جواهر الكلام - ج ٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الذي قد أمر في جوابه باجتهاد الرأي وتعمد القبلة منتهى الجهد ، وغير ذلك.

لكن لا يخفى إجمال الجميع وقصوره عن إفادة الواقع تفصيلا ، نعم يمكن تنزيل الخبر الأول بقرينة بلد السائل فيه وموافقته لمقتضى قانون الهيئة على العراقي بعد إرادة المنكب من القفا فيه بقرينة المرسل الآخر ، أو خصوص ما يكون فيه على القفا من العراق كالموصل ونحوه ، أو يبنى على التسامح في ذلك ، أو على أن كلا منهما محصل للمحاذاة من بعد ، أو غير ذلك ، كما أن المرسل أيضا ينبغي تنزيله كذلك ، للقطع بعدم إرادة إطلاقه ، خصوصا والمخاطب فيه خاص ، والاشتراك في التكليف فرع المشاركة في الموضوع ، فتأمل جيدا. وصحيح زرارة يجب حمله على إرادة بيان أن ذلك منتهى القبلة ولو في بعض الأحوال ، لا أنه يجزئ استقبال أي نقطة من ذلك اختيارا كما هو مقتضى لفظ « كل » فيه ، لبطلانه سنة وكتابا وإجماعا بل وضرورة من المذهب إن لم تكن من الدين ، ولو لا لفظ « كل » المزبور أمكن حمله على إرادة بيان العلامة الأولى بعد حمل لفظ الحد في السؤال على إرادة معرف القبلة للعراقي بقرينة السائل أيضا ، ولعل لفظ « كل » فيه لتعميم اجزاء ما بين المشرق والمغرب ، لاستطالة السمت فيه ، أو لتعميم المشارق والمغارب كما تسمعه إن شاء الله ، أو غير ذلك مما لا ينافي ما ذكرنا. ومن الغريب ما في الذكرى من أن هذا الصحيح نص في الجهة ، ضرورة أنه لا ينطبق ظاهره على كل حال ، إذ من قال بالجهة لا يتوسع فيها إلى هذا الحد ، ولئن كان فالضرورة حجة عليه كما هو واضح ، فلا ريب في أولوية ما ذكرناه من ذلك ، بل لعله هو مراد الشهيد أيضا لا التوسعة المزبورة ، فيوافق حينئذ إطلاق المصنف وغيره من الأصحاب كونهما علامة.

خلافا لجماعة فقيدوهما بالاعتداليين ، ولعله لشدة التفاوت فيهما باختلاف الفصول المقتضي لعدم كون العلامة مطلق المشرق والمغرب ، ولو كان كل منهما من فصل تفاوت‌

٣٦١

ذلك أشد تفاوت ، وربما أدى إلى الانحراف إلى المشرق أو أزيد من ذلك ، وتخصيصهما بما يوافق وضع الجدي للعراقي يوجب سقوط فائدة العلامة ، ولعل هذا هو مراد الشهيد الثاني في الروضة بقوله : « إنه إن أريد منهما الجهتان العرفيتان انتشر الفساد كثيرا بسبب الزيادة فيهما والنقصان الملحق لهما تارة بعلامة الشام ، وأخرى بالعراق ، وثالثة بالزيادة عليهما ، أو يريد المتسامح فيهما من العرفيتين » لكن قد يدفع ذلك كله بدعوى كون المتبادر مشرق كل يوم ومغربه ، فلا يقدح حينئذ فيهما اختلاف الفصول ، لاتفاق الجميع حينئذ على استقبال نقطة الجنوب ، لكن فيه انها قبلة بعض العراق ، بل النادر ، بل قيل لم يوجد ، ومن هنا جزم والد البهائي فيما حكاه ولده عنه بأن إطلاق الأصحاب أولى من التقييد المزبور ، لما فيه من تعميم الفائدة بخلافه ، إذ لا يعرف الاعتدالي منهما في سائر الأوقات إلا الأوحدي من الناس القادر على استخراج خط الاعتدال ، ومع ذلك فليس هو أضبط مما سمعت إلا مع تدقيق تام ، لأن استخراجه بالدائرة الهندية ونحوها تقريبي لابتنائه على موازاة مدارات الشمس للمعدل ، وهذا التقريب قريب من ذلك ، فلا داعي إلى التقييد ، ولا ريب في جودته إن كان لا يختلف ذلك باختلاف الفصول.

نعم قد يشكل ذلك كما لو أريد منه الاعتدالي أو الجهتان المصطلح عليهما ، وهما المتقاطعان لجهتي الجنوب والشمال بخطين بحيث يحدث عنهما زوايا قوائم بأنه مخالف لمفاد العلامة الثانية ، ضرورة اقتضائها الانحراف عن نقطة الجنوب إلى المغرب ، بخلاف ما نحن فيه المقتضي لاستقبال نقطة الجنوب ، ومقتضاه كون الجدي حينئذ بين الكتفين ، لأنه حال استقامته يكون على دائرة نصف النهار المارة بنقطتي الجنوب والشمال ، فجعل المشرق والمغرب على اليمين واليسار يوجب جعل الجدي بين الكتفين قضية للتقاطع ، ودعوى اغتفار التفاوت المزبور لا شاهد عليها ، وفي كشف اللثام أن‌

٣٦٢

العلامة جعل الفجر فجر الاعتدال كما في السرائر أو غيره على المنكب الأيسر : أي بإزائه خلفه ، والمغرب مغرب الاعتدال أو غيره على المنكب الأيمن قدامه ، والعبرة بكون الجدي عند غاية ارتفاعه أو انحطاطه بحذاء المنكب الأيمن : أي خلفه ، فبذلك يتقدر تأخر الفجر وتقدم المغرب ، ولا يتفاوت في الصحة أن يراد الاعتداليان منهما والأعم ، وماله إلى ما ذكره في الروض من أن المراد جانب المشرق المائل عن نقطة الاعتدال نحو الجنوب ، والمغرب المائل عن نقطة اعتداله نحو الشمال ، فتساوى العلامتان.

إلا أن الجميع كما ترى غير حاسم للإشكال الوارد على ظاهر عبارات الأصحاب ، لكنه أولى من القول بأنه علامة في الجملة ولو لبعض أهل العراق كالموصل وما سامتها المساوية لمكة طولا كما جزم به بعضهم ، لأن أكثر بلاد العراق منحرفة عن نقطة الجنوب نحو المغرب وإن اختلفت في الزيادة والنقصان ، أما ما سامت منه نقطة الجنوب فهو نادر قليل لا يكاد يدخل في مسمى العراق كموصل وسنجار ، فلا تحمل عليه ، على أن النص انما ورد بالعلامة الثانية ، فحملها حينئذ عليها مع الإمكان أولى ، بل لعل ذلك وجه جمع بين الخبرين المزبورين بناء على إرادة العلامة الأولى من الصحيح منهما ، ويمكن الجمع بين العلامات الثلاث باغتفار هذا التفاوت ، أو أنه لا يقدح فيما ذكرناه من الجهة بالمعنى المزبور ، أو غير ذلك ، لكن الاحتياط الموافق لما ذكرناه سابقا في الجهة الاقتصار على المعلوم إفادته الظن بها مع الإمكان لا المظنون أو المحتمل منه.

وأما العلامة الثانية التي ذكرتها النصوص كما عرفت فلا خلاف أجده فيها بين الأصحاب ، نعم قيده جماعة منهم بما إذا كان الجدي في غاية الارتفاع والانخفاض ، بمعنى صيرورته إلى الأرض والفرقدين إلى السماء أو بالعكس ، لا إذا كان أحدهما في المشرق أو فيما بين المشرق والمغرب ، ولعله لأنه حينئذ يكون في دائرة نصف النهار المارة بالقطبين محاذيا للنجم الصغير المسمى بالقطب ، لشدة قربه منه ، بخلافه في غير‌

٣٦٣

الحالين ، فإنه منحرف مشرقا أو مغربا ، فجعله في الحال الأول على المنكب الأيمن ينطبق على القبلة ، لاقتضائه الانحراف عن نقطة الجنوب إلى الشمال (١) بما هو مقتضى التفاوت بين طولي البلدين الذي هو المدار في القبلة.

ومن هنا كان المعروف بينهم أن الأوثق منه في الحالين المزبورين والمتعين للعلامة في غيرهما نجم خفي في وسط الأنجم ـ التي في صورة الحوت لا يدركه إلا حديد البصر ، حوله أنجم دائرة في أحد طرفيها الفرقدان ، وفي الآخر الجدي ، وبين ذلك أنجم صغار ثلاثة من فوق ، وثلاثة من أسفل ـ يسمى بالقطب ، لأنه أقرب الكواكب اليه ، يدور حوله كل يوم وليلة دورة لطيفة لا تكاد تدرك ، فهو العلامة للقبلة حينئذ ، ضرورة كون المدار على الانحراف عن نفس القطب ، فالقريب إليه أولى بالعلامة ، فلو علم كان أوثق من الجدي في الدلالة ، إلا أنه صرح غير واحد منهم انه يجعل حينئذ خلف الأذن اليمنى لا المنكب ، لكن لخفائه على أكثر الناس وسهولة التفاوت بين دائرته ودائرة الجدي في الحالين المزبورين أقيم الجدي مقامه في تعرف القبلة ، ولعله للتفاوت المزبور بينهما تفاوتت كيفية وضعهما للدلالة ، بناء على إرادة مجمع العضد والكتف من المنكب ، وإلا فلا تفاوت معتد به كما ستعرف ، فما في المدارك من التخالف بين الكلامين في غير محله.

نعم قد يناقش في ذلك بما حكاه الأردبيلي عن خاله الذي لم يسمح الزمان بمثله بعد نصير الملة والدين من أن الجدي أقرب إلى القطب من تلك النجمة كما برهن عليه في كتب الهيئة ، بل قال المقدس المزبور : إنا وضعنا قصبة ورأينا منها الجدي في أول الليل مثلا وعلمنا على تلك النجمة علامة تحاذيها ثم نظرنا بعد نصف الليل بكثير رأيناه من تلك القصبة ورأينا تلك النجمة خرجت عن محاذاة تلك العلامة بكثير تقريبا أكثر‌

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية لكن الصحيح أن يكون « المغرب » بدل « الشمال ».

٣٦٤

من ثلث دائرة ، ثم نظرنا قريب الصباح ما رأيناه منها وقد وصلت تلك إلى نصف دائرة كبيرة تقريبا ، وهو واضح لمن جرب وتأمل ، وبما حكاه هو أيضا عن خاله من أنه ليس الجدي حال الاستقامة على القطب الشمالي ، بل له أوضاح متعددة ، وهو انما يكون على القطب وخط نصف النهار حال كونه مائلا إلى المغرب كثيرا وهو أيضا معلوم بالبرهان والأسطرلاب وغيره ، قال : ويؤيده أنهم يجعلونه حال الاستقامة وعكسها محاذيا للمنكب ، فيلزم كون قبلة العراق خط نصف النهار ، مع أنه معلوم العدم ، وهم صرحوا بأنها مائلة عنه إلى الغرب ، واستخرجه سلمه الله تعالى في الكوفة والنجف الأشرف ، قال : إنها مائلة عنه باثني عشر درجة تخمينا.

لكنك خبير بضعف الظن من كلام هذين المقدسين في مقابلة كلام أولئك الأساطين ، خصوصا دعوى أن الجدي حال الاستقامة ليس على القطب ، ومن الغريب تأييده بما سمعت المقتضي للانحراف في القبلة لا ما ذكره ، نعم يمكن دعوى العبرة بالجدي من غير تقييد بما عرفت ، لإطلاق النصوص السابقة والمحكي من فتاوى كثير من الأصحاب كالشيخين وشاذان وبني حمزة وإدريس وسعيد والفاضل والشهيد وغيرهم ، إما للتسامح في هذا التفاوت ، أو لغير ذلك ، إلا أن الأحوط مراعاته ، والله أعلم.

قيل : والمراد بالمنكب مجمع العضد والكتف كما في الصحاح والقاموس وحاشية النافع والروض والمقاصد العلية وآيات الأردبيلي ومجمعه والمدارك وشرح رسالة صاحب المعالم ، بل في الآيات المذكورة أن كون الكتف منه لا دليل عليه من اللغة والشرع ، قلت فيما حضرني من مختصر النهاية الأثيرية انه ما بين الكتف والعنق ، بل هو كصريح جامع المقاصد ، بل قيل إنه الظاهر من نهاية الأحكام والتنقيح وإرشاد الجعفرية أيضا ، وربما يؤيده أيضا ما عرفت من تصريح غير واحد منهم بوضع القطب بحذاء الاذن اليمنى ، والفرض أنهم صرحوا بمحاذاة الجدي له في الحالين اللتين يكون عندهما علامة ،

٣٦٥

والجمع بإرادة الجزء المحاذي للأذن من المنكب بناء على تفسيره بما عرفت أولى مما ذكرناه سابقا ، فحينئذ ليس العلامة وضعه على أي جزء من المنكب ، بل الجزء الخاص منه كما صرح به في جامع المقاصد ، والإطلاق محمول على ذلك أو على المسامحة في مثله أو على غيرهما.

كما أنه يجب حمل إطلاق هذه العلامة على أواسط العراق كالكوفة وبغداد ونحوهما مما يناسبه هذا الانحراف عن نقطة الجنوب ، أما ما لا انحراف فيه لمساواته لمكة في الطول كالموصل أو ما احتاج إلى انحراف أكثر من ذلك كالبصرة فلا معنى للعلامة المزبورة فيه ، بل يضعه في الأول بين المنكبين ، لأن قبلته نقطة الجنوب ، وفي الثاني مقابل الأذن اليمنى ، ولقد أشار إلى ذلك كله العلامة الطباطبائي بقوله :

فاجعله خلف المنكب الأيمن في

أواسط العراق مثل النجف

وكربلاء وسائر المشاهد

وما يدانيها ولم يباعد

واجعله في شرقية كالبصرة

في الأذن اليمنى ففيه النصرة

وبين كتفيك برأي أعدل

في الجانب الغربي نحو الموصل

قلت : ومن ذلك يعلم أن ما ذكره غير واحد من الأصحاب بل ربما نسب إليهم مشعرا بدعوى الإجماع عليه من مساواة خراسان للعراق في القبلة في غير محله ، لما قيل من كونه أطول من العراق ، وعليه المدار في شدة الانحراف وعدمه كما ستعرف إن شاء الله ، اللهم إلا أن يراد بعض العراق كالبصرة فإن الظاهر تقاربهما ، وإن كان التحرير التام كما قيل يقتضي لهم زيادة انحراف يسير نحو المغرب كانحراف البصرة بالنسبة إلى بغداد ، لكن لا يصل إلى حد منتصف القوس التي بين نقطة الجنوب والشمال ، وأما احتمال بناء الإطلاق على اغتفار التفاوت المزبور وإن لم يحصل به الجهة بالمعنى الذي ذكرناه فإنه وإن كان ممكنا وقد ذكرناه سابقا لكنه لا دليل يقطع العذر عليه ، كما انه قد يبعد‌

٣٦٦

احتمال بنائه على أن هذا التفاوت لا يقدح في حصول الجهة بالمعنى المزبور أن البعيد كلما بعد بأدنى انحراف يخرج عن المسامتة والمقابلة الحسيين كما هو المشاهد في نحو الجدي وغيره من الأجسام البعيدة المشاهدة ، فلا ريب في أن الأحوط مراعاة الانحراف المزبور قدر الإمكان ، للقطع بحصول الظن بالمقابلة معه بخلاف غيره ، وقد عرفت سابقا أن المدار على ذلك.

ومنه يعرف الكلام في العلامة الثالثة التي مبناها استخراج الزوال بغير مراعاة القبلة حتى تكون علامة لها ، وهي كالعلامة الأولى لا تنطبق إلا على من كان قبلته من العراق نقطة الجنوب كالموصل ونحوه لا أواسطه ، ضرورة أن الشمس انما تزول عن محاذاة القطب الجنوبي ، وحينئذ انما تكون على الحاجب الأيمن لمن تكون قبلته نقطة الجنوب ، وليس هؤلاء كذلك ، لما عرفت من انحرافهم عنها إلى المغرب ، وإلا لجعلوا الجدي بين الكتفين ، وانما تصير الشمس على حاجبهم بعد الزوال بمدة ، واحتمال إرادة ذلك من نحو العبارة لا أول الزوال كما ترى ، خصوصا بعد تصريح جماعة بالأول ، وبعد عدم تقرير المزبورة المتوقف معرفة العلامة عليها ، وكذا احتمال إرادة الطرف الأيمن من الحاجب الأيسر في العبارة وما ضاهاها ، للقطع بإرادة الجميع وإن اختلفوا في التعبير في الجملة وضع الشمس أول الزوال على الطرف الذي يلي الأنف من الحاجب الأيمن ، فلا بد من حمله على ما عرفت من اغتفار هذا التفاوت ، أو عدم القدح بالجهة بالمعنى الذي ذكرنا ، أو أن المراد كونها علامات للعراق في الجملة ، لاختلاف طول بلدانه المقتضي لاختلاف قبلته ، أو غير ذلك مما عرفته مفصلا ، والله أعلم.

ومن ذلك يعلم أن كل من شارك العراقي في استقبال هذا الركن وكان أطول منه بلادا احتاج إلى زيادة انحراف نحو المغرب ، لكن عن إزاحة العلة لشاذان أن أهل البصرة والبحرين واليمامة والأهواز وخوزستان وفارس وسجستان إلى الصين‌

٣٦٧

يتوجهون إلى ما بين المغرب والجنوب ، ولكنهم إلى الغروب أميل منهم إلى الجنوب ، وعلامتهم جعل النسر الطائر إذا طلع بين الكتفين ، والجدي إذا طلع : أي ارتفع على الخد الأيمن ، والشولة إذا نزلت للمغيب بين عينيه ، والمشرق على أصل المنكب الأيمن ، والصبا على الأذن اليمنى ، والشمال على العين اليمنى ، والدبور على الخد الأيسر ، والجنوب بين العينين ، ثم قال : « وممن يتوجه إليه أيضا من قبلته أقرب إلى المغرب من أولئك ، وهم أهل السند والهند وملتان وكابل وقندهار وجزيرة سيلان وما وراء ذلك ، وعلامتهم جعل بنات نعش إذا طلعت على الخد الأيمن ، وكذا الجدي إذا ارتفع ، والثريا إذا غابت على العين اليسرى ، وسهيل إذا طلع خلف الأذن اليسرى ، والمشرق على اليد اليمنى ، والصبا على صفحة الخد الأيمن ، والشمال مستقبل الوجه ، والدبور على المنكب الأيسر ، والجنوب بين الكتفين ، ومنهم من قبلته ما بين المغرب والشمال ، وهم أهل سومنان وسرأنديب وما في جهتهما ، وهم يتوجهون إلى جنبة هذا الركن إلى اليماني ، وعلامتهم كون الجدي وبنات نعش على الخد الأيمن » وظاهره اتفاق البلدان المزبورة في الطول أو تقاربها ، كما أن ظاهره عدم بلاد قبلته المغرب كما اعترف به في كشف اللثام ، وهم أدرى بذلك كله.

لكن الذي وصل إلينا من المحكي عن أرباب هذا الفن أن الأقاليم السبعة المسكونة وما فيها كلها في النصف الشمالي في الأرض بعد خط الاستواء القاسم للأفق نصفين شمالي وجنوبي ، والنصف الجنوبي غير مسكون لاستيلاء الحرارة والماء عليه ، والنصف الشمالي المعمور فيه أيضا انما هو نصفه المتصل بخط الاستواء ، وهو الذي فيه الأقاليم السبعة ، والنصف الآخر خراب لشدة البرد ، وقد أثبتوا لهذه الأقاليم طولا وعرضا ، فالطول عبارة عن طرف العمارة من جانب الغرب ، وهو ساحل البحر من‌

٣٦٨

جزائر الخالدات إلى منتهاها من جانب الشرق ، وجملة ذلك مائة وثمانون جزءا نصف دائرة من دوائر الفلك ، لأن كل دائرة منها مقسومة بثلاثمائة وستين جزءا وتسمى هذه الأجزاء درجات ، والعرض من خط الاستواء في جهة الجنوب إلى منتهى الربع المعمور في جهة الشمال ، وذلك تسعون جزءا ربع دائرة عظمى ، وحينئذ فطول البلد عبارة عن بعدها عن منتهى العمارة من جانب الغربي ، وعرض البلد عبارة عن بعدها عن خط الاستواء ، وعلى هذا فإذا ساوى طول البلد طول مكة فإن كان عرضها أكثر كموصل وسنجار فقبلة تلك البلد نقطة الجنوب ، وإن كان أقل فنقطة الشمال ، فهما غنيان بذلك عن العلامات كالمساويين لها بالعرض دون الطول ، فان قبلتهما نفس المشرق أو المغرب ، وربما فرق بين المساوي طولا فقط والمساوي عرضا فقط ، فيحتاج الثاني إلى العلامات دون الأول بما لا محصل له عند التأمل ، فالمحتاج حينئذ إلى العلامات في تحصيل سمت القبلة أقسام أربعة لما فيها من الميل عن النقط المعلومة ، وهي ما إذا زادت مكة طولا وعرضا ، فان سمت القبلة حينئذ بين نقطتي المشرق والشمال ، وإن نقصت فيهما فهو بين نقطتي الجنوب والمغرب ، وإن زادت طولا ونقصت عرضا فهو بين نقطتي الجنوب والمشرق ، وإن انعكس فبين نقطتي المغرب والشمال.

وأكثر البلدان على الانحراف ، ومن المنحرف عن نقطة الجنوب إلى المغرب بلاد البحرين بسبع وخمسين درجة وثلاث وعشرين دقيقة ، والحساء بتسع درجات وثلاثين دقيقة ، والبصرة بثمان وثلاثين درجة ، وواسط بعشرين درجة وأربع وخمسين دقيقة ، والأهواز بأربعين درجة وثلاثين دقيقة ، والحلة باثني عشر درجة ، والمدائن بثمان درجات وثلاثين دقيقة ، وبغداد باثني عشر درجة وخمس وأربعين دقيقة ، والكوفة باثني عشر درجة وإحدى وثلاثين دقيقة ، وسرمن‌رأى بسبع درجات وست وخمسين دقيقة ، وكاشان بأربع وثلاثين درجة وإحدى وثلاثين دقيقة ، وقم بإحدى‌

٣٦٩

وثلاثين درجة وأربع وخمسين دقيقة ، وساوة بتسع وعشرين درجة وست عشرة دقيقة ، وأصبهان بأربعين درجة وتسع وعشرين دقيقة ، وقزوين بتسع وعشرين درجة وأربع وثلاثين دقيقة ، وتبريز بخمس عشرة درجة وأربعين دقيقة ، ومراغة بست عشرة درجة وسبع عشرة دقيقة ، واستراباد بثمان وثلاثين درجة وثمان وأربعين دقيقة ، وطوس والمشهد الرضوي عليه‌السلام بخمس وأربعين درجة وست دقائق ، ونيسابور بست وأربعين درجة وخمس وعشرين دقيقة ، وسبزوار بأربع وأربعين درجة واثنين وخمسين دقيقة ، وشيراز بثلاث وخمسين درجة وثمان وعشرين دقيقة ، وهمدان باثنين وعشرين درجة وست وعشرين دقيقة ، وتون بخمسين درجة وثمان وعشرين دقيقة ، وطبس باثنين وخمسين درجة وخمسة وخمسين دقيقة ، وأردبيل بسبع عشرة درجة وثلاث عشرة دقيقة ، وهراة بأربع وخمسين درجة وثمان دقائق ، وقائن بأربع وخمسين درجة ، وسمنان بست وثلاثين درجة وسبع عشرة دقيقة ، ودامغان بثمان وثلاثين درجة ، وبسطام بتسع وثلاثين درجة وثلاث عشرة دقيقة ، ولاهجان بثلاث وعشرين درجة ، وآمل بثلاثين درجة وست وثلاثين دقيقة ، وقندهار بخمس وسبعين درجة ، والري بسبع وثلاثين درجة وست وعشرين دقيقة ، وكرمان باثنين وستين درجة وإحدى وخمسين دقيقة ، وتفليس بأربع عشرة درجة وإحدى وأربعين دقيقة ، وشيروان بعشرين درجة وتسع دقائق ، وكذا الشماخي ، وسجستان بثلاث وستين درجة وثمان عشرة دقيقة ، وطالقان بتسع وعشرين درجة وثلاث وثلاثين دقيقة ، وبلخ بستين درجة وست وثلاثين دقيقة ، وبخارى بتسع وأربعين درجة وثمان وثلاثين دقيقة ، وبدخشان بأربع وستين درجة وتسع دقائق ، وسمرقند باثنين وخمسين درجة وأربع وخمسين دقيقة ، وكاشغر بثمان وخمسين درجة وست وثلاثين دقيقة ، وتبت بست وثلاثين درجة وست وعشرين دقيقة ، وهرموز بأربعة وسبعين درجة ، وأبهر بأربع وعشرين درجة ،

٣٧٠

وكازران بإحدى وخمسين درجة وست وخمسين دقيقة ، وجزباذقان بثمان وثلاثين درجة ، وخوارزم بأربعين درجة.

وأما الانحراف من الجنوب إلى المشرق فالمدينة المشرفة منحرفة قبلتها عن نقطة الجنوب إلى المشرق بسبع وثلاثين درجة وعشرين دقيقة ، ومصر بثمان وخمسين درجة ، وقسطنطينية بثمان وثلاثين درجة وسبع عشرة دقيقة ، وموصل بأربع درجات واثنين وخمسين دقيقة ، وبيت المقدس بخمس وأربعين درجة وست وخمسين دقيقة.

وأما الانحراف من الشمال إلى المغرب فأكره بتسع وثمانين درجة ، وسر أنديب بسبعين درجة واثني عشر دقيقة ، وچين بخمس وسبعين درجة ، وسومنات بخمس وسبعين درجة وأربع وثلاثين دقيقة.

وأما ما كان من الشمال إلى المشرق فصنعاء بدرجة وخمس عشرة دقيقة ، وعدن بخمس درجات وخمس وخمسين دقيقة ، وجرمي دار ملك الحبشة بسبع وأربعين درجة وخمس وعشرين دقيقة ، وسائر البلاد القريبة تعرف من تلك البلاد المتوسطة بالمقايسة ، وقد ذكر جميع ذلك أو أكثره المجلسي في البحار ناقلا له عن المحققين من علماء الهيئة ، ومن ذلك يعرف ما في المحكي عن إزاحة العلة.

لكن قال في الحدائق : « لا يخفى على من عرف ما عليه هذه البلدان من القبلة في جميع الأزمان فإنه لا يوافق شيئا مما ذكر في هذا المكان مع استمرار السلف والخلف عليها من العلماء الأعيان ، ومن ذلك قبلة البحرين والقطيف والأحساء ، فإنها نقطة المغرب ، وهكذا جميع البلدان ، ولقد اتفق في هذه السنين التي مضت لنا مجي‌ء رجل من الفضلاء يسمى الشيخ حسين ممن يصلي الجمعة والجماعة في بلدة بهبهان فانحرف عن قبلة مساجد بها ، بناء على الضابطة التي ذكرها علماء الهيئة ، وصلى إلى تلك الجهة التي هي موافقة لكلام علماء الهيئة ، وحمل الناس على الصلاة إليها ، فتناولته الألسن من كل‌

٣٧١

مكان ، وكثر الطعن عليه في جميع البلدان حتى كأنه ممن أبدع بالدين وافترى على الملك الديان » قلت : لعل الإنكار عليه لبعد إصابته وخطأ جميع من تقدم مع معرفتهم بالأمارات الهيئية ، ولو جوزنا له نفسه الاجتهاد يمينا وشمالا لشدة معرفته ما كنا لنجوز لغيره تقليده ورفع اليد عما عليه الناس في تلك الأزمنة ، كما ستعرف تمام البحث فيه عند تعرض المصنف له ، وليس إنكارهم عليه لأنه أخذ بمقتضى علم الهيئة من حيث أنه كذلك ، وإلا كان الإنكار منكرا عليهم ، ضرورة جواز الأخذ به ، بل بناء القبلة في سائر البلدان عليه ، لكن على وجه التقريب والمسامحة لا المداقة كما عرفته من النصوص والفتاوى ، والله أعلم.

وعليهما مبنى العلامة الرابعة والخامسة ، فإن الظاهر عدم كون القمر كذلك على وجه التحقيق والتدقيق في جميع الفصول ، فذكر العلامة له في التذكرة والتحرير مبني على ذلك قطعا ، ولذا حكي عنه في بعض كتبه التعبير بقرب القبلة ، ويؤيده إشعار سؤال موثق سماعة (١) بإمكان تعرف القبلة بالقمر ، بل يمكن للعارف بمنازل القمر وتفاوت ما بينها تعرف القبلة بغير ذلك ، وأما الرياح فمن الواضح بناء التعرف بها على التقريب ، وأنها أضعف الامارات ، لاضطراب هبوبها ، والمعول عليه منها أربع : أولها الجنوب ، ومحلها ما بين مطلع سهيل إلى مطلع الشمس في الاعتداليين ، وثانيها الصبا ، ومحلها ما بين مطلع الشمس إلى الجدي ، وثالثها الشمال ، ومحلها ما بين الجدي إلى مغرب الشمس في الاعتدال ، وتمر إلى مهب الجنوب ، كما أن الجنوب تمر إلى مهب الشمال ، ورابعها الدبور ، وهي من مغرب الشمس إلى سهيل ، وهي مقابلة الصبا ، ولا يخفى معرفة كيفية ملاقاة مهبها للعراقي والشامي وغيرهما بعد معرفة سمت كل منهم ، ولعل معرفتها نفسها مع فرض عدم معرفة القبلة وعدم العلم بمطلع الشمس ومغربها مثلا تحصل برطوبة بعضها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢.

٣٧٢

وعدمه في آخر ، وإثارته التراب وعدمه ، وحصول الغيم به وعدمه ، وغير ذلك ، فحينئذ يجعل مهب كل منها على ما علم من حال العراقي إن كان عراقيا ، والشامي إن كان شاميا ، لكن الحق انه لا يعرف ذلك إلا آحاد في الناس كما اعترف به في المسالك وغيرها ، ولقد أجاد العلامة الطباطبائي بقوله :

وفي الرياح بالجهات الأربع

شواهد لعارف مطلع

وأما سهيل فالظاهر تعرف القبلة به عند غاية ارتفاعه ، فإنه حينئذ يكون مسامتا لنقطة الجنوب كما في غاية ارتفاع كل كوكب ، وحينئذ كيفية العلم به عكس الجدي ، ضرورة كونه حينئذ في أواسط العراق مقابلا للمنكب الأيسر ، وفي شرقية للخد الأيسر ، وفي غربيه بين العينين كما هو واضح ، واليه أشار في المنظومة بقوله :

وفي سهيل ما يزيح العلة

عكس الجدي في بيان القبلة

إلى غير ذلك من الامارات التي يمكن استنباطها ولو بالمقايسة للمنصوص منها ، قال في كشف اللثام : « الجدي وضعه الشارع إمارة لسمت من السموت ، ولكنها تفيد أمارات لسائر السموت بمعاونة الحس والقواعد الرياضية المستندة إلى الحس » قلت : ولعله لذا اشتهر في ألسنة الأصحاب إطلاق الأمارات الشرعية على العلامات المذكورة في كتبهم للعراقي وغيره ، وإلا فقد عرفت أن الموجود في النصوص منها الجدي والمشرق والمغرب في وجه ، نعم ربما كان فيها إشعار بأن النجوم والشمس والقمر ونحوها علامات للقبلة في الجملة ، ولعله اعتمادا على معرفة الناس في ذلك الوقت لم يذكر كيفية الاستدلال بها ، أو لأن ذلك ليس وظيفته عليه‌السلام ، بل هو موضوع يرجع إلينا في كيفية الاستدلال به على القبلة ، أو لاغتفار التسامح بما يخشى الخطأ منه ، أو لغير ذلك ، وربما كان الأخير لا يخلو من قوة ، لما عرفت من اختلاف مؤدى الامارات السابقة مع إطلاق النصوص والفتاوى ، وما ذاك إلا للتسامح.

٣٧٣

وربما يشهد له أيضا ما ذكره المصنف وغيره ، بل هو المشهور نقلا وتحصيلا من أنه يستحب لهم أي العراقيين التياسر إلى يسار المصلي منهم قليلا ضرورة أنه لولا التسامح المزبور أمكن الإشكال على هذا الحكم بما عن أفضل المحققين نصير الملة والدين لما حضر مجلس درس المصنف يوما واتفق الكلام في هذه المسألة من أن التياسر أمر إضافي لا يتحقق إلا بالإضافة إلى صاحب يسار متوجه إلى جهة ، فإن كانت تلك الجهة محصلة لزم التياسر عما وجب التوجه اليه ، وهو حرام ، لأنه خلاف مدلول الآية ، وإن لم تكن محصلة لزم عدم إمكان التياسر ، إذ تحققه موقوف على تحقق الجهة التي يتياسر عنها ، فكيف يتصور الاستحباب ، بل المتجه حينئذ وجوب التياسر المحصل لها ، إذ التحقيق في جوابه بناء على كون القبلة الكعبة للبعيد لا الحرم ، وعلى أن الحكم استحباب لا وجوب أن المراد استحباب التياسر عن الجهة المدلول عليها بالعلامات التقريبية حينئذ ، ولعله لأنه أكمل في المحاذاة المعتبرة التي قد سمعت تفسير الجهة بها ، ضرورة عدم دوران الأمر بين حصول المعتبر من المحاذاة وعدمه كي يتجه الاشكال المزبور ، ودعوى معلومية انعدام حصول المحاذاة في البعيد بأدنى انحراف يدفعها بعد إمكان منعها انه كذلك في المحاذاة التحقيقية لا التقريبية.

نعم قد يشكل ذلك بأنه مخالف للنصوص الواردة في المقام التي هي مستندهم لهذا الحكم بحسب الظاهر ، كخبر المفضل بن عمر (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة ، وعن السبب فيه ، فقال : إن الحجر الأسود لما أنزل به من الجنة ووضع في موضعه جعل أنصاب الحرم من حيث يلحقه النور نور الحجر ، فهي عن يمين الكعبة أربعة أميال ، وعن يسارها ثمانية أميال ، كله اثني عشر ميلا ، فإذا انحرف الإنسان ذات اليمين خرج عن حد القبلة ، لقلة أنصاب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢.

٣٧٤

الحرم ، وإذا انحرف ذات اليسار لم يكن خارجا عن حد القبلة » ومرفوع علي بن محمد (١) « قيل لأبي عبد الله عليه‌السلام : لم صار الرجل ينحرف في الصلاة إلى اليسار؟ فقال : لأن الكعبة ستة حدود ، أربعة منها على يسارك ، واثنان منها على يمينك ، فمن أجل ذلك وقع التحريف على اليسار » ولا منافاة بينه وبين سابقه بعد إرادة الأميال الثمانية والأربعة من الحدود الأربعة والاثنين فيه ، والمحكي (٢) عن فقه الرضا عليه‌السلام « إن أردت توجه القبلة فتياسر مثل ما تتيامن ، فان الحرم عن يمين الكعبة أربعة أميال ، وعن يسارها ثمانية أميال » ضرورة ظهور الجميع في أن التياسر للوقوع في الحرم ، ومن هنا بنى المصنف هذا الحكم في رسالته المعمولة في هذه المسألة التي أعرضها على المحقق المزبور فاستحسنها وتبعه غيره على القول بأن القبلة للبعيد الحرم لا الكعبة ، فيتجه حينئذ رده أو التوقف فيه ممن لا يقول بذلك ، بل وممن قال به ، لضعف المستند ، ولما عرفته من الاشكال السابق ، ولاقتضاء التعليل استحباب التيامن للمقابل للعراقي جهة للاستظهار المزبور ، ولم نعرف أحدا صرح به ، بل ظاهرهم اختصاص العراقي بذلك ، مع أنه يقتضي رجحان التياسر على التيامن لا الاعتدال ، ومنه وسابقه يقوى حينئذ احتمال كون الأمر بالتياسر فيها لما قيل من غلبة التيامن في قبلة العراق في ذلك الزمان من المخالفين حتى في مسجد الكوفة كما هو مشاهد ، فأمروا بالتياسر تحصيلا للاعتدال ، لكن ذكروا التعليل المزبور تخلصا من شرهم ، ولغير ذلك ، وللأول أو الثاني توقف فيه في ظاهر النافع والمعتبر وكشف الرموز والتذكرة والمنتهى والتنقيح على ما حكي عن البعض ، بل رده في ظاهر أو صريح السرائر وجامع المقاصد وفوائد الشرائع وحاشية الميسي والروض والمسالك وفوائد القواعد وإرشاد الجعفرية والمدارك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١.

٣٧٥

والمفاتيح على ما نقل عن جملة منها ، بل هو صريح بعضها كالمحكي عن فخر المحققين ، بل قيل : إنه لم يتعرض له أصلا الصدوق وأبو الصلاح وأبو المكارم وغيرهم ، فقد ضعفت دعوى الشهرة على الاستحباب ، بل هو يضعف أيضا لعدم الجابر حينئذ لنصوصه السابقة.

وقد يدفع بعد كون الحكم استحبابا بأن دليل التياسر غير منحصر في التعليل المزبور ، بل ظاهر هذه النصوص معلومية الحكم في ذلك الزمان ، مع أنه يمكن توجيهها بناء على أن القبلة الكعبة لا الحرم بما عرفته سابقا من أن الخارج لا يجوز له التوجه إلى غير الحرم ، للعلم بخروجه حينئذ عن سمت الكعبة لا لكون قبلته الحرم ، كما أنه قد يناقش في حملها على التقية بأن مراعاة التقية على تقدير ثبوت بناء محاريب المساجد على التيامن تقتضي أمر الشيعة متابعة قبلة هؤلاء الفجرة كي لا يعرفوا فيقتلوا لا أن يؤمروا بالمخالفة لهم فيؤخذ برقابهم ، خصوصا في المخالفة لهم في الصلاة إلى غير قبلتهم ، اللهم إلا أن يكون التياسر قليلا ممن لا يتفطن له ، خصوصا في البعيد عن المحراب ، لكن على كل حال احتمال ذلك فيها لا ينافي الاستدلال بها على الحكم الاستحبابي المعلوم التسامح فيه ، سيما بعد قبول كثير من الأصحاب لها ، حتى ادعى الشيخ في الخلاف الإجماع عليه ، وإن كان ظاهر عبارته فيه الوجوب حيث قال : « على أهل العراق » كالمحكي عن النهاية والجمل والوسيلة ، بل في المبسوط « ويلزم أهل العراق » لكن المراد الندب على الظاهر ، وإلا كان ضعيفا ، للأصل وإطلاق ما دل على الأمارات المزبورة من نص وإجماع ، وموهونية إجماعه بمصير الأكثر إلى خلافه ، وضعف النصوص السابقة سندا ودلالة عن إثبات الوجوب حتى الرضوي المشتمل على الأمر منها ، إلا أنه ليس حجة عندنا ، ولا يخلو من إجمال بالنسبة إلى تشبيهه.

٣٧٦

فظهر لك حينئذ من ذلك كله أن الحكم بالاستحباب لا يخلو من قوة ، وأن التحقيق في الجواب عن الاشكال عليه ما عرفت لا ما قيل من منع الحصر ، لأن حاصل السؤال أن التياسر إما إلى القبلة فيكون واجبا لا مستحبا ، وإما عنها فيكون حراما ، والجواب منه الحصر ، بل التياسر عنها إليها ، وجاز اختصاص بعض جهات القبلة بمزيد الفضيلة على بعض ، أو حصول الاستظهار بالتوسط بسبب الانحراف ، خصوصا على ما سمعته من بعض معاصري الفاضل الهندي من أن قبلة الكوفة وبغداد الركن الشامي والعراقي ، فيتياسر استظهارا ، اللهم إلا أن يريد هذا المجيب ما ذكرناه ، بل يمكن المناقشة عند التأمل فيما أجاب به المصنف أيضا ، إذ كون القبلة الحرم لا يقتضي ذلك ، خصوصا بناء على إرادة جهة الحرم لا عينه ، ضرورة الخروج عن المحاذاة للبعيد بأدنى انحراف ، كما هو مشاهد في استقبال الأجرام البعيدة ، أما لو أريد المحاذاة الحقيقية للحرم كما هو ظاهر أو صريح بعض القائلين بذلك على ما عرفت سابقا أمكن الإشكال بأنه لا يعلم اتصال الخطوط إلا بالتياسر دون غيره ، مع أن مقتضاه حرمة الغير ووجوب التياسر لا استحبابه المقتضي لجواز غيره حتى التيامن القليل ، فلا بد في الجواب من ملاحظة تقريبية العلامات المزبورة ، وأن التياسر عنها لعله أدخل في حصول المحاذاة كما ذكرناه سابقا ، وهو لا يخص القول المزبور ، بل يتجه على المختار أيضا ، ومن هنا أفتى به العلامة وغيره ممن مذهبه استقبال الكعبة لا الحرم ، فتأمل جيدا.

ثم إن صريح أكثر الفتاوى اختصاص ذلك بالعراقي كظاهر خبر المفضل (١) وهو كوفي ، بل غالب الرواة عنهم عليهم‌السلام عراقيون ، لكن في الذكرى التعبير بأهل المشرق ، ولعله يريد العراقيين منهم ، خصوصا مع قوله بعد ذلك : « فرع : إذا قلنا بهذا التياسر فليس بمقدر ، بل مرجعه الى اجتهاد المصلي ، ومن ثم جعلنا المسألة من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢.

٣٧٧

مسائل الاجتهاد ، ولا ريب في اختلاف ذلك بحسب اختلاف بلدان المشرق ، ولعل البالغ في المشرق الى تخومه يسقط عنه هذا التياسر ، بل لا يجوز له للقطع بأنه يخرج عن العلامات المنصوبة لهم ، والخبران لا يدلان على غير أهل العراق ، لأن المفضل كوفي ، وغالب الرواة عراقيون » وهو كما ترى ظاهر في الاختصاص.

هذا كله في الركن العراقي ، وأما الركن الثاني من ركني الباب فهو لأهل الشام وغيرهم ، وقد ذكروا لأهل الشام وما سامته منهم علامات متعددة : أحدها جعل بنات نعش حال غيبوبتها خلف الاذن اليمنى بلا خلاف أجده فيه والمراد بغيبوبتها غاية انحطاطها إلى جهة المغرب كما عن جماعة التصريح به ، ولعل اليه يرجع ما عن حواشي الشهيد من أنه حال مجاورتها البحر ، لكن عن فوائد القواعد والمقاصد العلية أن المراد بغيبوبتها ميلها عن دائرة نصف النهار لا الغيبوبة المتعارفة ، وهو نهاية انحطاطها وخفاؤها على تقديره ، لأنها حينئذ تميل عن قبلة الشامي وعن مسامتة الأذن كما لا يخفى ، والذي يراد جعله خلف الأذن اليمنى إما الموضع الذي تدنو فيه من الغروب أو وسطها تقريبا ، لكن في كشف اللثام وعن غيره جعل كل من بنات نعش الكبرى ، ولعله لاختلاف وقت مغيبها ، والأمر سهل.

ثانيها وضع الجدي على حساب ما مر في العراقي خلف الكتف اليسرى ، وربما عبر بالمنكب ، والأول أولى ، لأن انحراف الشامي كما في الروضة أقل من العراقي المتوسط ، وبالتحرير التام ينقص الشامي عنه جزءين من تسعين جزء مما بين الجنوب والمشرق أو المغرب ، وذلك لأن بين نقطة الجنوب والمشرق تسعين جزء ، وبينها وبين نقطة المغرب تسعين جزء أيضا ، وانحراف الشامي نحو المشرق أحد وثلاثون جزءا من التسعين ، وانحراف العراقي نحو المغرب ثلاثة وثلاثون جزءا فينقص الشامي عن العراقي جزءين ، لأن الكتف أقرب إلى ما بين الكتفين من المنكب ، فيتفاوت بهما‌

٣٧٨

الانحراف ، ويمكن إرادة الكتف من المنكب هنا ، فيتجه الجميع حينئذ ، أو هو مبني على التسامح في ذلك كالتسامح في ذكر هذه العلامات لأهل الشام ، ولا ريب في تفاوتهم ، إذ الشرقيون منهم المجاورون للعراق لا يحتاجون الى انحراف غيرهم ، وربما يعلم ذلك مما سمعته في العراق ، وبنات نعش معروفة سبعة كواكب ، أربعة نعش وثلاثة بنات ، ولعل التقييد بالكبرى من بعضهم لإرادة الأولى أو الثانية.

ثالثها وضع سهيل عند طلوعه بين العينين ، وعليه يحمل إطلاق اللمعة كونه علامة بين العينين ، والمتبادر من الطلوع أول ما يبدو ويرى في الأرض المستوية من الشام ، لكن عن الحواشي المنسوبة إلى الشهيد أن المراد به الانتهاء في الصعود ، وفيه مع أنه لا قرينة على إرادة ذلك من الطلوع أنه لا يوافق ما قيل من أنه إذا طلع يكون منحرفا عن نقطة الجنوب إلى جانب المشرق ، وكلما أخذ في الارتفاع مال الى المغرب ، فيكون مغربا عن قبلة الشامي.

رابعها جعل مغيبه على العين اليمنى ، وربما أشكل ذلك بأنه إن أريد به المعنى المعتبر في غيبوبة بنات نعش خالف غيره من العلامات ، لأن جعله حينئذ على العين اليمنى يوجب استقبال نقطة الجنوب ، وهو لا يطابق قبلة الشامي ، لأنها مائلة نحو المشرق ، وإن اعتبرت غيبوبته المقابلة لطلوعه ، وهو نهاية انحطاطه نحو المغرب وخفاؤه أو قربه خرج عن مسامتة العين ، خصوصا مع مراعاة طلوعه بين العينين ، فان المراد به أول بروزه عن الأفق في الأرض المعتدلة في بلاد الشام ليطابق سمت قبلتها ، قلت : لعل المراد بغيبوبته وصوله إلى دائرة نصف النهار ، لأن وقت غيبوبته إذا بلغ نصف النهار ، وحينئذ يكون بين كتف اليمنى وعلى العين اليمنى للشامي.

خامسها وسادسها كون مهب الصبا على الخد الأيسر والشمال على الكتف ، وهما‌

٣٧٩

كغيرهما من الرياح السابقة لا ينبغي التعويل عليها إلا عند فقد غيرها من الامارات التي هي أقوى منها في الدلالة ، وفي كشف اللثام أنه زاد شاذان جعل المشرق على العين اليسرى ، والدبور على صفحة الخد الأيمن ، والجنوب مستقبل الوجه ، وذكر أنها علامات لعسفان وينبع والمدينة ودمشق وحلب وحمص وحماة وآمد وأربد وميافارقين وافلاد الى الروم ، وسماوة والحوران الى مدين شعيب والى الطور ، وتبوك والدار وبيت المقدس وبلاد الساحل كلها ، وان قبلتهم من الميزاب الى الركن الشامي ، وأن التوجه من مالطة وسمساط والجزيرة إلى الموصل وما وراء ذلك من بلاد آذربايجان والأبواب الى حيث يقابل الركن الشامي إلى نحو المقام ، وعلامتهم جعل بنات نعش خلف الأذن اليسرى ، وسهيل إذا نزل للمغيب بين العينين ، والجدي إذا طلع بين الكتفين ، والمشرق على اليد اليسرى والمغرب على اليمنى ، والعيوق إذا طلع خلف الأذن اليسرى ، والشمال على صفحة الخد الأيمن ، والدبور على العين اليمنى ، والجنوب على العين اليسرى.

الركن الثالث الذي هو ثاني ركني جدار الشام لأهل المغرب ، وعلامتهم جعل الثريا حال طلوعها على اليمين ، والعيوق كذلك على اليسار ، والجدي حال استقامته أو مطلقا كما جزم به في كشف اللثام على صفحة الخد الأيسر ، قيل والمراد بالمغرب بعضهم كالحبشة والنوبة لا المغرب المشهور كقرطبة ورذيلة وتونس وقيروان وطرابلس ، فان قبلته تقرب من نقطة المشرق ، وبعضها تميل عنه نحو الجنوب يسيرا ، وعن شاذان أن أهل المغرب أيضا يجعلون الشولة إذا غابت بين الكتفين ، والمشرق بين العينين ، والصبا على العين اليسرى ، والجنوب على اليمنى ، والدبور على المنكب الأيمن ، وذكر أنها علامات للصعيد الأعلى من بلاد مصر وبلاد الحبشة والنوبة والبجة والزعارة والدمانس والتكرور والزيلع وما وراءها من بلاد السودان ، وأنهم يتوجهون الى حيث يقابل‌

٣٨٠