بحوث في علم الأصول - ج ١

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١

الطلب المتعلق بها فيكشف ذلك عن نحو وحدة اعتبارية لها ، فالمراد بالاستحداث تأسيس هذه الوحدة. ومنه يظهر عدم وجاهة ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) من أنه ليس لتلك المعاني نحو استحداث وجعل مع قطع النّظر عن جعلها في حيز الطلب أصلا (١).

إلا أن هذا التقريب غير تام ، لأن غاية ما يستنتج منه قوة احتمال اتباع الشارع للطريقة العقلائية ولا دليل على حجية مثل هذا الاحتمال.

وقد يطور هذا القريب بنحو يسلم من الاعتراض المذكور ، ببيان : أن نوعية هذه الطريقة ومركوزيتها لدى العقلاء يوجب انعقاد ظهور عرفي لدى أول استعمال شرعي في تعيين الشارع ذلك اللفظ بإزاء المعنى الشرعي الّذي استعمل فيه ، فيكون محققا لصغرى حجية الظهور.

ولكن ، مع ذلك هناك مجال واسع للمناقشة في هذا الدليل ، إذ لم يثبت اختراع الشارع لمعاني هذه الأسماء بنحو تعتبر من مختصاته على حد اختصاص المخترعات الصناعية والطبيعية بأصحابها ، لقوة احتمال ثبوت جملة منها أو مما يشابهها ـ ولو عرفا ـ في الشرائع السابقة وقد كانت معروفة شائعة بين الناس. ومما يعزز ذلك ورود كثير من الآيات القرآنية وغيرها من النصوص الشرعية تحكي ثبوت مثل الصلاة والصيام والزكاة والحج ومعهوديتها في الديانات السابقة.

ويمكن أن يقال : ان هذه الآيات المباركة لا يمكن الاستدلال بها على سبق المعاني الشرعية وان الصلاة الإسلامية كانت موجودة سابقا مع نحو من الاختلاف في الخصوصيات الّذي لا يوجب تعدد المعنى ، وذلك لاحتمال أن يكون الموجود في الشرائع السابقة سنخ عبادات أخرى لا يجمعها مع العبادات الإسلامية جامع ، بمعنى ان الصلاة العيسوية مع الصلاة الإسلامية ليستا صنفين لمركب اعتباري واحد كصلاتي المسافر والحاضر في شرعنا وانما أطلق عليها ألفاظ الصلاة وغيرها مجازا ، ولا يمكن نفي هذا الاحتمال إلا بعد إثبات الوضع للمعنى الشرعي ليتعين حمل تلك

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٤٦

١٨١

الألفاظ على المعاني الشرعية بمقتضي أصالة الحقيقة ، فلا بدّ في المرتبة السابقة من إثبات كون المعنى الشرعي حقيقيا للفظ الصلاة مثلا اما بوضع الشارع أو بوضع سابق عليه ، والثاني لا سبيل إليه إلا من ناحية ما يتوهم من دلالة هذه الآيات ، والأول يثبت المطلوب.

وقد يدعى في مقابل ذلك : ظهور آية « كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم » (١) بحد ذاتها في اتحاد سنخ الصوم وكون المراد به معناه الشرعي وإلا لزم الاستخدام في ضمير ( كما كتب ). وفيه : ان من الممكن حمله على معناه اللغوي وهو طبيعي الإمساك الجامع بين الصوم الناسخ والصوم المنسوخ فلا يلزم الاستخدام ولا يكون دليلا على سبق المركب الاعتباري المسمى بالصوم عندنا وكونه ثابتا في الشرائع السابقة. وعليه فلم دليل على قدم المعاني الشرعية.

ولكن الصحيح ان مجرد التشكيك في ذلك ولو بلحاظ الآيات المذكورة يكفي للتوقف في إثبات الوضع التعييني بالسيرة العقلائية ، بل يمكن التمسك ببعض تلك الآيات إذا ثبت نزولها في وقت متأخر من حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الظرف الّذي يطمأن فيه بأن اللفظ كان ينصرف فيه عند إطلاقه إلى المعنى الشرعي للأنس الذهني العام.

وبما ذكرناه اتضح : ان الّذي يترتب على قدم المعاني الشرعية التوقف عن إثبات الوضع التعييني لاحتمال الاستعمال فيها مجازا بعد أن لم يكن الشارع هو المخترع لا أنه يترتب على ذلك كون الألفاظ الخاصة حقائق لغوية فيها قبل الشرع ، إذ قدم المعنى لا يستلزم كونه مسمى في السابق بنفس هذا اللفظ الّذي استعمال فيه في الإسلام ليلزم كونه حقيقة لغوية فيه كما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره وقد نبه على إنكار هذا الاستلزام المحقق الأصفهاني قدس‌سره والسيد الأستاذ ( دام ظله ) وأضاف الأخير : بأنه لو سلم الاستلزام المطلوب لم يضر بالمقصود إذ لم يتعلق غرض الأصولي بخصوص الوضع الصادر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل بكون اللفظ حقيقة في المعنى الشرعي ليحمل عليه بلا توقف على قرينة ، وهذا يحصل مع ثبوت الحقيقة اللغوية أيضا (٢) إلا أن

__________________

(١) سورة البقرة آية ٣٨١

(٢) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٤٠

١٨٢

هذا الاعتراض غير وارد على صاحب الكفاية ( قده ) ، وذلك لأن ثمرة الحقيقة الشرعية عنده هي الحمل على المعنى الشرعي لا التوقف بينه وبين المعنى اللغوي ، وهذا إنما يحصل إذا ثبت وضع من الشارع إذ شأن من يؤسس معنى ويضع له اللفظ أن يخصص اللفظ به بحيث يجعل مجرد الإتيان به دالا على مخترعه بلا حاجة إلى إقامة قرينة أصلا. وبتعبير آخر : ان السيرة جارية على النقل من قبل المؤسس ، واما إذا كانت الحقيقة سابقة فلا وجه للنقل بل يكون للفظ حينئذ معنيان لغويان ونتيجة ذلك مع عدم القرينة التوقف لا محالة.

والتحقيق : أن مجرد كون المعاني الشرعية قديمة وإن كان لا يستلزم انها كانت بنفس هذه الأسماء الخاصة ولكن مع هذا يمكن دعوى ان كثيرا من تلك المعاني الشرعية كانت بنفس هذه الأسماء قبل الإسلام فيكون المعنى واللفظ كلاهما قديما فالحج مثلا وما فيه من مناسك وآداب كان معروفا ومعهودا قبل الإسلام حتى سميت السنة في اللغة بالحجة ، وكذلك الصلاة والصيام وجملة من العبادات الأخرى لم تكن غربية عن ذهنية الناس قبل مجيء الإسلام. وكأن صاحب هذه المدعي يفترض ان الإسلام جاء بهذه التصورات والمعاني في مجتمع لم يعش حياة دينية ولم يسمع شيئا عن العبادات والطقوس الثابتة في الشرائع السابقة ، ومثل هذا الزعم مما لا يساعد عليه الاعتبار التاريخي لمجتمع الجزيرة العربية قبل الإسلام ولا اللغوي.

فان مجتمع الجزيرة كان فيه جمع غفير من أصحاب الديانتين السابقتين على الإسلام ، وكان تعيش تفاعلا مستمرا مع أصحابهما وهم يمارسون مختلف عباداتهم التي جزء كبير منها مشترك بينهما وبين الإسلام ، بل كان في القبائل العربية الأصيلة نفسها من اعتنق إحدى الديانتين. ومن البعيد افتراض انهم كانوا لا يطلقون اسما عربيا على تلك العبادات رغم شيوعها ودخولها في محل ابتلائهم ، ولو كانت مسماة عندهم بأسماء أخرى لانعكس ذلك في لغتهم ولنقله تاريخ الأدب العربي لا محالة.

ومما يعزز قدم الأسماء ان الإسلام والقرآن الكريم منذ بداية الوحي طرح نفس الأسماء واستعملها لإفادة تلك العبادات يوم كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستضعفا وليس في مرحلة إيجاد عرف لغوي جديد ، وهذا يعني ان تلك الألفاظ لم تكن بدعا من التعبير

١٨٣

ولم يستغربه الناس ، وهو كاشف عن تعارفها بمعانيها العبادية قبل ذلك. بل نلاحظ ان القرآن الكريم يعرض بكفار الجاهلية وبعبادتهم فيطلق عليها في مجال التعريض اسم الصلاة ، وهذا ظاهر في أن هذا اللفظ هو الاسم الّذي كانوا يطلقونه على عبادتهم كما يطلقه الشارع على ما جاء به ، وذلك كما في قوله تعالى : « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » (١)

ويعزز هذا المدعى أيضا ما يقال : من أن ( صلوت وزكاة ) لفظتان عبريتان كانتا بمعنى العبادة المعهودة وقد عرب اللفظ وبقي محافظا على الواو في الخطّ تأثرا بأصله.

والمتلخص : أن هناك إحدى فرضيات ثلاث لا يخلو الحال من إحداها فاما أن لا تكون هذه المعاني الشرعية ثابتة قبل الإسلام ، فلا محالة تكون مخترعة من قبله فيثبت عندئذ الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني بنفس الاستعمال على التقريب المتقدم شرحه. وإما أن تكون المعاني الشرعية بأساميها ثابتة في المجتمع العربي قبل الإسلام بشكل وآخر بحيث لم يصدر من قبل الشارع عدا تغيير بعض التفاصيل والشروط غير المقومة الحقيقة ذلك المعنى الجامع ، فيثبت عندئذ ان المعاني الشرعية الجامعة بين ما جاء به الإسلام وما جاءت به الشرائع السابقة مع ما بينهما من اختلاف في التفاصيل كان ثابتا كحقائق لغوية لهذه الأسماء. واما أن يدعى ان المعاني الشرعية وإن كانت ثابتة في الجملة قبل الإسلام إلا ان استعمال نفس الأسامي فيها بدرجة تصبح حقيقة لغوية فيها لا جزم بثبوته إلا مع ملاحظة فترة مجيء الإسلام وما خلقته تشريعاته العبادية من الحاجة الاستعمالية لهذه الأسماء في المعاني الشرعية ، فيثبت عندئذ الحقيقة الشرعية التعينية.

وإنكار هذه الفرضيات جميعا وادعاء ان هذه الأسماء لم تكن حقيقة في المعاني الشرعية قبل الإسلام ولم يبلغ استعمالها فيها مرتبة الحقيقة التعينية بعد الإسلام أمر بعيد جدا مع تلك المرتبة من شيوع الاستعمالات المذكورة قبل الإسلام وبعده ـ كما عرفت ـ.

__________________

(١) سورة الأنفال آية ٣٥

١٨٤

٢ ـ ثمرة القول بالحقيقة الشرعية

ذكروا : أن ثمرة القول بالحقيقة الشرعية تظهر في النصوص الشرعية التي ورد فيها استعمال هذه الأسماء ، فأنه على تقدير ثبوت وضع شرعي لها يكون مقتضي أصالة الحقيقة حملها على إرادة المعنى الشرعي ، بخلاف ما إذا لم تثبت الحقيقة الشرعية فتحمل على إرادة المعنى اللغوي العام. ولو فرض الشك في الحقيقة الشرعية كان الاستعمال مجملا لا محالة.

وقد ذكرت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) في هذا المقام : بأن هذه ثمرة غير واقعية خارجاً لأن ظهور النصوص الواردة عن الأئمة المعصومين عليهم‌السلام في إرادة المعاني الشرعية ممّا لا ريب فيه وإنَّما النزاع فيما صدر قبل هذا التاريخ في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأحاديث النبويّة الشريفة ، وهي لم يثبت منها في طرقنا إلا ما روي من قبل أئمة أهل البيت عليهم‌السلام المتعيّن حمله على المعنى الشرعي كما عرفت (١).

ولكن الظاهر انَّ هذه الدعوى لا مأخذ لها. إذ لو سلّمنا صحّتها في حق ما يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما ظنّك بالنصوص القرآنية التي يكثر فيها استعمال أسامي العبادات والمعاملات. على أنَّ هناك جملة من الأحاديث النبوية التي نقلت في طرقنا حرفيّاً تحفّظاً وتيمّناً بكلامه الشريف ، فلم يبق إلا دعوى العلم بالمراد في كل تلك الأحاديث ، وهذه ليست بأقلّ من دعوى العلم بالمراد في تمام موارد استعمال هذه الأسماء ابتداءً بحيث لا يبقي مجال للثمرة.

وحيث يفرض الشك في المراد من اللفظ الصادر من الشارع وتنتهي النوبة إلى الرجوع إلى المباني في مسألة الحقيقة الشرعية فيقال : إن ثبتت الحقيقة الشرعية بنحو يوجب النقل كما هو الحال على مسلك الوضع التعييني بالاستعمال بالتقريب المتقدم تعين النقل كما هو الحال على مسلك الوضع التعييني بالاستعمال بالتقريب المتقدم تعين الحمل على المعنى الشرعي. وإن ثبتت بنحو يوجب الاشتراك ، كما هو الحال لو كانت حاصلة لمجرّد كثرة الاستعمال بدون هجر المعنى السابق ، فالحكم هو التوقّف ،

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٣٣

١٨٥

وكذلك الأمر لو ثبت كون الألفاظ الخاصة حقيقة عرفية أو لغوية في معانيها الشرعية فانَّه مساوق للاشتراك الموجب للتوقّف. وإن قيل بأنَّها مستعملة في لسان الشارع مجازاً تعيّن الحمل على المعنى اللغوي ما لم يفرض وصول المجاز إلى درجة من الشهرة يمكن أن يزاحم فيها الحقيقة بأن يكون انصراف المعنى المجازي من اللفظ بلحاظ كثرة الاستعمال فيه مضاهياً لانصراف المعنى الحقيقي منه غاية الأمر انَّ هذا انصراف من حاق اللفظ والوضع حيثية تعليلية للانصراف وذاك انصراف من اللفظ منضماً إلى معهودية كثرة الاستعمال على نحو تكون هذه المعهودية حيثية تقييدية. وإن قيل بالاستعمال في المعنى اللغوي وإقامة قرينة على فرده الخاصّ أو على باقي الأجزاء والشرائط ، فإن كانت القرينة عامة فلا بدّ من حمل اللفظ على المعنى الشرعي دائماً إلا حيث يحتف اللفظ بما يوجب إجماله ، وإن كانت القرينة خاصة كان حالة حال المجاز. وامَّا إذا علم بالحقيقة الشرعية والنقل ولكن شك في زمان صدور الكلام وانَّه هل كان قبل ذلك ليحمل على المعنى اللغوي أو بعده ليحمل على المعنى الشرعي ، فقد تقدّم تحقيق ذلك على وجه كلّي في بحث تعارض الأحوال فلاحظ.

٢ ـ الصحيح والأعم

اختلفت كلمات الأعلام في تحديد مدلول ألفاظ العبادات والمعاملات من حيث اختصاصه بالنوع الصحيح منهما أو شموله للأعم من الصحيح والفاسد وتنسيقاً للبحث نصنف المسألة إلى مقامين رئيسين رغم اشتراكهما في جملة نكات ، نتكلّم في أولهما عن أسماء العبادات وفي ثانيهما عن أسماء المعاملات.

أسماء العبادات

امَّا المقام الأوّل ، فالكلام فيه يقع من جهات عدّة :

١٨٦

مدى ارتباط البحث بالحقيقة الشرعية

الجهة الأولى ـ في العلاقة بين هذا البحث والبحث المتقدم عن الحقيقة الشرعية.

قد يتبادر إلى الذهن في أوّل وهلة توقّف هذا البحث على ثبوت الحقيقة الشرعية ، بمعنى ثبوت مدلول شرعي لهذه الأسماء لكي يبحث عن اختصاصه بالصحيح أو شموله للفاسد أيضا ولكن الصحيح جريان هذا البحث سواء قيل في البحث السابق بالحقيقة الشرعية أو العرفية أو المجاز.

امَّا على القول بالحقيقة الشرعية فواضح ، وامَّا على القول بأنَّ الأسماء حقائق عرفيّة في نفس المعنى الشرعي ، فلرجوع النزاع إلى البحث عن تحديد ذلك المعنى الحقيقي لدى العرف وهل هو الصحيح أو الأعم؟

وأمَّا على القول بالمجاز ، فقد ذكر بشأن تصوير هذا النزاع بناء عليه أيضا وجوه :

الأول : ما جاء في كلمات صاحب الكفاية ( قده ) من رجوع النزاع على القول بالمجاز إلى تحديد المجاز الأقرب الّذي لا بد وأن

يحمل عليه اللفظ عند القرينة على عدم إرادة معناه الحقيقي ، فهل هو الصحيح أو الأعم؟ وبكلمة أخرى. انَّ أي المعنيين قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي الصحيح من أفراد المعنى الشرعي أو الأعم منه ومن الفاسد لكي يحمل عليه اللفظ ولو لم تكن قرينة معيّنة.

ثمَّ اعترض عليه : بأنَّ اللفظ إن أطلق بلا قرينة أريد منه المعنى الحقيقي لا محالة ، وإلا فلا بدَّ لإثبات المعنى المجازي وتعيينه في المعنى الصحيح أو الأعم من القرينة ، ولو بأن تكون قرينة شخصية عامة في محاورات الشارع ، وأنَّى يمكن إثبات مثل هذه القرينة (١).

وهذا الاعتراض غير وارد ، إذ الطولية بين المعاني المجازية ممَّا لا ينبغي إنكاره ـ كما شرحناه في بحوث الوضع ـ لأنَّ المجاز يكون على أساس العلاقة والمناسبة بين المعنى المجازي والحقيقي الّذي يقتضي قرناً بين اللفظ وبين المعنى المجازي في طول قرنه مع

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٣٥ ( ط ـ مشكيني )

١٨٧

معناه الحقيقي ، فيعقل أن يكون بعض المعاني المجازية أقرب إلى اللفظ وآكد في اقترانه الطولي من البعض الآخر إمَّا لكون الأخير في طول الأوّل بحيث يكون الانتقال إليه بتوسّط الأوّل ، أو لكون المجاز الأوّل أكثر شبهاً بالمعنى الحقيقي من المجاز الثاني.

إلا أنَّ تطبيق هذه الكبرى على محل البحث لا يخلو من منع ، إذ لا مجال لزعم طولية الأعم للصحيح بعد أن كانت العلاقة المصححة محفوظة فيها بدرجة واحدة عرفاً. وأوضح منه فساداً توهّم طولية الصحيح للأعم.

الثاني : ما جاء في تعليق المحقق الأصفهاني ( قده ) على الكفاية من أنَّ النزاع حينئذ في أنَّ اللفظ قد استعمل عند الصحيحي في الصحيحة لعلاقة بينها وبين المعنى اللغوي ، وفي الفاسدة لا لعلاقة بينها وبين المعنى الأصلي ولا للمشاكلة بينها وبين الصحيحة بل من جهة تصرّف في أمر عقلي وتنزيل المعدوم من الأجزاء والشرائط منزلة الموجود ، لئلا يلزم سبك مجاز في مجاز فلا مجاز أصلاً من حيث المعنى إلا في استعمال اللفظ في الصحيحة ، وحيث انَّ الاستعمال دائماً في الصحيحة من حيث المفهوم والمعنى فمع عدم القرينة على التصرف في أمر عقلي يحمل على الصحيحة ويترتّب عليه ما يترتّب على الوضع للصحيحة من الثمرة. وأمَّا الأعمي ، فهو يدّعي أن اللفظ دائماً مستعمل في الأعم وإفادة خصوصية الصحيحة والفاسدة بدال آخر ، فمع عدم الدال الآخر يحمل اللفظ على ظاهره ويتمسّك بإطلاقه (١).

وهذا التقريب للنزاع أيضا لا تساعد عليه الطرائق العرفية في باب المحاورة ، إذ لو لم تمنع عرفية إعمال مجازين ولو كان أحدهما ادعائيّاً بعد إمكان الاستعمال المجازي لانحفاظ نفس العلاقة سنخاً ، فلا إشكال في عرفية الاستعمال في الأعم ابتداءً بل وقوعها خارجاً ، كما في موارد التقسيم إلى الصحيحة والفاسدة التي يتعيّن فيها الاستعمال في الجامع.

هذا بالنسبة لما ذكره في حقّ الصحيحي ، وامَّا ذكره في حقّ الأعمّي فالمفارقة فيه باعتبار انَّ إفادة المعاني بتعدّد الدال والمدلول وإن كانت طريقة متّبعة عرفاً ولكنها

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٤٨ ـ ٤٩ ( المطبعة العلمية ـ قم )

١٨٨

تتخذ في موارد يراد فيها التحفّظ على الحقيقة ، أمَّا حيث يكون الاستعمال مجازيّا على كلّ حال فلا يبقى موجب عرفي لاستعمال هذه الطريقة زائداً على ارتكاب المجاز.

الثالث : وهو الوجه الصحيح ـ أن يكون النزاع في تحديد مفاد القرينة العامة التي كان يعتمدها الشارع في استعمالاته المجازية ، فالصحيحي يدّعي انَّ مفادها الصحيح ، والأعمّي يدّعى أنَّه الأعم.

ودعوى : تعسر معرفة مفاد القرينة العامة الارتكازية لعدم كونها على حدّ القرائن الخاصّة حسيّة مدفوعة : بإمكان تحديد ذلك عن طريق التبادر وما ينسبق من الاستعمالات الشرعية إلى الذهن ، فانَّه يكون شاهداً على تحديد مفاد القرينة الارتكازيّة العامة بعد فرض عدم كونه المعنى الموضوع له.

معنى الصحة والفساد

الجهة الثانية : في المراد بالصحّة والكلام في ذلك من عدة نقاط :

١ ـ في معنى الصحّة والفساد. فقد ذكروا للصحة معاني مختلفة من موافقة الأمر أو تحصيل الغرض أو سقوط القضاء والإعادة ، والفساد ما يقابل ذلك. وعلّق عليه في كلمات السيد الأستاذ ( دام ظلّه ) : بأنَّ هذه لوازم شرعية قد تترتّب على معنى الصحة وليس شيء منها معناها بالدقة ؛ وإنَّما الصحّة تعني التمامية من حيث الأجزاء والشرائط والفساد نقصانه من حيث أحدهما ، ولذلك كانت الصحة والفساد خاصّين بالمركّبات دون البسائط (١).

والواقع أنَّ معنى الصحّة والفساد لا يساوق التمامية والنقصان أيضا ، بل الصحة في شيء تعني وجدانه للحيثية المرغوب فيها من وراء ذلك الشيء سواءً كان ذلك في المركبات المشتملة على أجزاء وشرائط أم لا ، ولذلك يصحّ عرفاً توصيف ما لا جزء له ولا شرط بالصحّة والفساد ، فيقال مثلاً هذه الفكرة صحيحة أو فاسدة ، بمعنى مطابقة للواقع أم لا ، أو مؤدّية إلى المصلحة أم لا.

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٤٣ ( مطبعة الآداب ـ النجف الأشرف )

١٨٩

ومنه يعرف : أنَّ التمامية من حيث الأجزاء والشرائط التي جعلها الأستاذ معنى للصحة ـ فضلاً عن تفسيرنا نحن ـ تكون الحيثيّات المتقدمة عن الاعلام مقومة لها وليست مجرّد لوازم شرعية للعمل الصحيح ، لأنَّ تمامية عمل أو وجدانه للحيثية المطلوبة كلاهما أمر نسبي لا بدَّ من ملاحظتهما بالإضافة إلى جهة ومعنى ، كسقوط الأمر أو موافقته أو حصول الغرض منه ليمكن انتزاع وصف الصحة أو الفساد للعمل بلحاظ ذلك ، وإلا فكلّ شيء لو لوحظ بذاته كان تاماً وواجداً لأجزاء ذاته. ولعلَّ هذا مقصود المحقق الأصفهاني ( قده ) حينما ادّعى انَّ هذه الحيثيات ليست من لوازم التمامية فحسب بل ممَّا تتم بها حقيقة (١) وبما أنَّ الجهة الملحوظة المطلوبة في العبادات ليست إلا ما ذكر من موافقة الأمر أو سقوط الإعادة والقضاء أو تحصيل الغرض العبادي وكلّ منها يعبّر عن حيثيّة مطلوبة في العمل العبادي ، فالصحة والفساد في العبادة يكونان بالقياس إلى هذه الحيثيات لا محالة.

٢ ـ انَّ الصحيحي ، تارة : يقصد أخذ ما هو الصحيح بالحمل الشائع من أفراد المعنى الشرعي في مدلول الاسم وأخرى : يقصد أخذ مفهوم الصحيح فيه.

أمَّا التقدير الأول ، فسوف يقع البحث عنه وعن كيفية تصوير الجامع ـ بناء عليه ـ بين الأفراد الصحيحة.

وأمَّا التقدير الثاني : فان كان الغرض مجرّد التسمية فلا كلام. وإن كان الغرض تصوير مسمَّى للفظ يصلح أن يكون تفسيراً لما وقع متعلّقاً للأحكام في خطابات الشارع فمن الواضح أن ما يكون من قبيل عنوان موافقة الأمر المنتزع في طول تعلّق الأمر الشرعي لا يمكن أخذه في مدلول اللفظ الواقع موضوعاً للأمر الشرعي. نعم ، عنوان محصّل الغرض ليس عنواناً طولياً ثبوتاً بل إثباتا ، فلا مانع من أخذه في المعنى الا أنَّ أصل هذا التقدير غير محتمل في نفسه لوضوح عدم تبادر مفهوم الصحة من أسماء العبادات ، وانَّما المعقول دعوى تبادر واقع الصحيح من أفرادها.

٣ ـ لا إشكال في اعتبار الصحّة من حيث الأجزاء على القول بالصحيح ، انَّما

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٥٠ ( المطبعة العلمية ـ قم )

١٩٠

الكلام في اعتبار الصحة من حيث الشرائط حتى ما لا يمكن أخذه منها في متعلّق الخطاب كقصد القربة والوجه. وكذلك القيود اللبيّة كعدم المزاحم ـ لو قيل باشتراطه في صحة العبادة ـ وعدم النهي ـ لو قيل باقتضائه الفساد ـ أمَّا الشرائط ، فالظاهر ملاحظة الصحة من ناحيتها كالأجزاء تماماً ، غاية الأمر أن دخلها يكون بنحو دخول التقليد وخروج ذات القيد والشرط عن المسمّى.

وقد نقل السيد الأستاذ ( دام ظلّه ) عن تقرير بحث الشيخ الأنصاري ( قده ) دعوى : عدم إمكان ذلك ، لأنَّ الشرط في طول المشروط فيكون في طول أجزاء المشروط أيضا فيستحيل أن يؤخذ معها في عرض واحد.

ثمَّ علّق عليه الأستاذ : بأنَّ الترتّب المزعوم بين الشرط والجزء بلحاظ عالم الوجود لا المفهوم فلا مانع من ملاحظتهما معاً في مقام التسمية (١).

ولكنَّ ، الواقع أن أصل الاعتراف بالطولية بين الشرط والجزء في غير محلّه حتى بلحاظ عالم الوجود ، وانَّما الطولية المدعاة في محلّها بين الشرط بما هو شرط والمقتضي المشروط به بما هو مقتضي ، أي بينهما في مقام التأثير ، حيث يزعم بأن تأثير الشرط متأخر رتبة عن تأثير المقتضى لأنه مصحح لفاعلية الفاعل أو قابليّة القابل فيكون متأخراً في مقام التأثير عن اقتضاء المقتضي. وحيثية التأثير غير مأخوذة في اللفظ عند الصحيحي وانَّما المأخوذ ذات الشرائط والأجزاء ، ولا طولية بينهما نعم لو أخذ مفهوم الصحيح بما هو صحيح ومؤثّر في الغرض كان لتلك الدعوى مجال.

وأمَّا قصد القربة والوجه ، فاعتباره في الصحة مبتن على البحث المعروف حول إمكان أخذ قصد القربة ونحوه من القيود في متعلّق الأمر ، لما أشرنا إليه الآن من أنَّ غرض الصحيحي تصوير معنى لأسامي العبادات يصلح أن تقع به متعلقة للأحكام في الخطابات الشرعية ، فما لا يمكن أخذه متعلّقاً للأمر الشرعي لا ينبغي للصحيحي أن يدّعي أخذه في المسمَّى ولو كان معتبراً في الصحة شرعاً أو عقلاً.

وأمَّا عدم النهي والمزاحم ، فان كان النهي أو المزاحم مضافين إلى المسمّى بما هو

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٤٥ ( مطبعة الآداب في النجف الأشرف )

١٩١

مسمَّى كانا في طول المسمَّى لا محالة وقد عرفت منافاة أخذه لغرض الصحيحي ، وإن كانا مضافين إلى ذات المسمَّى أمكن أن تلحظ الصحة من ناحيتهما أيضا كما هو الحال في سائر القيود.

تصوير المعنى الجامع على كلا القولين

الجهة الثالثة : لا ينبغي الإشكال في أنَّ هذه الأسماء تعتبر من متّحد المعنى كأسماء الأجناس وليست ذات معان متعدّدة ، كما يشهد بذلك إطلاقاتها في لسان الشارع والمتشرّعة. وعلى هذا الأساس كان لا بدَّ على كلا القولين في هذا البحث من تصوير معنى جامع يشترك فيه جميع الأفراد الصحيحة أو الأعم من الصحيحة والفاسدة.

وفيما يلي نتحدث أولا عن كيفية تصوير جامع للأفراد الصحيحة ، ثمَّ نتحدّث عن الجامع الأعم.

١ ـ تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة

وقد استشكل في إمكانه جملة من الأعلام ، لشدة تباين الأفراد الصحيحة واختلافها من حال إلى حال خصوصاً في مثل الصلاة من العبادات.

والصياغة الفنية للإشكال المذكور : أن هذا الجامع أمَّا أن يكون مركباً أو بسيطاً وكلاهما لا يصحّ. أمَّا الجامع المركّب ، فلأنَّه لو أخذت فيه جميع القيود لم ينطبق على الفاقد لبعضها الصحيح في حال العذر ولو أخذ ما يعتبر في جميع الحالات انطبق على الفاقد حال الاختيار وهو من الفاسد. وأمَّا الجامع البسيط ، فلو أريد به الجامع الذاتي في كتاب الكليّات فهو غير معقول ، لاستحالة وجود جامع كذلك بين قيود متباينة سنخاً. ولو أريد الجامع الذاتي في كتاب البرهان ، أي ما يكون من لوازم الماهية فكذلك غير معقول ، لأنَّ لازم الماهية يكون بمثابة المعلول لها ويستحيل وجود لازم واحد لأمور متباينة سنخاً. ولو أريد مطلق الجامع البسيط ولو كان منتزعاً بلحاظ جهة عرضية ـ كالناهي عن الفحشاء والمنكر مثلا ـ فهذا وإن أمكن ثبوتا ولكنه غير محتمل إثباتاً ، لاستلزامه عدم صدق الاسم إلا بعد ملاحظة الجهة العرضية المصححة لانتزاع

١٩٢

الجامع العرضي ، مع أنَّه لا شك بحسب الارتكاز الشرعي والمتشرّعي في الصدق من دون ملاحظة شيء من الجهات العرضية الإضافية.

وهذه الصيغة الفنية للاستشكال يمكن أن تذكر في حلّها عدّة وجوه :

الأول : وهو الوجه المختار ـ انَّه لا موجب لافتراض أخذ كل الأجزاء والشرائط المعتبرة في الافراد الصحيحة جمعاً في الجامع التركيبي ليستحيل صدقه على الفاقد لبعضها ، بل يؤخذ في الجامع التركيبي ما يلي :

أولا : القيود المعتبرة في صحة الفعل مطلقا وفي جميع الحالات ـ كقصد القربة ـ فتؤخذ في الجامع التركيبي تعيينا.

ثانياً : القيود المعتبرة في الفعل بنفسها أو ببدلها العرضي التخييري كالفاتحة والتسبيحات الأربع في الأخيرتين ـ فيؤخذ في الجامع التركيبي الجامع بينها وبين بدلها العرضي.

ثالثا : القيود المعتبرة في الفعل بنفسها أو ببدلها العرضي التعييني كالوضوء من المحدث بالأصغر والغسل من المحدث بالأكبر وكالأخيرتين في الرباعية من الحاضر وتركهما من المسافر ـ فيؤخذ الجامع بينها وبين بدلها مع تقييد كلّ منهما بموضوعه فيكون صادقاً في الحالتين معاً.

ورابعاً : القيود المعتبرة ولها بدل طولي ـ كالجلوس بدلاً عن القيام أو التيمّم بدلاً عن الوضوء والغسل في حالة الاضطرار ـ وحاله حال القسم السابق يؤخذ الجامع بين البدلين مع التقييد بحالتي الاختيار والاضطرار.

إن قلت ـ انَّ التقييد بمطلق الاختيار يلزم منه تعلّق الأمر بالجامع بين البدلين كلّ في موضوعه ، وهو يستلزم جواز اختيار المكلّف للفرد الاضطراري فيما إذا حقق موضوعه فيجوز له أن يصبّ الماء مثلاً ويتيمّم ، والتقييد بخصوص الاضطرار لا بسوء الاختيار يلزم منه عدم شمول الفرد الاضطراري بعد سوء الاختيار مع كونه صحيحاً وان المكلّف آثماً.

قلت : هذا الإشكال غير مربوط بالتسمية بل بالأمر وكيفية تعلّقه بالفعل ثبوتاً ، وحلّه : بافتراض وجود أمرين أمر بالجامع المذكور وأمر آخر بخصوص الفرد الاختياري

١٩٣

مقيداً بالقدرة عليه عقلاً.

وخامساً : القيود المعتبرة في حال الاختيار ونحوه فقط من دون بدل عنها في غير تلك الحال ـ كما في ترك البسملة تقيّة مثلاً ـ والإشكال في كيفية أخذ هذا القسم من القيود لعلّه أشدّ منه في الأقسام السابقة ، إذ لا جامع بين أمرين كي يمكن ان يؤخذ في المركّب مع تقييد كلّ منهما بموضوعه ولكن الصحيح مع ذلك إمكان تصوير أخذه في الجامع بأحد نحوين :

١ ـ أن نضيق من دائرة صدق الجامع التركيبي من دون أخذ ذلك القيد فيه فيقيد بما لا يكون فاقداً للبسملة من دون تقية. وهذا وإن كان يؤدّي إلى عدم دخول الجزء حال الإتيان به في المسمَّى ، إلا أنَّ ذلك لا ضير في الالتزام به على القول بالصحيح ، ولا ارتكاز متشرّعي ينفيه بعد ملاحظة أن حالات التقيّة ونحوها لا يمكن أن تفترض بالنسبة إلى جميع الأجزاء المهمّة للصلاة وانَّما تنعقل في مثل البسملة من الأجزاء.

٢ ـ أن يؤخذ الجامع بين ذلك الجزء وتقيد الأجزاء الأخرى بحال التقية ونحوها ، كما كان في بعض الأقسام المتقدمة. ومنه يعرف : أن ما يجوز تركه لا إلى بدل في حالة الاضطرار إذا كان مستوعباً أو النسيان يمكن أخذه أيضا في الجامع التركيبي بالنحو الأول.

وقد يستشكل في معقولية أخذه بالنحو الثاني بدعوى : انَّ الجامع بينه وبين التقيد بالاضطرار أو النسيان لا يمكن تعلّق الأمر به ، لعدم إمكان انبساطه على التقيد المذكور ، أمَّا لعدم القدرة عليه كما في الاضطرار ، أو لعدم إمكان الانبعاث عنه كما في النسيان.

وفيه : أوّلاً : سوف يأتي أنَّ الجامع بين غير المقدور والمقدور ويمكن الأمر به ، فلا إشكال في التقييد بالاضطرار.

وثانياً : لا مانع من أخذ جامع من هذا القبيل في التسمية ولو فرض عدم انبساط الأمر على التقيد المذكور للقرينة العقلية. وهكذا يتّضح إمكان تصوير جامع تركيبي يختص بالأفراد الصحيحة.

١٩٤

إن قيل ـ هب أنَّكم استطعتم بهذه العنايات تصوير جامع تركيبي تشترك فيه جميع أفراد الصحيحة ، ولكن العرف لا يساعد على افتراض مثل هذا الجامع المعقّد الهوية مدلولاً للألفاظ التي معانيها أبسط من ذلك في نظره خصوصاً إذا أدخلنا في الحساب القيود اللبيّة من عدم النهي والمزاحم التي لا تنحصر تحت ضابط وحد.

قلنا ـ نمنع أن تكون أسامي لبعض العبادات أبسط من ذلك عرفاً بناء على القول بالوضع للصحيح ـ خصوصاً مثل الصلاة التي فيها نحتاج إلى مثل هذا الجامع التركيبيّ المعقّد ، فانَّ العرف يدرك أيضا أن للصلاة آداب وتفاصيل كثيرة ولا ضرورة في افتراض أن العرف يستحضر بصورة تفصيلية كافة شرائطها وتفاصيلها بل يدرك إجمالاً أن المسمَّى له خصوصيات معيّنة يرجع فيها إلى الشارع المخترع لها ، نظير أسامي كثير من المعاجين والمركّبات التي قد لا يعرف العرف أجزائها تفصيلاً.

الثاني : ما حاوله المحقق الخراسانيّ ( قده ) في تصوير الجامع على الصحيح. ويتألّف من نقطتين :

١ ـ أن المأثور في النصوص الدينية ترتب أثر مشترك على الأفراد الصحيحة خاصة ، وهو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر ـ ولو اقتضاء ـ.

٢ ـ أنَّ وحدة الأثر سنخاً تكشف عن وحدة المؤثر سنخاً لا محالة. والنتيجة المتحصلة منهما وجود جامع واحد بين الأفراد الصحيحة خاصة يكون هو العلة في إيجاد الأثر المشترك. والظاهر انَّ مقصوده إثبات جامع بسيط ذاتي بين الأفراد الصحيحة بقرينة اعتماده على المقدّمة الثانية (١).

وقد اعترض على هذا الوجه في كلمات جملة من الأعلام من وجوه :

أولها : أن مجال تطبيق القانون الفلسفي المتقدّم هو لوازم الوجود الواحد أو الحقيقة الواحدة ، فلا مأخذ لتطبيقه على الأمور الاعتبارية أو الانتزاعية كعنوان النهي عن الفحشاء والمنكر الّذي هو نظير عنوان الطويل ينتزع عن حقائق مختلفة ، لأنَّ نسبة هذه الأعراض إلى موضوعاتها نسبة العرض إلى منشأ انتزاعه لا نسبة اللازم إلى علّته. فهذا

__________________

(١) راجع كفاية الأصول ج ١ ص ٣٦ ( ط ـ مشكيني )

١٩٥

الوجه موقوف على إثبات أثر ذاتي مشترك بين الأفراد الصحيحة وأنَّى يمكن ذلك.

ثانيها : ما تقدّم من استحالة وجود جامع بسيط مشترك بين الأفراد الصحيحة ، لأنَّ وجود جامع ذاتي بمعنى الذاتي في كتاب الكليّات خلف تكثر الأفراد وتباينها في الحقيقة ، والذاتي في كتاب البرهان معلول للذات فلا يعقل أن يكون جامعاً لمقولات متباينة والجامع العرضي قد عرفت عدم احتمال وضع الاسم له إثباتاً.

ثالثها : ما أفاده السيد الأستاذ ( دام ظلّه ) من استلزامه خروج المشخّصات الفردية للصحيح في كلّ مورد عن المسمَّى ، مع أنَّه لا إشكال في دخولها في العبادة (١).

وفيه : إن أريد دخالتها في تحقق الجامع وانتزاعه ، فهو مسلم لكنه لا يلزم دخولها في المسمَّى بل المسمَّى ذات الجامع ، وإن أريد دخالتها في التأثير وإيجاد الأثر المشترك فهو ممنوع على ضوء قانون الواحد لا يصدر إلا من واحد.

رابعاً : النقض بالقيود الثانوية ـ كقصد القربة ـ إذ لو أخذت في المسمى لم يمكن وقوعه متعلقا للخطاب الشرعي وإن لم تؤخذ فيه لم يترتب الأثر المشترك عليه لكي يكشف عن الجامع.

وفيه : لو فرض تبني الصحيحي لاستحالة أخذ القيود الثانوية في متعلّق الأمر أمكنه أن يجعل المسمَّى ما يكون مؤثّراً في إيجاد ذلك الأثر المشترك لو انضمّ إليه قصد القربة ، فيكون الجامع بوجوده التعليقي المفاد بقولنا ( ما لو انضمّ إليه قصد القربة كان ناهياً عن الفحشاء والمنكر ) مسمَّى للفظ ولا ضير في كونه تعليقيّاً انتزاعيّاً ، لأنَّه لا يتوقّف على ملاحظة أمر غريب خارج عن ذات المؤثر.

الثالث : ما أفاده المحقق العراقي ( قده ) : من إمكان تصوير جامع وجودي لا ذاتي بين الأفراد الصحيحة باعتبار اشتراكها جميعاً ـ ولو كانت متفاوتة سنخاً وذاتاً ـ في الحيثيّة الوجودية الموجبة لانتزاع عنوان الوجود منها ، فإذا قلنا بأنَّ دخل تلك المقولات المتباينة في الصلاة بلحاظ دخل حيث وجودها الحاوي للمراتب المحفوظة في المقولات بلا دخل خصوصية المقولية في حقيقة الصلاة فلا ضير من جعل الصلاة عبارة عن مفهوم

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٥٤

١٩٦

منتزع من هذا الوجود الجامع بين الوجودات المحدودة المحفوظة في كلّ مقولة ، مع أخذه من حيث الزيادة والنقصان من سنخ التشكيكات القابلة للانطباق على القليل تارة والكثير أخرى (١).

والغريب : أنَّ السيد الأستاذ ( دام ظلّه ) حمل كلامه على إرادة الوضع للوجود الخارجي. فأورد عليه : بأنَّ الوجود غير مأخوذ في معاني الألفاظ إطلاقاً ، بل الموضوع له اللفظ ذات المعنى والمفهوم الصالح للوجود خارجا أو ذهنا (٢) مع أن عبارته واضحة في إرادة الوضع بإزاء المفهوم المنتزع من الوجود الجامع.

والصحيح في بيان وجه المفارقة ، أنا لو تعقلنا اشتراك مقولات متباينة سنخا في حيثية وجودية واحدة حاوية لجميع تلك المراتب فلا شبهة في أن تلك الحيثية الوجودية باعتبار واقع الوجود وحقيقته لا يمكن أن ينالها الذهن بل غاية ما يمكن للذهن أن ينال منه عنوان عرضي مشير إليه كعنوان الوجود والموجود ، وواضح أن مثل هذا العنوان ليس مدلولا لأسامي العبادات.

وبكلمة أخرى : ان الحيثية الوجودية من دون انتزاع مفهوم منها لا يصح وضع اللفظ لها لعدم إمكان وضع اللفظ للوجود الخارجي ابتداءً كما أشار إليه السيد الأستاذ ، فلا بدَّ إذن من انتزاع مفهوم. فان كان المفهوم المنتزع عنواناً أوليّا ماهويّاً عاد المحذور ، لتعذر تصوير جامع ماهوي مقولي واحد لعناصر الصلاة المتباينة مقوليّاً ، وإن كان المفهوم المنتزع عنواناً عرضيّاً في طول عناوين القيام والسجود والقراءة ونحو ذلك فهو أمر معقول ولكن مرجعه إلى تصوير الجامع الانتزاعي ، ويرد عليه ما تقدّم في تصوير الإشكال من عدم إناطة تطبيق الصلاة على مصداقها على ملاحظة أي حيثيّة عرضية إضافية وراء تصوّر نفس العناوين الأوليّة لأفعالها.

الرابع : ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) من أنَّ الشيء إذا كان مؤتلفاً من مقولات متباينة وأمور عديدة بحيث تزيد وتنقص كمّاً وكيفاً ، فمقتضى الوضع له بحيث يعمّ

__________________

(١) مقالات الأصول ج ١ ص ٤٠

(٢) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٦٠

١٩٧

كلّ تلك الموارد ويجمع كلّ متفرقاتها أن تلاحظ بنحو مبهم في غاية الإبهام بمعرفيّة بعض العناوين الغير المنفكّة عنها كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر ، فيوضع له اللفظ. وهذا واقع في العرف في مثل الخمر مثلاً الموضوع لمائع مبهم من حيث مرتبة الإسكار ومن حيث كونه متخذاً من العنب أو التمر أو غير هما ، ومن حيث كونه ذا طعم خاص أو لون مخصوص أو غير ذلك من الجهات (١).

وفيه : إن أريد انَّ المسمّى مبهم ثبوتاً فهو غير معقول حتى فيما يصطلح عليه بالمبهمات فضلا عن أسامي العبادات أو المعاملات التي هي كأسماء الأجناس ، فانَّ المبهمات لا إبهام فيها من حيث المعنى والمفهوم الموضوع له اللفظ ، وانَّما إبهامها من حيث انطباقها في الخارج. وإن أريد انَّ المسمَّى معنى عرضي يشار به إلى واقع تلك المركبات فيكون مبهماً لعدم تبيّن المركّب المشار إليه به ـ كعنوان الجامع لما أمر به الشرع ـ فهو خلاف الوجدان العرفي والمتشرّعي القاضي بأنَّ أسامي العبادات والمعاملات كأسماء الأجناس تحكي عن عناوين تفصيلية حقيقية. ومنه يظهر ما في دعواه وضع الخمر لمائع مبهم ، فانَّ الخمر كأسماء الأجناس الأخرى موضوعة لمعنى مبين ولكنَّه ملحوظ لا بشرط من حيث مرتبة الإسكار ، أو المنشأ المأخوذ ـ على القول بعدم اختصاصه بما يتخذ من عصير العنب ـ أو غير ذلك من الجهات.

ويحتمل أن يكون مراده ( قده ) الإبهام في تشخيص المعنى الموضوع له لدى العرف ، كما في أسامي بعض المركّبات والمعاجين. ولو لا اعترافه ( قده ) بعدم معقولية الجامع التركيبي للأفراد الصحيحة لكنا نتأكّد من إرادته هذا المعنى وكان يرجع إلى الوجه المختار.

٢ ـ تصوير الجامع الأعم

أمَّا تصوير الجامع على القول بالوضع للأعم ، فقد استشكل في إمكانه المحقق الخراسانيّ ( قده ) رغم أنَّه صوره فيما سبق على القول بالصحيح. وملخص ما أفاده : أنَ

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٥٥ ( المطبعة العلمية ـ قم )

١٩٨

الجامع البسيط للأعم لا سبيل إليه بعد عدم اشتراك الأفراد الفاسدة مع الصحيحة في الأثر ، والجامع التركيبي غير معقول ، إذ لو أخذت الأركان مثلاً بشرط شيء من ناحية سائر القيود والأجزاء لزم عدم الصدق على الفاقد لها ، وإن أخذت لا بشرط من ناحيتها لزم أن يكون إطلاق الاسم على الواجد لها بخصوصه مجازاً بعلاقة اشتمال على ما يكون صلاة (١).

وهذا الاستشكال ليس بشيء. أمَّا إذا شئنا السير حسب منهجه في تصوير الجامع فلإمكان تصويره بسيطاً ومركّباً. أمَّا بسيطاً ، فبأن نجعل المسمَّى عبارة عمَّا يكون مؤثراً شأناً في النهي عن الفحشاء والمنكر أي ولو في بعض الحالات والملابسات. لأنَّ الفاقد لبعض الأجزاء أو الشرائط غير الركنية عرفاً يكون صحيحاً في حالات العذر ونحوه ؛ فيكون الجامع البسيط للصحيح المستكشف ببركة القانون الفلسفي المتقدم بنفسه جامعاً للأعم ولكن لا بوجوده الفعلي المخصوص بالصحيح بل الشأني المحفوظ في الأعم.

وأمَّا مركباً ، فبأخذ الأركان لا بشرط من حيث انضمام الأجزاء الأخرى ومحذور : استلزام ذلك لعدم صدقه على الواجد بما هو واجد قد تصدّى السيد الأستاذ ( دام ظلّه ) إلى دفعه : بأن اللا بشرطية قد تكون بنحو لا يضر به فقدان القيد مع كون وجوده داخلا في المسمَّى. وقد مثّل له بالكلمة العربية المأخوذة لا بشرط من حيث الزيادة على حرف أو حرفين مع دخول الزائد في مسمَّى الكلمة على تقدير وجوده (٢).

والتحقيق : انَّ اللا بشرطية ليس لها إلا معنى واحد ، وهو الإطلاق المقابل للتقييد الّذي يعنى رفض القيد وهو يلازم خروجه وجوداً وعدماً. نعم ، لو قيل بأنَّ الإطلاق بمعنى جمع القيود أمكن أن يكون القيد في حال وجوده مقوماً وفي حال عدمه غير مقوم ، ولكنه فاسد مبنى كما حقّق في محلّه ، وبناء لاستلزامه أن يكون المسمَّى الأفراد الخارجية بما هي أفراد فتكون الأسماء من متكثر المعنى على حدّ الحروف والهيئات.

والصحيح أن يقال : أن الجامع المركب إذا أريد على نحو يتضمّن الأركان

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٣٩ ( ط ـ مشكيني )

(٢) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٦٩

١٩٩

بعناوينها التفصيلية فالإشكال منجز ، سواء لوحظت هذه الأركان بلحاظ سائر الأجزاء لا بشرط أو بشرط شيء ولكن إذا أريد به جامع انتزاعي منتزع من تجمع الأركان وحدها تارة ، ومن التجمع المشتمل عليها وعلى سائر الأجزاء تارة أخرى ، ويكون انتزاعه من هذا التجمع أو ذاك غير منوط بملاحظة أيّ حيثيّة عرضية زائدة على ذوات الأجزاء المتجمعة فهو أمر معقول ويحقّق غرض الأعمّي بدون استلزام محذور ، وذلك من قبيل ان يوضع لفظ الكلمة مثلاً لعنوان ما زاد على الحرف الواحد ، فانَّ هذا ينطبق على الكلمة الثنائية والكلمة الثلاثية الحروف على السواء ، فيمكن تصوير نظير ذلك في المقام ، وكون هذا العنوان انتزاعيّاً لا يقدح بعد أن كان منتزعاً بلحاظ نفس الأجزاء والقيود الداخلة في المسمَّى.

ثمرة النزاع في أسماء العبادات

الجهة الرابعة : حول ثمرة هذا البحث ومهمّ ما ذكر بهذا الصدد ثمرتان :

أولاهما : وهي مبنيّة على أن يكون المسمَّى عند الصحيحي جامعاً بسيطاً وعند الأعمّي جامعاً تركيبيّاً ، لعدم إمكان استكشاف جامع بسيط بين الصحيحة والفاسدة. فيقال عندئذٍ : بظهور ثمرة البحث فيما لو شك في اعتبار جزء أو شرط ، حيث يكون من الشك في المحصل بناء على الصحيح فيجب الاحتياط ، ومن الشك في التكليف الزائد بناء على الأعمّ فتجري البراءة.

وفيه : أولا ما تقدّم من بطلان المبنى.

وثانياً : كون المسمَّى جامعاً بسيطاً لا يلازم عدم جريان البراءة عند الشك.

لا لما جاء في الكفاية من أنَّ الجامع البسيط قد يفترض متّحداً مع الأجزاء والشرائط في الوجود (١). فانَّ هذا الكلام غير فنّي على ما يتّضح.

بل الصحيح : انَّ الجامع البسيط إن افترض ذا مراتب تشكيكية تصدق على الضعيف والشديد بحيث تؤدّي سعة المركّب وضيقه من حيث الأجزاء والشرائط إلى

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٣٧ ( ط ـ مشكيني )

٢٠٠