جواهر الكلام - ج ٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ما بين الركن الغربي واليماني ، وأن بلاد مصر والإسكندرية والقيروان الى تاهرت الى البربر إلى السوسي الأقصى وإلى امروم وإلى البحر الأسود يتوجهون الى ما بين الغربي والميزاب ، وعلامتهم جعل الصليب إذا طلع بين العينين ، وبنات نعش إذا غابت بين الكتفين ، والجدي إذا طلع على الأذن اليسرى ، والصبا على المنكب الأيسر ، والشمال بين العينين ، والدبور على اليد اليمنى ، والجنوب على العين اليسرى.

والركن الرابع اليماني الذي أحد طرفيه ركن المغرب ، وثانيه أحد ركني الباب ، وعلامتهم جعل الجدي وقت ارتفاعه : أي وصوله إلى دائرة نصف النهار بين العينين ، وسهيل وقت غيبوبته التي تحصل عند بلوغه نصف النهار في الارتفاع بين الكتفين ، ومهب الجنوب على أسفل الكتف اليمنى ، وعن شاذان زيادة جعل المشرق على الأذن اليمنى ، والصبا على صفحة الخد الأيمن ، والشمال على العين اليسرى ، والدبور على المنكب الأيسر ، وذكر أنها علامات نصيبين واليمن والتهائم وصعدة إلى صنعاء وعدن الى حضرموت ، وكذلك الى البحر الأسود ، وانهم يتوجهون الى المستجار والركن اليماني ، هذا. وفي اللمعة أن اليمن مقابل الشام ، ولازم هذه المقابلة أن أهل اليمن يجعلون سهيلا بين الكتفين مقابل جعل الشامي له بين العينين ، وأنهم يجعلون الجدي محاذيا لأذنهم اليمنى بحيث يكون مقابلا للمنكب الأيسر ، فإن مقابله يكون إلى مقدم الأيمن ، وهو مخالف لما عرفت مما صرح به غير واحد من الأصحاب ، وهو يقتضي مقابلته العراقي في الجملة لا الشامي ، لكن في الروضة أن التحقيق أن المقابل للشام من اليمن هو صنعاء وما ناسبها ، وهي لا تناسب شيئا من هذه العلامات ، وإنما المناسب لها عدن وما والاها ، ولعله لذا قال العلامة الطباطبائي في بيان تعرف القبلة بالجدي لأهل هذا الركن :

وبين عينيك بأطراف عدن

والأذن اليمنى لصنعاء اليمن

٣٨١

هذا. ويمكن معرفة القبلة أيضا بطرق أخر مستفادة من المهارة في علم الهيئة ، ولعل أولاها ما ذكره بعض علمائنا مختارا له من بين الطرق ، وهو طريقان : الأول ما أورده سلطان المحققين نصير الملة والدين في التذكرة قال : « ما نصه أن الشمس تكون تارة بسمت رأس مكة شرفها الله تعالى حين كونها في الدرجة الثامنة من الجوزاء ، والدرجة الثالثة والعشرين من السرطان وقت انتصاف النهار ، والفضل بين نصف نهارها ونصف نهار سائر البلدان أن يكون بقدر التفاوت بين الطولين ، فليؤخذ التفاوت ويؤخذ لكل خمسة عشر جزء منه ساعة ، ولكل جزء أربع دقائق ، فيكون ما اجتمع ساعات البعد عن نصف النهار ، وليرصد في ذلك اليوم ذلك الوقت قبل نصف النهار إن كانت مكة شرفها الله تعالى شرقية ، أو بعده إن كانت غربية قسمت الظل حينئذ سمت القبلة » انتهى. قيل ووجه مرور الشمس حال كونها في كل من الدرجتين المذكورتين في سمت رأس مكة ما ثبت من أن ميل كل منهما عن المعدل بقدر عرضها ، ووجه مساواة الفضل المذكور لما بين الطولين إلى آخر ما قاله أن ما بين الطولين قوس من المعدل واقع بين دائرتي نصف نهار البلدين ، ولما كانت أجزاء المعدل ثلاثمائة وستين ، وكل منها ستون دقيقة ، وكان زمان الدورة أعني اليوم بليلته أربعا وعشرين ساعة مستوية ، كل منها دقيقة كان حصة كل خمسة عشر جزءا ساعة واحدة ، وحصة كل جزء أربع دقائق ، فإذا أخذنا لما بين الطولين حصته من الساعات والدقائق كان المجتمع زمان ما بين انتصاف النهار بمكة وانتصافه بغيرها ، فإذا بقي أو مضى من انتصافه فيه بقدر ذلك الزمان يكون الشمس على سمت رأس مكة وظل المقياس حينئذ مسامتا للقبلة ، لمرور دائرة ارتفاع الشمس بسمت رأس مكة ، فإذا جعل المصلي خطابين قدميه وسجد عليه متوجها الى المقياس يكون متوجها الى القبلة ، لأنه يكون قد سجد على قوس من عظيمة أرضية مارة بما بين قدميه وموضع سجوده ومكة شرفها الله تعالى ،

٣٨٢

ثم لا يخفى عليك اختصاص هذه الطريق في البلدان المخالفة لمكة في الطول.

الطريق الثاني وهو المشتهر بالدائرة الهندية والعمل فيه بعد تسوية الأرض ورسم الدائرة واستخراج خطي الاعتدال والزوال القاسمين لها أرباعا على ما مر في بحث المواقيت أن يقسم كل ربع منها تسعين قسما متساوية ، ثم تعد من نقطة الجنوب أو الشمال بقدر ما بين الطولين إلى المغرب إن زاد طول البلد على طول مكة شرفها الله تعالى ، وإلى المشرق إن نقص ، ومن نقطة المشرق أو المغرب بقدر ما بين العرضين إلى الشمال إن نقص عرضه ، وإلى الجنوب إن زاد عليه ، ويخرج من منتهى الأجزاء الطولية خطا موازيا لخط الزوال ، ومن منتهى الأجزاء العرضية خطا موازيا لخط الاعتدال ، فيتقاطع ذلك الخطان داخل الدائرة غالبا فصل بين مركزهما ، ونقطة التقاطع بخط منته الى محيطها ، فهو على صوب القبلة ، ولا يخفى أيضا أن هذا الطريق في المخالفة لمكة طولا وعرضا خاصة ، فهو أقل من سابقه ثمرة ، بل ربما نوقش في اقتضائه التوجه الى العين تحقيقا ، نعم انما هو تقريبي ، لكن قيل إنه كذلك بالنسبة إلى العين كما هو مشرب علماء الهيئة ، وأما بالنظر الى إفادتها الجهة كما هو مذهب الفقهاء قدس الله أرواحهم فتحقيقية ، ولذا لم يلتفتوا الى تعديلها بما يقربها الى التحقيق في زعم أولئك ، وفيه نظر يعرف مما قدمناه سابقا ، ولعله الى هذين الطريقين أشار العلامة الطباطبائي بقوله :

وتعلم القبلة في بحر وبر

في غير مسطور بشي‌ء مستطر

والله أعلم.

( الثاني في ) أحكام ( المستقبل )

بالكسر وهي كثيرة ، منها أنه يجب عليه الاستقبال في الصلاة الواجبة والذبح كذلك وجوبا شرعيا على الأصح من وجوب المقدمة ، ولخصوص الأدلة لا شرطا خاصة مع العلم بجهة القبلة لما دل على وجوب الطاعة والانقياد من العقل‌

٣٨٣

والنقل (١) ويحصل العلم باخبار المعصوم عليه‌السلام وبصلاته التي يعلم خلوها عن التقية بناء على ما ذكرنا سابقا من منافاة الإمامة الخطأ في جهة القبلة ، وبنصبه محرابا ، ولذلك ذكر غير واحد من الأصحاب بل ظاهرهم الاتفاق عليه أن المحراب الذي نصبه المعصوم عليه‌السلام أو صلى فيه مما يفيد العلم بذلك ، ووجهه ما ذكرنا لكن بشرط القطع بصلاته فيه من غير تيامن ولا تياسر وأنه لا تقية ، نعم يصعب ثبوت محراب عندنا الآن كذلك ، إذ أقربها الى ذلك محراب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكونه مأخوذا يدا بيد ، مع أن المحكي عن الشيخ نجيب الدين أنه قال : وقع في محرابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة بعض تغيير ، وأما مسجد الكوفة فإنه وإن ذكر جماعة معلومية نصب أمير المؤمنين عليه‌السلام له ، وصلاة الحسن والحسين عليهما‌السلام فيه ، وأنه لذلك لا يجوز الاجتهاد فيه يمينا ويسارا ، بل في المحكي عن آيات الأردبيلي أن الأصحاب يقولون : إن قبلة الكوفة يقينية ، كما أن المحكي عن مجمعه نقل حكاية التواتر أيضا ، لكن في‌ خبر الأصبغ بن نباتة (٢) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام « ويل لبانيك بالمطبوخ المغير قبلة نوح عليه‌السلام » وخبر محمد بن إبراهيم النعماني (٣) في حديث عنه عليه‌السلام « أما أن قائمنا عليه‌السلام إذا قام كسره وسوى قبلته » ومرسل الصدوق (٤) « إن حد مسجد الكوفة آخر السراجين ، قيل له من غيره؟ قال : أول ذلك الطوفان ، ثم غيره أصحاب كسرى ، ثم غيره زياد بن أبي سفيان » وقد سمعت سابقا أن المجلسي رحمه‌الله قال : الوجه في استحباب التياسر أو وجوبه لأهل‌

__________________

(١) سورة النساء ـ الآية ٦٢.

(٢) البحار ـ ج ١٣ ص ١٨٦.

(٣) البحار ـ ج ١٣ ص ١٩٤.

(٤) الفقيه ج ١ ـ ص ١٤٩ الرقم ٦٩٢ ـ طبعة النجف.

٣٨٤

العراق أن قبلة مسجد الكوفة متيامنة ، وبقية المساجد تابعة له ، والتقية منعت عن التصريح بذلك ، فورد الأمر بالتياسر لأهل العراق على ذلك بأحسن وجه ، وقد ذكر بعض الأصحاب أيضا أنه لا يوافق المشاهد الآن من قبلته العلامات المعلوم نصبها من الشارع ، كوضع الجدي على الكتف ، اللهم إلا أن يدفع ذلك بأنه بعد فرض معلوميته يكون هو الشاهد على وضع الجدي لا العكس ، ومن هنا أيد بعضهم القول بأن العلامة وضع الجدي على المنكب الأيمن بمعنى مجمع عظم العضد والكتف بموافقته للمشاهد الآن لقبلة مسجد الكوفة ، إلا أن الانصاف عدم وصول تواتره إلينا بطريق قطعي ، بل أقصاه الطريق الظني باعتبار نقل جماعة من أجلاء الأصحاب ، وفي جريان أحكام المقطوع به عليه باعتبار ثبوته بطريق شرعي إشكال بل منع ، ضرورة صلاحية معارضته بظن آخر أقوى من ذلك ، وأولى منهما في عدم ثبوت التواتر غيرهما من المساجد ، كمسجد سرمن‌رأى وطوس والبصرة والمدائن وغيرها من المساجد المدعى فيها القطع بنصب معصوم لمحاريبها أو صلاته فيها على وجه لا تيامن وتياسر فيه ، بل وكذا قبور الأئمة عليهم‌السلام ، فإنه وإن كان الثابت عندنا أن المعصوم عليه‌السلام لا يقبره غير المعصوم إلا أن قبورهم عليهم‌السلام قد تغيرت بسبب وضع الشبابيك والصناديق والحضرات ونحوها ، وبها حصل التغيير.

ومن هنا قال بعض مشايخنا : إن الحضرة الشريفة في سرمن‌رأى وشباكها والسرداب الشريف على خلاف الجهة قطعا ، وما ذاك إلا للتصرف المزبور ، وهذا كلام عرض بالبين ، وإلا فوظيفة الفقيه إناطة الحكم بعلم الجهة من غير تعرض لأسباب العلم ، ضرورة اختلافه باختلاف الناس ، فقد يستفاد أيضا من تواتر الجهة وشياعها وأخذها يدا بيد ، واتفاق أهل النظر ، وغير ذلك ، قيل ومن ذلك استعمال العلامات المفيدة لذلك كالجدي ونحوه على بعض الوجوه ، وقد عرفت فيما مضى أنه ذكر غير واحد‌

٣٨٥

من الأصحاب حصول العلم بالجهة من سائر الأمارات الرياضية التي هي عندهم تدل على العين ، وأنه لا يخلو من نظر ، لا لأن الوضع المراد غير متيسر باعتبار البعد ، ضرورة إرادة الظاهر للحس منه لا النصب الحقيقي المتعذر ، وإلا لم يكن علامة ، بل لأن دلالتها على الجهة عندنا منحصرة فيما لا يفيد إلا الظن ، والإجماع على العمل بوضع الجدي مثلا المستفاد بمقايسته باقي العلامات لا يفيد القطع بالجهة ، ضرورة عدم التلازم بينهما ، ومن هنا قال في القواعد : « يجب الاستقبال مع العلم بجهة القبلة ، فإن جهلها عول على ما وضعه الشرع إمارة ، والقادر على العلم لا يكفيه الاجتهاد المفيد للظن » وهو كالصريح في استفادة الظن بذلك ، وكذا كشف اللثام وغيره ، نعم هي كالعلم شرعا في وجوب العمل ، بل لا يبعد في النظر عدم وجوب تقديم العلم حسا عليها ، لإطلاق دليل العمل بها وظهور اتفاق الأصحاب على إرادتها من العلم المأمور به للقبلة والعلم القطعي بعدم الحرج على من كان في زمن التمكن من استعلام المعصوم (ع) في العمل بهذه العلامات ، ولغير ذلك مما يظهر بأدنى تأمل.

ومن هنا يقوى الظن بإرادة المصنف من قوله فان جهلها عول على الأمارات المفيدة للظن غير الأمارات الشرعية التي قد عرفت عدم تقييد العمل بها على الظاهر بعدم العلم القطعي بالجهة ، بدليل عدم ذكره الاجتهاد بعد ذلك ، فيعلم منه حينئذ إرادته من هذه العبارة ، ولا ريب في توقف اعتباره على انتفاء العلامات الشرعية ، وان استعمالها ليس من الاجتهاد في شي‌ء ، إذ هو في الغالب لتحصيل الجهة التي كانت تستفاد منها ، وإطلاق الاجتهاد على الحاصل منها في بعض العبارات لضرب من التجوز ، ومن هنا عمم العلم للحسي والشرعي في كشف اللثام في شرح قول الفاضل السابق : « والقادر على العلم لا يكفيه الاجتهاد المفيد للظن » لكن ظاهره أو صريحه في شرح ما قبل ذلك اشتراط جواز العمل بها بعدم التمكن من العلم الحسي الحاصل من إخبار معصوم‌

٣٨٦

أو محرابه ، وهو وإن كان لا يخلو من وجه إلا أن خلافه أيضا لا يخلو من وجه ، لما عرفت.

نعم هي لا عبرة بها لو خالفت ما اتفق علم المكلف به من الجهة بقول معصوم مثلا أو فعله ، لا أنه يشترط جواز العمل بها بعدم التمكن من سؤاله مثلا ، ولعل عبارة المتن والقواعد المذكورة سابقا وما ضاهاها لا تنافي ذلك ، ضرورة خلوها عن الاشتراط المزبور ، بل يمكن إرادة ما يشملها من العلم في نحو قولهم : لا يجوز التعويل على الظن في القبلة مع التمكن من العلم ، وأن المراد الاجتهادي من الظن فيها لا مثل الظن الحاصل منها الذي قد عرفت الدليل من النص والإجماع على العمل به ، فتأمل. ومن ذلك يعرف ما في المحكي عن فوائد القواعد في تفسير عبارتها المذكورة سابقا من أن المراد بالعلم بها للبعيد استفادتها من محراب المعصوم أو قوله ، ومع تعذره يرجع إلى ما نصبه الشارع علامة وإن كان بعضه مفيدا للعلم ، إلا أنه لا يرجع إليه حينئذ مطلقا ، لما تحقق من عدم جواز الاجتهاد بتلك العلامات بما يخالف محراب المعصوم ، فان فيه نظرا من وجوه ، وكذا ما في جامع المقاصد في شرح العبارة المزبورة أيضا من أن أكثر ما سبق من العلامات يفيد القطع بالجهة في الجملة ، فكان حق العبارة أن يقول فان جهلها عول على ما يفيد القطع من العلامات ، ثم على ما يفيد الظن ، ثم قال : ويمكن أن يقال العلامات المذكورة وإن أفاد بعضها القطع بالجهة في الجملة إلا أنها بالإضافة إلى نفس الجهة انما تفيد الظن ، لأن محاذاة الكواكب المخصوصة على الوجه المعين مع شدة البعد انما يحصل به الظن ، فيندرج الجميع فيما وضعه الشارع إمارة ، بل وما في فوائد الكتاب في شرح المتن من أن المراد من جهلها على وجه لا يستطيع معرفتها بالعلامات المثمرة لليقين ، كمحاذاة الجدي والمشرق والمغرب مثلا ، فان هذه محصلة لليقين في الجملة وإن لم يحصل بها نفس السمت يقينا ، ثم قال : والمراد بالأمارات المفيدة للظن نحو الضوء الكثير آخر النهار في يوم الغيم المفيد للظن أن ذلك الجانب هو المغرب ، ولقد أصاب فيما ذكر أنه‌

٣٨٧

المراد بالأمارات ، وإن كان في تعليله السابق نظر ، كالذي في المسالك ، قال في شرح المتن : ليس المراد بالأمارات هنا ما هو مذكور في كتب الفقه لتحصيل الجهة كالجدي ونحوه ، فان تلك مفيدة للعلم بالجهة إذا أحرزت على وجهها ، بل المراد بالأمارات المفيدة للظن الرياح الأربع ومنازل القمر ونحوهما مما لا ينضبط غالبا ، فإنهم جوزوا التعويل عليها عند تعذر غيرها من الامارات المفيدة للعلم بالجهة كالكواكب ، أما الرياح فإنما تكون علامة عند تحققها ، ولا يكاد يتفق لغير الماهر في معرفة طبائعها ومنازلها ومثار أفعالها إلا مع العلم بالجهات الأربع ، ومعه يستغنى عن الاستدلال بها ، وأما القمر فإنه يكون ليلة سبع من الشهر في قبلة العراقي أو قريبا منها عند المغرب ، وليلة الرابع عشر منه نصف الليل ، وليلة الحادي والعشرين عند الفجر ، إلا أن ذلك كله تقريبي لا يستمر على وجه واحد ، لاختلاف حركات القمر ، فلذلك اشترط التعويل عليها بفقد العلامات الثابتة كالجدي ، وقد تبع فيما ذكره أخيرا ما في جامع المقاصد ، حيث قال بعد ما ذكر جملة من الكلام : فيستفاد من قول العلامة : « والقادر على العلم » إلى آخره. أن القادر على القبلة حال استقامته مثلا لا يكفيه التعويل على كون القمر ليلة السابع من الشهر في وقت المغرب محاذيا لقبلة المصلي ، وليلة الرابع عشر منه نصف الليل ، وليلة الحادي والعشرين منه عند الفجر ، فإنه ينتقل في المنازل ، فيغرب في ليلة كونه هلالا على نصف سبع الليل ، لأن ذلك تقريبي يزيد وينقص ، إلى غير ذلك من كلماتهم التي لا يخفى عليك ما فيها بعد الإحاطة بما قدمنا.

وكيف كان فلا ريب في تقدم هذه الامارات على الاجتهاد ، وأما جواز العمل بها بناء على أنها انما تفيد الظن مع التمكن من العلم الحسي ففيه وجه إذا لم يعلم مخالفتها له ، حتى القمر عند من جعله علامة بسبب مراعاته له في سائر الفصول مقايسا له بالجدي الثابت كونه علامة ، لكن يظهر من جماعة اشتراط جواز العمل بها بانتفاء العلم ، وللنظر‌

٣٨٨

فيه مجال ، لكن على كل حال لا خلاف أجده بين المسلمين فضلا عن الخاصة في العمل بها ، وأنه لا يصلي إلى أربع جهات بمجرد فقد العلم وإن تمكن من إعمالها ، وبه اعترف في كشف اللثام.

نعم قد يظهر من قول الشيخين في المقنعة والنهاية والمبسوط والجمل والاقتصاد والمصباح ـ على ما حكي عن بعضها بعد ذكرهما الامارات السماوية أن من فقدها صلى أربعا مع الاختيار ، ومع الضرورة يصلي إلى جهة ـ عدم جواز العمل بالاجتهاد بمعنى الظن الناشئ من غير الأمارات الشرعية ، بل هو في الحقيقة ظن بالجهة التي كانت تستفاد من تلك الامارات كما هو ظاهر المحكي عن ابن حمزة أو صريحه من أن فاقد الامارات يصلي أربعا مع الاختيار ، ومع الضرورة يصلي إلى جهة تغلب على ظنه ، وعلى ذلك ينزل ما حكاه في الذكرى عن ظاهر الشيخ في التهذيب والخلاف من أن الاجتهاد لا يكون إلا عند الضرورة : أي تعذر الصلاة إلى أربع جهات ، لا أن المراد بالاجتهاد ما يشمل الحاصل من تلك الامارات بناء على إفادتها الظن.

وإن كان الأقوى خلافه أيضا وفاقا للمعظم ، بل الإجماع ممن عداهما ، بل لعله ظاهر معقد إجماع المنتهى أو صريحه بعد التدبر في آخر كلامه ، ومحتمل أو ظاهر إجماع التحرير أيضا ، بل يمكن دعوى تحصيل الإجماع عليه فضلا عن محكيه ، ويدل عليه مع ذلك‌ صحيح زرارة (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام « يجزئ التحري أبدا إذا لم يعلم أين وجه القبلة » وموثق سماعة (٢) « سألته عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم ير الشمس والقمر ولا النجوم ، فقال : اجتهد رأيك وتعمد القبلة جهدك » وغيرهما من النصوص التي تسمعها إن شاء الله في الأعمى وفيمن بان لها الخطأ بعد خروج الوقت أو قبله ، فان فيها التصريح بالاجتهاد والتحري ، وبذلك كله يخرج عن مقتضى قاعدة وجوب تحصيل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢.

٣٨٩

العلم الإجمالي بعد تعذر العلم التفصيلي لو سلم اقتضاؤها الأربع حينئذ.

كما أنه بذلك يجب حمل‌ خبر خداش (١) على إرادة التحري لا الامارة ، قال للصادق عليه‌السلام : « جعلت فداك أن هؤلاء المخالفين علينا يقولون : إذا أطبقت السماء علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنا وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : ليس كما يقولون ، إذا كان ذلك فلتصل لأربع وجوه » بقرينة قوله : « أطبقت السماء » و « أظلمت » ضرورة ظهورهما في انه لا إمارة يظن منها القبلة ، أو على إرادة بيان أن ذلك حكمنا لولا الدليل ، بخلاف المخالفين فان عندهم التكليف بالاجتهاد أولا ولا احتياط ، أو على غير ذلك مما لا بأس به بعد قوة المعارض ، بل لا بأس بالتزام الطرح بالنسبة إلى ذلك لأجله ، خصوصا وحجية الخبر المزبور محتاجة إلى جابر ، وليس ، بل ضده موجود كما عرفت ، ومن ذلك يعلم ما في حمل النصوص المزبورة على إرادة الاجتهاد بعد تعذر الأربع ، أو على إرادة الاجتهاد بالأمارات الشرعية ، أو نحو ذلك مما يقطع بفساده بعد الإحاطة بما عرفت الذي بالتأمل فيه يعلم الخلل في النقل وغيره فيما وقع في الرياض في تحرير هذه المسألة ، وأعجب ما فيه نقله الخلاف في ذلك عن المبسوط خاصة في وجه ، وأنه على تقديره شاذ محكي على خلافه الإجماع من المسلمين كافة في كثير من العبارات كالمعتبر والمنتهى والتحرير والتذكرة والذكرى ، وأن به صرح بعض الأجلة حيث قال : وهل له الاجتهاد إذا أمكنه الصلاة إلى أربع جهات؟ الظاهر إجماع المسلمين على تقديمه وجوبا على الأربع قولا وفعلا ، وان فعل الأربع حينئذ بدعة ، فان غير المشاهد للكعبة ومن بحكمه ليس إلا مجتهدا أو مقلدا ، فلو تقدمت الأربع على الاجتهاد لوجبت على عامة الناس ، وهم غيرهما أبدا ، ولا قائل به ، إلى آخر ما قال ، ونعم ما قال معرضا بذلك لما في كشف اللثام ، فان ذلك نص عبارته ، ومن تأملها إلى آخرها علم أن مراده القول‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٥.

٣٩٠

بتقديم الأربع على الاجتهاد حتى الأمارات الشرعية ، وهو كما قال لم يقل به أحد من المسلمين ، انما الكلام في الظن الحاصل من غيرها ، وهو الذي فيه خلاف الشيخ ، وهو نفسه قد احتمله في آخر عبارته مستظهرا له من الكتب السابقة ، وكذلك الكلام في بعض معاقد إجماعات المسلمين التي حكاها عن الكتب المزبورة ، فإنها ظاهرة في الأمارات الشرعية أو في الأعم منها ، ولا ريب في أنه لم يقل أحد من المسلمين بتقديم الأربع عليها مطلقا ، فلاحظ وتأمل جيدا.

وكيف كان فقد ظهر لك أن الأصح تقديم الاجتهاد على الأربع ، نعم يقدم عليه بحسب الظاهر شهادة العدلين ، وفي جامع المقاصد يلوح من عبارة شيخنا الشهيد في قواعده عدم الخلاف في الرجوع إليها ، وفيه قوة ، لأنها حجة شرعية ، قلت : لكن بين ما دل على اعتبارها وبين ما دل على وجوب الاجتهاد مع انتفاء العلم تعارض العموم من وجه ، اللهم إلا أن ترجح بالاكتفاء بها في كثير مما اعتبر فيه العلم ، وأما خبر العدل فإنه وإن كان التعارض فيهما كذلك ، إلا أنه يمكن إنكار رجحانه في المقام الظاهر من الأصحاب عدم الالتفات اليه إلا من حيث كونه إمارة اجتهادية في وجه ، لكن في كشف اللثام لم أر من اشترط التعدد ، فهو خبر : أي يكتفي فيه بما يكتفي به في الأحكام الشرعية ، وإلا فكل خبر شهادة ، لكن خص ما فيه زيادة تحقيق وتدقيق للنظر باسم الشهادة ، فلما كان الله لطيفا بعباده حكم في حقوقهم بشاهدين فصاعدا ، واكتفى في حقوقه وأحكامه بالرواية ، وهذا منها ، وظاهره الاكتفاء به ، وقد تقدم سابقا في إخبار العدل والعدلين بالنجاسة والوقت ماله نفع في أصل المسألة ، فلاحظ وتأمل.

ومما يشهد لما ذكرنا من عدم التفات الأصحاب إلى خبر العدل قول المصنف : فـ ( ـا ذا اجتهد فأخبره غيره بخلاف اجتهاده قيل يعمل على اجتهاده ، ويقوى عندي أنه إذا كان ذلك المخبر أوثق في نفسه عول عليه ) وإلا فلا ، ضرورة شموله لاخبار العدل‌

٣٩١

عن يقين وحس ، بل لعل ظاهر الاخبار ما لا يشمل الخبر عن الاجتهاد ، وما قوي عند المصنف ليس عملا بالخبر من حيث كونه خبرا بل لأنه اجتهاد رافع للاجتهاد الأول ، ولذا لم يفرق بين العدل وغيره ، بل لم أجد بعد التتبع قولا لأحد من معتمدي الأصحاب بالعمل بخبر العدل من حيث أنه حجة شرعية ، نعم أرسله في جامع المقاصد عن بعضهم ولم أعرفه ، فقال : قيل بالاكتفاء بشهادة العدل المخبر عن يقين في ذلك وفي الوقت ، وهو ضعيف ، لأنه مخاطب بالاجتهاد فيهما ، ولم يثبت الاكتفاء بذلك ، بل قد يظهر من القيل في عبارة المصنف وغيرها عدم اعتبار الخبر هنا مطلقا وإن كان الظن به أقوى ، إما لأن الرجوع إلى الغير نوع من التقليد ، وهو غير جائز للقادر على الاجتهاد ، وإما لأن ظاهر التحري واجتهاد الرأي ما لا يشمل الظن الناشئ من إخبار الغير ، سواء كان عن اجتهاد أو حس ، بل لعله هو مقتضى إطلاق قول الفاضل : « ولو تعارض الاجتهاد وإخبار العارف رجع إلى الاجتهاد » بل عن كشف الالتباس أن ظاهر المصنفات ذلك في المخبر عن حس فضلا عن غيره ، بل كاد يكون صريح المسالك أيضا ، حيث أنه بعد أن ذكر أن وجه القوة التي أشار إليها المصنف رجحان خبر الغير في نفسه ، فيكون المصير إليه أولى من الطرف المرجوح ، قال : ويضعف بأن الرجوع إلى الغير تقليد لا يجوز المصير اليه مع إمكان الاجتهاد ، نعم لو كان المخبر عدلين عن علم اتجه تقديمهما على اجتهاده ، وفي الذكرى ولو اجتهد وأخبر بخلافه أمكن العمل بأقوى الظنين ، لأنه راجح ، وهو قريب ، ووجه المنع أنه ليس من أهل التقليد ، وبه علل في جامع المقاصد عبارة الفاضل المزبورة ، ثم قال : وفي الذكرى أن رجوعه إلى أقوى الظنين قريب ، لأنه راجح ، والأصح المنع إلا أن ينضم إلى الاخبار مرجحات أخر ، فيكون التعويل على الاجتهاد لا على الاخبار ، ولا فرق في ذلك بين‌

٣٩٢

كون المخبر قاطعا بالقبلة أو مجتهدا ، سواء العدل وغيره ، والوقت كالقبلة في ذلك ، وظاهره عدم العمل به إن كان الرجحان منه لا غير ، وهو غريب لم أعرف به قائلا قبله.

والتحقيق ما قواه المصنف ، وفاقا لجماعة ، لإطلاق الأمر بالاجتهاد والتحري الشاملين ضرورة للظن الناشئ منه ، ودعوى عدم صدقهما على مثل ذلك ممنوعة ، كدعوى عدم العبرة بهذا الظن كالمجتهد بالفروع ، ضرورة كون التحقيق فيه حجية ظن مخصوص له ، بخلاف المقام الذي لا دليل على خصوصية ظن له ، ولو قيل هناك بفتح باب الظنون له أيضا اتجه له العمل بناء على فرض حصول الظن له بخلاف اجتهاده.

ومن هنا يظهر لك أنه لا فرق بين إخبار العدل وغيره ، وبين كونه عن حس أولا بعد فرض حصول الظن له به ، بل ومنه يظهر أنه لا فائدة معتد بها في قول المصنف بعد ذاك ولو لم يكن له طريق إلى الاجتهاد فأخبره كافر قيل لا يعمل بخبره ، ويقوى عندي انه إن أفاده الظن عمل به وأنه لا معنى لفرضها في عدم الطريق له ، إذ المتجه بناء على ما عرفت اتباع الظن وإن كان له طريق أيضا من غير فرق بين الكافر والفاسق والصبي والامرأة والعبد وغيرهم سواء أخبروا عن حس أو عن اجتهاد ، لاشتراك الجميع في جهة العمل المزبورة ، وهي فرض قوة الظن له من باقي الامارات ، نعم قد تترتب غالبا في حصول الظن وعدمه ، وليس العمل بها من حيث الخبرية وعدمها كي يشترط العدالة وعدمها وكونه عن حس وعدمه ، وما في كشف اللثام من الفرق بين الاخبارين إن أراد بالنسبة إلى الظن وعدمه غالبا فحق ، وإلا كما هو ظاهره فممنوع ، كما هو واضح ، فتأمل جيدا ، فان كلمات الأصحاب في المقام لا يخلو من تشويش ، نعم يجب عليه بذل تمام الجهد في تتبع أمارات الظن لقوله عليه‌السلام : « اجتهد رأيك وتعمد القبلة جهدك » فلا يجتزى حينئذ بأول ما اتفق له من الامارات ، ومنه حينئذ قد يقال بوجوب التأخير عليه إلى ضيق الوقت وإن لم نقل به في سائر ذوي الأعذار ،

٣٩٣

لعدم حصول اليقين له ببذل تمام الجهد حتى يضيق الوقت ، اللهم إلا أن يدعى تحقق مصداق عرفي لإطلاق العبارة المزبورة بدون ذلك ، فالمتجه حينئذ دوران الأمر عليه ، وهو الأقوى في النظر ، فتأمل ، والله أعلم.

ويعول على قبلة البلد بلاد المسلمين إذا لم يعلم انها بنيت على الغلط إجماعا في التذكرة والمحكي عن كشف الالتباس معتضدا بالتتبع لكلمات الأصحاب ، وبالسيرة القطعية في جميع الأعصار والأمصار ، وبان استمرار عملهم من أقوى العلامات المفيدة للقبلة ، ومنها المحاريب المنصوبة في جوارهم التي يغلب مرورهم عليها ، أو في قرية صغيرة نشأت قرون منهم فيها ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون متمكنا من مراعاة الأمارات الشرعية أولا ، بل وسواء كان متمكنا من العلم بالجهة كما إذا كان فيها محراب معصوم أو لا ، فما في المنتهى من أن البصير في الحضر يتبع قبلة أهل البلد إذا لم يكن متمكنا من العلم لا يخلو من نظر إن لم يرد ما ذكرنا ، نعم قد يتأمل في المظنون بناؤها على ذلك وإن كان الإجماع المحكي مطلقا ، إلا أن المتيقن منه كالسيرة المزبورة غير الصورة المذكورة ، ولعله لذا قال في المبسوط : « إذا دخل غريب إلى بلد جاز أن يصلي إلى قبلة البلد إذا غلب في ظنه صحتها ، فإذا غلب على ظنه أنها غير صحيحة وجب أن يجتهد ويرجع إلى الأمارات الدالة على القبلة » ونحوه عن المهذب ، اللهم إلا أن يريد بغلبة الظن العلم ، أو يريد الأصحاب العكس ، فيتفق الجميع حينئذ ، ولعل الأول أولى ، لتصريح غير واحد من الأصحاب ، بل لا يعرف فيه خلاف بينهم أنه لا يجوز العمل على الاجتهاد فيها جهة ، بل في الذكرى وجامع المقاصد القطع بذلك ، وهو منهما كالإجماع ، وليس ذاك إلا لعدم العبرة بهذا الظن الحاصل من الاجتهاد في مقابلة فعل المسلمين على مرور الأعصار ، ولو كان ظن الغلط معتبرا لوجب التعويل على اجتهاده المزبور لا عدمه ، لكن في كشف اللثام بعد أن حكى عن الذكرى أنه لا يجوز الاجتهاد في الجهة قطعا‌

٣٩٤

قال : أي العمل على وفقه لأنه عمل بالظن في مقابلة العلم ، وهو غير ظن الغلط الذي حكيناه عن المبسوط والمهذب ، ولا مستلزم له ، فان استلزمه انقلب العلم وهما ، وفيه أنه لا ريب في الانقلاب المزبور مع فرض حصول الاجتهاد بما ينافيه ، ولعله حمل كلام الشيخ على ظن غلطها الحاصل من غير الاجتهاد ، لا منه الذي حصول الغلط فيه أولى من الغلط فيها ، ومع ذلك لا يخلو من نظر أيضا ، فالأولى ترك الاجتهاد ، لعدم وجوبه قطعا ، فلو اجتهد فظن الغلط ملاحظا لاستمرار فعل المسلمين كان الأحوط له الصلاة إلى الجهتين.

وأما الاجتهاد فيها يمينا وشمالا فقد صرح جماعة من الأصحاب بجوازه ، بل لا أجد فيه خلافا بينهم إلا من المحكي عن نهاية الأحكام ، حيث قال : « ولو اجتهد فأداه اجتهاده إلى خلافها فان كانت بنيت على القطع لم يجز العدول إلى الاجتهاد ، وإلا جاز » والظاهر اكتفاؤه في البناء على القطع باستمرار صلاة المسلمين إليها من غير معارض ، كما أن دليله على الظاهر أقربية احتمال إصابة الخلق الكثير من احتمال إصابة الواحد فيه ، لكن يرده ما في الذكرى من جواز ترك الخلق الكثير الاجتهاد في ذلك ، لأنه غير واجب عليهم ، فلا يدل مجرد صلاتهم على تحريم اجتهاد غيرهم ، وانما يعارض اجتهاد العارف لو ثبت وجوب اجتهاد الكثير أو ثبت وقوعه ، وكلاهما في حيز المنع ، بل لا يجب الاجتهاد قطعا ، قال : وقد وقع في زماننا اجتهاد بعض علماء الهيئة في قبلة مسجد دمشق ، فان فيها تياسرا عن القبلة مع انطواء الأعصار الماضية على عدم ذلك ، وقال أيضا عن عبد الله بن المبارك انه أمر أهل مرو بالتياسر بعد رجوعه من الحج ، قلت : إن أريد باليمين والشمال ما لا يقدح عدمه في الصلاة فلا ثمرة معتد بها لهذه المسألة ، ضرورة أنه يجوز ترك العمل به ولو بعد الاجتهاد ، وإن أريد ما يقدح منهما فهو كالخطإ في الجهة مستبعد على الخلق الكثير في الأزمنة المتطاولة ، خصوصا وقد عرفت أن‌

٣٩٥

استمرار الخلق مما يفيد بناءها على القطع واليقين لا الظن والتخمين.

وقد ادعى الوجدان في الحدائق على مخالفة قبلة جميع ما شاهده من البلدان للقواعد الرياضية ، ومنها الداخل في الإسلام في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعين فيها ولاة من جهته ، إلى أن قال : « واللازم من ذلك أحد أمرين ، إما بطلان صلاة أهل تلك البلدان في جميع الأزمان ، أو عدم اعتبار هذه العلامات وإن أفادت اليقين كما ذكروه دون الظن والتخمين ، والأول أظهر في البطلان من أن يحتاج إلى البيان ، سيما وجملة منها صلى فيها الأئمة عليهم‌السلام كالمدينة وخراسان ومسجد الكوفة ، ودعوى التغيير في هذه البلدان عما كانت عليه في سابق الأزمان دعوى بغير دليل ، بل مخالفة لما جرت عليه كافة العلماء جيلا بعد جيل ، فتعين الثاني » قلت : لا يفهم المراد من هذا الكلام ، إذ هذه الأمارات أكثرها شرعية ، ضرورة كونها مأخوذة من نص الشارع أو بالمقايسة لما نص عليه ولو تقريبا ، فإن أراد مخالفة قبلة البلدان المزبورة لهذه الامارات مخالفة تؤدي إلى فساد الصلاة ففيه منع ، وإن أراد مخالفتها للقواعد الرياضية من الدوائر والاسطرلابات ونحوها فقد عرفت أنه لا عبرة بهذا الاختلاف الذي منشأه مراعاة التحقيق في القواعد المزبورة ، وبناء القبلة على التقريب كما أومأ إليه اختلاف ما جعله الشارع علامة لذلك على ما قدمناه سابقا ، وإن أراد أن قبلة البلد لا يعارضها الاجتهاد في اليمين والشمال القادحين فضلا عن غيرهما فمرحبا بالوفاق ، لما أشرنا إليه سابقا ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

والظاهر أن المدار على ما ثبت أنها قبلة البلد ، فلا يكفي ظنها ولو من إخبار صاحب الدار إلا أن تنضم معه قرائن يعلم منها صدقه ، وليس التعويل عليها بصحة فعل المسلم ، وإلا لجاز التعويل على قبلة الشخص الواحد من غير حاجة إلى التقييد بالبلد ، بل العمل عليها للاطمئنان الحاصل من اتفاق الخلق الكثير في الأزمنة المتطاولة ، فينبغي أن يجعل‌

٣٩٦

على ذلك المدار ، فلا يفرق بين محاريب البلدان وقبورها والطرق التي يكثر عليها مرور المسلمين والقرى وغيرها مما يفيد ما ذكرنا ، بخلاف محاريب الطرق التي يندر مرور المسلمين عليها والقرى الخربة والبلد التي لا يعلم كونها بلاد إسلام وغيرها مما لا يفيد ذلك ، كما هو واضح ، والله أعلم ، ومن ذلك وما تقدم سابقا يظهر لك ما في المدارك وتبعه عليه غيره من أن إطلاق كلامهم يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين ما يفيد العلم بالجهة أو الظن ، ولا بين أن يكون المصلي متمكنا من معرفة القبلة بالعلامات المفيدة للعلم أو الاجتهاد المفيد للظن أو ينتفي الأمران ، وربما ظهر من قولهم : « فان جهلها عول على الامارات » عدم جواز التعويل عليها للمتمكن من العلم إلا إذا أفادت اليقين ، وهو كذلك ، لأن الاستقبال على اليقين ممكن ، فيسقط اعتبار الظن ، فلاحظ وتأمل فيما قدمنا كي تعرف محال النظر من كلامه ، والله أعلم.

ومن ليس متمكنا من الاجتهاد فضلا عن العلم أو ما يقوم مقامه كالأعمى يعول على غيره مخبرا أو مجتهدا على المشهور بين الأصحاب في الأعمى نقلا وتحصيلا ، بل لا أجد فيه خلافا صريحا إلا من الشيخ في الخلاف ، فيصلي إلى الأربع ، قال فيه : إنه ومن لا يعرف أمارات القبلة تجب عليهما الصلاة أربعا مع الاختيار ، وعند الضرورة يصليان إلى أي جهة شاءا ، ونسب الرجوع إلى الغير إلى الشافعي ، ثم قال : وأما إذا كان الحال حال الضرورة جاز لهما أن يرجعا إلى غيرهما ، لأنهما مخيران في ذلك وفي غيرها من الجهات ، وإن خالفاه كان لهما ذلك ، لأنه لم يدل دليل على وجوب القبول من الغير ، نعم قيل إنه يظهر من الألفية ويلوح من المقنعة والنهاية والمراسم والوسيلة والسرائر موافقته لقولهم من لم يتمكن من ذلك لغيم أو غيره وفقد سائر الامارات والعلامات صلى إلى أربع جهات ، ولم يتعرضوا لخصوص الأعمى ، إلا أنه على كل حال لا ريب في ضعفه ، قيل : للأصل والعسر وعموم خبر العدل أو إطلاقه وأخبار الائتمام‌

٣٩٧

به إذا وجه ، قال الصادق عليه‌السلام في صحيح الحلبي (١) منها : « لا بأس أن يؤم الأعمى القوم وإن كانوا هم الذين يوجهونه » وقال عليه‌السلام أيضا في خبر السكوني (٢) : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث : « لا يؤم الأعمى في الصحراء إلا أن يوجه إلى القبلة » وفي‌ حسن زرارة أو صحيحه (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث « قلت له : أصلي خلف الأعمى قال : نعم إذا كان له من يسدده وكان أفضلهم » إلى غير ذلك.

لكن قد يناقش فيها بانقطاع الأصل بباب المقدمة ، ومنع العسر ، وإطلاق خبر العدل لا يخص الأعمى ولا يشمل رجوعه للمخبر عن اجتهاد الذي هو بعض الدعوى ، بل لعل التعبير بالتقليد من بعضهم يختص بالثاني ، وبظهور كون المراد منها توجيهه إلى القبلة المعلومة باماراتها ، ولعله يحصل له القطع ولو بخبر الواحد المحفوف بالقرائن ، وبأنها مساقة لبيان أن ذلك لا ينقصه عن مرتبة الإمامة ، لا لبيان أن حكمه في القبلة التقليد ، كما هو واضح بأدنى تأمل.

فالأولى الاستدلال عليه حينئذ بصحيح زرارة (٤) وموثق سماعة (٥) السابقين ، وكأنه يومي اليه الاستدلال من بعضهم بأن خبر العدل من الامارات المفيدة للظن ، ضرورة ابتنائه على الاجتزاء بمطلق الظن له ، وحينئذ يكون فرضه الاجتهاد وإن قلت أمارات الاجتهاد بالنسبة إليه ، بل هي منحصرة غالبا في الرجوع للغير ، ولعل المراد بالتقليد في بعض العبارات خصوص هذا القسم من الاجتهاد ، لا أنه مرتبة ثالثة ، وربما كان ترك ذكر الأعمى في العبارات المزبورة لإدراجه فيمن يعمل بالظن بعد فقد العلم من غير فرق بين الأعمى وغيره ، وإن اختلفوا بالنسبة إلى تعدد الامارات وعدمها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢.

٣٩٨

لا للموافقة للشيخ في عدم العبرة بالظن للأعمى ، كما يشهد له حصر الخلاف فيه من غير واحد ممن يتصدى لنقل الوفاق والخلاف من الأصحاب ، بل يشهد لأصل الدعوى أيضا ما تسمعه فيما يأتي من إناطة الصلاة إلى الأربع بفقد العلم والظن الظاهر في عدم مرتبة ثالثة هي التقليد ، وفي أن الأعمى وغيره سواء في اعتبار الظن بعد فقد العلم.

وحينئذ يسقط البحث عن كثير من الأمور المذكورة عند الأصحاب كاعتبار العدالة في الغير وعدمه ، حتى حكي عن رسالة صاحب المعالم وشرحها أن الأكثر على اعتبار كون المخبر عدلا ، بل قيل إنه خيرة الأحمدي والمبسوط والمهذب والإصباح والتذكرة ونهاية الأحكام والمختلف والذكرى والدروس والبيان والموجز الحاوي وجامع المقاصد والجعفرية وشرحها وفوائد الشرائع وحاشية الفاضل الميسي والروض والروضة والمسالك وغيرها ، بل في كشف اللثام رجلا كان أو امرأة حرا أو عبدا كما في المبسوط وكتب الشهيد ونهاية الأحكام ، ولعله لما في الذكرى من أن المعتبر بالمعرفة والعدالة ، وليس من الشهادة في شي‌ء ، ثم قال فيها : « فان تعذر العدل فالمستور ، فان تعذر ففي جواز الركون إلى الفاسق مع ظن صدقه تردد ، من قوله تعالى (١) ( فَتَبَيَّنُوا ) ومن أصالة صحة إخبار المسلم ، أما لو لم يجد سوى الكافر ففيه وجهان مرتبان أي على الوجهين في الفاسق ـ ثم قال ـ : وأولى بالمنع ، لأن قبول قوله ركون اليه ، وهو منهي عنه ، ويقوى فيهما الجواز ، إذ رجحان الظن يقوم مقام العلم في العبادات » وفي كشف اللثام « قلت : نعم في ظن اعتبر طريقه شرعا أو انحصر الطريق فيه ولم يكن أقوى منه فالاحتياط تقليدهما إذا لم تمكن الصلاة أربعا ، وإلا فالجمع بينهما » وعن المبسوط والمهذب والجامع والتذكرة ونهاية الأحكام وجامع المقاصد وشرحي الجعفرية وحاشية الميسي والروض إطلاق المنع من تقليد الكافر والفاسق ، لكن عن المبسوط جواز تقليد الصبي‌

__________________

(١) سورة الحجرات ـ الآية ٦.

٣٩٩

مع اشتراطه العدالة كما عرفت ، قيل وهو خيرة المعتبر ، خلافا لنهاية الأحكام والمختلف وغيرهما فالمنع ، بل في كشف اللثام أن ظاهر المختلف المنع في الامرأة أيضا ، قال : قال فيه : لنا أن الضابط في قبول خبر الواحد العدالة ، فلا يثبت القبول مع عدمها ، لأن مطلق الظن لا يجوز الرجوع اليه ، أما أولا فلعدم انضباطه ، وأما ثانيا فلحصوله بالكافر ، فلا بد له من ضابط ، وليس إلا خبر العدل ، لأنه أصل ثبت في الشرع اعتباره في خبر الواحد والتقليد كما عرفت ، وأطلق في القواعد كالكتاب ، وعن جملة من كتب الأصحاب الرجوع إلى الغير ، وفي الذكرى ثم التقليد هو قبول قول الغير المستند إلى الاجتهاد ، فلو أخبر العدل عن يقين القبلة كما في المواقف المفيدة لليقين في التيامن والتياسر فهو من باب الاخبار ، ويجوز التعويل عليه بطريق أولى ، ثم قال : « ولو أخبر المكفوف بصير بمحل القطب وهو عالم بدلالته فهو إخبار أيضا ».

وفي كشف اللثام ولو تعدد المخبر رجع إلى الأعلم الأعدل كما في المنتهى والتذكرة ونهاية الأحكام والذكرى ، وفي الدروس إلى الأعلم ، وفي البيان إلى الأعلم فالأعدل ، فلو رجع الى المفضول بطلت صلاته كما في المنتهى خلافا للشافعي ، وفيه أيضا أنه لا عبرة بظن المقلد هنا ، فان ظن إصابة المفضول لم تمنعه من تقليد الأفضل ، فإن تساويا قلد من شاء منهما كما في المنتهى ونهاية الأحكام ، وفي الأخير احتمال وجوب الأربع واثنتين الى غير ذلك من الأحكام المذكورة التي علمت سقوطها بناء على ما ذكرنا ، ضرورة كون المدار فيه على الظن المندرج به تحت التحري وتعمد القبلة بحسب جهده من غير تقييد بظن مخصوص ، كما سمعته سابقا فيمن فرضه الاجتهاد ، بل هذا قسم منه ، فلا فرق حينئذ بين العدل والفاسق والذكر والأنثى والصبي والبالغ والفاضل والمفضول والعدل والأعدل وغيرها ، بل يدور مدار الظن ، واحتمال إرادة الأصحاب بيان‌

٤٠٠