بحوث في علم الأصول - ج ١

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١

التصديق بذيها. وهكذا نعرف أن هذه الآلية تختص بالدال التصوري.

وقد يكون من أجل ذلك ـ لا لبعض ما تقدم ـ نفي السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ الآلية والمرآتية على مسلك التعهد ، لأن الدلالة الوضعيّة على هذا المسلك دلالة تصديقية.

الثالث : اتضح مما سبق : أن الآلية والمرآتية في الاستعمال يرجع إلى معنى يقابل التوجه والالتفات من النّفس. وقد يتوهم : تفسيرها بمعنى ملاحظة اللفظ كأنه المعنى ، لا مجرد عدم التوجه إليه بل التوجه إليه بما هو عين المعنى ومندك فيه ، وهذا النحو من الآلية لا موجب لها على ضوء الوجوه السابقة بل غير معقول في المقام. وتحقيق ذلك : أن فناء شيء في شيء واندكاكه فيه ، تارة : يكون بمعنى وجوده بتبع وجوده ، بحيث يكون لكل منهما وجود في العالم الّذي تحقق فيه فناء أحدهما في الآخر غير ان وجود أحدهما وجود تبعي بالإضافة إلى الآخر لكونه محض الربط والتعلق به ، كما يقال في وجود الممكنات بالنسبة إلى الواجب ووجود النسبة بالإضافة إلى طرفيها. وأخرى : يكون بمعنى النّظر إلى الفاني كأنه المفني فيه بحيث يرى المنفي فيه برؤية الفاني ، فليس للمفني فيه وجود في عالم الفناء أصلا وإنما الموجود هو الفاني وفناؤه بمعنى أن التوجه إليه بما انه هو المفني فيه لا بما هو فكأن المفني فيه يرى برؤية الفاني ، وهذا هو سنخ فناء كل عنوان في معنونه. وكل من هذين النحوين غير معقول في اللفظ مع المعنى. أما الأول فواضح ، لأن اللفظ بالإضافة إلى المعنى ليس كالنسبة بالإضافة إلى طرفها. وأما الثاني ؛ فلان تعقل المرآتية بنحو يرى هذا الشيء بما هو الشيء الآخر لا يكفي فيه مجرد اعتبار كون أحدهما عين الآخر ، لأن هذا الاعتبار إنما يجعل ملاحظة الذهن للفظ ملاحظة للمعنى بالاعتبار والعناية لا أن الملاحظ للفظ يرى بوجه ما المعنى حقيقة من خلال اللفظ وان اللفظ يكون فانيا في أفق هذه الرؤية ، بل لا بد لتعقل المرآتية والفناء بهذا النحو بين شيئين أن يكون بينهما نحو وحده واقعية من قبيل الصورة الذهنية مع ذيها والعنوان مع المعنون ، فأنت إذا أحضرت صورة ذهنية للإنسان فهناك في صقع ذهنك تصور ومتصور موجود بنفس ذلك التصور والتصور كيف نفساني وليس إنسانا والمتصور إنسان وليس كيفا وفي هذه الحالة يمكنك أن تلحظ التصور لا بما هو تصور بل بما هو عين المتصور لأن هذه العينية واقعية فترى حينئذ الإنسان لا الصورة ويقال عند

١٤١

ذاك ان الصورة أخذت مرآة وفانية في المتصور. وقد يتفق ان المتصور نفسه مما لا يصدق على نفسه بالحمل الشائع وإن كان يصدق على نفسه بالحمل الأولي ، فأنت حين تتصور مفهوم الجزئي فتصورك له جزئي حقيقة واما متصورك فهو جزئي بالحمل الأولي ومفهوم كلي بالحمل الشائع والعينية هنا بين الجزئي بحمل والكلي بحمل آخر واقعية ، فقد تلتفت إلى تصورك بما هو كلي وقد تلتفت إليه بما هو جزئي ويقال حينئذ انه قد لوحظ بما هو مرآة لمعنونه فالمرآتية إذن لا تتم بالمعنى المذكور إلا بنحو من العينية الواقعية بين الشيئين ولا يتم ذلك في مثل اللفظ والمعنى الّذي ليس بينهما أي عينية واقعية.

الرابع : من شروط الاستعمال استحضار المستعمل للحيثية المصححة لدلالة اللفظ على المعنى. وتوضيح ذلك : أن الحيثية المصححة في الاستعمال الحقيقي هي الوضع وفي الاستعمال المجازي ، الوضع مع العلاقة. وكأنه لا إشكال عندهم في أن الوضع حيثية تعليلية بحتة ولا يجب استحضارها ، وأما العلاقة فقد ادعي لزوم استحضارها في مقام الاستعمال المجازي ، وبهذا كان هذا الشرط مدعي في نطاق الاستعمالات المجازية لا الحقيقية. وتقريبه : انه بدون ملاحظة هذه العلاقة يكون اللفظ أجنبيا عن المعنى المجازي ولا يكون هناك مبرر لاستعماله فيه ، فالحد الأوسط المبرر للاستعمال هو المعنى الحقيقي فلا بدّ للمستعمل من ملاحظته. والتحقيق : انه لا يلزم ذلك بناء على طريقتنا في تصحيح استعمال اللفظ في المعني المجازي ، إذ عرفنا أن كل لفظ يصح أن يستعمل فيما له صلاحية الدلالة عليه تصورا ، وعرفنا ان اللفظ بقرنه بالمعنى الحقيقي يكسب نفس ما للمعنى من اقترانات وإثارات ولكن بدرجة أضعف فتصبح له صلاحية الدلالة على المعنى المجازي الّذي كان المعنى الحقيقي صالحا للدلالة عليه وإثارته في الذهن. وبهذا نعرف : أن دور المعنى الحقيقي في ربط اللفظ وقرنه بالمعنى المجازي دور الحيثية التعليلية لا التقييدية. وعليه ، فاللفظ بعد وضعه للمعنى الحقيقي وقرنه به يصبح صالحا بدرجة ما للدلالة على المعنى المجازي مباشرة ، ومعه يصح للمستعمل استعمال اللفظ فيه بدون حاجة إلى لحاظ الحيثية التعليلية ، كما هو الحال في الاستعمال الحقيقي بالنسبة إلى لحاظ نفس الوضع. نعم ، لو بني على أن المصحح

١٤٢

لاستعمال اللفظ في معناه المجازي كونه موضوعا بوضع نوعي لما يشابه المعنى الحقيقي اتجه القول بتوقف صحة الاستعمال في المعنى المجازي على ملاحظة المشابهة إذ بدون ذلك لا يكون قد استعمل اللفظ في المعنى الّذي وضع له بالوضع النوعيّ وهو المشابه بما هو مشابه.

الخامس : ما يدعى كونه شرطا للاستعمال عموما من كون اللفظ موضوعا للمعنى المستعمل فيه إما بوضع شخصي ؛ وذلك في الاستعمال الحقيقي ، أو بوضع نوعي ، وذلك في الاستعمال المجازي. وتقوم هذه الدعوى على أساس ان استعمال اللفظ في معنى لا يكفي في صحته مجرد صلاحيته للدلالة عليه بل لا بد من الوضع.

وقد تقدم تحقيق ذلك في نظرية الدلالة على المعنى المجازي ، وأوضحنا انه لا يعتبر ذلك في تصحيح الاستعمال.

مقارنة بين الاستعمال والإيجاد

يمكن ان نلاحظ ـ على ضوء ما تقدم ـ ان الاستعمال عبارة عن الاستعانة بإخطار غير الشيء المقصود افهامه لكي ينتقل من إلى المقصود ، وفي مقابل ذلك قد يستبدل الشخص الاستعمال بطريقة إيجاد نفس المعنى المقصود افهامه بإيجاد المعنى خارجا وإحضاره تحت إحساس السامع كوسيلة الإخطار صورته في الذهن ، وتسمى هذه الدلالة بالدلالة الإيجادية وممارسة ذلك بالإطلاق بالإيجادي وهو يختلف في حقيقته ومميزاته عن الاستعمال ، كما يظهر ضمن النقاط التالية :

١ ـ ان الذهن في الدلالة الحكائية لا ينتقل إلى المعنى مباشرة بل باجتياز صورة ذهنية أخرى كصورة اللفظ التي تنبه الذهن إلى معناه نتيجة الاقتران الوضعي بينهما ، وما في الدلالة الإيجادية فالمعنى يتصور مباشرة وبلا توسيط تصور آخر لكونه قائما على أساس التلازم التكويني بين الإحساس بالشيء وحضور صورته لدى الذهن فلا يحتاج إلى أي عناية جعلية. وبكلمة أخرى : إن الاستجابة الذهنية في الدلالة الإيجادية قائمة على أساس الإحساس بالمنبه الطبيعي ولهذا كانت الدلالة الإيجادية هي الوسيلة الأولية والطبيعية في حياة الإنسان.

١٤٣

٢ ـ انه بالوسيلة الحكائية يمكن إخطار موضوع القضية في ذهن السامع سواء كان كليا أو جزئيا لتعقل كون الحاكي حاكيا عن الكلي تارة وعن الجزئي أخرى ، واما بالوسيلة الإيجادية فلا يعقل إخطار المعنى الكلي بها فإذا كان موضوع القضية كليا استحال إخطاره عن طريق الوسيلة الإيجادية لأن الموجد دائما فرد جزئي ، والكلي وإن كان موجودا بإيجاد فرده ولكنه موجود في ضمنه وجودا تحليليا فيمثل هذا الإيجاد نحصل على صورة في ذهن السامع موازية لما أوجدناه فيكون الكلي موجودا فيها وجودا تحليليا وفي ضمن الخاصّ لا بحده بما هو كلي ، ومن الواضح التباين بين صورة الكلي في ضمن الفرد وصورة الكلي بحده. نعم يمكن جعل الأولي مقدمة إعدادية في ذهن السامع لكي ينتقل منها إلى الثانية ، إلا ان هذا استخدام للوسيلة الحكائية وخلف فرض الاقتصار على الوسيلة الإيجادية لأنه يعني انتقال الذهن من صورة ذهنية إلى صورة ذهنية أخرى وهو معنى الحكاية ـ كما تقدم ـ ومنه أن ينصب قرينة على إلغاء الخصوصية وإرادة الكلي مما أوجده.

٣ ـ إن إفادة قضية بإخطار موضوعها بالوسيلة الإيجادية ومحمولها بالوسيلة الحكائية لا يكفي فيها مجرد معقولية الوسيلة الإيجادية في إخطار المعنى بل لا بد من فرض وسيلة لإخطار النسبة بين الموضوع والمحمول لكي تتم بذلك عناصر القضية في ذهن السامع ، ومن الواضح ان النسبة انما يكون إخطارها بوسيلة حكائية وهي الهيئة وحكاية الهيئة ودلالتها على النسبة فرع الوضع ، فلا بدّ حينئذ من النّظر إلى ان الهيئة المتحصلة من المجموع الملفق من الوسيلة الحكائية والوسيلة الإيجادية هل وضعت للنسبة على حد وضع الهيئة المتحصلة من مجموع الوسيلتين الحكائيتين لذلك أو لا؟

تطبيقات

وعلى ضوء ما تقدم من الشروط العامة للاستعمال وبالمقارنة بين الاستعمال والإطلاق الإيجادي قد يستشكل في تعقل الاستعمال في عدة مواضع.

منها ـ الاستعمال الّذي يوجد به الوضع ، لاختلال الشرط الأول من شروط الاستعمال فيه ، أو لاستلزامه اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي بناء على الشرط

١٤٤

الثالث ، وقد تقدم الكلام عنه في بحث الوضع.

إطلاق اللفظ وإرادة شخصه

ومنها ـ إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ، فيقال : انه لا يعقل أن يكون من باب الاستعمال بل يتعين أن يكون من باب الإطلاق الإيجادي.

اما الجزء الأول من هذا المدعى ، فيبرهن عليه تارة ـ على ضوء الشرط الثاني ـ بتقريب : عدم التغاير بين الدال والمدلول والمستعمل والمستعمل فيه مع أن التغاير معتبر. وأخرى ـ على ضوء الشرط الثالث ـ بلزوم اجتماع اللحاظين لأن اللفظ بما هو لفظ دال يلحظ في مقام الاستعمال باللحاظ الآلي تطبيقا للشرط الثالث وبما هو نفس المعنى يلحظ باللحاظ الاستقلالي ويستحيل اجتماع هذين اللحاظين على ملحوظ واحد.

أما البرهان الأول فهو وجيه ، ولا ينفع التغاير الاعتباري والحيثي ـ كما تقدم ـ فلا يتم ما أفاده المحقق الخراسانيّ قدس‌سره من أن التغاير الاعتباري والحيثي ـ كاف لتصوير كون اللفظ دالا ومدلولا فهو دال بما هو لفظ صادر ومدلول بما هو مراد (١). إذ يرد عليه : ما تقدم من لزوم التعدد الحقيقي في أمثال المقام. وقد يورد عليه : بأن دلالة اللفظ بوصفه فعلا اختياريا للفظ على الإرادة دلالة عقلية وليست لفظية ، والكلام في تصحيح الدلالة اللفظية بحيث يصدق الاستعمال بنحو من الأنحاء كما أفاده المحقق الأصفهاني (٢). ولكن هذا الإيراد غير واضح ، لأن الظاهر ان مقصود صاحب الكفاية من الإرادة ليس الإرادة التكوينية للمتكلم التي هي من مبادئ الفعل الاختياري ، لوضوح انه لو كان قد خلط بين المدلول العقلي والمدلول اللفظي وتصور ان دلالة اللفظ على الإرادة دلالة لفظية لما توصل بذلك إلى مرامه أيضا ، لأنه بصدد تصوير استعمال اللفظ في شخص نفسه وبهذا الخلط انما يكون اللفظ مستعملا في شيء آخر هو

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٢٠ ( ط ـ مشكيني )

(٢) نهاية الدراية ج ١ ص ٣٢ ( المطبعة العلمية ـ قم )

١٤٥

الإرادة. فهذا شاهد على أنه لا يقصد بالإرادة ما ذكر بل تقصد الإرادة التفهيمية أو الاستعمالية ، بمعنى أن اللفظ بما هو لفظ أريد به التفهيم دال ، وبما أنه أريد تفهيم نفسه به مدلول.

وأما البرهان الثاني ، فيرد عليه : ما عرفت من أن الشرط الثالث غير تام ، وانه ليس من الضروري أن يكون اللفظ ملحوظا في مقام الاستعمال باللحاظ الآلي. ولو سلم هذا الشرط لكان الفرض المبحوث عنه في نفسه مستحيلا بقطع النّظر عن محذور اجتماع اللحاظين ، لأن فرض الاستعمال هو فرض الآلية وهو مساوق للاثنينية بين الآلة وذي الآلة فمع التعدد يستحيل اللحاظ الآلي وكون الشيء فانيا في نفسه.

واما الجزء الثاني من المدعى ، فالصحيح أن تفسيره على أساس الإيجاد معقول لأنه يتوقف على أمرين كلاهما ثابت ، أحدهما : أن يكون موضوع القضية جزئيا ، لما تقدم من عدم إمكان إحضار الكلي في الذهن بالإيجاد وهذا الشرط حاصل في المقام لأن المراد بحسب الفرض شخص اللفظ لا طبيعيه. والآخر : أن تكون الهيئة المتحصلة من المجموع الملفق من الوسيلة الحكائية ولإيجادية موضوعة للنسبة ، والظاهر ان هذا حاصل أيضا في الموارد التي تكون الوسيلة الإيجادية فيها لفظا ، كما هو الحال في المقام ، لأن الهيئة المتحصلة حينئذ من مثل ( زيد لفظ ) هي نفس الهيئة المتحصلة من مثل ( زيد عالم ) والعرف يفهم النسبة من كلتا الجملتين ، بخلاف الموارد التي تكون الوسيلة الإيجادية فيها متمثلة في فعل لا لفظ ، كما لو ضرب شخص الحائط وقال ( ضرب ) فان الهيئة المتحصلة من المجموع المركب من ضرب الحائط خارجا وكلمة ( ضرب ) مباينة سنخا للهيئة المعهودة دلالتها على النسبة ، ولهذا كان بالإمكان منع وضعها لإفادة النسبة.

وبهذا يتضح الجواب على ما أورده المحقق الأصفهاني قدس‌سره على تصحيح هذا الإطلاق من باب الإيجاد بالنقض بمثل إيجاد الضرب خارجا وتشكيل القضية من ضم ذلك إلى لفظ دال على المحمول (١) فان هذا النقض مندفع : بأن عدم صحة

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٣٣ ( المطبعة العلمية ـ قم )

١٤٦

تشكيل القضية في مورد النقض لو سلم ليس ناشئا من عدم تعقل الوسيلة الإيجادية بل من عدم كون الهيئة في مورد النقض موضوعة لإفادة النسبة ، بخلاف الهيئة في المقام.

وهذا هو الجواب على النقض لا ما قد يقال ـ كما عن المحقق العراقي ـ من أن اعتياد الإنسان على الانتقال من الألفاظ لا من الأفعال هو نكتة الفرق (١) لأن الانتقال من الإحساس بشيء إلى تصور نفس ذلك الشيء أمر لا يختص بالألفاظ كما هو واضح ، واما الانتقال إلى أمر آخر من باب الحكاية فهو وإن كان مختصا باب الألفاظ إلا أن المطلوب في المقام ليس ذلك بل الانتقال إلى نفس ما أوجد.

إطلاق اللفظ وإرادة نوعه

ومنها ـ إطلاق اللفظ وإرادة نوعه وصنفه ومثله ، وقد قيل ان الأول من صغريات الوسيلة الإيجادية بل ادعى السيد الأستاذ ( دام ظله ) ان الإطلاقات الثلاثة كلها من هذا القبيل ولا معنى لجعلها من باب الاستعمال والحكاية ، لأن التوصل بالحاكي إنما هو في فرض لا يكون نفس المقصود حاضرا فيه وفي هذه الموارد يكون نفس المقصود حاضرا وموجدا وهو كلي ( ضرب ) مثلا بإيجاد فرده ، غاية الأمر : أن المقصود إذا كان هو النوع على إطلاقه اقتصر المتكلم على إيجاد فرده ، وإن كان المقصود حصة خاصة منه أتى بالحرف للدلالة على التحصيص والتضييق فيقول مثلا ( ضرب في ضرب زيد فعل متصل بفاعله ) (٢).

ولكن ، قد اتضح ـ على ضوء ما تقدم من المقارنة العامة بين الاستعمال والإيجاد ـ عدم إمكان تخريج هذه الإطلاقات على أساس الإيجاد ، لما مضى من أن الموضوع إذا كان كليا فيستحيل إحضاره في ذهن السامع بالوسيلة الإيجادية. ولا معنى لما أفيد من كون الموضوع موجدا بنفسه والحرف دال على التضييق في موارد إرادة الصنف أو المثل ، لأن ما هو المضيق إن كان هو ( ضرب ) بوجوده الخارجي فبطلانه واضح ، إذ

__________________

(١) بدائع الأفكار ج ١ ص ٩١

(٢) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١٠٦

١٤٧

الوجود الخارجي لا يقبل الإطلاق والتقييد ، وإن كان المضيق هو المفهوم المقصود تفهيمه بذلك الوجود رجع إلى باب الاستعمال والحكاية. فالمتعين إذن تنزيل هذه الإطلاقات على الاستعمال.

وقد يستشكل في تنزيلها على الاستعمال ، تارة : بلزوم اتحاد الدال والمدلول باعتبار ان اللفظ بنفسه مصداق لنوعه فلو استعمل في النوع كان دالا ومدلولا. وأخرى : بأن الاستعمال بحاجة إلى مناسبة بين اللفظ والمعنى ليستعمل أحدهما في الآخر ولا مناسبة بين الشخص بما هو شخص والنوع لأن خصوصية الشخص مباينة للنوع.

والجواب : أما عن الأول ، فبأن كونه مصداقا للمدلول لا يساوق كونه هو المدلول بالذات ، والتقابل الآبي عن التصادق إنما هو بين الدال والمدلول بالذات ، وإلا فما أكثر ما يكون نفس الدال مصداقا لمدلوله ، كما في كلمة ولفظ ونحو ذلك. وإن شئت قلت : أن المدلولية بالذات تقف على نفس المفهوم ولا تسري إلى كل مصداق من مصاديقه ليلزم اجتماع الدال والمدلول في المصداق. واما عن الثاني ، فبأن اشتمال الفرد على حصة من الطبيعي يكفي مناسبة عرفية لجعله أداة للانتقال إلى الطبيعي.

استعمال اللفظ في أكثر من معنى

ومنها ـ استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، فقد وقع البحث في إمكانه وذهب جملة من المحققين إلى امتناعه على ضوء الشروط المتقدمة للاستعمال وذهب جماعة إلى إمكانه مع مخالفته للقواعد العربية ومساوقته للتجوز إما مطلقا أو في خصوص المفرد.

وتحقيق الكلام في هذه المسألة يقع في جهات.

المراد من تعدد المعنى

الجهة الأولى : في تحرير النزاع. وتوضيحه : ان ضابط هذا الاستعمال المبحوث عن جوازه وعدمه أن يكون كل من المعنيين مستقلا في مقام تعلق الإرادة الاستعمالية به ، بمعنى أن يقصد تفهيمه بما هو باللفظ لا بما هو في ضمن معنى آخر أو بما هو

١٤٨

فرد لمعنى آخر ، فالاستقلال المقصود هو الاستقلال الاستعمالي لا الحكمي ، فقد يقصد تفهيم معنى بما هو باللفظ وكذلك المعنى الآخر إلا أن المحمول الّذي يحكم به عليهما واحد ثابت لمجموع المعنيين ، وقد يقصد تفهيم المجموع من المعنيين باستعمال اللفظ في المجموع ويكون كل منهما موضوعا مستقلا للحكم إذ لا ملازمة بين الاستقلال الاستعمالي والحكمي. وقد ذهب بعض المحققين ـ على أن ما في حاشية المحقق الأصفهاني ( قده ) (١) إلى التلازم بين الأمرين ويظهر منه ان السر في هذا التلازم هو ان الحكم الاستقلالي شأنه التعلق بالمعنى الملحوظ في مقام الاستعمال فإذا كان المعنى ملحوظا ضمنيا في مقام الاستعمال فالحكم يثبت له بما هو ضمني أيضا والعكس صحيح ، ولا يمكن مع ملاحظته في الضمن استعماليا أن يتعلق الحكم به مستقلا إلا بإبطال اللحاظ الاستعمالي وإحداث لحاظ جديد ، وهو خلاف الوجدان. والتحقيق في حل هذه الشبهة أن يقال : ان الحكم وإن كان يتعلق بالمعنى الملحوظ باللحاظ الاستعمالي لا بمعنى ملحوظ بلحاظ آخر وإلا لم يكن متعلقا بالمعنى المستعمل فيه إلا أن اللحاظ الّذي تقتضيه الإرادة الاستعمالية الضمنية له لا يأبى عن تعلق الحكم الاستقلالي به ، وذلك لأن لفظ ( عين ) مثلا موضوع لطبيعي العين الجارية ولطبيعي العين الباكية والمعنى في كل منهما هو الجامع بين المقيد بكونه في ضمن مركب والمطلق وليس المراد بكون المعنى ضمنيا في مقام تعلق الإرادة الاستعمالية إرادة الحصة الأولى منه كما انه ليس المراد باستقلاليته في هذا المقام إرادة الحصة الثانية منه بل المراد الاستعمالي سواء كان ضمنيا أو استقلاليا هو الطبيعة بنحو جامع بين المقيد والمطلق ، إلا ان هذه الطبيعة الجامعة تارة : بقصد تفهيمها بالخصوص باللفظ ، وهو معنى استقلالها في الإرادة الاستعمالية. وأخرى : يقصد تفهيمها بأن تعتبر جزءا من مجموع الطبيعتين الجامعتين بين المطلق والمقيد ويقصد تفهيمها بما انها في ضمن المجموع ، وعلى كل من التقديرين فالمراد جدا منه الّذي هو مصب الحكم تارة : يكون هو الحصة المطلقة ، وأخرى : الحصة الخاصة ؛ فعلى الأول يكون الحكم استقلاليا سواء كان الاستعمال

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٨٦ ( المطبعة العلمية ـ قم )

١٤٩

استقلاليا أو لا ، وعلى الثاني يكون الحكم ضمنيا على التقديرين ، فمنشأ الإشكال توهم : أن المقصود بإرادة المعنى استقلالا لا ضمنا في مقام الاستعمال إرادة المطلق في مقابل المقيد ، مع أن المقصود إرادة تفهيم الجامع بين المطلق والمقيد بنفسه ، وتوهم : ان المقصود بإرادة المعنى ضمنا في مقام الاستعمال إرادة المقيد ، مع أن المقصود إرادة تفهيم الجامع بين المطلق والمقيد ولكن في ضمن تفهيم مجموع جامعين من هذا القبيل وفي هذه الحالة قد يكون المراد الجدي هو المطلق وقد يكون هو المقيد.

إمكان استعمال المفرد في أكثر من معنى

الجهة الثانية : في إمكان استعمال اللفظ المفرد في أكثر من معنى وامتناعه وقد ادعي الامتناع وقرب بعدة وجوه :

الأول : استلزامه صدور الكثير من الواحد ، إما بتقريب منسوب إلى المحقق النائيني ( قده ) من أن النّفس باعتبار بساطتها يمتنع في حقها أن تلحظ معنيين مستقلين في آن واحد ، والاستعمال في أكثر من معنى يستدعي ذلك إذ بدونه يفقد الاستعمال أهم مقوماته وهو اللحاظ (١).

وإما بتقريب أشار إليه المحقق العراقي ( قده ) من أن استعمال اللفظ في معنيين مرجعه إلى كون اللفظ مقتضيا لإيجاد انفهامين في ذهن السامع ، مع أنه لا يمكن ترتب الفهمين على مقتض واحد حذرا من توارد المعلولين على علة واحدة (٢).

اما التقريب الأول ، فيرد عليه : ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) (٣) وغيره من اقتدار النّفس على انتقالات وتصورات متعددة في آن واحد ولا ينافي ذلك بساطتها كما هو محقق في محله ، ومما يدل على ذلك أن تصورات أجزاء القضية لا بد من اجتماعها كلها في زمان إيقاع النسبة والحكم بل ان تصور اللفظ وتصور المعنى متزامنان دائما وهما وجودان ذهنيان.

__________________

(١) راجع محاضرات أصول الفقه ج ١ ص ٢١٧

(٢) مقالات الأصول ج ١ ص ٤٨

(٣) راجع نهاية الدراية ج ١ ص ٨٥

١٥٠

واما التقريب الثاني ، فيرد عليه : أن اللفظ بلحاظ كل من الوضعين يكتسب حيثية قرن مؤكد مغايرة للحيثية التي يكتسبها بتوسط الوضع الآخر ويمكن أن نعبر عنها بالألفة الذهنية بين صورة اللفظ والمعنى الحاصلة ببركة القرن الخارجي بينهما ، وهو بلحاظ كل من الحيثيتين يكون سببا في إيجاد معنى خاص ، فلا يلزم صدور الكثير من الواحد بلا حاجة إلى التخلص عن المحذور بتكثير السبب عن طريق ضم القرينة ـ كما في مقالات المحق العراقي ـ هذا ، على أن البيان المذكور لو تم لاقتضى استحالة ترتب انفهامين في ذهن السامع على اللفظ لا استحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، لأن الاستعمال لا يتقوم بفعلية الانفهام بل بشأنيته في نفسه ، ولهذا قد يكون المستعمل في مقام الإجمال.

الثاني : ما جاء في كلمات صاحب الكفاية قدس‌سره (١) ومرجعه إلى الاستناد إلى الشرط الثالث لإثبات الامتناع ، إما بتقريب : ان الاستعمال ـ كما تقرر في الشرط الثالث ـ عبارة عن إفناء اللفظ في معناه بنحو يكون اللفظ ملحوظا باللحاظ الآلي ومرآة للمعنى ، ويستحيل وحدة الفاني مع تعدد المفني فيه في عالم اللحاظ ، لأن الفناء يستدعي العينية في التصور واللحاظ وهو خلف التعدد. وبكلمة أخرى : مع فنائه في أحد المعنيين فأي وجود يبقى له لكي يفرض فناؤه في المعنى الآخر. وإما بتقريب : أشار إليه المحقق العراقي قدس‌سره في مقالاته من أنه بناء على أن اللفظ يلحظ في مقام الاستعمال لحاظا آليا يلزم في حالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى اجتماع لحاظين على ملحوظ واحد وهو اللفظ ، لأن كلا من المعنيين ملحوظ باللحاظ الاستقلالي وكل من هذين اللحاظين يصل إلى المعنى بتوسط اللفظ ومرورا منه إليه كما هو معنى الآلية ، وهو يعني مرور لحاظين من اللفظ إلى المعنيين في وقت واحد ، وهو معنى لزوم اجتماع لحاظين آليين على اللفظ في استعمال واحد وهو غير معقول. وهذا بخلاف ما إذا أنكرنا الآلية في مقام الاستعمال فان اللفظ حينئذ يكون ملحوظا

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٥٤ ( ط ـ مشكيني )

١٥١

بلحاظ استقلالي ويكفي فرد واحد من هذا اللحاظ لإفادة كل من المعنيين (١).

ويرد على التقريب الأول : أن آلية اللفظ ذهنا في عالم اللحاظ المدعاة شرطا ثانيا فيما تقدم إن أريد بها الآلية بالمعنى المقابل لتوجه النّفس والتفاتها تفصيلا إلى الشيء ، بمعنى أن الألفاظ تستعمل استعمالا أداتيا مع الغفلة عنها عادة ، فهذه ظاهرة عامة في عالم الاستعمال ولكنها ليست مقومة لعملية الاستعمال ذاتا ـ كما عرفت ـ ولا تستدعي امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، لأن مجرد عدم التوجه إلى اللفظ كما يلائم مع استخدامه أداة لتفهيم معنى واحد كذلك يلائم مع استخدامه أداة لتفهيم معنيين ، ولا يخرج بذلك عن كونه أداة اعتاد الإنسان على استخدامها والنّظر إليها تبعا. وإن أريد بالآلية ملاحظة اللفظ فانيا في المعنى وكأنه المعنى بحيث يرى المعنى برؤية اللفظ فهي على فرض ثبوتها في الاستعمال توجب امتناع الاستعمال في أكثر من معنى ولكن هذا المعنى من الآلية غير معقول في المقام ـ كما تقدم ـ.

ويرد على التقريب الثاني : ان اللحاظ الآلي للفظ في مقام الاستعمال ليس معناه ان لحاظا واحدا يعبر من اللفظ إلى المعنى فيكون لحاظا استقلاليا للمعنى باعتبار استقراره عليه ولحاظا آليا للفظ باعتبار استطراقه منه ليلزم محذور عبور لحاظين عن اللفظ ، بل معناه ـ على ما تقدم ـ ان اللفظ ملحوظ بلحاظ وموجود في الذهن بوجود ، ولكنه ليس محطا للتوجه والالتفات من قبل النّفس بحكم العادة التي تجعل المعتاد يستعمل الأداة فيما أعدت له من دون توجه إليها بالفعل ، وقد عرفت أن الوجود الذهني أعم من التوجه والالتفات. وعليه ، فلا يلزم من استعمال اللفظ استعمالا أداتيا لتفهيم معنيين اجتماع لحاظين آليين عليه.

الثالث : ما جاء في كلمات المحقق الأصفهاني قدس‌سره تارة بتقريب : أن الاستعمال المذكور يقتضي صيرورة اللفظ وجودا تنزيليا لكل من المعنيين ، ومع كون الوجود الحقيقي واحدا فليس هناك أمران حقيقيان لينزل كل منهما منزلة معنى. وأخرى بتقريب : ان استقلال كل من المعنيين في مقام الاستعمال الّذي هو المفروض

__________________

(١) راجع مقالات الأصول ج ١ ص ٤٨

١٥٢

معناه استقلاله في الإيجاد التنزيلي لأن الاستعمال عين الإيجاد كذلك ، والاستقلال بالإيجاد التنزيلي يستدعي الاستقلال بالوجود التنزيلي لأن الإيجاد عن الوجود ، والاستقلال بالوجود التنزيلي يقتضي الاستقلال بالوجود اللفظي الحقيقي لأن الوجود التنزيلي للمعنى عين الوجود الحقيقي للفظ ، فالاستقلال في أحدهما مساوق للاستقلال في الآخر.

ويرد على التقريب الأول : وضوح أن تعدد المنزل عليه لا يستدعي تعدد المنزل إذ يمكن أن يكون الوجود الواحد منزلا منزلة أمور متعددة بتنزيلات متعددة فلا نحتاج إلى وجود حقيقي آخر لينزل منزلة المعنى الآخر ، ولو لا ذلك لسرى الإشكال إلى أصل وضع اللفظ للمعنيين ولم يختص الإشكال باستعماله فيهما ، فإذا صح في مقام الوضع تنزيل اللفظ الواحد بتنزيلين بإزاء معنيين لم يكن ما يمنع من إخراج كل من التنزيلين عن القوة إلى الفعل.

وأما التقريب الثاني ، فيرد عليه : أولا : ما يشترك فيه البيانان ، من أنه إن أريد بكون الاستعمال إيجاد المعنى باللفظ تنزيلا كون اللفظ أداة لإيجاد المعنى ومرآة له في مقام الاستعمال فلا يمكن أن يكون كذلك بالنسبة إلى معنيين وإلا لزم فناؤه في اثنين أو اجتماع اللحاظين ، رجع إلى الوجه السابق وإن أريد بذلك مجرد اعتبار ان اللفظ عين المعنى كما يعتبر الطواف بالبيت صلاة مثلا فليس هذا حقيقة الاستعمال.

وثانيا : ان الاستقلال في الإيجاد التنزيلي وإن كان يقتضي الاستقلال في الوجود التنزيلي ، إلا ان هذا لا يقتضي الاستقلال في الوجود الحقيقي ، إذ المراد باستقلال وجود ما استقلاله في عالم ثبوته وموطن تحققه ، وهو بالنسبة إلى الوجود التنزيلي عالم الاعتبار أو ما يشبه ، فلا بدّ من استقلاله في هذا العالم ، بمعنى انه لا بد أن يكون كل من المعنيين إيجادا مستقلا في عالم الاعتبار ووجودا مستقلا كذلك ؛ وهذا حاصل في المقام ولا يلازم مع استقلال كل منهما بالوجود في عالم الخارج.

١٥٣

صحة استعمال المفرد في أكثر من معنى

الجهة الثالثة : بعد الفراغ عن عدم الامتناع يتكلم عن صحة استعمال اللفظ المفرد في أكثر من معنى على وجه الحقيقة وعدمها ، فقد يقال : ان في الاستعمال المذكور إخلالا بقيد الوحدة المأخوذ في مقام الوضع وتقريب ذلك بوجهين : أحدهما : ان يدعى ان قيد الوحدة مأخوذ في المعنى الموضوع له. والآخر : أن يدعى انه دخيل في غرض الواضع ولم يؤخذ قيدا في المعنى الموضوع له لاستحالة تقييده به ، ولما كان دخيلا في الغرض امتنع إطلاق المعنى الموضوع له ، من قبيل قصد امتثال الأمر في العبادات ؛ ولزم التقيد به في مقام الاستعمال الجاري على طبق الوضع.

أما الوجه الأول ، فيرد عليه : أن الوحدة المدعى أخذها في المعنى الموضوع له إن كانت بمعنى الوحدة الذاتيّة المساوقة لشيئية الشيء في مقابل كون الشيء اثنين ، فمن الواضح انها محفوظة في موارد استعمال اللفظ في أكثر من معنى. وإن كانت بمعنى الوحدة اللحاظية الاستغراقية ، أي أن يكون ملحوظا باللحاظ الاستقلالي لا الضمني في مقام الاستعمال ، فهذا اللحاظ الاستعمالي لو تعقلنا أخذه في المعنى الموضوع له ـ على بحث تقدم في مسألة تبعية الدلالة للإرادة ـ فهو محفوظ في المقام ، لأن المفروض ملاحظة كل من المعنيين بلحاظ استقلالي في مقام الاستعمال لا ملاحظة مجموع المعنيين شيئا واحدا مركبا ، وإلا كان من استعمال اللفظ في المعنى الواحد وإن كانت بمعنى نفي ثبوت لحاظ للمعنى الآخر في مقام الاستعمال ؛ فهذا أمر لا يعقل أخذه قيدا في المعنى الموضوع له ، لأن المراد به ليس مفهوم عدم اللحاظ الآخر بل واقعة مع انك عرفت ان طرفي العلقة الوضعيّة يجب أن يكونا مفهومين وتصورين ولا يعقل أن يكون أحد الطرفين أمرا وجوديا لأن الانتقال الوضعي انتقال تصوري بحث. وهذا هو الجواب الصحيح لا ما أفاده المحقق العراقي ( قده ) وغيره من ان الوحدة اللحاظية في مقام الاستعمال من مقومات الاستعمال فلا يعقل أخذها في المعنى المستعمل فيه السابق

١٥٤

رتبة على الاستعمال (١) إذ يرد عليه : ان مرجع هذه الوحدة إلى تقييد كل من المعنيين بعدم لحاظ المعنى الآخر لحاظا استعماليا ، ومن الواضح أن ما هو في طول كل من المعنيين اللحاظ الاستعمالي المقوم للاستعمال فيه لا اللحاظ الاستعمالي المقوم للاستعمال في المعنى الآخر فضلا عن عدم ذلك اللحاظ فلا يلزم من أخذ الوحدة اللحاظية بهذا المعنى أخذ المتأخر في مرتبة متقدمة.

وأما الوجه الثاني ، فيرد عليه : أن ضيق غرض الواضع لا يوجب ضيق نفس العلقة الوضعيّة حتى لو سلم ذلك في باب الأوامر وان ضيق غرض المولى في باب العبادة يوجب ضيقا في متعلق الأمر وعدم إطلاقه ، وذلك لما أوضحناه من أن العلقة الوضعيّة أمر واقعي مترتب على الوضع ترتب المعلول على علته وليس حالها مع الوضع حال المجعول بالنسبة إلى جعله ، فمهما كان الغرض ضيقا يؤدي الوضع دوره كسبب لقرن أكيد بين اللفظ والمعنى ، وهذا القرن هو ملاك الانتقال والدلالة.

ثم إن ما ذكرناه انما نقصد به نفي خروج الاستعمال في أكثر من معنى عن قانون الوضع ، ولكنا نسلم في الوقت نفسه بأنه خلاف القانون العرفي للمحاورة ، وبمعنى انه على خلاف الظهور العرفي ، ولهذا لا يبني العقلاء على التمسك بأصالة الحقيقة لإثبات استعمال المشترك في كلا معنييه. ونكتة ذلك ظهور حال المتكلم في التطابق وعلاقة واحد بواحد بين عالم اللفظ والإثبات وعالم المقصود والمراد ، فان مقتضى التطابق أن يكون بإزاء كل جزء من الكلام جزء من المعنى لا جزءان.

استعمال المثنى والجمع في أكثر من معنى

الجهة الرابعة : ان من سلك مسلك قيد الوحدة في إبطال استعمال اللفظ في أكثر من معنى قد استثنى من ذلك المثنى والجمع ، وذكر انه لا بأس بأن يراد بعينين عين جارية وأخرى باكية ، بتخيل ان الألف والنون في المثنى دال على إرادة المعنيين من المدخول فلا محذور.

__________________

(١) مقالات الأصول ج ١ ص ٤٩

١٥٥

والتحقيق : أن تخريج إرادة معنيين من المثنى كذلك لا يمكن تصوره إذا فرض ان المثنى دال على مفاده بنحو تعدد الدال والمدلول مادة وهيئة بمعنى ان المادة تدل على الطبيعة التي وضع لها اللفظ وهيئة المثنى تدل على المتعدد منه ، فانه على هذا إن كانت المادة مستعملة في معنى واحد فلا يعقل استفادة المعنى الآخر من التثنية بعد فرض ان مدلولها ليس إلا تكثير مدلول المادة ، وإن كانت المادة مستعملة في معنيين لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى وكان هذا التكثير مستفادا من نفس المادة ، فكان لا بد لإعمال التثنية من أن يراد المتكرر من كل من المعنيين وبذلك يلزم استعمال اللفظ ، في أكثر من معنى على مستوى المادة ومستوى الهيئة معا. وقد يتوهم : ان محذور استعمال اللفظ في أكثر من معنى في هذا الفرض انما يلزم في المادة لا في الهيئة لأن الهيئة لم تستعمل إلا في معناها وهو إفادة المتعدد من مدخولها ، غاية الأمر ان مدخولها أصبح ذا معنيين ، فهو من قبيل تثنية ما يكون متعددا بنفسه كالعشرة ، فان دلالة عشرتين على عشرين ليس من استعمال هيئة المثنى في أكثر من معنى (١). والجواب على هذا التوهم : أن هيئة المثنى موضوعة لإفادة المتعدد من مدلول المادة المدخولة لها وفي الحالة المذكورة إن استعملت المادة في مجموع المعنيين على نحو كان المجموع مدلولا واحدا لها لم يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى على مستوى المادة أصلا وهو خلف المفروض ، وإن استعملت المادة في كل من المعنيين على استقلاله فهذا يعني ان لفظ المادة له مدلولان مستقلان ، والهيئة موضوعة بنحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ لإفادة المتعدد من مدلول المادة ، وحيث ان للمادة مدلولين فلا محالة يكون للهيئة مدلولان : أحدهما المتعدد من هذا المدلول ، والآخر المتعدد من ذلك المدلول ، وأين هذا من تثنية العشرة التي لم تستعمل مادتها إلا في مدلول واحد.

وهذا واضح ، غير ان الكلام يقع في الأصل الموضوعي له وهو ان تكون إفادة المثنى لمعناه على نحو تعدد الدال والمدلول. إذ قد يقال : بأن هذا لا يتم في بعض موارد المثنى الخاصة ـ كما في تثنية الأعلام الشخصية ـ إذ ليس المعنى الموضوع له لفظ المادة كليا

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢٢٣

١٥٦

قابلا للتكثير بهيئة المثنى ، وكذلك الحال في تثنية اسم الإشارة. ويمكن أن تصور طريقة إفادة المثنى لمعناه في هذه الموارد الخاصة بأحد وجوه :

الأول : أن يقال بأن المثنى دال على مفاده بنحو تعدد الدال والمدلول غير ان مدلول المادة هو المسمى والتثنية تدل على إرادة كلا المعنيين باعتبارهما فردين من مفهوم المسمى. والطريقة نفسها يمكن تطبيقها على أسماء الأجناس المشتركة فيستفاد من مثناها كلا المعنيين بلا لزوم محذور سوى تأويل المادة وحملها على المسمى.

ويرد عليه : أولا : أنه إن كان مستساغا في أسماء الأجناس فهو بعيد في تثنية الأعلام الشخصية ، لأن لازم حمل المادة على المسمى تنكير اللفظ وإخراجه عن العلمية فيكون ( زيدان ) في قوة قولنا ( اثنان ممن يسمى بزيد ) مع ان المرتكز التعامل مع زيدين تعامل الأعلام.

وثانيا : انه لا يستساغ في تثنية اسم الإشارة ، إذ لا معنى عرفا لاستعمال مادته في كلي المشار إليه. وقد يعالج ذلك ـ كما في مقالات المحقق العراقي بأن تكون تثنية اسم الإشارة بلحاظ المعنى الكلي لمادتها ، وهو كلي المفرد المذكر بالنسبة إلى كلمة هذا مثلا في الرتبة السابقة على تعينه بطرو الإشارة عليه ، فالإشارة تطرأ عليه في طول إفادة تعدده وتكرره لا ان إفادة التعدد في طول الإشارة ليقال انه لا يقبل التعدد بعد صيرورته جزئيا متعينا بالإشارة (١) ولكن يبقى السؤال حينئذ عما يكون دالا على الإشارة ، فان كان هو المادة فهذا خلف ، لأن أخذ الإشارة في مدلولها بنحو من الأنحاء يوجب تعينه وعدم صلاحيته للتكرر ، وإن كان هو هيئة التثنية فهذا يعني ان هيئة التثنية في خصوص اسم الإشارة لها وضع خاص ، فلم ينجح هذا البيان في تفسير الوضع النوعيّ لهيئة المثنى على نحو تعدد الدال والمدلول.

الثاني : أن يقال بأن المثنى دال على مفاده بنحو تعدد الدال والمدلول ومدلول المادة هو أحد المعنيين ، وذلك أن اللفظ بعد وضعه لهذا المعنى ووضعه لذاك أصبحت له قابلية الدلالة على كل منهما تعيينا ـ كما هو شأن المشترك ـ ولكن دلالته الفعلية عند

__________________

(١) مقالات الأصول ج ١ ص ٥٠

١٥٧

إطلاقه بلا قرينة انما هي على أحدهما على نحو الترديد. والمراد بذلك ليس مفهوم أحدهما بل نحو من التذبذب بين المعنيين وعدم الاستقرار يعبر عنه عرفا بأن اللفظ يدل على أحدهما ، وهذه دلالة ناشئة من مجموع الوضعين فهي دلالة حقيقة ، وتكون هيئة التثنية دالة على المتعدد من هذا المدلول فيؤدي إلى نفس نتيجة التقريب السابق لكن مع مزيتين : إحداهما : ان مدلول المادة هناك مفهوم المسمى وهو معنى مجازي للفظ ، بخلافه في المقام. والأخرى : أنه لا يرد هنا لزوم خروج العلم بالتثنية عن العلمية ، لأن أحدهما بهذا المعنى لا يخرج اللفظ عن العلمية ، ولا يجعل مدلوله مفهوما كليا كمفهوم المسمى ، ولا عدم إمكان تفسير التثنية في اسم الإشارة كما في ( هذين ) فان المادة هنا مستعملة في الفرد المشار إليه ولكن على وجه الترديد ، فمن حيث انه فرد لم يخرج اسم الإشارة عن طبعه كمعرفة دالة على المعين ، ومن حيث انه مردد قابل للتكثير والتثنية بالهيئة ؛ ولا يلزم في تصوير هذا الوجه أن يكون الفرد المردد معقولا واقعا بل يكفي أن يكون معقولا عرفا وبحسب الفهم اللغوي العام ، وإذا كان معقولا عرفا أمكن تطبيقه على موارد تثنية الأعلام وأسماء الإشارة ـ وكذلك أسماء الأجناس ـ على نحو يستفاد من مثناها المتعدد من المعنى.

ويمكن أن يلاحظ على هذا الوجه : بأن التذبذب بين المدلولين في المادة إنما يتعقل على مستوى المدلول التصديقي لا على مستوى المدلول التصوري ، إذ لا معنى للتذبذب في التصور. وعلى هذا فالمدلول المتحصل من ذلك التذبذب المعبر عنه بأحد المعنيين إنما هو تصديقي لا تصوري ، فيلزم من ربط مدلول هيئة التثنية به إناطته بالمدلول التصديقي ؛ مع انه لا بد من انحفاظ معنى للهيئة المذكورة في مرحلة المدلول التصوري البحث للكلمة.

الثالث : أن يقال بأن المادة في المثنى غير مستعملة في معنى ، بل الهيئة مستعملة في إفادة تكرار لفظ المادة ، فبدلا عن أن يقول « عين وعين » يقول « عينين ». ويريد بذلك إخطار تصور عين وعين قاصدا بهما افهام المعنيين.

وهذا التصوير ينطبق على التثنية في الاعلام وأسماء الإشارة من دون ورود إشكال ، وعلى أسماء الأجناس أيضا بنحو يمكن أن يستفاد من مثناها المتعدد من المعنى تارة ، والمتعدد من الأفراد لمعنى واحد تارة أخرى على نحو تعدد الدال والمدلول.

١٥٨

وقد يعمق هذا التقريب ـ كما في كلمات المحقق الأصفهاني قدس‌سره بأن يصور على نحو يرجع إلى استعمال المادة في معنى بأن يقال : ان المادة تستعمل في طبيعي اللفظ من باب استعمال اللفظ في نوعه ولكن لا فيه بما أنه لفظ بل بما له من المعنى ، فالمعنى لم تستعمل فيه المادة بل استعملت في نوع اللفظ المتضمن للمعنى ، وهيئة المثنى تدل على إرادة فردين من طبيعي لفظ المفرد بما انهما دالان على معنييهما ، فقد تحفظنا بهذا على كون المادة مستعملة في شيء وعلى دلالة الهيئة على تعدد ما أريد من المادة (١). ويرد على هذا التعميق : ان استعمال المادة في طبيعي اللفظ بما له من المعنى تارة : يراد به ان الدلالة على المعنى بما هي مفهوم تلحظ قيدا لطبيعي اللفظ ، وأخرى : يراد به تقييد طبيعي اللفظ بواقع الدلالة على المعنى. اما الأول ، فواضح البطلان. لأن مفهوم الدلالة على المعنى لا ينسبق إلى الذهن من قولنا ( زيدان ) مضافا : إلى أن انسباقه لا يساوق انسباق واقع معنى اللفظ. وأما الثاني ، فلأن هذا قيد واقعي لا مفهومي ، ولا يعقل تقيد المعنى المستعمل فيه بقيد واقعي ، لأن الانتقال من اللفظ إلى المعنى المستعمل فيه تصوري والانتقال التصوري انما يكون بين مفهومين تصوريين.

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٩٣

١٥٩
١٦٠