جواهر الكلام - ج ٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

صحيح عبد الرحمن (١) : « لا يصلي على الدابة الفريضة إلا مريض يستقبل القبلة ، وتجزيه فاتحة الكتاب ويضع بوجهه في الفريضة على ما أمكنه من شي‌ء ، ويومي في النافلة إيماء » وفي‌ موثق عبد الله بن سنان (٢) قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « أيصلي الرجل شيئا من المفروض راكبا؟ قال : لا إلا من ضرورة » ونحوهما غيرهما.

بل لعل إطلاق الفريضة في النص والفتوى يشمل المنذورة ونحوها مما وجب بالعارض كما صرح به بعضهم ، بل لا خلاف أجده فيه ، بل في الذكرى لا تصح الفريضة على الراحلة اختيارا إجماعا ، لاختلال الاستقبال وإن كانت منذورة ، سواء نذرها راكبا أو مستقرا على الأرض ، لأنها بالنذر أعطيت حكم الواجب ، وقد يستظهر منه الإجماع كالتذكرة ، قال : لا تصلى المنذورة على الراحلة ، لأنها فرض عندنا ، ثم نقل عن أبي حنيفة أنه لو نذرها وهو راكب يؤديها على الراحلة ، ثم قال : وليس بشي‌ء ، لكن قد يناقش فيه إن لم يتم الإجماع عليه بأنه مخالف للأصل وعموم ما دل (٣) على وجوب الوفاء بالنذر ، وخصوص‌ خبر علي بن جعفر (٤) « سألته عن رجل جعل لله عليه أن يصلي كذا وكذا هل يجزيه أن يصلي ذلك على دابته وهو مسافر؟ قال : نعم » وما في المدارك من أن في الطريق محمد بن أحمد العلوي ولم يثبت توثيقه قد يدفعه ما قيل من تصحيح الفاضل في غير موضع من المنتهى والمختلف روايته ، وأنه ممن يروي عنه محمد بن أحمد بن يحيى ، ولم يستثن من كتاب نوادر الحكمة ، بل في شرح المفاتيح أنه ربما يظهر من ترجمة العمركي كونه من شيوخ أصحابنا ، ويروي عنه الأجلاء ، مضافا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١ من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٤ من كتاب الصلاة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الكفارات ـ الحديث ٦ من كتاب الإيلاء والكفارات.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٦.

٤٢١

إلى موافقة الخبر المزبور لمقتضى الأصل والقاعدة ، والى انه مروي بطريقين : أحدهما ما عرفته ، والثاني رواه الشيخ عن علي بن جعفر ، وطريقه اليه صحيح ، وقد تدفع بعموم دليل المنع الذي هو أخص منهما ، وبأن الخبر غير معلوم الحجية ، لعدم ثبوت صحته ، مع أنه غير صريح الدلالة ، بل ولا ظاهرها إلا من حيث العموم لحالتي الاختيار والضرورة ، ويمكن تخصيصه بالأخيرة جمعا ، اللهم إلا أن يمنع عموم دليل المنع ، لاختصاصه بحكم التبادر ، وعدم عموم اللغوي فيه ، بناء على التحقيق من كون نفي الطبيعة من باب المطلق المنصرف الى الفرد الشائع ، خصوصا مع غلبة التعبير بلفظ الفريضة المستعمل كثيرا في النصوص فيما استفيد وجوبه من الكتاب لا السنة بالصلوات الخمس اليومية ، أو بالفرض الأصلي ، بل في شرح المفاتيح أنه هو الفرد المتبادر الشائع الغالب ، لا ما يشمل العارضي الذي مقتضى استصحاب حاله ثبوت حكمه لحال الوجوب العارضي ، وهو أخص من دليل المنع لو سلم عمومه لذلك.

ومن هنا كان القول بخروج النافلة المنذورة عن الحكم المذكور لا يخلو من قوة وإن كان الأحوط المنع ، تحصيلا للبراءة اليقينية ، سيما مع مقابلة الفريضة بالنافلة في‌ خبر منصور بن حازم (١) قال : « سأله أحمد بن النعمان فقال : أصلي في محملي وأنا مريض فقال : أما النافلة فنعم ، وأما الفريضة فلا » وهو مشعر بالعموم ، لكن الاشعار لا يصلي الاستناد إليه في المنع ، مضافا الى ضعف السند بالإضمار والجهالة ، بل في الرياض وتضمن ذيله عدم جواز الفريضة على الراحلة ولو حال الضرورة ، ولم يقل به أحد من الطائفة ، وفيه أن ذيله قال : « وذكر أحمد شدة وجعه ، فقال : أنا كنت مريضا شديد المرض فكنت آمرهم إذا حضرت الصلاة فينحوني ، فاحتمل بفراشي فأوضع وأصلي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١٠.

٤٢٢

ثم أحتمل بفراشي فأوضع في محملي » وهو مع أن (١) فعل أحمد بن النعمان قد يكون لا مشقة عليه في ذلك ، ولا ضرورة تدعو الى خلافه ، فيتجه حينئذ وجوبه تحصيلا لبعض ما يفوت بالركوب من الاستقرار ونحوه ، وعن الشيخ أنه حمله على الاستحباب ، ولعله لعدم المشقة المقتضية للوجوب ، أو أن الصلاة في المحمل للمريض من الرخص لا العزيمة التي تكون الصلاة مع خلافها فاسدة.

ومنه ينقدح الفرق بين أفراد الضرورة ، فمنها ما تقتضي الثاني كالخوف ونحوه ، ومنها ما تقتضي الأول كالمرض المستلزم للمشقة في الصلاة بغير المحمل ، فتأمل جيدا ، فان التمييز بينهما محتاج إلى لطف قريحة ، ضرورة مآله إلى الفرق بين الضرورة في مقدمات الفعل وبين الضرورة فيه ، وعلى كل حال فالقول المزبور على قوته ـ خصوصا إذا نذرها راكبا مثلا ، فإن الجرأة على بطلان هذا النذر الجامع للشرائط الفاقد للموانع ، أو الحكم بصحته ووجوبها جامعة لشرائط المختار مع أنه لم ينوه ولم ينوه ولم يقصده ، بل كان المقصود غيره ، وليس هو بمنزلة النذرين في الفرض المزبور بمجرد ظهور لفظ الفريضة ونحوها مما عرفته ـ في غاية الصعوبة لا يرتكبه فقيه ، ودعوى ظهور النصوص (٢) في أن التسامح المزبور في النافلة لمكان وصف النفل الذي ينافيه الوجوب العارضي يمكن منعها على مدعيها ، خصوصا في المقام ، فتأمل جيدا ، وقد يأتي إن شاء الله بعض البحث في ذلك ، والله الموفق.

نعم لا فرق على الظاهر بين الفرائض بالذات حتى صلاة الجنازة إجماعا كما عن إرشاد الجعفرية إذا ظهر الأركان فيها القيام والاستقبال المفروض فواتهما ، أو فوات أحدهما ، ولو سلم ظهور تلك النصوص (٣) في اليومية خاصة أو فيما لا يشملها أمكن‌

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية المبيضة ولكن في النسخة الأصلية المسودة « أنه ».

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب القبلة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب القبلة.

٤٢٣

الاستناد إلى إطلاق ما دل على اشتراط ذلك فيها السالم عن معارضة ما يقتضي جوازها على الراحلة المفوتة لذلك اختيارا.

أما الفرائض التي عرض لها وصف الاستحباب ففي إجراء حكم النافلة عليها وبقاء حكم الفرض وجهان ، أقواهما الثاني ، خصوصا مثل الفريضة المعادة احتياطا استحبابا ، ضرورة توقف الاحتياط على مراعاة أحكام المحتاط فيه ، وتسمع إن شاء الله بعض الكلام في ذلك في أحكام الخلل من الكتاب عند تعرض المصنف لحكم الشك في النافلة.

كل ذلك مع الاختيار ، أما الضرورة فلا خلاف في جوازها حينئذ ، بل الإجماع بقسميه عليه ، والنصوص (١) متظافرة أو متواترة فيه ، بل قوله تعالى (٢) ( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً ) دال عليه في الجملة ، نعم يحكى عن العامة التي جعل الله الرشد في خلافها منعها عند الضرورة أيضا إلا أن يخاف على نفسه أو ماله أو انقطاعه عن الرفقة ، فيصلي ثم يعيد إذا نزل عنها ، وهو مخالف لما عندنا من وجهين ، أحدهما التفصيل بين أفراد الضرورة ، والثاني وجوب الإعادة المخالف لقاعدة الاجزاء ، وللمراد من نفي البأس على الظاهر‌ في توقيع صاحب الزمان (ع) جعلت فداه لما كاتبه محمد بن عبد الله ابن جعفر الحميري (٣) « عن رجل يكون في محمله والثلج كثير بقامة رجل ، فيتخوف إن نزل الغوص فيه ، وربما يسقط الثلج وهو على تلك الحال ، ولا يستوي له أن يلبد شيئا منه لكثرته وتهافته ، هل يجوز أن يصلي في المحمل الفريضة؟ فقد فعلنا ذلك أياما ، فهل علينا في ذلك إعادة أم لا؟ فأجاب لا بأس به عند الضرورة والشدة » ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٤ و ٥ و ١١.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ٢٤٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١١.

٤٢٤

والتقييد بالشديدة في‌ مكاتبة عبد الله بن جعفر (١) أبا الحسن عليه‌السلام « روى جعلني الله فداك مواليك عن آبائك عليهم‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى الفريضة على راحلته في يوم مطر ، ويصيبنا المطر ونحن في محاملنا والأرض مبتلة والمطر يؤذي فهل يجوز لنا يا سيدي أن نصلي في هذا الحال في محاملنا أو على دوابنا الفريضة إن شاء الله؟ فوقع عليه‌السلام يجوز ذلك مع الضرورة الشديدة » لا يشهد لأول الوجهين قطعا ، بل الظاهر إرادة الضرورة المسوغة لذلك ، وهي التي لا تتحمل عادة ، لكن من المعلوم أن الضرورة تقدر بقدرها.

ولذا قال المصنف ويستقبل القبلة مع التمكن منها ، لإطلاق ما دل على اعتبارها السالم عن معارضة مقتضى الضرورة بالفرض فان لم يتمكن من الاستقبال بالجميع استقبل القبلة بما أمكنه من صلاته ، وينحرف إلى القبلة كلما انحرفت الدابة ، وإن لم يتمكن استقبل القبلة بتكبيرة الإحرام ، ولو لم يتمكن من ذلك أجزأته الصلاة وإن لم يكن مستقبلا بلا خلاف معتد به أجده في شي‌ء من ذلك ، لما عرفت ، ولبعض المعتبرة (٢) في السفينة التي جعل الصادق عليه‌السلام المحمل بمنزلتها في خبر ابن عذافر (٣) والمحكي عن المنتهى « لو اضطر إلى صلاة الفريضة على الراحلة صلى عليها واستقبل القبلة بما يمكنه ، ذهب إليه علماؤنا أجمع » فإطلاق النصوص (٤) الذي لم يسبق لبيان ذلك يجب تنزيله على ما عرفت ، لكن‌ قال أبو جعفر عليه‌السلام في صحيح زرارة (٥) « الذي يخاف اللصوص والسبع يصلي صلاة المواقفة إيماء على دابته ـ ثم قال ـ :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القبلة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القبلة.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٨.

٤٢٥

ويجعل السجود أخفض من الركوع ، ولا يدور إلى القبلة ولكن أينما دارت دابته غير أنه يستقبل القبلة بأول تكبيرة » ويستفاد منه كما في المدارك عدم وجوب الاستقبال إلا بتكبيرة الإحرام خاصة ، كالمحكي عن فقه الرضا عليه‌السلام (١) ولعله يحمل على إرادة المثال أو على عدم تمكنه من الاستقبال في غيرها ، كما يومي اليه عدم الركوع والسجود والاكتفاء بالإيماء عنهما ، على أن الغالب في خائف اللص والسبع الذي صلاته صلاة المواقفة عدم التمكن من أن يدور إلى القبلة كلما انحرفت دابته ، مع أنها ما تنحرف إلى جهة إلا وهو محتاج إليها غالبا ، نعم ربما يتيسر له ذلك في أول الصلاة ، فيستقبل حينئذ ويبقى مستمرا الى حال عدم التمكن ، أو على بيان ندرة عدم التمكن من الاستقبال فيها لقصر زمانها ، مع أنها من أركان الصلاة وافتتاحها ، وبها يحصل إحرام الصلاة ، وكذا يحمل على ذلك بعض العبارات المقتصرة عليها كعبارة القواعد « ويستقبل بتكبيرة الافتتاح وجوبا مع المكنة » خصوصا مع قوله قبل ذلك : « ولو اضطر في الفريضة صلاها كذلك ، فان صلى والدابة إلى القبلة فحرفها عمدا لا لحاجة بطلت صلاته ، وإن كان لجماح الدابة لم تبطل وإن طال الانحراف إذا لم يتمكن من الاستقبال » واحتمال إرادة الفرق بين التكبيرة وغيرها باشتراط الاستقبال في الأولى وعدم الانحراف عن القبلة لو اتفق انه كان عليها في غيرها كما ترى ، فلا ريب في وجوب مراعاة القبلة بما أمكنه من غير فرق بينها وبين غيرها ، وكذا باقي ما يعتبر في الصلاة من القيام والاستقرار وغيرهما ، نعم لا إشكال في السقوط مع التعذر.

وهل يجب عليه تحري الأقرب فالأقرب ، لأن للقرب أثرا عند الشارع ، ولهذا افترقت الجهات في الاستدراك لو ظهر خطأ الاجتهاد ، أولا للأصل وللخروج عن القبلة ، فتتساوى الجهات؟ قولان كما في المدارك ، بل فيها تبعا للذكرى « لو قيل يجب تحري‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢.

٤٢٦

ما بين المشرق والمغرب دون باقي الجهات لتساويها في الاستدراك لو ظهر خطأ الاجتهاد ، ول‌ قولهم (ع) : ما بين المشرق والمغرب قبلة‌ كان قويا » وزاد في الذكرى « وحينئذ يترجح المشرق والمغرب على الاستدبار على القول بالقضاء فيه مع خروج الوقت » الى آخره لكن الأول والأخير كما ترى لا يجترئ الفقيه على الجزم بشي‌ء منهما بهذه الأمور التي لا تصلح للعذر بعد حرمة القياس والاستحسان ونحوهما عندنا ، فلا يقاس ما نحن فيه على الغافل والناسي بجامع الاضطرار ، فالقول حينئذ بالسقوط أصلا هو الأقوى ، إلا أن الاحتياط لا ينبغي تركه.

ومنه يعلم أيضا ما في المحكي عن العلامة في النهاية من أنه إن لم يتمكن من الاستقبال جعل صوب الطريق بدلا عن القبلة ، لأن المصلي لا بد أن يستمر على جهة واحدة لئلا يتوزع فكره ، ولما كان الطريق في الغالب لا ينفك من معاطف يلقاها السالك يمنة ويسرة فيتبعه كيف كان للحاجة ، وإن قال في المدارك وهو حسن ، إلا أن وجهه لا يبلغ حد الوجوب ، وكيف كان فيومي للركوع والسجود إذا لم يتمكن منهما ولو بالنزول حالهما ، أما إذا تمكن من النزول مثلا وجب قطعا وليس من الفعل الكثير في الصلاة ، ضرورة كونه لأجزائها ، وكذا لو تمكن من الانحناء وجب لما سمعته سابقا في محله مما لا حاجة الى إعادته هنا كبعض الأحكام المذكورة هناك حتى وضع الوجه على شي‌ء أو وضعه عليه ، وإن دل صحيح عبد الرحمن (١) السابق على وجوب الأول هنا ، ولعله يريد به السجود على القربوس ونحوه مع عدم المشقة والتخوف من نفور الدابة ، حتى وأخفضية السجود من الركوع في الإيماء وغيرهما مما لا يخفى جريانه هنا ، إذ الظاهر عدم خصوصية للمقام.

وكذا الحكم في المضطر إلى الصلاة ماشيا ضرورة عدم الفرق عندنا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١.

٤٢٧

بين المشي والركوب وغيرهما في جميع ما سبق من الأحكام حال الاختيار والاضطرار والكيفية ، فلا يجوز للماشي فعل الفريضة مع الاختيار والأمن عند أهل العلم كافة كما في المحكي عن المنتهى ، بل فيه أيضا وإذا اضطر يصلي على حسب حاله ماشيا يستقبل القبلة ما أمكنه ، ويومي بالركوع والسجود ، ويجعل السجود أخفض من الركوع ، ذهب إليه علماؤنا أجمع ، وقال الله تعالى (١) ( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً ) بل قد يدعى ظهورها في التخيير بين الأمرين عند الاضطرار ، ويؤيده أن احتمال ترجيح المشي حينئذ لحصول ركن القيام معارض باحتمال ترجيح الركوب ، لأن الراكب مستقر بالذات وإن تحرك بالعرض ، بخلاف الماشي ، خصوصا مع الركوب في المحمل الذي هو بمنزلة السفينة في الخبر ، نعم لو فرض إمكان استيفاء بعض الأفعال الأخر كالركوع والسجود في أحدهما أمكن حينئذ تقديمه ، ودعوى عدم ظهور الآية في التخيير ، لجواز كونها لبيان شرعية الأمرين وإن كان بينهما ترتيب كآية كفارة الصيد (٢) يدفعها ان الاحتمال لا ينافي الظهور المزبور إذا لم يكن شاهد له ، على أنه يكفي في ثبوت التخيير عدم الدليل المعتبر على الترتيب ، كما أنه لا دليل كذلك على وجوب كيفية خاصة لمشي المكلف حال الصلاة أو راحلته. فللراكب حينئذ الركض على دابته ، وللماشي العدو من غير ضرورة ، لأنهما فردان منهما كما عن نهاية الأحكام التصريح به ، ومجرد انقداح الترتيب بين أفراد المشي في النفس من غير دليل شرعي لا يصلح عذرا وإن كان هو كذلك واقعا ، كما هو واضح من أصول الإمامية.

نعم ينبغي اعتبار التوقي عن النجاسة كغير الماشي ، لإطلاق الأدلة ، وكذا غير ذلك من الشرائط ، بل يقتصر على ما قضت الضرورة بعدمه كالاستقرار ونحوه من‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ٢٤٠.

(٢) سورة المائدة ـ الآية ٩٦.

٤٢٨

غير تعد لغيره ، لما عرفته سابقا من تقدر الضرورة بقدرها ، سواء في ذلك الراكب والماشي وغيرهما من المضطرين ، إذ الجميع من واد واحد ، لكن تقييد المصنف خاصة من بين الأصحاب هنا بقوله مع ضيق الوقت وإطلاقه في الراكب يشعر بالفرق بينهما ، اللهم إلا أن يريد رجوعه إليهما ، وفيه حينئذ أن وجوب الانتظار في ذوي الأعذار وعدم جواز البدار مع رجاء الزوال متجه فيما لم يعلق الحكم فيه على موضوع يتحقق عرفا قبل الضيق كالمقام المعلق فيه الحكم على الخائف ونحوه ، ضرورة اقتضاء الإطلاق حينئذ مشروعية البدار بمجرد تحقق موضوع الحكم فضلا عن ظهور فحاوي النصوص (١) بذلك ، ومناسبة سهولة الملة ، والاهتمام بالمبادرة للصلاة ، وكون الحكمة في مشروعية هذه الأحكام التخفيف ونحو ذلك ، بخلاف غيره الذي جاء عدم السقوط فيه من قوله : لا تسقط الصلاة بحال ونحوه ، لتوقف تحقق معنى الاضطرار فيه على ضيق الوقت ، إذ هو مكلف بالصلاة الجامعة للشرائط في مجموع الوقت ، ولم يعلم عدم التمكن حتى يضيق ، وليس الخطاب بالصلاة منحلا الى خطابات متعددة باعتبار تعدد الأحوال وإلا لاقتضى جواز فعل الصلاة الاضطرارية في أول الأوقات وإن علم بالتمكن في ثانيها ، وهو مقطوع بعدمه في الشريعة وتمام الكلام في حكم ذوي الأعذار في غير المقام ، لكن على كل حال لا وجه للفرق بين الاضطرار للصلاة ماشيا وراكبا ، والله أعلم.

ولو كان الراكب بحيث يتمكن من الركوع والسجود وفرائض الصلاة هل يجوز له الفريضة على الراحلة اختيارا؟ قيل : نعم واختاره في المدارك وغيرها من كتب متأخري المتأخرين ، بل هو المحكي عن صريح نهاية الفاضل ، وإشعار نهاية الشيخ والسرائر ، وربما يشهد له ظهور المتن في وجود القائل قبله بذلك وقيل : لا ، وهو الأشبه عند المصنف والفاضل والشهيدين والمحقق الثاني وغيرهم ، بل قيل : إنه المشهور ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ و ١٤ و ١٥ و ١٦ ـ من أبواب القبلة.

٤٢٩

بل في مجمع البرهان يكاد أن لا يكون فيه خلاف ، لكن الأقوى في النظر الأول ، للأصل وإطلاق الأدلة السالم عن المعارض ، ضرورة ظهور النهي عن الصلاة على الرحلة في غير الجامعة ، كما يومي اليه زيادة على الانسياق ذكر جملة من الأحكام كالايماء والاستقبال بالتكبير أو بما أمكن وغيرهما للصلاة على الراحلة ، وليس إلا لغلبة احتياج الصلاة عليها إلى ذلك ، ودعوى العموم اللغوي فيها بالنسبة إلى الأحوال عموما لا يتفاوت فيه النادر وغيره ممنوعة على مدعيها ، واستثناء المريض في صحيح عبد الرحمن (١) السابق مع أنه لا يقتضي العموم قد ذكر غير واحد من الأصحاب انه انما يفيده بالنسبة إلى الفاعل لا الدابة ، فهي حينئذ على إطلاقها وكونها في سياق النهي لا يجدي في زيادة معنى الإثبات ، إذ النفي انما هو له ، خصوصا والتحقيق في استفادة العموم من مثل ذلك اقتضاء نفي الطبيعة نفي الأفراد ، فهي كالحكم المقتضي ثبوته للطبيعة ثبوته للفرد كالحل والحرمة ونحوهما ، فكما لا يخرج ذلك عن الإطلاق المنصرف إلى الأفراد الشائعة كذلك لا يخرج هذا ، ومثل ذلك النكرة في سياق النفي المستفاد منها العموم أيضا بواسطة اقتضاء نفي الواحد لا بعينه الذي هو مفادها ذلك ، إذ دعوى ثبوت الوضع الجديد مساويا لعموم « كل » و « جميع » لا شاهد لها كما هو محرر في محله ، فليس مفاد النكرة في الإثبات والنفي إلا معنى واحدا وإن اختلفا في العموم البدلي والشمولي ، فدعوى ظهور‌ قول الصادق عليه‌السلام في موثق ابن سنان (٢) : « لا تصل شيئا من المفروض راكبا » في شمول ما نحن فيه ، لكونه من العموم اللغوي لا الإطلاق ليس في محلها كما هو واضح بأدنى تأمل ، فالتحقيق حينئذ خلو نصوص المقام عن الدلالة على الفرض ، بل يبقى على مقتضى الأصول والإطلاقات ، ولا ريب في اقتضائها الصحة عندنا ، بل الظاهر أن إطلاق الفتاوى أيضا كذلك.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٧.

٤٣٠

وأظرف شي‌ء ما يحكى عن فخر المحققين من الاستدلال على الفساد بقوله تعالى (١) : ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) بتقريب أن المراد بالمحافظة المداومة وحفظها من المفسدات والمبطلات ، وانما يتحقق ذلك في مكان اتخذ للقرار عادة ، فإن غيره كظهر الدابة في معرض الزوال ، وب‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) : « جعلت لي الأرض مسجدا » أي مصلى ، فلا يصح إلا فيما في معناها ، وانما عديناه إليه بالإجماع ولم يثبت هنا ، ضرورة كون المراد من الآية عدم التضييع بالترك ونحوه ، وبالخبر كون الأرض محلا للسجود ، وعلى أنه قد يفرض محل البحث فيما إذا اطمأن بعدم عروض المفسد للصلاة على الظهر ، والإجماع قائم على كل مكان يمكن استيفاء ما دل على اعتباره في الصلاة فيه من غير تخصيص ، ولو سلم كون البحث في غير المطمئن به في استيفاء الأفعال خاصة أمكن منع اشتراط هذا الاطمئنان في صحة الصلاة ، للأصل وإطلاق الأدلة ، ودعوى عدم إمكان النية يدفعها أنها ممكنة عرفا ولو بأصالة عدم عروض المانع ، كما في ذات العادة التي تظن عروض الحيض لها في اليوم الذي نوت صومه ، وكل محتمل أو ظان عروض المانع في الأثناء وغير ذلك من الأحوال المعلوم عدم اشتراط صحة الصلاة بالطمأنينة في إحراز عدمها أو إحراز التمكن منها ، كما هو واضح.

وكذا دعوى أن إطلاق أدلة الصلاة ينصرف إلى القرار المعهود ، وظهر الدابة ليس منه ، لمنع الإطلاق المراد منه المعهود ، بل عدم اعتناء الأصحاب بتحرير ذلك في المكان أقوى شاهد على عدم الفرق بين سائر الأمكنة الصالحة لاستيفاء الأفعال ، بل من الأمكنة المخترعة ما يقطع بندوره وعدم دخوله في الإطلاق الذي يفرض إرادة‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ٢٣٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٣.

٤٣١

المعهود منه ، خصوصا بعد‌ صحيح علي بن جعفر (١) سأل أخاه « عن الرجل هل يصلح له أن يصلي على الرف المعلق بين نخلتين فقال عليه‌السلام : إن كان مستويا يقدر على الصلاة عليه فلا بأس » ومضمر أحمد بن محمد (٢) « في الرجل يصلي على السرير وهو يقدر على الأرض فكتب صل فيه » وخبر إبراهيم بن أبي محمود (٣) عن الرضا عليه‌السلام « في الرجل يصلي على سرير من ساج ويسجد على الساج قال : نعم » وغيرها مما هو مسطور في مكان المصلي ، مع أن الجميع ليس من القرار المعهود ، إلا أنها يمكن فرض استيفاء أفعال الصلاة عليها ، لعدم قدح الحركة اليسيرة التي يتعقبها الاستقرار ، بل يمكن إرادة الأرجوحة من الرف المعلق بين النخلتين لا المسمر بالمسامير الذي قد ادعى في كشف اللثام أنه المعروف منه ، قال في البحار بعد ذكره الصحيح المزبور : وهو يحتمل وجهين : أحدهما أن يكون المراد شد الرف بالنخلتين ، فالسؤال باعتبار احتمال حركتهما ، والجواب مبني على أنه يكفي الاستقرار في الحال ، فلا يضر الاحتمال ، أو على عدم ضرر تلك الحركة ، وثانيهما أن يكون المراد تعليق الرف بحبلين مشدودين بنخلتين ، وفيه إشكال ، لعدم تحقق الاستقرار في الحال ، والحمل على الأول أولى وأظهر ، ويؤيده ما ذكره الفيروزآبادي في تفسير الرف أنه شبه الطاق ، قلت : وعلى كل حال فشهادته للمطلوب لا تنكر.

ومن ذلك كله يظهر لك أنه لا وجه للإشكال في الصلاة على الدابة المتمكن من استيفاء الأفعال معها كما في قواعد الفاضل ، فضلا عن المنع ممن عرفت كالمصنف وغيره ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٢ لكن رواه في الوسائل عن محمد بن إبراهيم الحصيني.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٢.

٤٣٢

اللهم إلا أن يريدوا السائرة التي تستلزم حركتها حركة المصلي وعدم استقراره كما هو الغالب في الركوب على الدابة ، ويومي اليه فرض المسألة في ذلك في الذكرى على الظاهر ، قال : « لو تمكن الراكب من الاستقبال واستيفاء الأفعال كالراكب في السفينة أو على بعير معقول ففي صحة صلاته وجهان ، أصحهما المنع ، أما الأول فلعدم الاستقرار ، ولهذا لا يصح صلاة الماشي مستقبلا مستوفيا للأفعال ، لأن المشي أفعال كثيرة خارجة عن الصلاة ، فيبطلها » وهو كالصريح فيما قلناه ، خصوصا بعد قوله في آخر البحث : « ولو كانت الدابة واقفة وأمكن استيفاء الأفعال فهي مرتبة على المعقولة ، وأولى بالبطلان هنا ، لأن الحركة إليها أقرب » إذ هو كالصريح في إرادة السائرة من الأول ، ولعله مراد المصنف وغيره ، وحينئذ فالبطلان متجه ، واحتمال كونها حينئذ كالسفينة في أن الراكب بنفسه مستقر بالذات وانما يتحرك بالعرض بالراحلة كما في كشف اللثام يدفعه وضوح الفرق باعتبار غلبة حصول وصف الاستقرار لراكب السفينة بخلاف الدابة ، فيختص الحكم بالبطلان في عبارة المتن وما شابهه بذلك لا الواقفة والمعقولة وغيرهما مما يمكن معه استيفاء الأفعال من الاستقرار وغيره ، كالسرير المحمول ونحوه ، خصوصا المطمأن ببقائه على هذا الحال إلى آخر الصلاة ، لكن في قواعد العلامة « وفي صحة الفريضة على بعير معقول أو أرجوحة معلقة بالحبال نظر » بل عن المنتهى والإيضاح والموجز والجعفرية وشرحيها وحاشية الميسي الجزم بالعدم فيهما ، والشهيدين في المعقول ، بل الأول منهما في الأرجوحة أيضا وإن احتمل الجواز فيها ، لصحيح علي بن جعفر (١) المزبور ، مع أن المحكي عن تذكرته ونهايته وغيرهما الصحة ، لما عرفت من ضعف مقتضى البطلان من كون الأول في معرض الزوال كالدابة الواقفة وإن كان أبعد ، والشك في تحقق الاستقرار في الثاني ، وخروجهما عن القرار المعهود فضلا عن أن يعارض ما سمعته من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ١.

٤٣٣

مقتضى الصحة ، خصوصا الأخير الذي قد عرفت دفعه بأنه لا دليل على إرادة المعهود من القرار ، بل ظاهر الأدلة والفتاوى خلافه.

بل قد يشهد لذلك في الجملة مضافا إلى ما عرفت وتعرف في المكان ما دل على جواز الصلاة في السفينة اختيارا من النصوص المعتضدة بفتاوى الأصحاب ، كصحيح جميل (١) قال لأبي عبد الله عليه‌السلام : « تكون السفينة قريبة من الجدد فأخرج وأصلي قال : صل فيها ، أما ترضى بصلاة نوح عليه‌السلام؟ » وخبري‌ يونس بن يعقوب (٢) والمفضل بن صالح (٣) سألا أبا عبد الله عليه‌السلام « عن الصلاة في الفرات وما هو أصغر منه من الأنهار في السفينة فقال : إن صليت فحسن ، وإن خرجت فحسن » وخبر صالح بن الحكم (٤) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في السفينة فقال : إن رجلا سأل أبي (ع) عن الصلاة في السفينة فقال له : أترغب عن صلاة نوح (ع)؟ » إلى غير ذلك من النصوص الدالة بإطلاقها على المطلوب وليس منها النصوص (٥) المسؤول فيها عن جواز الجماعة في السفينة فأجيب بنفي البأس ، ضرورة كون المراد منها جواز ذلك حيث تصح الصلاة في السفينة من غير تعرض لحال الصحة هل هو الاختيار أو ليس إلا الاضطرار ، كما هو واضح ، ولا النصوص المسؤول فيها عن الكيفية ، وإن ظنه في المدارك فاستدل بصحيح معاوية (٦) وحسن حماد (٧) منها ، بل قد استدل قبلهما بصحيح عبد الله بن سنان (٨) المتضمن سؤاله للخوف من السبع واللصوص مع الخروج ، ولعدم طاعة رفقائه له على الخروج ، وهو غير ما نحن فيه قطعا ، اللهم إلا أن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١٠.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٤ و ٩ و ١٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٨ من كتاب الصلاة.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١٣.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٤ من كتاب الصلاة.

٤٣٤

يريد الاستدلال بقوله عليه‌السلام في الجواب : « لا عليه أن لا يخرج ، فان أبي سأله (ع) عن مثل هذه المسألة رجل فقال له : أترغب عن صلاة نوح (ع)؟ » وفيه أنه باعتبار الضمير لا إطلاق فيه.

بل قد يستفاد من التعليل فيه ومما تسمعه في خبر الخزاز (١) ضعف الاستدلال بما في صحيح جميل السابق وغيره مما اشتمل على ذكر صلاة نوح (ع) ، ضرورة ظهوره في اضطرار نوح عليه‌السلام لتلك الصلاة ، فمن ساواه في ذلك لم يكن له ليرغب عن صلاته ، فلا يشمل المتمكن من الصلاة على الجدد بلا مشقة ولا ضرورة تلجئه إلى الصلاة في السفينة المقتضية في بعض الأحوال فوات كثير من الواجبات كالركوع والاستقبال والسجود والقيام والاستقرار ، فيمكن حمل الصحيح المزبور وغيره على إرادة غير هذا الفرد من الصلاة في السفينة ، على أنه بعد الإغضاء عن ذلك ليس هو إلا مطلقا كالأخبار التي بعده ، والاستدلال به على جواز الصلاة في السفينة المفوتة لما عرفت ـ فضلا عن غيرها وإن كان متمكنا من الجدد ونحوه مما لا يفوت به شي‌ء من ذلك ـ معارض بجميع ما دل على وجوب كل منها من النصوص المتواترة والإجماعات والآيات وغيرها مما هو مسطور في محله ، والتعارض بينهما بالعموم من وجه ، ولا ريب في رجحانه على هذه الأخبار من وجوه ، خصوصا ولم يعرف في غير المقام سقوط الركوع والسجود والقيام ونحو ذلك اختيارا ، بل المعروف منهم اختصاص سقوطها في حال الاضطرار ، مضافا إلى ترجيحها بما في‌ مضمر علي بن إبراهيم (٢) « ولا يصلي في السفينة وهو يقدر على الشط » وما في‌ الحسن كالصحيح (٣) « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يسأل عن الصلاة في السفينة فيقول : إن استطعتم أن تخرجوا إلى الجدد فاخرجوا ، فان لم تقدروا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٩ من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١٤.

٤٣٥

فصلوا قياما ، فان لم تستطيعوا فصلوا قعودا وتحروا القبلة » وما عساه يشعر به سؤال صحيح عبد الله بن سنان من معلومية اعتبار الاضطرار في الصلاة في السفينة ، كسؤال علي بن جعفر (١) أخاه فيما روي من كتابه ، قال : « سألته عن قوم لا يقدرون أن يخرجوا إلى الطين والماء هل يصلح لهم أن يصلوا الفريضة في السفينة؟ قال : نعم » وإلا لحسن من الامام عليه‌السلام بيان جواز ذلك اختيارا ردا للإشعار المزبور ، بل‌ صحيح ابن أبي عمير (٢) عن الخزاز كالصريح في ذلك ، قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنا ابتلينا وكنا في سفينة فأمسينا ولم نقدر على مكان نخرج فيه فقال أصحاب السفينة : ليس نصلي يومنا ما دمنا نطمع في الخروج ، فقال : إن أبي كان يقول : تلك صلاة نوح (ع) ، أوما ترضى أن تصلي صلاة نوح؟ فقلت : بلى جعلت فداك فقال : لا يضيقن صدرك ، فان نوحا قد صلى في السفينة ، قال : قلت : قائما أو قاعدا ، قال : بل قائما ، قال : قلت : فاني ربما استقبلت القبلة فدارت السفينة قال : تحر القبلة جهدك ».

وما عساه يشعر به‌ خبر ابن عذافر (٣) قال لأبي عبد الله عليه‌السلام : « رجل يكون في وقت الفريضة ولا يمكنه الأرض من القيام عليها من كثرة الثلج والماء والمطر والوحل أيجوز له أن يصلي الفريضة في المحمل؟ فقال له : نعم هو بمنزلة السفينة إن أمكنه قائما ، وإلا قاعدا ، وكل ما كان من ذلك فالله أولى بالعذر » واحتمال معارضة ذلك كله بترجيح هذه الأخبار بفهم الأصحاب يدفعه عدم ثبوت ذلك منهم ، قال في الذكرى : إن كثيرا من الأصحاب جوزوا الصلاة في السفينة ولم يذكروا الاختيار ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٩ من كتاب الصلاة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢.

٤٣٦

قلت : بل قيل : إنه يلوح من الجمل والمراسم والكافي والغنية والسرائر الاختصاص بحال الضرورة ، بل قال في الدروس : « ظاهر الأصحاب أن الصلاة في السفينة مقيدة بالضرورة إلا أن تكون مشدودة ».

قلت : بل قد يشعر استدلال المانعين عن الصلاة فيها اختيارا كالذكرى والمسالك والموجز وحاشية الميسي وروض الجنان ومجمع البرهان على ما حكي عن بعضها ، بل والتقي والعجلي إلا أنه لم يثبت ذلك عن الأخيرين بعدم قرار المصلي وكثرة الحركات منه مما يندرج به في الفعل الكثير في الصلاة بعدم إرادة القائل بالجواز ثبوته اختيارا وإن فات الركوع والسجود والاستقبال والقيام والاستقرار الذاتي للمصلي ، وإلا لاتجه إلزامه به ، ضرورة أولويته من ذلك قطعا ، بل هو مشعر بكون النزاع في الصلاة في السفينة من حيث الحركة لها إذا كانت سائرة ، أو واقفة مضطربة ، أو عدم استقرارها على الأرض لو كانت واقفة لا حركة فيها وإن كان المصلي فيها مستقرا ساكنا غير مضطرب ، فناس قالوا بالجواز ، لعدم ثبوت مانعية اضطراب المكان وعدم استقراره من صحة الصلاة إذا لم يؤد إلى اضطراب في المصلي عرفا ، بل كان يصدق عليه انه مستقر مطمئن ، وناس قالوا بالعدم ، اقتصارا على المتيقن في الصحة من مكان المستقر على الأرض ، ولعل التأمل في كلام كثير منهم يشهد بأولوية تحرير النزاع في ذلك من الأول ، بل قد يظهر من المحقق الثاني في جامع المقاصد والأستاذ الأكبر في شرح المفاتيح والمحكي عن الجعفرية وشرحيها معلومية كون النزاع بينهم فيه ، وأنه لا مجال لاحتمال غيره ، ويؤيده زيادة على ذلك انه لم يحك في الكتب المعدة لنقل كلام الأصحاب عن أحد منهم التصريح بالجواز اختيارا وإن فاتت تلك الأفعال ، نعم حكي ذلك عن ظاهر المبسوط والنهاية والوسيلة والمهذب ونهاية الأحكام ، قال في الأول : « أما من كان في السفينة فإن تمكن من الخروج منها والصلاة على الأرض خرج ، فإنه أفضل ،

٤٣٧

فان لم يفعل أو لا يتمكن منه جاز أن يصلي فيها الفرائض والنوافل سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، وإذا صلى فيها صلى قائما مستقبلا للقبلة ، فإذا دارت السفينة دار معها واستقبل القبلة ، فان لم يمكنه استقبل بأول تكبيرة القبلة ، ثم صلى كيفما دارت ، وقد روي أنه يصلي إلى صدر السفينة ، وذلك يخص النوافل ، وإذا لم يجد فيها ما يسجد عليه سجد على خشبها ، فان كان مقيرا غطاه بثوب ويسجد عليه ، فان لم يقدر سجد على القير عند الضرورة وأجزأه » قال في كشف اللثام ونحوه الباقي مع إهمال الضرورة في السجود على القير عدا الأخير ، فليس فيه حديث السجود ، ولعله غير مراد لهم.

قلت : وهو مع اختصاصه بفوات الاستقبال والقيام خاصة يمكن أن يكون ذلك منه بيانا لحال عدم التمكن من الخروج ، لا لعدم الفعل اختيارا ، على أنه لو سلم كون المراد من هذه العبارات ذلك فهو مع اختصاصه في الاستقبال والقيام دون الشهرة بمراتب فضلا عن دعوى فهم الأصحاب فلا وجه للترجيح به ، فضلا عن أن يعارض ما عرفت من المرجحات السابقة ، وكذا لا وجه للقول بأن المراد بالصلاة في السفينة التي لا يعلم فوات الأفعال المزبورة منها ابتداء ، أما المعلومة فلا إشكال في عدم الجواز فيها اختيارا لما ذكرت ، وحينئذ فالشارع في الصلاة في السفينة برجاء التمكن منها تامة الأفعال إذا عرض له في الأثناء ما لا يتمكن معه من ذلك انقلب تكليفه ، لاضطراره بالتلبس بالصلاة المحرم قطعها ، ولمعلومية مراعاة حالي الاختيار والاضطرار في كل جزء من الصلاة ، فالصحيح لو عرض له ما يقتضي الجلوس في الأثناء جلس ، كما أن المريض يقوم لو اتفق له الصحة لذلك ، وليس هذا معارضة لوجوب هذه الأفعال في الصلاة كي يتجه الكلام السابق ، إذ فيه أولا انه خلاف إطلاق عبارة المجيز ودليله ، ضرورة اقتضائهما جواز ذلك في السفينة وان علم به من أول الأمر ، خصوصا بالنسبة للقيام الذي جعل في بعض‌

٤٣٨

النصوص (١) مدار فعله وعدمه على كون السفينة ثقيلة لا يخشى عليها الانكفاء به ، وخفيفة يخشى عليها ذلك به ، إذ هو كالصريح في أن له فعل ذلك ابتداء ، وكذا غيره من النصوص (٢) المتضمنة لسقوط الاستقبال الظاهرة أو الصريحة أيضا في أنه يجوز وإن علم بذلك من أول الأمر ، وثانيا أنا نمنع انقلاب التكليف هنا ، لابتنائه على بقاء الخطاب بالصلاة التي قد تلبس بها في هذا الحال حتى يشرع له حينئذ الانتقال إلى تلك الأبدال الاضطرارية ، وهو ممنوع ، لاقتضاء جميع ما دل على وجوب تلك الأفعال بطلان خصوص ذلك الفرد ، واستئناف فرد جديد جامع للأفعال ، وليس هو إبطالا للعمل ، بل هو بطلان.

ومن ذلك يظهر الفرق بينه وبين عروض غيره من أحوال الاضطرار المعلقة على موضوع قد فرض تحققه من غير ملاحظة وجوب إتمام ذلك الفرد من الصلاة ، ولم يفرق فيه بين الابتداء والأثناء ، فالمرض الذي يؤمر له بالجلوس لو عرض في أثناء الصلاة جلس له كما لو كان في الابتداء ، نعم لو عرض له وقد علمنا زواله في ثاني الأوقات ولم نقل بجواز البدار لمثله من ذوي الأعذار مع العلم بالزوال قبل فوات وقت الصلاة اتجه القول بعدم الاجتزاء بإتمام ذلك الفرد أيضا ، بل يجب عليه استئناف فرد جديد له كما هو واضح ، وأولى منه ما نحن فيه قطعا ، ودعوى أنه وإن كان ذلك مقتضى الضوابط لكن يمكن القول به في خصوص السفينة ، لإطلاق أدلة الجواز السابقة ، فيكون ذلك حينئذ خصوصية في السفينة المستفادة من النص والفتوى يدفعها أنه بناء عليها يعود البحث السابق بعينه ، إذ التعارض حينئذ بالعموم من وجه ، والترجيح بما عرفت ، واحتمال أن الترجيح على هذا التقرير لأدلة الجواز في السفينة كما ترى ، لعدم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٢ من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القبلة.

٤٣٩

الفرق بين التقريرين بما يقتضي ذلك ، إذ التعارض عليهما معا بين ما دل على وجوب تلك الأفعال في الصلاة وبين إطلاق دليل الجواز في السفينة ، فالكلام الكلام ، والبحث البحث ، فلاحظ وتأمل.

فظهر من ذلك كله أن تحرير النزاع على هذا الوجه مما لا ينبغي ، أو أن الحق عدم الجواز اختيارا على تقديره ، كما أنه ظهر لك مما قدمناه سابقا أن التحقيق الجواز اختيارا ، بناء على تحريره بما سمعته سابقا ، وفاقا لجماعة بل الأكثر إن لم يكن المشهور ، بل في جامع المقاصد الاتفاق على الجواز في السفينة الواقفة مع عدم الحركات الفاحشة ، وهو الحجة ، مضافا إلى ما سمعته سابقا في الصلاة على الدابة الواقفة والمعقولة والرف المعلق بين نخلتين والسرير المحمول ونحو ذلك ، بل ما هنا أولى ، للأمن من حصول الحركة المنافية للصلاة غالبا ، وعدم كون قرارها الأرض بل الماء لا يصلح مانعا بعد إطلاق النص والفتوى وعدم ذكر ذلك في شرائط المكان أو موانع الصلاة ، على أن أدلة الجواز في السفينة لا معارض لها هنا إلا المضمر (١) والحسن (٢) السابقان من وجه ، ولا ريب في رجحان أدلة الجواز المعتضدة بما سمعت عليهما ، خصوصا مع عدم حجية الأول منهما ، وخصوصا بعد إشعارهما أو ظهورهما في فوات بعض الأفعال كالقيام والاستقبال لا من حيث السفينة.

بل هو كذلك أيضا بالنسبة إلى السائرة أيضا ، إذا لم يحصل بسيرها اضطراب للمصلي وعدم طمأنينة ، بل كان يصدق عليه الاستقرار والطمأنينة ، إذ لا معارض لها فيه أيضا إلا الخبران السابقان من وجه ، وترجح عليهما بقوة الدلالة أولا ، ضرورة انسياق هذا الفرد من أدلة الجواز إلى الذهن من بين الأفراد ، وبالتعدد ثانيا ، وبصحة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١٤.

٤٤٠