جواهر الكلام - ج ٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين الغر الميامين ، الذين بهم أرجو من ربي الكريم الرحمن الرحيم العليم الحكيم الإعانة على إتمام كتاب أحكام الصلاة التي ( تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (١) وبها تطفأ النيران (٢) وقربان كل تقي (٣) ومعراج كل مؤمن نقي ، وتغسل الذنوب كما يغسل النهر الجاري درن الجسد ، وتكرارها كل يوم خمسا كتكراره (٤) وأوصى الله بها المسيح ما دام حيا (٥) وغيره من الرسل (٦) بل هي أصل الإسلام (٧) وخير العمل (٨) وخير موضوع (٩) والميزان والمعيار‌

__________________

(١) سورة العنكبوت ـ الآية ٤٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٧ من كتاب الصلاة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٣.

(٥) سورة مريم ـ الآية ٣٢.

(٦) فروع الكافي ج ٢ ص ٢١٤ المطبوعة بطهران عام ١٣٧٧ ـ باب حج الأنبياء عليهم‌السلام الحديث ٧ من كتاب الحج.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ الحديث ٣.

(٨) تحف العقول ص ١٩٨ المطبوعة بطهران عام ١٣٧٦.

(٩) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١ من كتاب الصلاة.

٢

لسائر أعمال الأنام ، فمن وفى بها استوفى أجر الجميع وقبلت منه كلها (١) فهي حينئذ للأعمال بل للدين كالعمود للفسطاط (٢) ولذا كانت أول ما يحاسب به العبد وينظر فيه من عمله ، فإذا قبلت منه نظر في سائر عمله وقبل منه ، وإذا ردت لم ينظر في باقي عمله ورد عليه (٣) فلا غرو لو سمي تاركها من الكافرين ، بل هو كذلك لو كان الداعي له الاستخفاف بالدين (٤) وهي التي لم يعرف الصادق عليه‌السلام شيئا مما يتقرب به ويحبه الله تعالى بعد المعرفة أفضل منها (٥) بل‌ قال عليه‌السلام : « هذه الصلوات الخمس المفروضات من أقامهن وحافظ على مواقيتهن لقي الله يوم القيامة وله عنده عهد يدخل به الجنة ، ومن لم يصلهن لمواقيتهن ولم يحافظ عليهن فذلك لله ، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه » (٦) وصلاة فريضة خير من عشرين حجة ، كل حجة خير من بيت مملو ذهبا يتصدق منه حتى يفنى (٧) بل صلاة فريضة أفضل من ألف حجة كل حجة أفضل من الدنيا وما فيها (٨) وان طاعة الله خدمته في الأرض ، وليس شي‌ء من خدمته يعدل الصلاة ، فمن ثمة نادت الملائكة زكريا ( وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ ) (٩) وإذا قام المصلي إلى الصلاة نزلت عليه الرحمة من أعنان السماء إلى أعنان الأرض ، وحفت به الملائكة ، وناداه ملك لو يعلم هذا المصلي ما في الصلاة ما انفتل (١٠) إلى غير ذلك مما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٨ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ٨ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ٨ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ١٠.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ١ من كتاب الصلاة مع اختلاف في اللفظ.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٤.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٨.

(٩) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٥.

(١٠) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٣.

٣

ورد فيها مما لا يحصى عدده ، كخبر الشامة (١) وغيره.

مع أن في الاعتبار ما يغني عن الآثار ، إذ قد جمعت ما لا يجمعه غيرها من العبادات من عبادة اللسان والجنان بالقراءة والذكر والاستكانة والشكر والدعاء الذي ما يعبأ الله بالعباد لولاه ، وظهور أثر العبودية للمعبود بالركوع والسجود وجعل أعلى موضع وأشرفه على أدنى موضع وأخفضه ، وقد‌ كتب الرضا عليه‌السلام إلى محمد ابن سنان (٢) فيما كتب من جواب مسائله « إن علة الصلاة أنها إقرار بالربوبية لله عز وجل ، وخلع الأنداد ، وقيام بين يدي الجبار جل جلاله بالذل والمسكنة والخضوع والاعتراف والطلب للإقالة من سالف الذنوب ، ووضع الوجه على الأرض كل يوم إعظاما لله عز وجل ، وأن يكون ذاكرا غير ناس ولا بطرا على ذكر الله عز وجل بالليل والنهار لئلا ينسى العبد سيده ومدبره وخالقه فيبطر ويطغى ، ويكون في ذكره لربه عز وجل وقيامه بين يديه زاجرا له عن المعاصي ومانعا له من أنواع الفساد » وغير ذلك مما لا يخفى على من لاحظ أسرار الصلاة.

ولا يختص هذا الفضل بخصوص الفرائض الخمس من الصلوات وإن اختصت بعض الأخبار (٣) بها ، بل قد يقال بانصراف ما كان موضوعه لفظ الصلاة إليها ، لأنها هي المعهودة المستعملة التي لم يسأل العبد بعد أدائها عن غيرها (٤) إلا أن التأمل فيما ورد عنهم عليهم‌السلام بل هو صريح البعض يقضي بعدم الفرق بين الفرض والنفل في هذا الفضل ، وانهما جميعا خير العمل.

كما أنه لا يشكل فضل الصلاة على الحج المشتمل على الصلاة وغيرها بعد ظهور هذه العبارة كنظائرها في إرادة باقي أجزاء الحج غيرها ، إذ لكل جزء منه فضل مستقل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٧ مع زيادة في الوسائل.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٦.

٤

وإن كان هو جزء ، أو يراد بالصلاة المفضلة عليه إحدى الفرائض الخمس ، أو غير ذلك.

وكيف كان فالمشهور في كتب الفقه أن الصلاة لغة الدعاء ، ولعل منه قول الأعشى :

تقول بنتي وقد قيضت مرتحلا

يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي

نوما فان لجنب المرء مضطجعا

بل في روض الجنان أنها كذلك من الله عز وجل وغيره ردا على من قال : إنها منه بمعنى الرحمة ومن الملائكة الاستغفار ، ومن الناس الدعاء ، معللا له بأن ارتكاب كونها في ذلك ونحوه مجازا خير من جعلها مشتركة ، وبأن ظاهر العطف في قوله تعالى (١) : ( عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) يقتضي المغايرة ، وفيه أن الخيرية تجدي مع الشك ، وهو هنا ممنوع ، إذ لو سلم عدم القطع من تصريح البعض به ـ بل قد يظهر من المحكي عن المحقق الثاني نسبته إلى الجميع أو الأكثر ، ومن كثرة استعمال لفظ الصلاة في ذلك على وجه يبعد أن يكون مجازا ، خصوصا في مثل قوله : اللهم صل على محمد وآله ونحوه وغير ذلك بوضعها لذلك ـ فلا أقل من الظن ، وهو كاف في الموضوعات ، نعم الظاهر أن الثاني من الثالث ، إذ الاستغفار نوع من الدعاء ، وأما الآية فهي مشتركة الإلزام ، إذ هو لا ينكر أنها منه تعالى بمعنى الرحمة إنما يمنع انه حقيقة ، ولذا أجاب عن الآية بعد ذلك بإنكار اقتضاء العطف المغايرة ناقلا له عن مغني ابن هشام مستشهدا له بهذه الآية وغيرها ، وفيه أنه لا ريب في ظهور العطف بذلك إلا مع القرينة ، ولعل الآية منه ، لا أن أصل العطف لا ظهور له بذلك ، فتأمل.

وربما قيل : إنها لغة المتابعة أيضا ، وحسن الثناء من الله تعالى على رسوله (ص) وفيه أن الثاني مجاز قطعا بناء على أنها في الرحمة حقيقة ، ولعل من ذكره أراد إبدال الرحمة به ، وفي النهاية قيل : إن أصلها في اللغة التعظيم ، ولعل منه الصلوات لله في تشهد الناس.

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٥٢.

٥

وعن بعضهم أنها بمعنى السبحة أي التنزيه ، ولذا سميت به في قوله تعالى : ( فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ) (١) ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) (٢) إلى آخره. لكن الغالب إطلاق السبحة على النافلة في النصوص (٣).

وقد يقال بملاحظة استعمالها في بيت الأعشى ، وقوله تعالى ( عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) (٤) و ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٥) و ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ) (٦) و « اللهم صل على محمد وآله » ونحو ذلك مع أصالة عدم الاشتراك وظهور اتحاد المراد منها في قوله تعالى ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ ) إنها بمعنى أعم من الدعاء ينطبق عليها جميعها ، كمطلق طلب الخير وإرادته مثلا ، وإن كان هو بالنسبة إلى الله عين الفعل ، لعدم تخلفه عن الإرادة ، فالمراد حينئذ من الآية ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ ) يريدون الخير من الرحمة والبركة والشفاعة والتعظيم وغيرها لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيا أيها الذين آمنوا أنتم أيضا أريدوا به كذلك كما يريد الله له ، وكذا المراد من قوله : « اللهم صل على » إلى آخره ، بل وقوله تعالى ( عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ) لما عرفت أن إرادته لا بد من أن تكون سببا لوقوع المراد من البركة ونحوها ، بل وكذا بيت الأعشى وغيره مما ينطبق عليها جميعها ، لكن روى الصدوق في المحكي عن‌ معاني الأخبار مسندا إلى أبي حمزة (٧) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ ) إلى آخره فقال : الصلاة من الله عز وجل‌

__________________

(١) سورة الروم ـ الآية ١٦.

(٢) سورة طه ـ الآية ١٣٠ وسورة المؤمن ـ الآية ٥٧ وسورة ق ـ الآية ٣٨ وسورة الطور الآية ٤٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب المواقيت من كتاب الصلاة.

(٤) سورة البقرة ـ الآية ١٥٢.

(٥) سورة الأحزاب ـ الآية ٥٦.

(٦) سورة الأحزاب ـ الآية ٥٦.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الذكر ـ الحديث ١ من كتاب الصلاة.

٦

رحمة ، ومن الملائكة تزكية ، ومن الناس دعاء ـ إلى ان قال ـ : فقلت له : كيف نصلي على محمد وآله؟ قال عليه‌السلام : تقولون صلوات الله وصلوات ملائكته وأنبيائه ورسله وجميع خلقه على محمد وآل محمد ، والسلام عليه وعليهم ورحمة الله وبركاته ، قلت : فما ثواب من صلى بهذه الصلوات؟ قال : الخروج من الذنوب والله كهيئة يوم ولدته أمه » وفي‌ خبر كعب بن عجرة (١) المروي عن المجالس والأمالي « قلت : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ فقال : قولوا : اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنك حميد مجيد » وهما معا كما ترى يمكن عدم منافاتهما لما ذكرنا ، ولقد عثرت بعد ذلك على كلام للفاضل المتبحر ابن هشام في المغني يقرب مما قلناه ، بل هو هو ، حيث إنه بعد أن حكى عن بعضهم أن الصلاة المقدرة في قوله تعالى ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ ) إلى آخره بمعنى الرحمة ، والموجودة بمعنى الاستغفار ، قال : « قلت : الصواب عندي أن الصلاة لغة بمعنى واحد ، وهو العطف ، ثم العطف بالنسبة إلى الله تعالى الرحمة ، وإلى الملائكة الاستغفار ، وإلى الآدميين دعاء بعضهم لبعض ».

وأما قول الجماعة فبعيد من جهات ، إحداها اقتضاؤه الاشتراك ، والأصل عدمه ، لما فيه من الالتباس ، حتى أن قوما نفوه ، ثم المثبتون له يقولون متى عارضه غيره مما يخالف الأصل كالمجاز قدم عليه. الثانية أنا لا نعرف في العربية فعلا واحدا يختلف معناه باختلاف المسند إليه إذا كان الاسناد حقيقيا. الثالثة أن الرحمة فعلها متعد والصلاة فعلها قاصر ، ولا يحسن تفسير القاصر بالمتعدي ، الرابعة أنه لو قيل مكان صلى عليه دعا عليه انعكس المعنى ، وحق المترادفين صحة حلول كل منهما محل الآخر ، فتأمل.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الذكر ـ الحديث ٢ من كتاب الصلاة.

٧

واما شرعا فقد ذكروا لها تعريفات متعددة لا فائدة في التعرض لها ، ولقد أجاد في المدارك حيث قال : « هي أشهر من أن يتوقف معناها على التعريف اللفظي ، وهو كذلك ، على أنه لا يكاد يسلم شي‌ء منها عن نقض في طرده أو عكسه أو اشتماله على ما يخرجه عن قياس التعاريف ، بل لعل ذلك كالمتعسر باعتبار اختلاف أحوالها بالنسبة للمختار والمضطر والصحيح والسقيم ، فتارة تكون أقوالا محضة ، وأخرى أفعالا كذلك ، وأخرى تجمعهما ، ولكل من الأحوال الثلاثة أحوال أيضا ، وإن أبيت إلا التعريف فالأولى تعريفها بأنها العبادة التي اعتبر الشارع في افتتاحها التكبير أو بدله ، واختتامها التسليم أو بدله ، وان كنت لا أضمن عدم ورود شي‌ء عليه ، وعلى كل حال فهي بهذا المعنى أمر شرعي لا مدخلية للغة فيه ، وأنى وأهل اللغة وهذا المعنى ، إنما البحث في أنها حقيقة شرعية أو مجاز ، وقد فرغنا من ذلك في الأصول ، وذكرنا أن الحق الأول ، وذكر بعض أهل اللغة لهذا المعنى في سلك ما ذكر من المعاني لهذا اللفظ لا يقتضي الوضع له لغة بعد أن جرت عادتهم أو الأكثر منهم على عدم الاقتصار على ذكر الحقائق اللغوية ، بل يذكرون كلما يستعمل فيه اللفظ وان كان مجازا ، على أن من المحتمل كون ذكرهم لهذا المعنى وان كان هو حقيقة شرعية باعتبار أن أهل الشرع من أهل اللغة أيضا ومن العرب الفصحاء ، وحينئذ تندرج بهذا الاعتبار في الحقائق اللغوية ، إذ جعل خصوص الوضع عندهم حقيقة شرعية انما هو مجرد اصطلاح حادث لا يجب جريان كتب اللغة عليه ، خصوصا إذا قلنا : إن لفظ الصلاة والحج ونحوهما موضوعة لمعان شرعية قبل زمن شرعنا ، ضرورة وجود الصلاة والحج وغيرهما عند اليهود والنصارى وغيرهما من كفار العرب على وجه يسمونه بهذه الأسماء في لغة العرب ، كما أنه يسمونه بغيرها بالفارسية ونحوها ، فهي حقائق في عباداتهم قبل زمن‌

٨

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو انما غير بعض أجزاء عباداتهم أو أكثرها ، وذلك لا يقتضي تغير الاستعمال بحسب الحقيقة كما هو الشأن في المعاملات » وكأنه مال إلى ذلك الأستاذ الأكبر فيما حكي من حاشيته على المدارك ، وفيه ـ بعد تسليم قدم تسمية تلك العبادات بهذه الأسماء منهم وأن لهم عبادات معتبرة لا أنها مكاء وتصدية ـ أنه لا يخفى على المطلع عليهما كمال التباين بينهما بحيث يقطع بعدم إرادة المعنى القديم منها في هذا الاستعمال ، وبنقلها من ذلك المعنى إلى معنى جديد وإن اشتركا في أنهما عبادة ، كما هو واضح ، كوضوح المناسبة بين المعنى الشرعي والمعنى اللغوي بناء على أنه الدعاء ، أو ما ذكرناه من طلب الخير وإرادته وان لم يكن بعنوان الدعاء ، لاشتماله على كل منهما ، ولو قيل انه منقول منها بمعنى المتابعة اختصت المناسبة حينئذ ببعض أفرادها إلا أن يلاحظ أو يراد تتابع الأجزاء ، وهو كما ترى.

وأبعد منه ما قيل عن الجمهرة عن بعضهم ان اشتقاقها من رفع الصلاة في السجود ، وهو العظم الذي عليه الأليتان ، فهي فعلة من بنات الواو ، وان كان ربما يؤيده تعارف كتابتها به ، إلا أنه قد يقال كما عن البيضاوي كتبت بالواو على لفظ المفخم أي من يميل الألف إلى مخرج الواو ، ومثله في البعد ما عن الجمهرة عن ذلك البعض ان اشتقاقها من صليت العود بالنار أي لينته ، لأن المصلي يلين قلبه وأعضائه مخشوعة من بنات الياء ، بل في الذكرى نسبة ذلك وسابقه إلى أهل اللغة ، قال جعلوها فعلة من صلى أي حرك صلاته ، لأن المصلي يفعل ذلك ، أو من صليت العود أي لينته ، ولا يخفى عليك ما فيه ، وأنا في غنية عنه ، وما أبعد ما بين هذين الأخيرين وبين القول بأن المراد منها في الاستعمال الشرعي الدعاء ، وان ما عداه كله واجبات أخر ، فهي كالمعاملة ، ولا ريب في ضعفه بل بطلانه.

نعم يمكن دعوى ذلك في صلاة الأموات ، فتكون حينئذ حقيقة لغوية مجازا‌

٩

شرعيا كما هو المشهور على ما في الروض ، وربما قيل بأنها مجاز لغوي أيضا نظرا إلى إرادة خصوص دعاء على خصوص حال منها ، بل وغير الدعاء من التكبير ونحوه ، كما انه ربما قيل بأنها حقيقة شرعية ، ولعله ظاهر المصنف وغيره ممن ذكرها في التعداد ، إذ احتمال ذكرهم الأعم من الحقيقة والمجاز كوضوء الحائض ونحوه في الوضوء بعيد ، ويؤيده ـ مع عدم صحة السلب ، وقيل من دلالة بعض النصوص (١) ـ انها كذلك قطعا في عرف المتشرعة ، وهو عنوان الحقيقة الشرعية ، وتبادر ذات الأركان من الإطلاق كما في المدارك لا ينافيها ، إذ لعله لأنه أظهر الفردين وأكثرهما استعمالا ، كما أن كون معظم صلاة الجنازة الدعاء لا يقتضي البقاء على الحقيقة اللغوية بعد أن علم أن إطلاق لفظ الصلاة عليه ليس للدعاء ، بل لا ريب في ملاحظة الخصوصية وباقي الأحوال أيضا ، ولذا لا يطلق في العرف لفظ الصلاة على غيره من الدعاء ، كما انه لا يطلق على هذا الحال المخصوص غير لفظ الصلاة ، ونفي الصلاة بنفي الطهارة والفاتحة اللتين لا يجبان فيها قطعا يراد منه بالنسبة إلى ما اعتبر فيها ذلك كاليومية ، لا نفي مطلق مسمى الصلاة ، كالوصف بالتحليل بالتسليم ، بل وكذا‌ الصحيح (٢) « عن الجنازة أصلي عليها على غير وضوء ، فقال : نعم انما هو تكبير وتسبيح وتحميد وتهليل كما تكبر وتسبح في بيتك على غير وضوء » يراد منه أنها صلاة لكن ليست تلك الصلاة التي يعتبر فيها ذلك ، بل هي شي‌ء آخر سماه الشارع صلاة ، ومن ذلك تعرف ما في استدلال بعضهم على خروجها عن الصلاة بالنصوص (٣) ضرورة إرادة نفي مسمى صلاة خاص منها لا مطلقا ، فتأمل جيدا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ وغيره ـ من أبواب صلاة الجنازة من كتاب الطهارة.

(٢) الوسائل ـ الباب ٢١ ـ من أبواب صلاة الجنازة ـ الحديث ٣ من كتاب الطهارة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب صلاة الجنازة والباب ٩ منها ـ الحديث ٥.

١٠

وكيف كان فـ ( العلم بها ) أي الصلاة يستدعي بيان أربعة أركان‌

( الركن الأول )

في المقدمات بفتح الدال وكسرها ، وهي ما تتقدم على الماهية ، إما لتوقف تصورها كذكر أقسامها وكمياتها ، أو لاشتراطها بها ، أو لكونها من المكملات السابقة عليها ، وهي سبع :

( الاولى في أعداد الصلوات‌ )

والمفروض منها ولو بسبب من المكلف تسعة حصرا استقرائيا من الأدلة التي تمر عليك في محالها إن شاء الله صلاة اليوم والليلة والجمعة والعيدين والكسوف الشامل للخسوف والزلزلة والآيات والطواف الواجب والأموات وما يلتزمه الإنسان بنذر وشبهه كالعهد واليمين والإجارة على غير القضاء ونحوها ، وربما عدت سبعة بإدراج الزلزلة والكسوف في الآيات كادراج القضاء حتى من الولي بل ربما قيل والمستأجر عليه والمتبرع به وصلاة الاحتياط في اليوم والليلة ، أو الأخير في شبه النذر ، لأن الشك أيضا من الملزمات ، بل ربما قيل هو والقضاء ، والإدراج الأول أجود ، وربما عدت ستة بناء على خروج صلاة الأموات عن حقيقة الصلاة ، بل قد يقال ينبغي عدها حينئذ خمسة بإدراج الجمعة في اليومية ، بل أربعة اقتصارا على الفرائض الأصلية ، والأمر سهل بعد الاتفاق منا على أن ما عدا ذلك مسنون وهو كثير كما تعرفه فيما يأتي إن شاء الله ، بل ومن غيرنا كما حكاه غير واحد عدا ما يحكى عن أبي حنيفة من وجوب الوتر ، ولا ريب في ضعفه ، وإن‌ ورد (١) عن الباقر عليه‌السلام « الوتر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٤ هكذا في النسخة الأصلية لكن في الوسائل‌ « والمغرب وتر النهار » كما في التهذيب وهو الصحيح.

١١

في كتاب علي واجب ، وهو وتر الليل والمغرب ووتر النهار » لكنه محمول على التقية أو التأكيد أو بالنسبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في‌ خبر الساباطي (١) قال : « كنا جلوسا عند الصادق عليه‌السلام بمنى فقال له رجل : ما تقول في النوافل؟ فقال : فريضة ، قال : ففزعنا وفزع الرجل ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنما أعني صلاة الليل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إن الله يقول ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ) أو غير ذلك ، وعن حماد بن زيد قلت لأبي حنيفة : « كم الصلوات؟ فقال : خمس ، فقلت : فالوتر فقال : فرض ، قالت : لا أدري تغلط في الجملة أو التفصيل » لكن الانصاف كما عن المنتهى أن هذه السخرية غير لائقة بأبي حنيفة ، نعم قيل بناء عليه ينبغي أن لا تكون وسطى في الصلوات ، لأن اليومية حينئذ تكون ستة ، مع أنه يمكن أن يعتبر الوسط بحيث لا ينافي أنها ستة. ثم من المعلوم أن المراد المفروض بالأصل في الجملة ، وإلا فقد يتفق الندب له عارضا كالعيدين ، أو الحرمة كالجمعة على قول ، والتخيير على آخر ، أو يكون بعض أفراده مندوبا كإعادة الفريضة ، خصوصا الكسوف ، والصلاة على من لم يبلغ الست ، ونحو ذلك.

وأما تفصيل هذه الفرائض فـ ( صلاة اليوم والليلة خمس ) الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح ، وقد كانت في الأصل خمسين ، إلا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من ربه التخفيف عن أمته حتى أنهاها إلى الخمس كما دل عليه بعض الأخبار (٢) ولم يخففها إما لحيائه بعد من المراجعة لربه ، أو لأنه أراد بلوغ الخمسين أيضا باعتبار أن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، ولا خلاف في وجوبها فيهما ، بل هي من ضروريات الدين المستغنية عن الاستدلال بالكتاب المبين ، وإجماع المسلمين ، والمتواتر من سنة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٥ و ١٠.

١٢

سيد المرسلين والأئمة المهديين (ص) وكذا من ضرورياته أيضا أن الخمس هي سبع عشرة ركعة في الحضر : الصبح ركعتان ، والمغرب ثلاث ركعات ، وكل واحدة من البواقي أربع وكانت في الأصل عشر ركعات ، في كل وقت ركعتان ، إلا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أضاف إليها سبعة ، فصارت سبع عشرة ركعة كما دلت عليه بعض النصوص (١) بل ومن ضروريات مذهبنا أو كضرورياته أنه يسقط من كل رباعية في السفر ركعتان ، وهما الأخيرتان اللتان زادهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومثله الخوف على ما ستعرف إن شاء الله تعالى.

وأهم الخمس وآكدها بنص الكتاب (٢) فضلا عن غيره الوسطى ، وهي الظهر ، للصحيح (٣) عن الباقر عليه‌السلام وإن كانت هي أول صلاة صلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن لأن وقتها وسط النهار ، أو لأنها متوسطة بين صلاتي نهار الغداة والعصر ، أو لأنها وسط بين نافلتين متساويتين ، ولما عن الشيخ من الإجماع عليه ، والمروي عن زيد بن ثابت (٤) انه قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ، ولم يكن صلاة أشد على الصحابة منها ، فنزلت ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) » خلافا لما عن المرتضى من أنها العصر مدعيا الإجماع أيضا عليه‌ للمرسل (٥) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر » والمرسل عن الحسن بن أمير المؤمنين عليهما‌السلام (٦) عن النبي ( صلى الله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ١٤.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ٢٣٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ١.

(٤) سنن أبي داود ج ١ ص ١٦٧ ـ الرقم ٤١١.

(٥) المستدرك ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ١١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٧.

١٣

عليه وآله ) إلى أن قال : « فهي من أحب الصلوات لله عز وجل ، وأوصاني بحفظها من بين الصلوات » ولأنها وسط بين صلاتي نهار وصلاتي ليل ، ولبعض الأخبار العامية (١) ولا ريب أن الأول أقوى ، لصحة روايته ، وقوة اعتباره ، قيل وهنا أقوال أخر كأنها للعامة ، منها أنها الصبح ، لتوسطها بين صلاتي الليل وصلاتي النهار ، وبين الضياء والظلام ، ولأنها لا تجمع مع أخرى ، فهي منفردة بين مجتمعتين ، ولمزيد فضلها بحضور ملائكة الليل والنهار ، كما قال الله تعالى (٢) ( إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) ولما فيها من المشقة التي تناسب الأمر بالمحافظة عليها ، لأنها مظنة التضييع بسبب البرد في الشتاء ، وطيب النوم في الصيف مع فتور الأعضاء وكثرة النعاس وشدة الغفلة ومحبة الاستراحة ، ومنها أنها المغرب ، لتوسطها بين بياض النهار وسواد الليل ، وأزيد من ركعتين وأقل من أربع ، فهي متوسطة بين رباعي وثنائي ، ولا تنقص في السفر مع زيادتها على الركعتين ، فناسب التأكيد بالأمر بالمحافظة عليها ، ولأن الظهر هي الأولى ، إذ قد وجبت أولا فيكون المغرب هي الوسطى ، ومنها أنها العشاء ، لأنها متوسطة بين صلاتين لا يقتصران : الصبح والمغرب ، أو بين ليله ونهاره ، ولأنها أثقل صلاة على المنافقين ، وقيل هي مخفية مثل ليلة القدر ، وعن بعض أئمة الزيدية أنها الجمعة في يومها ، والظهر في غيرها وأنت خبير أن ذلك كله اعتبارات واستحسانات وتهجسات لا يجوز أن تكون مدركا لحكم شرعي ، إنما الواجب الرجوع في ذلك إلى مهابط الوحي وخزان العلم ومعادن السر ، وقد عرفته ، والله أعلم.

وأما نوافلها أي الفرائض في الحضر فـ ( أربع وثلاثون ركعة على الأشهر ) نصا وفتوى ، بل المشهور نقلا وتحصيلا ، بل في فوائد الشرائع أنه‌

__________________

(١) كنز العمال ـ ج ٤ ـ ص ٨٣ ـ الرقم ١٧٠٢.

(٢) سورة الإسراء ـ الآية ٨٠.

١٤

المعروف في المذهب ، بل في المختلف والذكرى والمدارك لا نعلم فيه مخالفا ، كالدروس عليه فتوى الأصحاب ، ونحوه كاشف الرموز لكن بتغيير الفتوى بالعمل ، بل عن الخلاف والانتصار والمهذب وغاية المرام ومجمع البرهان الإجماع عليه ، وتفصيلها أمام الظهر ثمان ، وقبل العصر مثلها ، وبعد المغرب أربع ، وعقيب العشاء ركعتان من جلوس تعدان بركعة ، وإحدى عشر صلاة الليل مع ركعتي الشفع والوتر ، وركعتان للفجر فيكون حينئذ مجموع الفريضة والنافلة إحدى وخمسين ركعة ، ويدل عليه ـ مضافا إلى ما عرفت ـ الصحيح (١) عن الصادق عليه‌السلام « الفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة ، منها ركعتان بعد العتمة جالسا تعدان بركعة وهو قائم ، الفريضة منها سبع عشرة ركعة ، والنافلة أربع وثلاثون ركعة » وخبر البزنطي (٢) « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : إن أصحابنا يختلفون في صلاة التطوع بعضهم يصلي أربعا وأربعين ركعة ، وبعضهم يصلي خمسين ، فأخبرني بالذي تعمل به أنت كيف هو؟ حتى أعمل بمثله ، فقال : أصلي واحدة وخمسين ركعة ، ثم قال : أمسك وأعقد بيده الزوال ثمانية ، وأربعا بعد الظهر ، وأربعا قبل العصر ، وركعتين بعد المغرب ، وركعتين قبل عشاء الآخرة ، وركعتين بعد العشاء من قعود تعدان بركعة من قيام ، وثمان صلاة الليل ، والوتر ثلاثا ، وركعتي الفجر ، والفرائض سبع عشرة ركعة ، فذلك إحدى وخمسون ركعة » ونحوهما صحيح إسماعيل (٣) عن الرضا عليه‌السلام ، بل ومرفوع ابن أبي قرة (٤) المشتمل على ذكر الوجه للواحدة والخمسين ، والصحيح أيضا (٥) عن الفضيل والبقباق وبكير ، قالوا : « سمعنا أبا عبد الله عليه‌السلام يقول كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي من التطوع مثلي الفريضة ، ويصوم من التطوع مثلي الفريضة ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ١١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ١٠.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٤.

١٥

وعلى هذه استقر عمل الأصحاب كما اعترف به غير واحد ، فلا يصغى حينئذ بعد ذلك إلى ما عارضها وان صح سنده مما دل (١) على أن النافلة ثلاثة وثلاثون ركعة بإسقاط الوتيرة ، وان كان يشهد له أيضا‌ الأخبار (٢) المستفيضة « ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يصلي بعد العشاء شيئا حتى ينتصف الليل » أو ما دل (٣) على أنها تسعة وعشرون بإسقاط أربعة من نافلة العصر معها ، وان كان عليه ينطبق‌ خبر يحيى ابن حبيب (٤) « سألت الرضا عليه‌السلام عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله تعالى من الصلاة ، قال : ستة وأربعون ركعة فرائضه ونوافله ، قلت : هذه رواية زرارة قال : أو ترى أحدا كان أصدع بالحق منه » أو سبعة وعشرون بإسقاط ركعتين من نافلة المغرب معها (٥) أيضا ، وإن كان عليه ينطبق أيضا‌ صحيح ابن سنان (٦) « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لا تصل أقل من أربع وأربعين ركعة ، قال : ورأيته يصلي بعد العتمة أربع ركعات » خصوصا.

لكن قد أجاب في المدارك والذخيرة والرياض وغيرها عنها جميعها بأنه ليس في شي‌ء منها عدم استحباب الزائد كي تحصل المنافاة ، بل أقصاه تأكد استحباب ذلك فلا ينافي استحباب الأكثر حينئذ ، قال الأول : وربما كان في‌ قوله عليه‌السلام في صحيح ابن سنان : « لا تصل أقل » إلى آخره إشعار بذلك ، ولا بأس به لو أن الأخبار كلها كما ذكر ، لكنه ليس كذلك ، إذ منها خبر يحيى بن حبيب المتقدم ، ومنها‌ خبر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ١ و ٤ والباب ٥٣ الحديث ٣ من كتاب الصلاة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب أعداد الفرائض.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٥.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٤.

١٦

ابن أبي عمير (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أفضل ما جرت به السنة ، فقال : تمام الخمسين » ومنها‌ خبر عمر بن حريث (٢) الذي سأل فيه الصادق عليه‌السلام « عن صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكرها له بإسقاط الوتيرة ، فقال له : جعلت فداك فان كنت أقوى على أكثر من هذا يعذبني الله على كثرة الصلاة ، فقال : لا ، ولكن يعذب على ترك السنة » إذ لا ريب في دلالته على نفي الزيادة ، خصوصا وقد‌ روى الصدوق عن الصيقل (٣) عن الصادق عليه‌السلام « اني لأمقت الرجل يأتيني فيسألني عن عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول أزيد كأنه يرى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قصر في شي‌ء » الحديث. ومنها‌ صحيح زرارة (٤) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما جرت به السنة في الصلاة؟ فقال : ثمان ركعات الزوال ، وركعتان بعد الظهر ، وركعتان قبل العصر ، وركعتان بعد المغرب ، وثلاثة عشر ركعة من آخر الليل ، منها الوتر وركعتا الفجر ، قلت : فهذا جميع ما جرت به السنة ، قال : نعم ، فقال أبو الخطاب : أفرأيت إن قوي فزاد؟ قال : فجلس وكان متكئا فقال : إن قويت فصلهما كما كانت تصلي ، إذ كما ليست في ساعة من النهار فليست في ساعة من الليل ، إن الله عز وجل يقول ( وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ ) (٥) » إلى غير ذلك.

فالأولى حمل بعضها على ما ذكر ، وبعضها على إرادة عدم صلاة الوتيرة محتسبا لها من صلاة الليل ، كما يومي اليه‌ حسن الحلبي (٦) « سألت الصادق عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٦.

(٣) الفقيه ـ ج ١ ص ٣٠٣ من طبعة النجف.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٣.

(٥) سورة طه ـ الآية ١٣٠.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ١.

١٧

هل قبل العشاء الآخرة وبعدها شي‌ء؟ قال : لا غير أني أصلي بعدها ركعتين ، ولست أحسبهما من صلاة الليل ».

بل قيل ومن الرواتب ، لأن الظاهر أن فعلها لأجل إتمام كون النافلة ضعف الفريضة ، كما يومي اليه‌ خبر سليمان بن خالد (١) عن الصادق عليه‌السلام « صلاة النافلة ثمان ركعات حين تزول الشمس قبل الظهر ، وست ركعات بعد الظهر ، وركعتان قبل العصر ، وأربع ركعات بعد المغرب ، وركعتان بعد العشاء الآخرة ، تقرأ فيهما مائة آية قائما أو قاعدا ، والقيام أفضل ، ولا تعدهما من الخمسين ، وثمان ركعات من آخر الليل تقرأ في صلاة الليل بقل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون في الركعتين الأولتين ، وتقرأ في سائرها ما أحببت من القرآن ، ثم الوتر ثلاث ركعات تقرأ فيها جميعا قل هو الله أحد ، وتفصل بينهن بتسليم ، ثم الركعتان اللتان قبل الفجر تقرأ في الأولى منهما قل يا أيها الكافرون ، وفي الثانية قل هو الله أحد » ومنه يستفاد استحباب قراءة مائة آية فيهما ، وفي الذكرى « انه روى ابن أبي عمير (٢) عن الصادق عليه‌السلام انه كان يقرأ فيهما الواقعة والتوحيد » انتهى.

أو على ما في‌ خبر أبي بصير (٣) المروي عن العلل عن الصادق عليه‌السلام « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيتن إلا بوتر ، قال : قلت : يعني الركعتين بعد العشاء الآخرة قال : نعم ، إنهما بركعة ، فمن صلاهما ثم حدث به حدث مات على وتر ، فان لم يحدث به حدث الموت يصلي الوتر في آخر الليل ، فقلت : هل صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هاتين؟ قال : لا ، قلت : ولم؟ قال : لأن رسول الله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ١٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٨.

١٨

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأتيه الوحي وكان يعلم أنه هل يموت أم لا؟ وغيره لا يعلم ، فمن أجل ذلك لم يصلهما وأمر بهما ».

أو على إرادة الفريضة والنافلة من العشاء والعتمة التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصل بعدها شيئا حتى ينتصف الليل.

أو على التعريض بما تصنعه العامة من صلاة وتر غير الوتيرة بعد العشاء ، فان استيقظوا آخر الليل أعادوه ، فيكون وتران في ليلة ، وإلا اكتفوا بذلك ، وطرح ما لا يقبل شيئا من ذلك ، أو غيره ، ولا بأس به بعد أن اعترف غير واحد بعدم العمل بشي‌ء منها ، ومعارضتها بما سمعت ، وبخصوص ما دل على كل واحد مما نفته من الوتيرة وغيرها مما سيمر عليك بعضه إن شاء الله ، بل ورد (١) في أخبار نوافل شهر رمضان أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلي الوتيرة من جلوس فلاحظ هناك ، وكذا يطرح ما دل (٢) على الصلاة أربعا بعد العتمة ، أو يراد غير الرواتب منه ، أو قضائها.

ثم ان ظاهر المصنف كغيره من الأصحاب أن الثمان الأولى نافلة الظهر ، والثمانية الثانية نافلة العصر ، بل في المدارك والذخيرة أنه المشهور بين الأصحاب ، بل عن المهذب البارع أن عليه عمل الطائفة ، بل عن أمالي الصدوق أن من دين الإمامية الإقرار بأن نافلة العصر ثمان ركعات قبلها ، وقد يشهد له تتبع كلمات الأصحاب في المقام والمواقيت وغيرهما ، حيث أضافوهما إلى الفريضة حتى عند التعرض لسقوطهما قالوا مثلا تسقط نوافل الظهرين ، بل قيل : إن بعض العبارات التي تحتمل أنها نوافل للأوقات كالمقنعة والخلاف والنهاية والمبسوط وجمل السيد والوسيلة والغنية والسرائر وغيرها حيث قيل فيها ثمان قبل الظهر ، وثمان قبل العصر ، ونحو ذلك مما لا ظهور فيه بكونها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب نافلة شهر رمضان ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب بقية الصلوات المندوبة.

١٩

نوافل للفرائض كالنصوص قد أضيفت فيها إليها في مواضع عديدة غير هذا الموضع ، ولعله لم يلحظها الشهيد في الذكرى ، ولذا قال : إن معظم الأخبار والمصنفات خالية عن التعيين للعصر وغيرها ، وتبعه على ذلك بالنسبة للأخبار غيره كسيِّد المدارك وفاضل الذخيرة ، والظاهر أن الأمر كما ذكروه ، إذ لم نقف على خبر صريح في كونها نوافل للفرائض ، بل ولا مضافة إليها إلا ما ستسمعه من بعض النصوص التي تمر عليك في سقوط النافلة في السفر ، بل ربما كان بعض النصوص (١) ظاهرا في أن الثمان الأولى نافلة للزوال نفسه ، كما يومي اليه إضافتها اليه وغيرها ، بل قد يظهر من مرفوع ابن أبي قرة (٢) أن جميع النوافل للأوقات كالفرائض ، وأصرح خبر ادعي دلالته ما رواه‌ الصدوق في العلل عن عبد الله بن سنان (٣) « سأل الصادق عليه‌السلام لأي علة أوجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاة الزوال ثمان قبل الظهر ، وثمان قبل العصر ، فقال عليه‌السلام : لتأكيد الفريضة ، لأن الناس لو لم يكن إلا أربع ركعات الظهر لكانوا مستخفين حتى كان يفوتهم الوقت ، فلما كان شي‌ء غير الفريضة أسرعوا إلى ذلك لكثرته ، وكذلك الذي قبل العصر ليسرعوا إلى ذلك لكثرته » وهو كما ترى لا صراحة فيه بل ولا ظهور ، نعم قيل في العيون خبر كعبارة الأمالي ولم نقف على متنه ، لكن لعل فيما سمعت من الإجماع المحكي المتقدم كفاية ، خصوصا بعد شهادة التتبع له ، إذ لم يحك عن أحد الخلاف في ذلك سوى ما يحكى عن ظاهر هداية الصدوق من جعل الست عشر نافلة الظهر ، وهو منه عجيب بعد نقله الإجماع المزبور ، ولعله هو الذي أراده الراوندي فيما حكي عنه من نسبة جعل الست عشر للظهر إلى بعض الأصحاب ، وسوى ما يحكى عن ظاهر الإسكافي من جعل ركعتين خاصة من الثمانية الثانية للعصر ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ١٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب أعداد الفرائض ـ الحديث ٢١.

٢٠