جواهر الكلام - ج ٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

أسباب الظن وإماراته لا التخصيص والاشتراط ـ مع أنه لا يلائم جملة من كلماتهم وأدلتهم ـ يدفعه انه لا يناسب الفقيه التعرض له ، لاختلافه بحسب المقامات أشد اختلاف ، اللهم إلا أن يريدوا الغالب ، لكن لا يلائم اشتراط العدالة ممن عرفت.

وكذا احتمال إرادة التعبد بهذه الامارات بمعنى كون العبرة خصوص ظن خبر العدل مثلا لا مطلق الظن ، إذ قد عرفت أنها تهجسات بلا مستند ، ولو سلمنا لهم كون الدليل للأعمى نصوص توجيه الغير لا خبري التحري والاجتهاد ، وقلنا بشمولها للمجتهد والمخبر كان المتجه العمل حينئذ بمطلق الغير من غير اشتراط لعدالة وأفضلية ، اللهم إلا أن يكون ذلك ترجيحا لما دل على اشتراط العدالة في المخبر ، لكون التعارض بينهما من وجه ، ولا يرد أنه يتم في المخبر عن علم لا عن اجتهاد ، للاحتياج إلى العدالة أيضا في ثبوت اجتهاده ، فإنه لا طريق غالبا اليه إلا أخباره ، نعم يرد عليه أن مقتضى ذلك عدم قبول خبر غير العدل أصلا وإن لم يوجد العدل كما هو خيرة من سمعت ، اللهم إلا أن يستند حينئذ إلى إطلاق الغير ، أو إلى قاعدة فتح الظن هنا بعد تعذر العلم أو ما يقوم مقامه ، لكنهما هنا معا محل للنظر ، ضرورة عدم بقاء الإطلاق بعد ترجيح ما دل على اشتراط العدالة وتقييده به ، وان القاعدة الرجوع إلى العلم الإجمالي بعد انتفاء التفصيلي لا الظن ، نعم إن سلم ذلك فهو بعد تعذر الإجمالي أيضا لعسر ونحوه ، وعلم بقاء التكليف أو ظنه ولو باستصحابه في وجه ، بناء على عدم شرطية التكليف بالعلم ، وانما هو طريق للعلم بالامتثال ، فبعد فرض انتفائه يخلفه الظن ، لقبح التكليف بما لا يطاق ، والإجماع المحكي على هذه القاعدة.

على أن ذلك كله لا يصحح لهم ما سمعته في فرض تعدد المجتهد الذي هو ظاهر في معاملته لهم معاملة المقلد في الأحكام الشرعية ، وفي أن البناء على الظن مع التعارض ، أو على التعبد بما من شأنه حصول الظن ، فلا يقدح حينئذ ظن إصابة المفضول في الرجوع‌

٤٠١

إلى الأفضل كما سمعته من المنتهى ، وعلى المعاملة المزبورة بني التخيير له في صورة المساواة ، وإلا فهو غير ظان بقول كل واحد منهما ، نعم يظن عدم خروج القبلة عنهما ، والمرجع له بعد تعذر العلم الظن الخصوصي لا الإجمالي ، ولعله من هنا احتمل في النهاية وجوب الأربع عليه ، وسقوط اعتبار هذا الظن الإجمالي ، كما أن احتمال الاثنتين مبني على انحصار تكليفه الظاهري بإحدى هاتين الجهتين ، ولا ترجيح كما هو الفرض ، فهو كمن علم كون القبلة في إحدى الجهتين ، وأما احتمال التخيير فلا طلاق الغير ، ولا يتوهم اختصاص هذه الوجوه الثلاثة بناء على التقليد بل لو قلنا بأن ذلك له لأنه أمارة اجتهاد تجري أيضا ، بل تجري في المجتهد غير الأعمي أيضا.

لكنك خبير في أن التحقيق سقوط كثير من هذه الكلمات ، وأنها جميعا لا تجتمع على أمر صحيح ، وأن الأصح كون الأعمى من أفراد المجتهد الذي قلَّت بعض إماراته ، فميزانه حينئذ بذل جده وجهده في تحصيل القبلة من إخبار أو غيره ، فيدور مع الظن الحاصل له بعد بذل الجهد الذي لم يصل إلى حد العسر من غير فرق بين العدل والفاسق كما عرفته سابقا ، وهذا وإن قل المصرح به إلا أن جملة من أدلتهم لا تنطبق إلا عليه ، كما أن جملة من العبارات كمنظومة العلامة الطباطبائي وشرح المفاتيح للأستاذ الأكبر وغيرهما كالصريحة فيه ، فلاحظ وتأمل كي يظهر لك أنه ليس عندنا إلا مرتبتان في تحصيل القبلة العلم وما يقوم مقامه ، والاجتهاد لا غير ، وإذا فقدهما صلى إلى أربع جهات.

ومنه حينئذ يظهر انه لا وجه لاحتمال التخيير للأعمى بين ما ذكرنا وبين الصلاة إلى أربع جهات ، ضرورة كونه حينئذ ممن فرضه الاجتهاد ، فهو كغيره من أفراد المجتهدين الذي قد عرفت سابقا أنه لا مجال لاحتمال التخيير فيهم ، نعم قد يقال بإضافة الصلاة إلى الجهات الثلاث إلى الجهة التي حصلها من الغير احتياطا من خلاف الشيخ ، والظاهر كون الحكم كذلك بناء على أنه تقليد له أيضا لا اجتهاد ، إذ قول المصنف وغيره :

٤٠٢

عول على غيره ورجع وقلد ونحوها ـ ظاهر في ذلك ، بل هو المحكي عن صريح نهاية الأحكام ، بل في كشف اللثام التصريح به أيضا ، قال بعد الاستدلال على التقليد : وهل يتعين عليه ذلك ، أو يتخير بينه وبين الصلاة أربعا؟ وجهان ، وكلام ابني الجنيد وسعيد يعطي التعين ، وكذا الدروس ، وهو ظاهر الكتاب والشرائع والإرشاد والتحرير والتلخيص ، وهو الأظهر ، لكثرة أخبار التسديد وضعف مستند الأربع ، قلت : لكن قيل إنه قد يظهر من المبسوط والمسالك وبعض من عبر بالجواز الثاني ، إلا أنه لا ريب في ضعفه ، خصوصا بناء على ما سمعته منا من أنه من الاجتهاد ، ولا يتوهم أن الصلاة إلى أربع جهات يحصل بها اليقين من البراءة ، لاندراج جهة التقليد أو الاجتهاد فيها ، لأنه يمكن مخالفة جهة الاجتهاد أو التقليد للأربعة قطعا ، فطريق الاحتياط منحصر فيما ذكرنا من جعل التربيع على حسب جهة الاجتهاد أو التقليد لا الاعراض عنهما والصلاة إلى الأربع كما هو واضح.

وإذ قد ظهر أنه ليس عندنا في تحصيل القبلة إلا مرتبتان العلم وما يقوم مقامه ، والاجتهاد المسمى في لسان الجماعة بالتقليد وجب القول بأن العامي الذي لا بصيرة له بحيث إذا عرف لا يعرف حكمه حكم الأعمى بلا خلاف أجده فيه ، وإن أطلق جماعة لفظ التقليد عليه كالأعمى ، ففرضه حينئذ عندنا الاجتهاد فيما يحصل له من الغير على حسب ما سمعته فيه مفصلا ، لأن هذا هو المقدور من التحري والاجتهاد بالنسبة إليه ، فيندرج في‌ قوله عليه‌السلام (١) : « يجزي التحري » وفي‌ قوله عليه‌السلام (٢) : « اجتهد رأيك » وغيرهما كالأعمى ، نعم قد يشكل إلحاقه بالأعمى ـ بعد حرمة القياس عندنا ، خصوصا مع الفارق بوجود حاسة البصر وعدمه ، بناء على أن الرجوع إلى الغير فيه من التقليد الذي قد شرعته النصوص فيه ، وإلا فليس من الاجتهاد والتحري ـ

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢.

٤٠٣

بأن النصوص (١) خاصة في الأعمى ، فإلحاق غيره به قياس ، وإن علل بأن فقد البصيرة أعظم من فقد البصر ونحوه مما لا يصيره مقطوعا به كي يكون من مفهوم الموافقة ونحوه من القياس القطعي ، مع أنا لا نجد في إلحاقه هنا خلافا ممن لم يخالف في الأعمى ، نعم ذكر بعضهم فيه الأربع احتمالا ، سواء قلنا بها في الأعمى أولا ، وقيل : إن ظاهر الإرشاد اختصاص التقليد بالأعمى ، وإلا فالمعروف بين الأصحاب مساواته للأعمى في الرجوع حتى حكي عن الشيخ في المبسوط ذلك ، قال : « إن من لا يحسن أمارات القبلة إذا أخبره عدل مسلم بكون القبلة في جهة بعينها جاز له الرجوع اليه » ونحوه المهذب ، ومن هنا حكم باختلاف قولي الشيخ في الكتابين ، لكن لعله يريد في المبسوط الاخبار كما يومي اليه الاستدلال من بعضهم بآية النبإ ، وفي الخلاف التقليد الذي قد عرفت تفسيره بما في الذكرى.

وكيف كان فهذا كله مما يشهد لما ذكرنا من أن الرجوع للغير في الأعمى من حيث كونه تحريا واجتهادا ، فيشتركان حينئذ في الحكم المزبور ، لاشتراكهما في شمول دليل الاجتهاد وان انحصر طريق الاجتهاد لهما في إخبار الغير ، ولعله إليه أومأ من استدل عليه بأن قول العدل إحدى الأمارات المفيدة للظن ، فيجب العمل به مع فقد معارض أقوى ، بل في المحكي عن المنتهى لا يقال إن له عن التقليد مندوحة ، فلا يجوز له فعله ، لأن الوقت إن كان واسعا صلى إلى أربع ، وإن كان ضيقا تخير ، لأنا نقول القول بالتخيير مع حصول الظن باطل ، لأنه ترك للراجح وعمل بالمرجوح.

وهو كالصريح فيما قلنا مما عرفته سابقا الذي منه يظهر بأدنى تأمل جواز الرجوع للجاهل الذي يتمكن من التعلم أيضا إذا ضاق الوقت عليه ولم يتعلم ولو بتقصير منه ، فان ذلك تمام جهده في تلك الحال ، بل لو قلنا بعدم وجوب معرفة القبلة عينا ، بل هو‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب القبلة.

٤٠٤

من فروض الكفاية كما احتمله في الذكرى لم يكن تقصير منه بترك التعلم مع وجود القائم بقدر الكفاية ، قال في الذكرى : ويحتمل كون ذلك من فروض الكفاية كالعلم بالأحكام الشرعية ، يعني كما أن معرفتها واجبة ويكفي التقليد ، وانما يجب الاجتهاد فيها كفاية إجماعا ، لانتفاء الحرج والعسر في الدين ، قال : ولندور الاحتياج إلى مراعاة العلامات ، فلا يكلف آحاد الناس بها ، ولأنه لم ينقل عن النبي والأئمة بعده ( عليهم الصلاة والسلام ) إلزام آحاد الناس بذلك ، ثم قال : فان قلنا بأنه من فروض الكفاية فللعامي أن يقلد كالمكفوف ولا قضاء عليه.

لكن قد يناقش أولا بأن التكليف بالصلاة المشترط فيها الاستقبال يقتضي وجوب تحصيل الشرط عينا ، ولا يخرج عنه إلا بدليل. وثانيا بأنه لا تلازم بين كون ذلك من فروض الكفاية وبين الرجوع إلى الغير في جهة القبلة ، إذ لعله يجب عليه السؤال عن أمارات القبلة ثم العمل عليها وإن لم يكن يعرف أنها أمارات ، ولعل ذلك هو الأقوى في النظر بمعنى الوجوب العيني لكن لا على الاجتهاد المستلزم للعسر والحرج ، فان الظاهر مشروعية التقليد للعامي في الحكم الشرعي وفي الموضوعات ومصاديقها النظرية المحتاجة إلى بحث وترجيح لا يصلح له إلا الأوحدي من الناس ، نعم الظاهر عدم وجوب ذلك قبل تحقق الخطاب بالصلاة ، إذ هو من المقدمات التي لا تجب قبل وجوب ذيها ، ولعله إليه أومأ في الذكرى بقوله : ويحتمل قويا وجوب تعلم الامارات عند عروض حاجته إليها عينا بخلاف ما قبله ، لأن توقع ذلك وإن كان حاصلا لكنه نادر ، إلا أنه قال بعد ذلك : يكفي في الحاجة إرادة السفر عن بلده ، وفيه ما لا يخفى ، كما أن قوله ـ قبل هذا الاحتمال واحتمال الكفاية : الأقرب أنه أي وجوب تعلم القبلة من فروض الأعيان ، لتوقف صحة فرض العين عليه ، فهو كباقي شرائط الصلاة ، سواء كان يريد السفر أولا ، لأن الحاجة إليه قد تعرض بمجرد مفارقة الوطن ـ لا يخلو من‌

٤٠٥

نظر أيضا ، فالتحقيق حينئذ انه من فروض الأعيان لكن لا على جهة الاجتهاد ، بل يكفي للعامي قول المجتهد : ضع الجدي على منكبك الأيمن في العراق مثلا ، ولا يجب عليه معرفة الدليل على كفاية ذلك من الإجماع أو الخبر أو البرهان الرياضي أو غيرها ، وانه لا يجب تطلب ذلك إلا عند الخطاب بالواجب المتوقف وجوده عليه كغيرها من الشرائط والواجبات.

ومن هذا وغيره مما تقدم يظهر لك ما في كشف اللثام حيث انه بعد أن ذكر وجوب التعلم على القابل له فارقا بينه وبين الأحكام الشرعية بما في تعلمها من المشقة وطول الزمان بخلاف أدلة القبلة قال : « لا يقال انما يسهل تعرف الجدي مثلا وان من وقف بحيث حاذى منكبه الأيمن كان مستقبلا ، ومعرفة مجرد ذلك تقليد ، وأما دليل كونه مستقبلا إذا حاذى منكبه الأيمن فهو إما الإجماع أو الخبر أو البرهان الرياضي فهو كسائر أدلة سائر الأحكام ، مع أن النص انما ورد بالجدي على وجهين ، وما بين المشرق والمغرب كما مر ، وهو مع ضعف الطرق مخصوص ببعض الآفاق ، ولا إجماع على سائر العلامات ، وانما استنبطت بالبراهين الرياضية. لأنا نقول يكفي في الدليل مشاهدة المسلمين في بلدة متفقين على الصلاة إلى جهة ، إذ يكفي العامي حينئذ أن يريه معلمه الجدي أو سائر العلامات بحيث يحصل له العلم ، نعم لا تكفيه إذا سافر إلى ما يقابل جهة قبلة تلك الجهة أو ينحرف عنها ، فان تيسر له معرفة الانحراف أو المقابلة بجهة مسير وما يشاهده من الأمور السماوية سهل عليه التعلم ، وإلا كان من القبيل الأول أي ممن لا يعرف إذا عرف » وفيه أنك قد عرفت وجوب التقليد عليه في ذلك كالأحكام ، وإلا فلا يجديه صلاة المسلمين المعلوم أنهم مقلدة أيضا ، على أنه قد لا يعرف صلاة المسلمين إلى جهة تلك العلامة التي أخذها من مجتهده ، لعدم استعماله إياها إلا وقت الحاجة مثلا ، نعم الظاهر أنه ليس له الرجوع الى الأمارات الهيئية بظنه قبل تقليد مجتهده في جواز‌

٤٠٦

الرجوع إليها ، أو في أن المدار على الظن حال عدم التمكن من العلم من غير تخصيص بأسبابه ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

وكيف كان فلا ريب في صحة صلاة غير المتعلم إلى القبلة المعلومة له بصلاة المسلمين ونحوها حتى على القول بوجوبه المضيق ، بناء على التحقيق من عدم اقتضاء الأمر بالشي‌ء النهي عن ضده الخاص ، وكذا لو قصر عن التعلم حتى ضاق الوقت فقلد أو صلى إلى أربع جهات ، لعدم سقوط الصلاة بحال ، ولاقتضاء دليل التحري والاجتهاد والصلاة الى أربع جهات شموله ، إذ تحريه واجتهاد رأيه انما هو منحصر في الرجوع للغير ، وكأنه لا خلاف فيه بين أصحابنا فيما أجد إلا من خالف في الأعمى والعامي الذي إذا عرف لا يعرف ، بل ولا حكاه أحد ممن عادته التعرض لذلك ، واحتمال أنه كفاقد الأمارات أو متعارضها ليس بأولى من احتمال كونه كالأعمى والعامي الذي إذا عرف لا يعرف ، بل هو أولى ، إذ قابلية التعلم مع عدم تأثيرها كالعدم ، فهو في هذا الحال كالأعمى ، على أنك قد عرفت اقتضاء الدليل ذلك من غير مدخلية لهذه الاعتبارات ، بل التحقيق ذلك فيهما أيضا ، إذ قد عرفت أن الرجوع الى الغير إحدى أمارات الاجتهاد فمع فرض عدم غيره أو تعارضه يتعين الرجوع إليه ، لأنه من التحري ومن اجتهاد الرأي وتعمد القبلة بحسب الجهد ، كما أوضحناه سابقا من غير فرق بين الاخبار أو الظن مع فرض حصول الظن منه للمكلف.

خلافا لجماعة منهم الشهيد والمحقق الثاني والفاضل الأصبهاني بل الأكثر كما قيل ، فأوجبوا عليهما الصلاة الى أربع ، بل في جامع المقاصد أنه ظاهر الأصحاب ، بل عنه في شرح الألفية أنه لم يقل بالتقليد أحد ، قلت : ـ مع أن المتبع الدليل وقد عرفته ـ قد قيل إنه خيرة المختلف والمنتهى والبيان والألفية وظاهر الكتاب واللمعة والدروس وبعض عبارات القواعد ، بل وموضع من المبسوط ، قال فيه : « متى فقد أمارات‌

٤٠٧

القبلة أو يكون ممن لا يحسن ذلك وأخبره عدل مسلم بكون القبلة في جهة بعينها جاز له الرجوع اليه » لكن قال فيه أيضا : « متى كان الإنسان عالما بدليل القبلة غير أنه اشتبه عليه الأمر لم يجز له أن يقلد غيره في الرجوع إلى إحدى الجهات ، لأنه لا دليل عليه ، بل يصلي إلى أربع جهات مع الاختيار ومع الضرورة إلى أي جهة شاء ، وإن قلده في حال الضرورة جازت صلاته ، لأن الجهة التي قلده فيها هو مخير في الصلاة إليها والى غيرها » قيل ونحو هذه العبارة في المهذب والجامع ، ولعل الشيخ فرق بين الأخبار والتقليد ، فيكون حينئذ من أهل القول الأول ، أو يفرق بين من اشتبه عليه الأمر للتعارض وبين من فقد الأمارات أصلا.

وكيف كان فلا ريب أن الأقوى ما قلناه ، والعجب ممن جعل إخبار الغير أو رأيه من بعض أمارات الاجتهاد ، وربما قدما على غيرهما إذا فرض قوة الظن فيهما ، ورجح هنا عدم الرجوع إليهما مع فرض انحصار الطريق فيهما ، مع أنهما ليسا في هذا الحال إلا كتحصيل بعض الامارات غيرهما وفقد الباقي أو تعارضه ، فإنه لا ريب في الرجوع الى تلك الأمارة ، لأن الظن الناشئ منها حينئذ هو التحري وغاية الجهد في تعمد القبلة ، نعم يحسن ذلك ممن منع من كونهما من التحري وبذل الجهد مطلقا ، ولعله الى هذا أو ما يقرب منه أومأ في المحكي عن المختلف بالاستدلال على رجوعهما للغير بأنه مع الاشتباه كالعامي ، إذ لا طريق الى الاجتهاد ، فيتعين إما التقليد وإما الصلاة أربعا ، والرجوع الى العدل أولى ، لأنه يفيد الظن ، والعمل بالظن واجب في الشرعيات ، وبأنه ان وجب الرجوع الى قول العدل مع ضيق الوقت وجب مع سعته ، لأنه إذا كان حجة مع الضيق كان حجة مع السعة ، وان كان فيه ما فيه ، خصوصا الثاني ، لكن ومع ذلك فالاحتياط لا ينبغي تركه ، وهو انما يحصل بإضافة الثلاثة إلى الجهة التي أخبر بها‌

٤٠٨

الغير ، بل ربما أوجب ذلك بعضهم تحصيلا ليقين البراءة ، كما أنه أوجب الصلاة إلى الجهة المزبورة عند ضيق الوقت لذلك وللتخلص من ترجيح المرجوح ، وهو جيد لو قلنا بوجوب هذا الاحتياط ، خصوصا بعد أن كان الظاهر من النصوص عندنا ما عرفت ، ولا يعارضه ما في الذكرى من أن القدرة على أصل الاجتهاد حاصلة ، والعارض سريع الزوال ، إذ هو ـ مع أنه اعتبار ، وانما يفيد التأخير إلى زوال العارض ـ لا يصلح معارضا ، لأن هذا الرجوع عندنا من الاجتهاد ، وإطلاق اسم التقليد عليه لضرب من المجاز كما قدمناه سابقا ، فتأمل جيدا ، فان هذه المسائل لا تخلو من تشويش واضطراب في كلام الأصحاب كما أومأنا إليه سابقا ، بل هو لا يخفى على كل ناظر متأمل ، خصوصا في أدلتهم بآية النبإ ونحوها المقتضية للاقتصار على خصوص إخبار العدل ، مع أنك قد عرفت البحث فيه سابقا ، وأنه ربما قيل بحجيته في نفسه ، وانه لا اجتهاد حينئذ مع حصوله ، نعم يدخل في البحث بناء على عدم حجيته هنا ، فهو كظن العدل بل وظن غيره ، إذ المدار على حصول الظن للمكلف ، والظاهر الاقتصار في خبر العدل ، بناء على حجيته في نفسه على ما إذا أخبر عن حس كرؤيا جدي أو غيره من أمارات القبلة ، إما قطعه الاستنباطي فقد يتوقف فيه ، وربما ظهر من كشف اللثام دخوله تحت التقليد ، إلا أنه قد يشكل بما هو مقرر في محله من عدم اشتراط صدق الخبر بكونه عن حس ، والله أعلم.

وكيف كان فـ ( مع فقد العلم والظن فان كان الوقت واسعا صلى الصلاة الواحدة إلى أربع جهات لكل جهة مرة ) على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا بين القدماء والمتأخرين شهرة عظيمة ، بل في صريح الغنية وظاهر جامع المقاصد والتذكرة وموضع من الذكرى والمحكي عن المعتبر والمنتهى والغرية الإجماع عليه ، وإن حكاه الأولان والأخير في خصوص العارف إذا غمت عليه الأمارات ، إلا أن المسألة من واد واحد ، وهي حيث يتعذر عليه العلم والظن ، وهو الحجة ، مضافا إلى‌ مرسل‌

٤٠٩

خداش (١) قال : « جعلت فداك إن هؤلاء المخالفين علينا يقولون إذا أطبقت السماء علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنا وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : ليس كما يقولون ، إذا كان ذلك فليصل إلى أربع وجوه » وفي الكافي (٢) « روي أن المتحير يصلي إلى أربع جوانب » وفي الفقيه (٣) « قد روي فيمن لا يهتدي إلى القبلة في مفازة أن يصلي إلى أربعة جوانب » ولعلهما غير مرسل خداش ، بل الظاهر كونهما صحيحين عندهما خصوصا الثاني منهما الذي لا يذكر في كتابه إلا ما هو حجة بينه وبين ربه ، ومن هنا استظهر بعض الأساطين منهما التخيير لروايتهما الروايتين.

وعلى كل حال فلا ريب في حجية الجميع في المقام ، وانه لا يقدح الإرسال بعد الانجبار بما سمعت وبقاعدة المقدمة التي كان ينبغي تقديمها على مرتبة الظن ، لكن للأدلة السابقة عكسنا ، والمناقشة ـ بأن الأربع غير محصلة لليقين بالجهة ، ضرورة تعدد المحتملات فيها وعدم انحصارها فتسقط ، كما في كل مقدمة غير محصورة يستلزم الإتيان بها العسر والحرج المنفيين بالآية (٤) والرواية (٥) وبأنه متى سقط بعض أفراد مقدمة اليقين سقط الجميع ، لأنها انما وجبت تحصيلا لليقين بالمكلف به ، فوجوب الأربع حينئذ إن كان فهو ليس إلا من الدليل لا القاعدة المزبورة ـ يدفعها ان ظاهر الخبر المزبور أو صريحه كالفتاوى كون الأربع تحصيلا لليقين ، وإلا كان الأمر أسوأ حالا من العامة المكتفين بالصلاة إلى جهة من الجهات بلا مقتض لتخصيصها ، وهذا هو الاجتهاد المنكر عليهم ، فلا بد حينئذ من إرادة تحصيل اليقين بما بين المشرق والمغرب بذلك الذي هو قبلة في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١.

(٤) سورة البقرة ـ الآية ١٨١ وسورة المائدة ـ الآية ٩ وسورة الحج الآية ـ ٧٧.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ١١ من كتاب الصلاة والباب ٣٩ من أبواب الوضوء ـ الحديث ٥ من كتاب الطهارة.

٤١٠

الخطأ ، والمقام منه ، إذ لو صلى كذلك فاتفق ظهور خطئه فهو إلى ما بين المشرق والمغرب ، ولا ضرر فيه إذا كان بغير تقصير ، فقاعدة المقدمة إلى حصول اليقين بالمكلف به في هذا الحال بحالها جابرة للمراسيل المزبورة التي تلقتها الفرقة بالعمل.

ومن ذلك يعلم سقوط المناقشة المزبورة بعد الإغضاء عن الثانية منها ، لما ستعرفه إن شاء الله ، كالمناقشة بأنه لو كان ذلك مقدمة لليقين المذكور لاجتزأ بالثلاث ، ضرورة حصول جهة ما بين المشرق والمغرب بالصلاة إلى ثلاث جهات على وجه يقسم فيه الفضاء مثلثا ، فإنه يقطع بعدم خروجها عن الخطوط الثلاثة ، كما هو واضح ، إذ يدفعها أيضا احتمال أن ذلك جار مجرى ما في أذهان غالب الناس من الجهات الأربع ، مضافا إلى ما فيه من زيادة الاستظهار ، بل قيل إن اغتفار ما دون التسعين يختص بمن صلى بالاجتهاد أو التقليد حيث يسوغ ، أو ناسيا للمراعاة مع الخطأ كما يشعر به مستند الحكم ، وهذا بالنسبة إلى فاقد الأمارات إمارة واجتهاد ، فالصلاة إلى الأربع تستلزم الانحراف بثمن المحيط ، وإلى الثلاث بسدسه ، وهو أقرب إلى الصواب ، فتأمل جيدا ، وقد أطنب الأستاذ الأكبر في شرح المفاتيح في الإنكار على ما فيها من أن الاحتياط يحصل بالثلاث على حسب ما سمعت ، فلاحظ وتأمل.

ومن الغريب بعد ذلك كله وسوسة بعض متأخري المتأخرين في الحكم المزبور حتى مال إلى ما عن العماني والصدوق ، وجنح اليه الفاضل في المختلف والشهيد في الذكرى من الاكتفاء بالصلاة إلى جهة من الجهات نحو ما يقوله العامة ، لمرسل ابن أبي عمير (١) عن زرارة « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قبلة المتحير فقال : يصلي حيث يشاء » وصحيح زرارة ومحمد بن مسلم (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام « يجزئ المتحير أبدا أينما يتوجه إذا لم يعلم أين وجه القبلة » وما في‌ الصحيح المروي في الفقيه عن معاوية‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢.

٤١١

ابن عمار (١) « عن الرجل يقوم في الصلاة ثم ينظر بعد ما فرغ فيرى أنه قد انحرف عن القبلة يمينا أو شمالا فقال : قد مضت صلاته ، فما بين المشرق والمغرب قبلة » ونزلت هذه الآية (٢) في المتحير ( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) مع الطعن في الإجماع بعدم المسموعية في محل النزاع ، وفي الأصل بمنع وجوب المقدمة أولا ، وبوجوب تقييدها بهذه النصوص ثانيا ، إذ هي كسائر الأدلة اللفظية بل أضعفها ، والخبر في السند بالإرسال والضعف ، والمتن باقتضائه سقوط الاجتهاد من أصله الذي قد عرفت الإجماع على بطلانه عندنا ، وفيه أن النزاع غير قادح في حجية المحكي من الإجماع ، خصوصا مثل هذا الإجماع وهذا النزاع ، وأما النصوص فلا ريب في عدم مقاومتها لما عرفت ، على أن العمدة منها صحيح الفاضلين ، وهو ليس إلا في الفقيه دون الكافي والتهذيب والاستبصار التي علم من عادتها التعرض لما في الفقيه ، سيما الأخير الذي دأبه ذكر النصوص المتعارضة ، فعدم ذكره ذلك معارضا لمرسل خداش مما يؤيد عدم كونه كذلك فيما عندهم من نسخ الفقيه ، وأنه محرف بقلم النساخ عن الصحيح الآخر « يجزئ التحري » المعروف في كتب الأصحاب ، بل لم يذكر كثير منهم هذه الصحيحة ، خصوصا مثل الفاضل في المختلف الذي قد عرفت منه الميل إلى مذهب العماني لما ذكر له من الأدلة التي هي أوهن من بيت العنكبوت بالنسبة الى هذه الصحيحة.

فكان الأولى الاستدلال له بها لا بصحيح التحري وموثق الاجتهاد الذين هما كما ترى لا دلالة فيهما على ما ذكره من الصلاة الى جهة عند فقد العلم والظن ، وانما هما دالان على الاجتزاء بالتحري وبذل الجهد في تحصيل القبلة عند عدم العلم بها الذي لا خلاف معتد به فيه عندنا ، واحتمال إرادة مطلق اختيار الجهة من التحري والاجتهاد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ١٠٩.

٤١٢

فيهما مقطوع بعدمه ، خصوصا الثاني الذي فيه « اجتهد رأيك وتعمد القبلة جهدك » بل والأول ، إذ التحري لغة هو تعمد الشي‌ء وطلب الأحرى بالاستعمال في غالب الظن ، ومن هذا وغيره حكي عن المجلسي في شرح الفقيه الجزم بأن هذه الصحيحة هي صحيحة زرارة السابقة مؤيدا له بتأييدات كثيرة ، وزادها الأستاذ الأكبر في شرح المفاتيح ، من أرادها فليراجعها ، على أنه قد يناقش في سند هذه الصحيحة أيضا بأنه رواها في الفقيه مرسلة إلى زرارة ومحمد ، ولم يذكر طريقه إليهما مجتمعين ، وانما ذكر طريقه الى زرارة خاصة ، والى محمد بن مسلم كذلك ، والأول صحيح ، والثاني فيه مجهول ومن فيه دغدغة ، ويحتمل أن يكون طريقه إليهما مجتمعين غير ذلك ، كما أنه قد يناقش في متنها باحتمال إرادة الاجتهاد منها على معنى أينما توجه مما قوي في ظنه ، فتتحد مع الصحيحة السابقة لا أنها معارضة لها من حيث دلالتها على نفي الاجتهاد الذي قد عرفت كونه إجماعيا أو بمنزلته ، بل لعل نحوه يجري في مرسل ابن أبي عمير عن زرارة أيضا على إرادة ما رجح وقوي في نفسه مما شاء ، لمعلومية أن العاقل لا يشاء إلا لمرجح فيما يشاؤه ، وعلى تقديره يكفي ذلك موهنا لها ، واحتمال اختصاص المتحير بفاقد الظن أيضا مع العلم خلاف ظاهر الصحيح المزبور وغيره من ثبوت التحير بمجرد فقد العلم ، بل هو موجب لإخراج « إذا » عن معنى الشرط وإرادة الوقت خاصة منها ، بل قد يقال أيضا يمكن تنزيلها على حال الضيق ، ضرورة إمكان العلم بالصلاة إلى جهة القبلة في غيره ، بأن يأتي بالأربع ، وتنزيله على إرادة نفي العلم التفصيلي يمكن منعه سيما بملاحظة حال باقي الشرائط من الصلاة بالثوب الطاهر وغيره.

وأما صحيح معاوية فمع معارضته بما في كثير من النصوص (١) من أن هذه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١٧ والباب ١٥ الحديث ١٨ و ١٩ و ٢٣.

٤١٣

الآية نزلت في النوافل ، واحتمال نزولها فيهما معا ينفيه ظاهر كل منهما لا يخفى على المتأمل فيه وفي عدم ارتباط بعضه ببعض الذي لا يليق بغير الامام ، فضلا عنه عليه‌السلام بناء على كون ذلك من تتمته ، وفي خلو هذا الصحيح عن ذلك في رواية الشيخ له أن ذلك من كلام الصدوق لا من الصحيح ، بل لعله أخذه من بعض المفسرين ، وإلا فلم نعثر على رواية في ذلك كما اعترف به بعض المتبحرين ، نعم يحكى عن هذا المفسر انه قال : لم يهتد أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الأسفار إلى القبلة فصلى كل منهم إلى جهة وخط ، فلما أصبحوا ظهر أن صلاة الجميع وقعت على غير القبلة ، فنزلت هذه الآية ، مع أنه يمكن أن تكون صلاتهم هذه كانت باجتهاد ، ونزول الآية تصويب لهم في العمل باجتهادهم لا أنها فيما نحن فيه ، الى غير ذلك مما لا يخفى ، فلا ريب في ضعف القول المزبور.

وأضعف منه ما يحكى عن ابن طاوس في الأمان من الخطأ (١) من الاجتزاء بالقرعة ، لكونها لكل أمر مشكل ، إذ هو ـ مع اقتضائه طرح الأدلة السابقة الرافعة للإشكال بهذا الخبر الذي هو من المشكلات ـ مخالف للإجماع بسيطه ومركبة محصله ومنقوله ، بل لم يعهد استعمال القرعة في معرفة الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية حتى من السيد المزبور في غير المقام كما اعترف به الأستاذ الأكبر في شرح المفاتيح ، لكن ومع ذلك فالجمع بينها وبين الأربع نهاية الاحتياط.

وكيف كان فقد ظهر لك مما ذكرناه في أدلة المختار اعتبار كون الأربعة محصلة لليقين كأن تكون متقاطعة على زوايا قوائم ، مع أنه المتبادر من النص الموافق للاحتياط الذي هو مناط الأربع المزبورة كما أومأ إليه الخبر السابق ، فما في البيان من احتمال الاجتزاء بها كيف اتفق ضعيف جدا ، قال فيه : وهل يشترط في الأربع انقسامها‌

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية وبهامشها « الاخطار » بدل « من الخطأ » وهو الصحيح.

٤١٤

الجهات على خط مستقيم؟ يحتمل ذلك ، لأنه المفهوم منه ، ويحتمل إجزاء أربع كيف اتفق ، لأن الغرض إصابة جهة القبلة لا عينها ، وهو حاصل ، نعم يشترط التباعد في الجهات بحيث لا يكون بين الجهة الثانية والأولى ما يعد قبلة واحدة لقلته ، وكأنه مال إليه في كشف اللثام ، قال : وهل يشترط تقابل الجهات؟ وجهان ، من إطلاق النص والفتاوى وأصل البراءة ، ومن الاحتياط والتبادر ، وهو خيرة المقنعة والسرائر وجمل العلم والعمل ، نعم يشترط كما في البيان أن لا يعد ما اليه جهتان أو أزيد قبلة واحدة لقلة الانحراف ، وإلا لم يفد التعدد ، قلت : يمكن إرادة معتبر التقابل الكيفية المحصلة لليقين بحصول الجهة المجزية في هذا الحال ، فيكون النزاع حينئذ لفظيا ، إذ احتمال وجوب المقابلة المزبورة وإن لم يتوقف عليها حصول اليقين المزبور بعيد ، وإن أمكن أن يكون وجهه انسياقه الى الذهن من النص والفتوى والاقتصار على المتيقن اغتفاره من الانحراف ، كاحتمال الاكتفاء بالأربع كيفما اتفق ، مع أنك قد عرفت التصريح من البيان بخلافه ، فلا يتوجه حينئذ عليه ما عن المقاصد العلية وروض الجنان من منع إصابة الجهة بالصلاة إلى أربع كيف اتفق ، وعدم إمكان رفع احتمال كون القبلة المطلوبة بين جهتين ، لأن القبلة لا تنحصر في الأربع عندنا ولا في عشر ، وانما اكتفى الشارع بالأربع لا لاستلزامه إصابة العين أو الجهة ، بل لما ذكرناه من أنها إذا وقعت على الاستقامة استلزمت إما الإصابة أو الانحراف الى ما لا يبلغ حد اليمين أو اليسار ، وانما يتوجه ما ذكر في البيان على مذهب بعض العامة حيث جعل المشرق قبلة أهل المغرب وإن صلوا الى منتهى خطه ، وبالعكس كذلك ، وكذلك القول في الجنوب والشمال ، فالجهة عندهم منحصرة في الأربع جهات ، قلت : مراد الشهيد بالجهة هنا ما يدخل فيها الانحراف دون اليمين واليسار لا الجهة الاختيارية قطعا ، كما هو صريح كلامه عند التأمل ، نعم لم يعتبر التقابل في تحصيل اليقين بالجهة المزبورة ، لحصوله بغيره كما هو واضح ، فتأمل جيدا.

٤١٥

وعلى كل حال لو كان عليه صلاتان فالظاهر جواز صلاته الثانية إلى أربع جهات تخالف جهات الأولى كما عن الشيخ نجيب الدين التصريح به ، ولعله للإطلاق والأصل ، وإصابة جزء مما بين المشرق والمغرب في كل منهما ، وغير ذلك ، وهل يجب عليه مع ترتب الفرضين إيقاع الثانية إلى أربع بعد تمام أربعة الأولى كما عن صريح ابن فهد وثاني الشهيدين والصيمري ، بل قيل إنه ظاهر بعض الإجماعات ، أو يجوز أن يصليهما معا الى أولى جهة ، وكذلك الثانية والثالثة والرابعة كما عن نهاية الأحكام والعلامة الطباطبائي وشيخنا المعتبر ، بل قيل إنه ظاهر إطلاق جماعة وبعض الإجماعات ولم يستبعد في المدارك جوازه في الصلاة في الثوبين المشتبه طاهرهما بنجسهما مما هو نظير المقام؟ قولان ، أحوطهما أولهما إن لم يكن أقواهما ، لترتب العصر على الظهر مثلا ، ومع الشك في المرتب عليه لا يتصور الجزم الذي هو من مقومات النية بأن ما يفعله عصرا (١) وعدم الجزم به من حيث عدم الجزم بأن خصوص تلك الجهة قبلة لا يقتضي جوازه من غير هذه الحيثية بعد حرمة القياس ، وكونه مع الفارق بالمقدمة التي يغني الجزم بالتقرب بامتثال أمرها عن الجزم بأنه عصر وعدمها ، ضرورة تمكنه من إتيان العصر بعد ظهر متيقنة.

وما يقال إن المرتب العصر اليقينية على الظهر اليقينية ، والمحتملة على المحتملة ، وما نحن فيه من الثاني ، وبعد الفراغ من سائر الاحتمالات يحصل اليقين بحصول الترتيب الواقعي لا محصل له عند التأمل ، بل لعله مغالطة ، إذ ليس الثابت من الترتيب سوى العصر الواقعي على الظهر الواقعي ، والفرض إمكانه بتأخير محتملات العصر عن محتملات الظهر.

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية ولكن الظاهر انه مرفوع لأنه خبر « ان ».

٤١٦

ولا يرد عليه أنه يتجه على ذلك تعين الأربع للعصر لو فرض عدم إدراك الزائد عليها من آخر الوقت حتى أنه التزم به في الروض على ما قيل ، لكن عن الموجز الحاوي وكشف الالتباس أنه يصلي الظهر إلى ثلاث ويخص العصر بالباقي ، وكذا المغرب والعشاء ، لأنه يمكن أولا دعوى خروج ذلك عما نحن فيه بأدلة الاختصاص ، فيتجه حينئذ ما في الروض تنزيلا للأربع صلوات منزلة الركعات الأربع ، ولأن فعل المجموع مقدار أدائها الذي اختصت به في خبر داود بن فرقد (١). وثانيا أنه قد يمنع الاختصاص المزبور لمعلومية ترجيح امتثال خطاب الأصل على خطاب المقدمة ، وإمكان تنزيل أدلة الاختصاص على إرادة ذلك بالنسبة إلى الفعل ومقدمات الصحة لا مقدمات اليقين ، فيتجه حينئذ ما في الموجز من فعل الظهر إلى ثلاث ، واختصاصه حينئذ بالمقدمة لسبقه ، ولذا وسابقه احتمال الوجهين في كشف اللثام ، قال : وكذا إن بقي مقدار سبع أو أقل فهل يصلي الظهر أربعا أو ثلاثا مثلا ، ولا بأس به ، فتأمل جيدا.

وكذا لا يرد عليه أن مقتضاه لو لزمه الاحتياط بالقصر والإتمام وجوب صلاة الظهر أولا مقصورة وتامة ثم يصلي العصر كذلك ، إذ لا بأس بالالتزام به ، مع انه قيل يمكن الفرق بين المسألتين بأنه هنا يجوز له أن يصليهما تامتين ، نعم ليس له أن يصلي العصر مقصورة قبل أن يصلي الظهر مقصورة وإن كان قد صلى الظهر تامة ، وإن كان هو كما ترى ، فالتزامه في الجميع حينئذ هو الوجه ، ونحوه لو لزمه الاحتياط بالجمع بين الجمعة والظهر في يوم الجمعة ، فإنه لا يصلي العصر قبل أن يصلي الظهر والجمعة ، وكذا غيره من موارد الاحتياط.

لكن مع ذلك كله قد يقال إن الظهر والعصر مترتبان فعلا لا أمرا ، وإلا‌

__________________

(١) ذكر قطعة منه في الوسائل في الباب ٤ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٧ وقطعة منه في الباب ١٧ ـ الحديث ٤ من كتاب الصلاة.

٤١٧

لكان وجوب العصر مشروطا بأداء الظهر لا مطلقا ، فحينئذ يتجه مراعاتهما معا بالنسبة إلى الجهة ، إذ هما حينئذ بعد التأمل كالفعل الواحد المترتب بعضه على بعض ، فان‌ قوله عليه‌السلام (١) : « إذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر إلا أن هذه قبل هذه » ظاهر في إرادتهما معا بأمر واحد إلا أن هذه قبل هذه ، ففي الفرض يصليهما معا إلى جهتين ، ولا يختص العصر بالأربع ولا الظهر بالثلاث ، نعم لو كان الباقي ثلاثا مثلا أمكن القول بصلاتهما معا إلى جهة ، واختصاص العصر بالثلاثة ، لأنه مع فرض عدم إصابة الجهة في فعلها يختص العصر بالأربعة المزبورة ، ولا جهة صحة للظهر فيها ، ولذا اختصت العصر بذلك ، وفيه أنه لا داعي إلى هذه التكلفات ، ضرورة كونهما فعلين مستقلين معتبرا (٢) في كل منهما نية مستقلة ، واشتراط صحة الثاني منهما في بعض الأحوال بأداء الأول لا وجوبه لا ينافي ذلك قطعا ، والله أعلم.

وإن ضاق الوقت مثلا عن ذلك أي الصلاة الى الأربع صلى من الجهات ما يحتمله الوقت ، وإن ضاق إلا عن صلاة واحدة صلاها الى أي جهة شاء واكتفى بها بلا خلاف صريح أجده في شي‌ء من ذلك مع عدم تقصيره في التأخير ، للأصل وعدم سقوط الميسور بالمعسور ، ولأن دليل المقدمة من الأدلة اللفظية قابل للتخصيص ونحوه ، فالمتعذر منه بلا تقصير كالمفعول لا يقدح في وجوب فعل الباقي ، فدعوى ـ أن الأصل في مقدمة اليقين سقوطها بمجرد سقوط شي‌ء منها ، لعدم حصول اليقين بعد بالباقي ، فلا يجب ، لأنه هو السبب في الوجوب ، ولأن الأصل البراءة ، نعم لما كانت الصلاة لا تسقط بحال وجب فعلها مرة إلى أي جهة ، كما لو ضاق إلا عن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٢١ من كتاب الصلاة مع اختلاف في اللفظ.

(٢) هكذا في النسخة الأصلية المبيضة ولكن في النسخة الأصلية المسودة « يعتبر ».

٤١٨

جهة ـ في غير محلها ، وإن كان ربما تخيل أن ذلك ظاهر المقنعة وجمل السيد والمبسوط والوسيلة والسرائر ، لقولهم : فان لم يقدر على الأربع فليصل إلى أي جهة شاء أو ما يقرب منه ، لكن لعل مرادهم عدم القدرة إلا على واحدة من الأربع ، فلا خلاف حينئذ ، وإن أبيت فهم محجوجون بما عرفت ، خصوصا مع استصحاب الوجوب ، بل قد تقرر المقدمة فيه أيضا بأنه لما كلف بالصلاة إلى القبلة نهي عن تركه ، ولا يتم له اليقين بامتثال النهي إلا بفعل الباقي ، كما أنه لا يحصل له اليقين ببراءته من التكليف إلا بفعل الباقي ، وإن لم يتيقن حصول نفس المأمور به فيما أتى به ، مضافا الى إطلاق نصوص الجهة الواحدة التي خرجنا عنها لمكان المعارض في صورة الاختيار والتمكن.

ومن ذلك كله يظهر لك أنه لا فرق بين التأخير بتقصير وعدمه ، لاشتراكهما في جميع ما ذكرنا ، لكن عن المقاصد العلية النظر في إجزاء ذلك في التأخير بتقصير ، قال : من ان المجموع قائم مقام صلاة واحدة فلا يتحقق وقوع ركعة منها في الوقت الموجب لصحة الصلاة إلا بإدراك ما أقله ثلاث صلوات وركعة من الرابعة ، فالتقصير الى ما دون ذلك كالتقصير في إدراك ركعة من الصلاة حالة العلم بالقبلة ، ومن عدم المساواة لها في كل وجه ، وإلا لما وجبت الصلاة بإدراك قدرها إلى جهة بل ثلاث جهات ، وهو خلاف المفروض ، لكن لا يخفى عليك ما في الوجه الأول من أنه دعوى بلا دليل ، فلا ريب حينئذ في ضعفه كالمحكي عن نهاية الأحكام من احتمال وجوب الأربع في التأخير اختيارا مطلقا أو مع ظهور الخطأ ، بناء على وجوب الأربع عليه ، فعليه قضاء الفائتة منها ، إذ ظهور الخطأ كاشف عن وجوب غيرها أصالة ، إذ فيه أن دليل القضاء لا يشمل مثل ذلك قطعا ، كما أن قاعدة الإجزاء تقتضي الاكتفاء بما فعله وإن ظهر بعد ذلك الخطأ إلا في الاستدبار على قول ، والأصح خلافه كما ستعرفه في محله ، والإثم في التأخير لو قلنا به لا ينافي شيئا من ذلك ، مع انه احتمل في النهاية أيضا جواز التأخير له اختيارا ،

٤١٩

رجاء لحصول العلم له أو الظن ، وإن كان هو قد قرب المنع بعد ذلك ، وهو الوجه في الرجاء فضلا عن عدم الرجاء ، لما فيه من ترك اليقين الى المحتمل ، مضافا الى إطلاق أدلة الوجوب من النص وغيره ، لكن قد يظهر من التذكرة الإجماع على جواز التأخير للرجاء ، قال : فان كان يرجو حصول الظن بانكشاف الغيم مثلا احتمل وجوب التأخير إلى آخر الوقت ثم يتخير ، وجواز التقديم فيصلي إلى أربع جهات كل فريضة ، ذهب إليه علماؤنا ، اللهم إلا أن يريد جواز التقديم على مقدار الأربع مثلا ، فيكون الاحتمال الأول التحير بالحاء المهملة ، أو يريد الوجوب من الجواز ، أو غير ذلك.

وكيف كان فالتحقيق ما عرفت ، لكن ينبغي أن يعلم أنه يمكن خروج الثلاث عن هذا البحث أصلا بناء على ما عرفت من إمكان حصول اليقين بها بالصلاة على هيئة الشكل المثلث ، وعلى كل حال هو مخير في الجهات مع فرض تساويها في احتمال القبلة ، أما لو فرض حصول الظن له مرددا بين جهتين مثلا فالمتجه اختيارهما وإسقاط المحتملة ، خصوصا لو قلنا إن مثله من الاجتهاد ، فإنه لا يلتفت الى المحتملة حينئذ مع السعة فضلا عن الضيق ، وإن كان هو لا يخلو من نظر ، لظهور أدلة الاجتهاد في المظنون بالخصوص ، والله أعلم بحقيقة الحال.

وكيف كان فـ ( المسافر ) شرعا أو عرفا يجب عليه استقبال القبلة في كل ما وجب فيه ذلك إجماعا بقسميه إن لم يكن ضرورة ، لعموم الأدلة وإطلاقها ، وخصوص بعضها ، إذ السفر من حيث كونه سفرا لا يسقط ذلك كما لا يسقط سائر ما وجب في الصلاة شرطا أو جزء إلا ما دل عليه الدليل من القصر ونحوه وحينئذ فـ ( لا يجوز له أن يصلي شيئا من الفرائض ) على الراحلة إلا عند الضرورة إذا كان ذلك مفوتا لبعض ما يعتبر فيها من الاستقبال والطمأنينة والقيام والركوع والسجود إجماعا بقسميه ، بل من المسلمين فضلا عن المؤمنين ، وقال الصادق عليه‌السلام في‌

٤٢٠