

ثم أورد عليه بنقوض مع الإجابة عليها ، وهي ترجع إلى نقضين رئيسيين :

الأول : النقض ببحوث الدلالات بأجمعها ، فانها لا تنقح إلا صغرى الظهور ، فتكون بحاجة إلى ضم كبرى حجية الظهور.

وأجاب عنه : بأن حجية الظهور قاعدة مسلمة مفروغ عن صحتها عند جميع العقلاء فلا تكون مسألة أصولية.

الثاني : النقض بمسألة اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده فانها لا يترتب عليها

__________________

(١) فوائد الأصول ج ١ ص ٢

(٢) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٨

٢٧

وحدها إلا حرمة الضد غيريا وهي ليست نتيجة فقهية لعدم منجزية الحكم الغيري ؛ وإنما النتيجة الفقهية هي فساد الضد إذا كان عبادة ، واقتناصها موقوف على ضم كبرى أصولية هي اقتضاء حرمة العبادة لفسادها.

وأجاب عنه ، بكفاية ترتب النتيجة الفقهية على أحد تقديري البحث الأصولي ، وفي المقام تترتب صحة العبادة على القول بعدم الاقتضاء وهذا كاف في صيرورة مسألة الضد بحثا أصوليا (١).

وهذه المحاولة أيضا مما لا يمكن المساعدة عليها ، لا لما قد يقال : من استلزامها دورية التعريف ، حيث أصبحت المسألة الأصولية تعرف بعدم حاجتها إلى مسألة أصولية أخرى فلا بدّ في المرتبة السابقة من تشخيص المسألة الأصولية ، ليقال : بأن المقصود إن كل مسألة لم يكن يحتاج في مقام استنباط الحكم منها إلى غير صغراها المنقحة لموضوعها فهي مسألة أصولية. بل لأنه يرد عليها :

أولا : انه قد يراد عدم احتياجها إلى كبرى أصولية فوقها بل تكون هي كبرى القياس ، وحينئذ يكون رجوعا إلى المحاولة الأولى التي أفادها المحقق النائيني ( قده ) وقد يراد عدم احتياجها إلى مسألة أصولية أخرى ولو لم تكن كبرى في قياس الاستنباط ، وحينئذ إن أريد عدم الحاجة إليها أصلا خرجت الكثير من المسائل الأصولية ، لكثرة موارد احتياج بعضها إلى بعض في مجال استنباط الحكم الشرعي ، كما إذا اعتمد الاستنباط على دليل غير قطعي السند أو الدلالة. وإن أريد عدم الحاجة في الجملة بأن تكون المسألة الأصولية مستغنية عن غرها ولو في مورد واحد ؛ فسوف يشمل التعريف جملة من المسائل غير الأصولية التي قد يتفق بشأنها الاستغناء في الجملة ، كما إذا وردت كلمة ( الصعيد ) في دليل قطعي السند ـ كالنص القرآني ـ بحيث لم يكن الاستنباط الفقهي بحاجة إلى شيء عدا تحديد مدلولها فيكون البحث عنها بحثا أصوليا بمقتضى هذا التعريف.

وثانيا : ان جملة من بحوث علم الأصول تحتاج دائما إلى ضم كبرى أصولية إليها

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٦

٢٨

لكي يتمّ الاستنباط ، كالمسائل المرتبطة بتشخيص أقوى الظهورين عن أضعفهما في باب العمومات والمطلقات أو في باب المنطوق والمفهوم ، فانَّها تنقح صغرى أقوى الدليلين التي تكون بحاجة إلى ضمّ كبرى قواعد الجمع العرفي وملاكات الترجيح الدلالي في مقام المعارضة بين الأدلة.

ودعوى : أن قواعد الجمع العرفي كأصل حجيّة الظهور من القضايا المسلَّمة المتَّفق عليها عند العقلاء فلا يكون البحث عنها أصولياً. مدفوعة صغرى وكبرى.

أمَّا صغرى : فلأنَّ كبريات الجمع العرفي بنفسها بحاجة إلى بحث وتحقيق خصوصاً مع إبداء البعض لاحتمال شمول الأخبار العلاجية لموارد الجمع العرفي ، كما ذهب إليه صاحب الحدائق ( قده ) في جملة من الموارد وطبقة جملة من الفقهاء في بحوثهم الفقهية كالشيخ الطوسي ( قده ) في مسألة نجاسة الخمر وغيرها.

واما كبرى ، فلأن صيرورة المسألة واضحة أو مسلمة لا تميزها عن سائر مسائل العلم الواحد وإنَّما تؤدي إلى الاختلاف عنها بحسب مقام الإثبات والاستدلال.

فان هناك درجات من الإثبات قد تطرأ على المسألة وليست أصولية المسألة مرهونة بالخلاف فيها ، وإلا لرجع الأمر إلى تحديد المسألة الأصولية بمقياس يتعين في طول البحث الأصولي ، ومعه أمكن الاستغناء عن التعريف بالقول بأن قواعد علم الأصول هي القواعد الدخيلة في الاستنباط غير المبحوث عنها في علم آخر. ومنه يعرف ما في جوابه ـ دام ظله ـ عن النقض بمباحث الألفاظ.

وثالثا : فيما يخص الجواب عن النقض بمسألة الضد توجد عدة ملاحظات على ما يلي :

١ ـ ان القول بعدم الاقتضاء لا يكفي للحكم بصحة العبادة الضد ما لم تضم إليه أيضا قاعدة أصولية أخرى هي ثبوت الأمر الترتيبي ، أو إمكان استكشاف الملاك بعد سقوط الخطاب في موارد التزاحم.

٢ ـ جعل ثمرة بحث الاقتضاء صحة العبادة الضد أو بطلانها غير فني ، لأن النهي الغيري عن الضد إن كان صالحا للتنجيز كان هو الثمرة ، وإلا فلا يمكن ان ينقح به إثباتا أو نفيا صغرى اقتضاء النهي عن العبادة لفسادها وبالتالي الحكم ببطلان

٢٩

العبادة الضد ، وإنما الصحيح جعل ثمرة هذا البحث ـ على ما سيأتي في محله ـ ثبوت الأمر الترتبي بالضد العبادي على القول بعدم الاقتضاء المستلزم لصحته والاجتزاء به وعدمه على القول بالعدم المستلزم لعدم الاجتزاء به.

٣ ـ ان ترتب الصحة على القول بعدم الاقتضاء من دون حاجة إلى مسألة أصولية أخرى ليس من الاستنباط بناء على ما تقدم منه ـ دام ظله ـ في دفع الاعتراض الثاني ، لكونه بنحو التطبيق لا التوسيط.

٣ ـ موقف المحقق العراقي من النقض

وحاصل ما حاوله المحقق العراقي ( قده ) انه جعل أصولية القاعدة مرهونة بكونها متكفلة للدلالة على الحكم وناظرة إلى إثباته بنفسه أو بكيفية تعلقه بموضوعه (١).

وبهذا يمكن تفسير الفرق بين ظهور صيغة الأمر في الوجوب وظهور كلمة الصعيد أو وثاقة الراوي ، فان الأول دال على الحكم بنفسه وناظر إليه دون الثاني.

ولا ينقبض عليه بمثل بحوث العام والخاصّ أو المطلق والمقيد أو بحوث الجملة الشرطية والوصفية ، بدعوى : انه كالبحث عن مدلول كلمة الصعيد لا يكون ناظرا إلى إثبات الحكم. لأن البحث فيها يرجع بحسب الحقيقة إلى البحث عن كيفية تعلق الحكم بموضوعه من حيث كونه عاما أو خاصا أو كونه بنحو التعليق أولا ، فتكون القاعدة الأصولية اللفظية في هذه البحوث أيضا ناظرة إلى إثبات الحكم.

وهذه المحاولة أيضا مما لا يخلو من إشكال. لأنها تؤدي إلى خروج مثل مسألة اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده ، بناء على ان الحكم المطلوب إثباته بها فقهيا ليس هو حرمة الضد بل الأمر الترتيبي به أو صحته وبطلانه ، وواضح ان قاعدة الاقتضاء لا تكون ناظرة إلى إثبات ذلك بصيغتها المطروحة في علم الأصول وقد يرجع واقع مراد المحقق العراقي ( قده ) إلى معنى آخر يأتي توضيحه.

وهكذا يتضح : ان جميع المحاولات التي أفيدت لعلاج الاعتراض الثالث ودفعه

__________________

(١) مقالات الأصول ج ١ ص ١٠

٣٠

غير تامة. كما انها لا تتم في علاج الاعتراض الثاني المتقدم على ما يظهر بشيء من التأمل.

المختار في التعريف

والصحيح في تعريف علم الأصول بنحو تعالج به كل المشاكل المثارة بوجهه ان يقال :

علم الأصول هو العلم بالعناصر المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصة التي يستعملها الفقيه كدليل على الجعل الشرعي الكلي.

ونلاحظ ان هذا التعريف يضع للمسألة الأصولية عدة خصائص.

الأولى : ان تكون عنصرا مشتركا لا يختص بباب دون باب من أبواب الفقه.

وتوضيح ذلك : ان الأدلة التي يمارسها الفقيه في مجال استنباط الحكم الشرعي تكون على قسمين :

١ ـ ما يكون دليلا خاصا معتمدا في استنتاج حكم فقهي معين ، من قبيل البحث عن مدلول كلمة ( الصعيد ) لغة ، فانه قد يستند إليه الفقيه كدليل على إثبات حكم شرعي في الفقه إلا انه لا يكون عنصرا مشتركا يستدل به في أبواب فقهية متنوعة.

٢ ـ ما يكون دليلا مشتركا سيالا في مختلف الأبواب الفقهية ، كالبحث عن تحديد مدلول صيغة الأمر أو النهي ، فانه يوفر للفقيه قاعدة عامة في تشخيص مداليل النصوص الشرعية المتكفلة لأمر أو نهي ، والأمر والنهي لا يختصان بباب فقهي دون باب.

وقد لوحظ من خلال توسع الممارسات الفقهية الاستدلالية وتطورها تدريجيا ان القسم الثاني من عناصر الاستنباط هذه باعتبار اشتراكه في أكثر من باب فقهي وعموميته في عمليات الاستنباط يكون أوسع من البحث الفقهي في هذا الباب أو ذاك ، بحيث لم يكن من الصحيح اعتباره جزءا من بحوث مسألة فقهية معينة ، أو تكرار البحث عنه في كل مسألة. بل الصحيح افراد الحديث عنه في فصل مستقل

٣١

تدرس فيه تلك العناصر كبرويا ثم تطبق النتائج المنقحة هناك في البحوث الفقهية كمصادرات مفروغ عنها سلفا ومن هنا بدا البحث عن هذا القسم من عناصر الاستنباط ينفصل شيئا فشيئا عن البحوث الفقهية حتى أصبح على شكل علم مستقل له خصائصه المتميزة ومنهجه الخاصّ.

فهذه الخصوصية من أهم مميزات المسألة الأصولية ، وبها تخرج مسائل اللغة التي لم يبحثها الأصوليون عن التعريف ، وكذلك جملة من القواعد الفقهية ، لأنها لا تشكل عناصر مشتركة.

الثانية ـ ان يكون هذا العنصر المشترك من عناصر الاستدلال الفقهي ونعني بالاستدلال الفقهي الاستدلال الّذي يقوم به الفقيه لتحديد الوظيفة تجاه الجعل الشرعي الكلي ، فما لا يدخل في نطاق هذا الاستدلال لا يكون أصوليا ، كقاعدة الفراغ أو أصالة الصحة ، لأنها وإن كانت عنصرا مشتركا ولكنها مختصة بالشبهات الموضوعية ولا تقع عنصرا في الاستدلال المحدد للوظيفة تجاه جعل شرعي كلي.

الثالثة ـ ان يكون هذا العنصر المشترك مرتبطا بطبيعة الاستدلال الفقهي خاصة وليس من العناصر المشتركة في عمليات الاستدلال على العموم ، وإلا كان بحثه من وظيفة علم المنطق لا الأصول ، فان علم الأصول بمثابة المنطق للفقه خاصة فهو يبحث العناصر المشتركة في الاستدلال الفقهي بينما يبحث المنطق عن العناصر المشتركة في طبيعي الاستدلال.

الرابعة ـ ان يكون هذا العنصر المشترك مما يستعمله الفقيه في الاستدلال الفقهي دليلا على الجعل الشرعي الكلي ، ومن دون فرق بين أنحاء الدليليّة من كونها لفظية أو عقلية أو شرعية وتوضيح ذلك : ان الأدلة التي يعتمد عليها الفقيه في استدلاله الفقهي على أقسام :

١ ـ الدليل اللفظي ـ ويراد به كل دليل تكون دلالته على أساس الوضع اللغوي أو العرفي العام فيشمل دلالة الفعل والتقرير أيضا.

٢ ـ الدليل العقلي البرهاني ـ وهو الدليل الّذي تكون دلالته على أساس علاقات وملازمات واقعية تثبت بحكم العقل البديهي أو بتوسط برهان.

٣٢

٣ ـ الدليل العقلي الاستقرائي ـ وهو الدليل القائم دلالته على أساس حساب الاحتمالات الّذي هو الأساس العام في الأدلة الاستقرائية.

٤ ـ الدليل الشرعي ـ وهو ما جعله الشارع دليلا لتشخيص الوظيفة العملية تجاه الحكم الشرعي المشتبه.

٥ ـ الدليل العقلي العملي ـ هو كل كبرى عقلية تشخص الوظيفة تجاه الواقع المشكوك تعذيرا أو تنجيزا ، كقاعدتي البراءة والاحتياط العقليين.

والقسم الأول من هذه الأقسام يشمل مباحث الألفاظ والدلالات فانها طرا يكون البحث فيها عن الدليليّة اللفظية وتحديد مدلول ألفاظ عامة تعتبر عناصر مشتركة لاستنباط الحكم الشرعي في أبواب فقهية متنوعة.

والقسم الثاني يشمل بحوث الملازمات العقلية الثابتة بين الأحكام أو بينها وبين متعلقاتها ، كبحث وجوب المقدمة واقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده واجتماع الأمر والنهي واقتضاء النهي للفساد ، وبحوث اشتراط القدرة في متعلق التكليف وإمكان أخذ القيود المختلفة في موضوع التكليف أو متعلقه وغير ذلك من المسائل العقلية الأصولية التي يكون البحث فيها عن سنخ العلاقة الثابتة بين حكمين أو بين الحكم ومتعلقه أو موضوعه والتي يستدل بها الفقيه على إثبات حكم آخر أو نفيه أو تحديد موضوع الحكم أو متعلقه ويكون ملاك الدلالة في جميع هذه البحوث عقليا برهانيا.

والقسم الثالث يشمل مسألة حجة الإجماع والسيرة والتواتر ، فان دليلية مثل هذه الأدلة تكون استقرائية لا برهانية ، إذا استثنينا بعض المسالك في حجية الإجماع وهو المسلك الّذي اختاره الشيخ الطوسي ( قده ) المعبر عنه بقاعدة اللطف ، إذ بناء عليه تكون دليلية الإجماع برهانية.

والقسم الرابع يشمل بحوث الحجج والقواعد المقررة شرعا لإثبات الوظيفة العملية ، وهي على قسمين :

١ ـ الأمارات ـ وتكون دليليتها على أساس الكشف والطريقية إلى الواقع الّذي يعنى بحسب الروح ترجيح قوة الاحتمال في التزاحم بين الأحكام في مرحلة الحفظ.

٢ ـ الأصول العملية ـ وتكون دليليتها على أساس ترجيح المحتمل في التزاحم المذكور.

٣٣

والقسم الخامس يشمل مسألة البراءة والاحتياط والتخيير العقلية التي يشخص العقل في مواردها ما هو الوظيفة تجاه الحكم الشرعي المشتبه.

فكل هذه الأقسام تدخل في نطاق علم الأصول ، لأنها عناصر مشتركة ومستعملة من قبل الفقيه كأدلة على الجعل الشرعي الكلي.

وبهذه الخصوصية تخرج مسائل علم الرّجال ، كوثاقة الراوي ، وأدلة الرجالي ، كقاعدة ان ترحم الإمام هل يدل على الوثاقة أولا ، أو ان من روى عنه أحد الثلاثة هل يكون ثقة أولا؟ وذلك لأن مسائل الرّجال وأدلته وإن كانت عناصر مشتركة في الاستدلال الفقهي بمعنى ان الفقيه يستفيد منها في مختلف الأبواب ، ولكنها لا تكون لديه أدلة على الجعل الشرعي الكلي كما هو شأن المسألة الأصولية ، اما وثاقة الراوي فهي يحتاج إليها الفقيه باعتبارها موضوعا لدليلية الدليل حيث ان دليلية الخبر منوطة بوثاقة المخبر ، وما هو الدليل نفس الخبر ، فالبحث عن الوثاقة بحث عن ثبوت موضوع ما هو حكم شرعي ظاهري وليس بحثا عما يكون بنفسه دليلا للفقيه على الجعل الشرعي الكلي. واما أدلة الرجالي فهي أدلة على تلك الوثاقة لا على الجعل الشرعي الكلي فالفقيه يستعملها دليلا لإثبات موضوع الحكم الظاهري بحجية الخبر لا لإثبات الجعل الشرعي ابتداء.

فإن قيل ـ ان حجية الخبر التي هي مسألة أصولية يستعملها الفقيه أيضا لإثبات ظهور كلام الإمام الّذي هو موضوع للحكم الظاهري ، وما يكون دليلا على الجعل الشرعي هذا الظهور لا الخبر.

قلنا ـ ان ما يجعله الفقيه منجزا للجعل الشرعي الكلي في مورد هذا النقض نفس الخبر لا انه يجعله وسيلة لتنجيز الكلام المنقول ، ولهذا كان المنجز تاما ولو لم يصدق النقل ، وهذا بخلافه في محل الكلام فان الفقيه لا يجعل الدليل الرجالي بنفسه منجزا للواقع بل سببا في منجزية الخبر له.

وبهذه الصياغة للتعريف قد استغنينا عن إدخال كلمة ( الاستنباط ) في تعريف الأصول وحملها على الاستنباط التوسيطي خاصة لإخراج القواعد الفقهية غير الاستدلالية ، الأمر الّذي لا مأخذ له ، فان المطلوب من القاعدة الأصولية ان تقع في

٣٤

طريق تشخيص الوظيفة العملية تجاه جعل إلهي سواء كان ذلك بنحو التوسيط أو التطبيق. واما القواعد الفقهية فقد عرفت انها لا تكون عناصر مشتركة في الاستدلال الفقهي.

٣٥
٣٦

موضوع علم الأصول

اعتاد علماء الأصول على ان يتعرضوا بمناسبة البحث عن تحديد موضوع عام لعلم الأصول إلى الحديث عن ضرورة وجود موضوع لكل علم وتحديد ما يكون موضوعا ومحمولا في العلم ، وجريا على هذا المنهج نبحث فيما يلي عن النقاط التالية :

١ ـ موضوع العلم.

٢ ـ معنى العرض الذاتي والغريب.

٣ ـ ما يبحث عنه في مسائل العلم.

٤ ـ تحديد موضوع عام لعلم الأصول.

١ ـ موضوع العلم

في كل علم مسائل عديدة ، ولكل مسألة موضوعها الخاصّ ، وجميع موضوعات تلك المسائل تلتقي في موضوع عام ينطبق عليها ويعتبر موضوعا للعلم ، لأن بحوث العلم كلها تدور حوله. وعلى هذا الأساس ذكروا في تعريف موضوع العلم وتحديده بأنه ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتيّة.

وقد استدل على ضرورة وجود موضوع عام لكل علم بدليلين :

٣٧

الدليل الأول ـ ويتألف من مقدمتين :

أولاهما ـ ان لكل علم غرضا يترتب عليه ، والأغراض المترتبة على العلوم من نوعين :

١ ـ أغراض تدوينية ، وهي التي تطلب من وراء تدوين العلم أو تعليمه للآخرين ، ولذلك يكون هذا النوع من الأغراض المطلوبة في العلوم متنوعة ومختلفة من شخص إلى آخر.

٢ ـ أغراض ذاتية تترتب على كل علم في نفس الأمر والواقع مع قطع النّظر عن مرحلة التدوين والتعليم. وهذا النوع من الأغراض يكون بمثابة المعلول للعلم ويكون ترتبه على مسائل العلم من سنخ ترتب المعلول على علته ، وعلى هذا الأساس كان

لكل علم غرض واحد ـ ولو بالنوع ـ يترتب عليه. فعلم النحو مثلا يترتب عليه غرض الصيانة من الخطأ في المقام وعلم المنطق يترتب عليه غرض الصيانة من الخطأ في الفكر ، وهكذا سائر العلوم الأخرى.

الثانية ـ تطبيق كبرى فلسفية تقول بأن الواحد لا يصدر إلا من واحد بعد تعميمها إلى الواحد بالنوع ، فيقال هنا : بأن وحدة الغرض المترتب على مسائل كل علم تكشف لا محالة عن وحدة بالنوعية جامعة بين تلك المسائل بمعنى وجود قضية واحدة كلية يكون موضوعها جامعا بين موضوعات المسائل ومحمولها جامعا بين محمولاتها وتكون تلك القضية هي العلة في ترتب ذلك الغرض الواحد.

وقد نوقش في المقدمة الأولى من هذا الدليل : بإنكار ترتب تلك الأغراض على مسائل العلم في ذاتها وواقعها ، كيف ولو كان الأمر كذلك لزم ان لا يقع في الخارج خطأ في المقال أو الفكر مثلا لثبوت المسائل النحوية أو المنطقية في نفس الأمر والواقع.

وأجيب عنه تارة : بأن المقصود كون مسائل العلم في نفسها سببا في ترتب الغرض وليس المراد ترتبه عليها فعلا ومن دون قيد أو شرط ، فلا مانع من اشتراط معرفة المسائل وتعلمها في تحقق الغرض المنشود منها خارجا وإن شئت قلت : انها علة للتمكن من عدم الخطأ في الفكر أو المقال.

٣٨

وأخرى : بأن غرض التصحيح وعدم الخطأ ليس أمرا خارجيا كوقوع الكلام الصحيح بل أمر إضافي يراد به مطابقة الكلام أو الفكر للقاعدة العلمية الثابتة في نفسها ، ومن الواضح : أن اتصاف الفكر أو الكلام بالمطابقة مع القاعدة يكون تمام علتها ثبوت نفس القاعدة في لوح الواقع.

والصحيح هو الجواب الأول دون الثاني : لأن التصحيح ومطابقة الفكر أو الكلام مع القاعدة العلمية ليست نسبة إلى مسائل العلم نسبة الأثر إلى المؤثر والغرض إلى ذي الغرض وإنما هو مجرد نسبة وإضافة بين شيئين ينتزعهما الذهن كلما افترض وجود المنتسبين فكيف يعقل أن تكون هي الغرض من جعل تلك القاعدة أو ثبوتها.

هذا ، ولكن مع ذلك لا يمكن المساعدة على هذا الاستدلال ، لأنه لو سلم ما يدعى فيه من أن لكل علم غرضا واحدا ولو بالنوع فهو لا يكفي لاستنتاج وحدة موضوع مسائل ذلك العلم ، وبرهان الواحد لا يصدر إلا من واحد على فرض تعميمه للواحد بالنوع لا يراد منه أكثر من لزوم التطابق بين العلة الموجودة ومعلولها في السنخ فيكون قاصرا على العلة الفاعلية ومبادئ وجود شيء خارجا وليست مسائل العلم وقضاياه علة فاعلة لوقوع الكلام أو الفكر الصحيحين خارجا كما هو واضح. هذا إن أريد ترتب الغرض بالنحو الأول الحقيقي ، وأما لو أريد الغرض بالمعنى الثاني الإضافي فعدم انطباق البرهان المذكور فيه أوضح ، لأن النسبة والإضافة تابعة في الوحدة والتعدد لأطرافها فلو فرض ثبوت قضية واحدة جامعة بين مسائل العلم الواحد كانت الإضافة المنتزعة منها واحدة لا محالة ، وإلا كانت متعددة ، وليست الإضافة أمرا مستقلا في ذاتها لكي تلحظ مستقلا ويستكشف منها وحدة العلم أو تعدده موضوعا.

وهذا هو الجواب الصحيح عن الاستدلال المذكور. واما ما جاء في كلمات السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ تارة : من إنكار ترتب غرض على ذات المسائل بدليل عدم تحققه في حق الجاهلين بها فلو أريد تطبيق برهان الواحد لزم افتراض وجود وحدة بين العلوم المتعلقة بالمسائل لا بين موضوعات المسائل وأخرى : بأن مقتضى البرهان الآنف الذّكر وجود جامع بين النسب الخاصة التي ترتبط بين محمولات المسائل وموضوعاتها

٣٩

لأن الغرض يكون نتيجة ثبوت تلك النسب (١) فمما لا يمكن المساعدة عليه.

أما الأول : فلما عرفت في تصوير الغرض المترتب على مسائل العلم ؛

وأما الثاني : فلأن النسب والإضافات ليست أمورا مستقلة ـ كما عرفت أيضا ـ لكي يعقل في حقها الجامع والفرد والوحدة والتعدد بقطع النّظر عن أطرافها بل وحدتها وجامعيتها تكون بتبع وحدة طرفها دائما فافتراض وحدتها يعنى افتراض وجود قضية واحدة عامة جامعة موضوعا ومحمولا لموضوعات المسائل ومحمولاتها تكون هي المؤثرة في إيجاد الغرض الواحد.

الدليل الثاني ـ ان تمايز العلوم بتمايز موضوعاتها فلا بد وأن يكون لكل علم موضوع واحد وإلا لتداخلت العلوم فيما بينها.

وقد ناقش صاحب الكفاية ( قده ) في هذا الدليل بإنكار ما زعم فيه من أن تمايز العلوم يكون على أساس تمايز موضوعاتها بل على أساس تمايز الأغراض المترتبة عليها ، وإلا لزم أن يكون كل باب بل كل مسألة في علم علما مستقلا عن سائر المسائل لتمايز موضوعه عن موضوعها وهو واضح الفساد (٢).

ونحن وإن كنا لا نوافق على هذا الطراز من الاستدلال في إثبات وحدة موضوع العلم لكونه أشبه بالمصادرة ، حيث ان معرفة تكون تمايز العلوم بتمايز موضوعاتها فرع معرفة وجود موضوع واحد لكل علم يتميز عن موضوع غيره. إلا أن ما جاء في مناقشة صاحب الكفاية ( قده ) أيضا مما لا نوافق عليه ، لأن المدعى عند صاحب هذا الدليل ان موضوع العلم هو الجامع الذاتي بين موضوعات المسائل الّذي لا يندرج تحت جامع آخر وإلا كان هو موضوع العلم ، وموضوعات المسائل أو الأبواب داخل علم واحد تندرج كلها تحت جامع أوسع منطبق عليها فلا يمكن اعتبار كل منها علما برأسه.

ثم إن السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ حاول إبطال دعوى ضرورة وجود موضوع واحد في كل علم بالنقض ببعض العلوم كعلم الفقه حيث لا يعقل افتراض وجود موضوع

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٩

(٢) كفاية الأصول ج ١ ص ٥ ( ط ـ مشكيني )

٤٠