جواهر الكلام - ج ٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

كمراعاة هذه العلامات ، ولقد استراح من عرفها بذلك كالأردبيلي والعلامة الطباطبائي ، قال الثاني منهما :

وللبعيد الجهة المعينة

بما لها من آية مبينة

فمحراب المعصوم عليه‌السلام وهذه الامارات وغيرها انما هي أدلة على الجهة كما نص عليه المحقق الثاني في فوائد الشرائع لا العين ، ضرورة عدم معقولية دلالتها عليها بالخطوط المستوية مع اشتراك الإقليم الواحد بها فيما يقطع بعدم مقابلته العين حقيقة ، لسعة عرضه عليه أضعافا متعددة ، وكروية الأرض لا مدخلية لها في ذلك قطعا ، كما أن كون أهل الأرض مستديرين حول الكعبة كذلك ، إذ ليس استدارتهم كمحيط الدائرة كما اعترف به المحقق الثاني في فوائد الشرائع وإلا ما صلى المتوسطون في الجهة إلى سمت واحد ، ثم ان دلالتها على الجهة مختلفة ، فالمحراب ونحوه مما يفيد القطع بها ، لما عرفت وتعرف من منافاة الخطأ في ذلك العصمة ، وغيره يفيد الظن بها ، لاحتمال الخطأ في تحصيل القبلة (١) المقابلة بها كما أوضحناه سابقا ، ونص عليهما معا المحقق الثاني هنا في فوائده.

فمن الغريب ما وقع لبعض الأعلام كالشهيد في الذكرى والمحقق البهائي من أن هذه الامارات تفيد الظن الغالب بالعين والقطع بالجهة ، كما أنه من الغريب ما وقع لبعض علماء العصر من الإنكار على ما وقع من غير واحد من الأصحاب ، بل ظاهرهم الاتفاق عليه من أن محراب المعصوم عليه‌السلام مما يفيد العلم بالقبلة قائلا ليس تكليف المعصوم عليه‌السلام مع البعد إلا تكليف غيره من الاستقبال إلى الجهة ، ولذا كان يصلي قطعا في أمكنة متعددة يقطع بسعة عرضها على الكعبة من دون انحراف منه ، فكيف يكون محرابه مما يفيد العلم بالقبلة ، إذ لا يخفى ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه سابقا‌

__________________

(١) ليس لفظ « القبلة » في النسخة الأصلية المسودة لكنه موجود في المبيضة ولا يخفى ان وجوده مخل بالعبارة.

٣٤١

من أن المراد إفادته العلم بالجهة بالمعنى الذي ذكرناه : أي المقابلة الحسية لو كانت الكعبة مرئية لا العين ، وتجويز الخطأ عليه في ذلك نفي لعصمته ، لما فيه من النقص ، إذ هو أجل من أن يقصر عن علماء الهيئة كما أوضحناه سابقا.

ولقد طال بنا الكلام حتى خرجنا عن وضع الكتاب إلا أنه كان المقام حقيقا به فإنه قد خفي في هذا العصر المراد بالجهة حتى أنه التجأ متفقهته للجهل بها إلى ما أحدثه الأردبيلي ، وتبعه عليه بعض الناس مما هو مخالف لإجماع الأصحاب بقسميه من عدم اعتبار هذا التدقيق في أمر القبلة ، وأنه أوسع من ذلك ، وما حاله إلا كأمر السيد عبده باستقبال بلد من البلدان النائية التي لا ريب في تحقق امتثال العبد له بمجرد التوجه إلى جهة تلك البلد من غير حاجة إلى رصد وعلامات وغيرها مما يختص بمعرفته أهل الهيئة المستبعد أو الممتنع تكليف عامة الناس من النساء والرجال خصوصا السواد منهم بما عند أهل الهيئة الذي لا يعرفه إلا الأوحدي منهم ، واختلاف هذه العلامات التي نصبوها ـ وخلو النصوص عن التصريح بشي‌ء من ذلك سؤالا وجوابا عدا ما ستعرفه مما ورد (١) في الجدي من الأمر تارة بجعله بين الكتفين ، وأخرى بجعله على اليمين مما هو مع اختلافه وضعف سنده وإرساله خاص بالعراقي مع شدة الحاجة لمعرفة القبلة في أمور كثيرة ، خصوصا في مثل الصلاة التي هي عمود الأعمال ، وتركها كفر ، ولعل فسادها ولو بترك الاستقبال كذلك أيضا ، وتوجه أهل مسجد قبا في أثناء الصلاة لما بلغهم انحراف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغير ذلك مما لا يخفى على العارف بأحكام هذه الملة السهلة السمحة ـ أكبر شاهد على شدة التوسعة في أمر القبلة ، وعدم وجوب شي‌ء مما ذكره هؤلاء المدققون ، قال في المدارك : « واعلم أن للأصحاب اختلافا كثيرا في تعريف الجهة ، ولا يكاد يسلم تعريف منها من الخلل ، وليس لهم في هذا الاختلاف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب القبلة.

٣٤٢

دليل نقلي يصلح للاستناد اليه ، ولا اعتبار عقلي يعول عليه ، والمستفاد من الأدلة الشرعية الاكتفاء بالتوجه إلى ما يصدق عليه عرفا أنه جهة المسجد وناحيته ، كما يدل عليه قوله تعالى (١) ( فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) وقوله عليه‌السلام (٢) : « ما بين المشرق والمغرب قبلة » و‌ « ضع الجدي في قفاك وصل » (٣) وخلو الأخبار مما زاد على ذلك مع شدة الحاجة إلى معرفة هذه العلامات لو كانت واجبة ، وإحالتها على علم الهيئة مستبعد جدا ، لأنه علم دقيق كثير المقدمات ، والتكليف به لعامة الناس بعيد من قوانين الشرع ، وتقليد أهله غير جائز ، لأنه لا يعلم إسلامهم فضلا عن عدالتهم ، وبالجملة التكليف بذلك مما علم انتفاؤه ضرورة » وزاد في الحدائق بأنه مما يؤيد ذلك أوضح تأييد ما عليه قبور الأئمة عليهم‌السلام في العراق من الاختلاف مع قرب المسافة بينها على وجه يقطع بانحراف القبلة مع استمرار الأعصار والأدوار من العلماء الأبرار على الصلاة عندها ودفن الأموات ونحو ذلك ، وهو أظهر ظاهر في التوسعة ، كما أنه في غيرها زيادة الإشكال في التعويل على قواعد علم الهيئة بأنها مبنية على كروية الأرض ، وما ذكروه في إثبات ذلك لا يثمر ظنا فضلا عن القطع ، خصوصا بعد عدم موافقة الفقهاء لهم على ذلك ، بل ظاهر الكتاب العزيز بخلافهم ، قال تعالى (٤) ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ) وقال تعالى (٥) ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ) وقال تعالى (٦) : ( وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) إلى غير ذلك مما لفقه أتباع المقدس المزبور مما هو معلوم المخالفة لما أجمع عليه الأصحاب قديما وحديثا قولا وعملا منهم ومن مقلدتهم‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٣٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١ و ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١.

(٤) سورة البقرة ـ الآية ٢٠.

(٥) سورة النبإ ـ الآية ٦.

(٦) سورة الغاشية ـ الآية ٢٠.

٣٤٣

في سائر الأعصار والأمصار ، ولما هو المستفاد من الكتاب والسنة ، بل الضرورة من الدين من استقبال الكعبة للقريب والبعيد الذي لا يتحقق عرفا إلا باستقبالها حقيقة الذي منه استقبال الجهة بالمعنى الذي ذكرناه سابقا ، لا الجهة العرفية المبنية على التسامح وعدم الاستقبال حقيقة ، وأمر السيد عبده بسبب قرائن الأحوال محمول عليها ، بل هو عند التحقيق مراد منه جهة الجهة ، وإلا فلو فرض عدم القرينة على ذلك وجب بذل الجهد في تحصيل الاستقبال حقيقة.

واحتمال أن الشارع مراده هذا التسامح يدفعه عدم القرينة على ذلك كي يحمل عليه الخطاب المزبور ، ضرورة عدم كون المسامحات العرفية حقائق تحمل الألفاظ عليها بدونها ، وثانيا أن ملاحظة الفتاوى وما تسمعه من النصوص ـ (١) التي فيها التفرقة بين طريق الحج وغيره بوضع الجدي على اليمين والقفا مع سهولة التفاوت بينهما ، وفيها (٢) انه المراد من قوله تعالى (٣) ( وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) وفيها (٤) جعل ما بين المشرق والمغرب قبلة لخصوص المخطئ والمتحير ، وفيها (٥) الأمر بالتحري لغير المتمكن من العلم ، وبالصلاة لأربع لفاقدهما ، وفيها غير ذلك ـ تشرف الفقيه على القطع بعدم إرادة هذا التسامح الذي يقتضي عدم الاستعداد له بعلامة أصلا ، وعدم إشكال الحال على السائل المسافر ، بل ستسمع ما في المروي (٦) عن رسالة المحكم والمتشابه منها ما يزيد ذلك كله تأكيدا.

نعم لما كان استعداد الناس وفطانتهم مختلفة أشد اختلاف حتى أن منهم من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٣.

(٣) سورة النحل ـ الآية ١٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب القبلة من كتاب الصلاة.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٤.

٣٤٤

يصل إلى كثير من نتائج العلوم المدونة من غير حاجة إلى أهلها ومقدماتها ، ومنهم من ليس له إلا قابلية التقليد ناط الشارع هنا التكليف بالعلم مع التمكن منه بلا عسر وحرج ، كما يتيسر لكثير من أفراد الناس الممارسين المتنبهين من أهل البادية والقرى ، بل لعل اتفاق ذلك في الأولين أكثر ، ومع عدم التمكن فالتحري ، ومع عدمهما فالأربع جهات ، فلا عسر ولا حرج في ذلك على عامة المكلفين ، إذ لم يكلفهم بمعرفة قواعد علم الهيئة الذي هو دقيق المقدمات ، ولا يعرفه إلا أوحدي الناس ، بل إنما أمر بالعلم بحصول الاستقبال للمتمكن كما هو القاعدة في كل موضوع ، وبالظن لغيره ، وبالعلم الإجمالي لفاقدهما ، فمن كان حسن الفطنة يتمكن من حصول العلم بسبب معرفته في علم الهيئة أو بغير ذلك وجب عليه ، وإلا أخذ بالأحرى فالأحرى على حسب استعداده أيضا ، وما يتيسر له من أسباب الظن إلى أن يصل إلى التقليد وأدون.

ولعل هذا موافق للقاعدة المعلومة ، وهي قيام الظن مقام العلم عند التعذر في موضوعات الأحكام ، خصوصا في المقام الذي يقطع فيه بعدم سقوط الصلاة ، وبعدم سقوط الاستقبال فيها ، وبعدم حرمة السكنى في المواضع التي يتعذر فيها حصول العلم ، وبعدم التكليف بفعل سائر الأفراد المحتملة ، تحصيلا لليقين ، وبقبح التكليف بما لا يطاق عندنا فان الرجوع هنا حينئذ إلى الظن متعين كما هو واضح واختلاف العلامات المنصوبة للقبلة اختلاف يسير لا يقدح في تحصيل القطع باستقبال الجهة فضلا عن الظن ، أو يقتصر في العفو على مثله ، لا أنه يتعدى إلى غيره ، على أن هذا الاختلاف يمكن أن يكون لاختلاف الأنظار في بعضها ، فلا يقدح ، أو لغير ذلك مما ستعرفه ، وبيان الموضوعات التي لا تتوقف على النية ليست وظيفة الشرع قطعا وإن مست الحاجة إليها ، ولذا يرجع إلى قول اللغوي والنحوي والصرفي وأصالة العدم وأصالة البقاء والقرائن الظنية وقول أهل الخبرة في الأرش وأمثاله وقول الطبيب وغير ذلك من الظنون ، انما على الشارع‌

٣٤٥

بيان الحكم ، ويرجع في موضوعه إلى الطرق المعروفة في تحصيله ، مع أن النصوص هنا غير خالية عن ذلك كما ستعرف ، بل لعل جل العلامات المنصوبة مستفادة منها ولو بالمقايسة للمنصوص فيها ، كما يعرف عموم التعرف بالجدي لسائر الأصقاع بالمقايسة للثابت فيها من كونه علامة للعراقي ، والضعف والإرسال هنا غير قادح بعد الانجبار بالفتاوى ، وبالموافقة للقواعد البرهانية ، وتوجه أهل مسجد قبا ـ مع إمكان وجود العارف الخبير الممارس فيهم ، بل الغالب فيهم فطنة ذلك ، لكثرة أسفارهم ، وقرب الكعبة منهم ، وكثرة ترددهم إليها ـ انما كان لأن تكليفهم في ذلك الوقت ليس إلا ذلك ، إذ الفرض أنهم في أثناء الصلاة ، فيلزمهم حينئذ الرجوع إلى الجهة العرفية مع فرض تعذر الامارة الشرعية كما صرح به العلامة الطباطبائي في منظومته بقوله :

ويكتفي بالجهة العرفية

من فقد الأمارة الشرعية

وسهولة الملة وسماحتها لا تقتضي التساهل في أحكامها المستفادة من خطاباتها التي مدار التكليف عليها ، فان ذلك في الحقيقة تسامح وتساهل فيها والعياذ بالله لا أنها هي سمحة سهلة ، وقد عرفت أن العقل والنقل يقتضي استقبال الجهة بالمعنى الذي ذكرناه ، وهو المصداق العرفي الحقيقي لا التسامحي للآية التي مرجعها إلى صدق استقبال الكعبة كما أوضحناه سابقا ، ونصوص ما بين المشرق والمغرب ما كان منها قابلا لإرادة الموافق لوضع الجدي علامة كما ستعرفه ممن جعل ذلك من جملة العلامات لا دلالة فيه على التوسعة ، وما كان منها ظاهرا أو صريحا في إرادة التوسعة بجعل أي جزء منه قبلة مراد منه تحديد القبلة في جميع الأحوال ، أو يراد منه خصوص المخطئ والمتحير كما هو صريح أو ظاهر بعضها ، بل قوله فيها : « قبلة » الظاهر في إرادة التنزيل كالصريح في كون القبلة غيره ، وإلا كانت مخالفة للضرورة من المذهب ، فضلا عن باقي الأدلة القطعية والظنية نصا وظاهرا بحيث لا يحتاج من له أدنى دراية إلى جمعها وتنقيحها ، وكان إطناب الأستاذ‌

٣٤٦

الأكبر في ذلك في شرحه على المفاتيح لزيادة التشنيع على من استدل بها على التوسعة المزبورة ونحوها ، كما أن الأخذ بإطلاق وضع الجدي في القفا ثم الصلاة معلوم البطلان بالضرورة ، ومن هنا نزل على العراق وما سامتها.

وحيث عرفت وتعرف إن شاء الله قيام الظن هنا مقام العلم عقلا ونقلا لم يكن بأس في الرجوع إلى القواعد الهيئة ، ولا بتقليد أهلها في ذلك ، بل ربما استفاد الماهر فيها العلم بالاستقبال ، كما أنه لا ريب في حصول الظن به منها ، بل الظاهر أنه أقوى من غيره ، ولذا عول أصحابنا عليها ، ووضعوا كثيرا من العلامات بمراعاتها كما اعترف به بعضهم ، فمن الغريب دعوى عدم استفادة شي‌ء من العلم أو الظن من كلامهم ، مع أن أكثره كما قيل ثابت بالبراهين القطعية والدلائل الهندسية التي لا يتطرق إليها شبهة ، ولا يحوم حولها وصمة ريب ، وعدم الوثوق بإسلامهم فضلا عن عدالتهم لا يمنع حصول الظن ، كما لا يمنع من حصوله في غيره من اللغة والصرف والنحو والطب وغير ذلك الذي من المعلوم ضرورة الرجوع اليه ، وليس المراد التقليد في الحكم الشرعي المشترط فيه ذلك ، بل المراد حصول الظن الذي لا ينبغي إنكاره ولا التعويل عليه ، وإن أطنب في بيان ذلك المحقق البهائي في حبله ، وتبعه الأستاذ الأكبر في شرحه ، لكنا بحمد الله في غنية عنه ، إذ هو من الواضحات المسلمات عندنا ، خصوصا بعد ما تعرفه إن شاء الله منا ومن غيرنا من العمل بالظن من قول الكافر ونحوه إذا لم يكن ظن أقوى منه ، فالتكليف به حينئذ مع فرض كونه الأحرى وعدم العسر في تحصيله ثابت بالضرورة لا منفي ، ودعوى عدم استفادة الظن من الأدلة على كروية الأرض التي هي مبنى العلم المزبور واضحة المنع عند أهل الفن ، كدعوى إنكار أهل الشرع كرويتها ، إذ ليس لهم في ذلك كلام محرر ، بل المحكي عن العلامة منهم في كتاب الصوم من التذكرة التصريح بكروية الأرض مفرعا عليها جواز رؤية الهلال في بلد دون آخر ، لأن حدبية‌

٣٤٧

الأرض مانعة عن ذلك ، بل قال : قد رصد ذلك أهل المعرفة ، وشوهد بالعيان خفاء بعض الكواكب الغربية لمن جد في السير نحو المشرق وبالعكس ، وكذا حكي عن ولده فخر المحققين ، وكونها فراشا ومهادا ومسطحة لا ينفي كونها كروية باعتبار عظم حجمها بحيث يحصل ذلك فيها وترى مسطحة كما عن الزمخشري التصريح ببعض ذلك في آية الفراش ، بل هو المحكي عن المرتضى رحمه‌الله أيضا ، ودعوى اختلاف قبور الأئمة عليهم‌السلام مع قربها اختلافا لا يتسامح فيه في استقبال البعيد ولو ظنا مع استمرار السيرة القطعية على إيقاع ما يشترط فيه الاستقبال على ذلك ممنوعة أشد المنع على مدعيها ، وكان المسألة بحمد الله من الواضحات التي لا تحتاج إلى إقامة الأدلة والبينات ، ولو لا سريان هذه الشبهة إلى جماعة من أهل هذا العصر لكان ما صدر منا من الكلام فضلا عن الزيادة عليه من تضييع العمر في الفضولات ، والله أعلم بحقيقة الحال.

وكيف كان فهذا كله في تحقيق الجهة التي أمر أصحاب البعيد باستقبالها ، وقد تطلق الجهة في كلامهم على غير ذلك كقول المصنف وجهة الكعبة هي القبلة لا البنية فلو زالت البنية صلى إلى جهتها كما يصلي من هو أعلى موقفا منها أو أسفل ، ضرورة كون مراده بالجهة هنا القضاء الذي حوت بعضه البنية ، وشغل الأرض بعضا آخر منه ، وبقي الثالث متصلا إلى عنان السماء ، لا الجهة بالمعنى المزبور ، ومن هنا لم يعرف خلاف بين العلماء كما اعترف به في المدارك في كون المدار في القبلة على ذلك ، وخلاف شاذان في غير ذلك كما ستعرف الحال فيه ، مع أنه على تقديره لا يعبأ به ، إذ الآجر والجص والتراب مما ينقل ويضمحل ، وقد سئل الصادق عليه‌السلام في خبر عبد الله بن سنان (١) « عن رجل صلى فوق أبي قبيس العصر ، والكعبة تحته فهل تجزئ؟ فقال : نعم انها قبلة من موضعها إلى السماء » كقوله عليه‌السلام أيضا (٢) : « لا بأس » ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١ من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢ من كتاب الصلاة.

٣٤٨

لما سأله خالد أبو إسماعيل عن الرجل على أبي قبيس يستقبل القبلة ، وكذلك الحال في المصلي في سرداب مثلا نازل عن بناء الكعبة ، وقد تقدم ، ويأتي الإشارة إلى ذلك كله ، مع أنه بوضوحه مستغن عن كثرة الكلام ، كما انه تقدم سابقا وجوب العلم بتحقق صدق الاستقبال للمتمكن وإن توقف على صعود إلى سطح أو جبل أو نحوهما من المقدمات التي لا حرج على المكلف في تحصيلها على ما هو مقتضى القواعد المقررة التي شهد لها العقل والنقل ، فما في المدارك ـ من أنه لا يكلف الصعود إلى الجبال ليرى الكعبة للحرج بخلاف الصعود إلى السطح ، وأوجب الشيخ والعلامة في بعض كتبهما صعود الجبل مع القدرة ، وهو بعيد ـ فيه ما لا يخفى ، اللهم إلا أن يريد بقرينة تعليله ما فيه الحرج ، لكن من المستبعد إيجاب الشيخ والفاضل عليه ذلك معه ، لعدم الدليل ، بل المعلوم من أصول هذه الملة سقوط ما فيه الحرج من سائر أحكامها ، وظني أن الخلاف لفظي ، ثم قال في المدارك بعد الكلام المزبور : « وإن قلنا بالاكتفاء باستقبال الجهة مطلقا سقط هذا البحث من أصله » وفيه أنك قد عرفت مما تقدم سابقا عدم قائل بذلك ، بل لا مجال لاحتماله ، إذ وجوب استقبال العين لمن كان مشاهدا لها من الضروريات ، ولا يكفيه استقبال جهة العين بمعنى الفضاء المتصل بها يمينا وشمالا ، إذ هو ليس استقبالا للكعبة قطعا ، بل هو غير مجز للبعيد فضلا عن القريب على ما عرفته مفصلا ، وإن أراد بالجهة غير ذلك لم يكن وجه لسقوط هذا البحث من أصله ، ومن ذلك يعرف ما في مناقشته للمعتبر في شرح المتن السابق كما تقدم لنا ما يزيده وضوحا وتفصيلا ، فلاحظ وتأمل إن شئت.

وإن صلى في جوفها مختارا ومضطرا فريضة أو نافلة جاز واستقبل أي جدرانها شاء لكن على كراهية في الفريضة بلا خلاف أجده فيه فيما عدا الأول ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل لعله من المسلمين ، وهو الحجة بعد المحكي من فعل النبي‌

٣٤٩

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في‌ صحيح معاوية بن عمار (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « لا تصل المكتوبة في جوف الكعبة ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدخل الكعبة في حج ولا عمرة ولكنه دخلها في الفتح فتح مكة ، وصلى ركعتين بين العمودين ، ومعه أسامة بن زيد » وغيره من النصوص ، بل صرح الشيخ والفاضل كما عن غيرهما باستحباب النافلة فيها ، بل في المنتهى لا نعرف خلافا فيه بين العلماء إلا ما نقل عن محمد ابن جرير الطبري ، بل عن المعتبر والروض وظاهر التذكرة الإجماع عليه ، نعم في كشف اللثام أني لم أظفر بنص على استحباب كل نافلة ، وانما الأخبار باستحباب التنفل لمن دخلها في الأركان وبين الأسطوانتين ، ولكنه يتأتى بفعل الرواتب اليومية ونحوها فيها ، وربما تسمع تمام البحث في ذلك إن شاء الله في مكان المصلي ، مضافا إلى ما علم من نصوص الفرقة المحقة وإجماعاتهم من عدم سقوط الصلاة بحال.

ومنه الاضطرار إلى الفريضة في الكعبة لو قلنا بعدم جوازها اختيارا فيها ، مع أن الأقوى الجواز وفاقا للأكثر ، بل المشهور نقلا وتحصيلا ، بل عن السرائر الإجماع عليه ، بل لم أجد فيه خلافا إلا من المحكي عن الشيخ في الخلاف والتهذيب وحج النهاية والقاضي في المهذب لموثق يونس بن يعقوب (٢) قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « حضرت الصلاة المكتوبة وأنا في الكعبة أفأصلي فيها ، قال : صل » المؤيد بظاهر قوله تعالى (٣) ( طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ )‌ لضعف المناقشة في دلالتها ، وبما يشعر به‌ صحيح ابن مسلم (٤) عن أحدهما عليهما‌السلام « لا تصلح صلاة المكتوبة في جوف الكعبة » بل رواه في الوسائل بطريق آخر بإسقاط « لا » بل قال : لفظة « لا » غير موجودة في النسخة التي قوبلت بخط الشيخ ، وبأن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٦.

(٣) سورة البقرة ـ الآية ١١٩.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٤.

٣٥٠

المستفاد من‌ قولهم عليهم‌السلام : « الكعبة قبلة » بعد تعذر إرادة المجموع بعدم إمكان استقباله ، ضرورة كون المصلي خارجها انما يستقبل ما يحاذيه منها لا كل جزء منها من غير فرق بين المقاطر له حال كونه خارجا وغيره ، ودعوى صدق استقبال الكعبة بالأول خاصة دون الثاني قد تمنع ، إذ لا ريب في عدم إرادة المجموع بشرط الاجتماع من الكعبة في قوله : الكعبة قبلة » ضرورة كونها اسما للفضاء من تخوم الأرض إلى عنان السماء ، فمن استقبل الجزء المقاطر منها ليس مستقبلا للكعبة : أي تمامها قطعا ، وليس ذلك كضرب زيد المتحقق بضرب البعض ، على أن البحث في قوله : « الكعبة قبلة » لا استقبل الكعبة ، بل خبر عبد الله بن سنان المتقدم المتضمن نفي البأس عن الصلاة على أبي قبيس والكعبة تحته معللا ذلك بأنها قبلة من موضعها إلى السماء كالصريح في تحقق القبلة باستقبال البعض دون البعض ، فيعلم حينئذ منه أن المراد كل جزء من أجزاء الكعبة قبلة من نحو التركيب المزبور ، وتخصيصه بالمقاطر دون غيره لا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه ، بل لو سلم عدم ظهوره أمكن دعواه ولو بملاحظة الشهرة العظيمة التي لم يعرف خلافها إلا ممن عرفت ، بل المحكي عن الشيخ في باقي كتبه موافقة الأصحاب ومنه يعلم ترجيح ما عن السرائر من الإجماع على إجماعه الموهون بما عرفت ، كالصحيح المستدل به له‌ عن أحدهما عليهما‌السلام « لا تصل المكتوبة في الكعبة » المتعين لما سمعته للحمل على الكراهة ، خصوصا مع اتحاد الراوي فيه وراوي الصحيح المزبور ، ونحوه صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام المتقدم سابقا ، بل هو أولى منه بذلك ، ضرورة عدم صلاحية التعليل للحرمة ، إذ ترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعم من ذلك ، بل ربما يستدل بما في ذيله من صلاة الركعتين المعلوم جوازها في الكعبة كما عرفت على المطلوب ، بناء على عدم جواز فعل النافلة لغير قبلة مع الاستقرار والاختيار كما تسمع البحث في ذلك إن شاء الله محررا ، ولعله إليه أشار العلامة في‌

٣٥١

التذكرة في استدلاله على الجواز بأن كل بقعة جاز أن يتنفل فيها جاز أن يفترض كالمسجد.

ومن الغريب وسوسة بعض المتأخرين في الحكم المزبور لصحة سند المعارض وتعدده وتأييده بأصالة الشغل وإجماع الخلاف وما تسمعه من النص (١) على منع الصلاة على السطح قائما ، وما أرسله الكليني من أنه « روي أنه يصلي في أربع جوانبها إذا اضطر إلى ذلك » إذ هو مع اشتماله على الشرط المزبور مشعر بكون القبلة المجموع لا كل جزء كما اعترف به في الذكرى ، وخبر عبد الله بن مروان (٢) « إذا حضرته صلاة الفريضة وهو في الكعبة ولم يمكنه الخروج منها استلقى على قفاه ، ويصلي إيماء » واحتمال الموثق الضرورة أو التقية ، وبأن المأمور به تولية الجهة التي لا تتحقق مع الصلاة في الجوف ، وبحصول الاستدبار لو صلى فيها ، وبغير ذلك ، وفيه أن الشهرة أولى بالترجيح كأولوية إجماع السرائر الذي يشهد له التتبع من إجماع الشيخ ، والكراهة في النهي المشهور فيه ذلك من الضرورة أو التقية ، خصوصا والمحكي عن مالك وأحمد وإسحاق جواز النافلة دون الفريضة على حسب مضمون الصحيح السابق ، وشغل الذمة ينقطع بظاهر الدليل ، ومرسل الكليني والخبر لا عامل بهما ، بل الإجماع بقسميه على استقبال أي جدرانها شاء حيث يصلى فيها كما عرفت سابقا ، بل وعلى استقبال الباب أيضا إلا من شاذان بن جبريل من أصحابنا فيما حكي عنه من رسالته المسماة بإزاحة العلة في معرفة القبلة ، فلم يجوز الصلاة إلى الباب المفتوح ، وهو معلوم الضعف بمعلومية كون القبلة موضع البيت لا البنية ، ولذا لو نقلت آلاتها إلى غير موضع لم يجز الصلاة إليها ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٧ لكن رواه عن محمد ابن عبد الله بن مروان.

٣٥٢

ولا يسقط وجوب الاستقبال ، بل يستقبل الفضاء المزبور وصحت صلاته كالمرتفع والمنخفض عنهما كما تقدم الإشارة اليه ، واستدبار البعض بعد استقبال الآخر غير قادح ، إذ الشرط استقبال القبلة ، وقد حصل ، والمانع الاستدبار المفوت للاستقبال ، فلا ريب أن الأقوى الجواز لكن على كراهة ، والله أعلم.

ومما ذكرنا يعلم انه لا إشكال في جواز الصلاة على سطحها ، فـ ( لو صلى ) حينئذ على سطحها جاز لكن أبرز بين يديه شيئا منها أي ما يصلى اليه ليستقبله في جميع أحوال الصلاة المشترط في كل جزء منها الاستقبال ، فلو سجد على نقطة الانتهاء بطلت ، لعدم الاستقبال حينئذ ، نعم يقوى عدم اشتراط اتحاد المستقبل في جميع الأحوال ، فلو استقبل شيئا من الفضاء حال القيام بحيث لو ركع وسجد من غير تأخر عنه خرج عن القبلة إلا أنه عند الركوع والسجود تنحى حتى حصل له ما يستقبله حالهما صح ، للأصل من غير معارض.

وقيل والقائل الصدوق في الفقيه والشيخ في الخلاف والنهاية والقاضي في المهذب والجواهر على ما حكي عنهم يستلقي المصلي على السطح على ظهره ويصلي إلى البيت المعمور في السماء الثالثة أو الرابعة على الخلاف فيه كما في المبسوط ، وفيه أيضا أنه يعرف بالضراح بالضاد المعجمة ، بل عن ظاهر الأولين جواز ذلك اختيارا ، بخلاف الباقي فقيدوه بحال الضرورة ولا ريب أن الأول أصح وفاقا للمشهور بين الأصحاب شهرة كادت تكون إجماعا ، بل عن روض الجنان الإجماع عليه ، لبعض ما سمعته سابقا ، ضرورة عدم مدخلية البناء في القبلة ، بل هما عند التحقيق من واد واحد ، إذ لو اتفق ارتفاع أرض الكعبة حتى صار السطح الآن جوفها كان من المسألة قطعا ، فحينئذ كل ما استدل به هناك يمكن جريانه في المقام ولو باتحاد طريق المسألتين ،

٣٥٣

أو غيره من الفحوى ونحوه ، فما في‌ خبر الحسين بن زيد (١) عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام في حديث المناهي قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الصلاة على ظهر الكعبة » محمول على الكراهة ، بل لا يخلو ما قبله وما بعده من الاشعار بذلك ، لكن الشيخ منعه من الصلاة في جوفها اختيارا ، وجوزها هنا ، كما أنه والقاضي وافقا الأصحاب على الظاهر هناك في الصلاة ولو اضطرارا من غير استلقاء بخلاف ما هنا.

ولعل ذلك بعد الإجماع المدعى في الخلاف لخبر عبد السلام بن صالح (٢) عن الرضا عليه‌السلام في الذي تدركه الصلاة وهو فوق الكعبة قال : « إن قام لم يكن له قبلة ، ولكن يستلقي على قفاه ويفتح عينيه إلى السماء ، ويعقد بقلبه القبلة التي في السماء البيت المعمور ويقرأ ، فإذا أراد أن يركع غمض عينيه ، فإذا أراد أن يرفع رأسه فتح عينيه ، والسجود على ذلك » ونسبه في المبسوط إلى رواية أصحابنا ، وهو مع احتمال اختصاصه بمن كان فوق حائط الكعبة بحيث لا يمكنه التأخر عنه ولا إبراز شي‌ء أمامه ضعيف عن مقاومة ما سمعته من الأدلة السابقة ، وما دل على لزوم الأفعال الواجبة من القيام والركوع وغيرهما ، ولا جابر ، إذ إجماع الشيخ موهون بمصير الأكثر إلى خلافه ، بل هو نفسه في المبسوط جوز الصلاة على السطح قائما ، بل لعل مراده الوجوب كما عن المحقق الجزم به ، لأن القيام شرط مع الإمكان ، فمتى جاز وجب ، وإن كان يمكن أن يقال إنه بناء على أن القبلة مجموع الكعبة كما هو خيرة الشيخ في تلك المسألة فعند القيام يفوته الاستقبال ، وعند الاستلقاء القيام والركوع والسجود والرفع منهما ، فيجوز عند الضرورة التخيير بينهما وأن لا يتعين شي‌ء منهما ، لتضمن كل منهما فوات ركن ، لكن فيه كما في الرياض أن الاستقبال المأمور به كتابا وسنة فائت على التقديرين ، فيتعين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢.

٣٥٤

القيام والركوع والسجود حينئذ للتمكن منها ، وفيه أن مبنى المسألة على كون القبلة بالنسبة إليه البيت المعمور الذي لا يحصل استقباله إلا بالاستلقاء ، فلا ريب حينئذ في حصول التعارض المزبور ، نعم قد يقال إنه بناء عليه يمكن أولوية المحافظة على ذلك من الاستقبال ، ويقال أيضا إن الشيخ في المبسوط ممن جوز الصلاة في الجوف على كراهة ، ومقتضاه كون القبلة عنده البعض مطلقا ، فلا يتجه له هذا التعارض ، وإن كان نظره إلى الخبر المزبور وجب العمل بظاهره من الوجوب لا الجواز.

وعلى كل حال فلا ريب في أن الأقوى الجواز اختيارا ، وانه كالصلاة في جوف الكعبة ، كما أن المتجه بناء على فوات الاستقبال أو الأفعال الاقتصار في الجواز على الضرورة ، كما عن الجامع والمهذب النص عليه ، اللهم إلا أن يدعى ظهور الخبر المزبور ولو بترك الاستفصال فيه في صحة الكيفية المزبورة اختيارا بل وجوبها ، لكنك خبير بقصور الخبر المزبور عن إثبات مثل هذا الصنف من التكليف المقتضي هدم كثير من الأدلة القطعية في غير الفرض.

وقد ظهر لك من ذلك انه لا يحتاج عندنا إلى أن ينصب بين يديه شيئا حال الصلاة ، للأصل وإطلاق الأدلة ، ولأن القبلة عندنا القضاء ، والفرض أنه أبرز بين يديه شيئا منه ، خلافا للشافعي فأوجبه ، ولا ريب في ضعفه وكذا لا إشكال لو صلى في وسطها أو خارجها إلى بابها وهو مفتوح مع العتبة ودونها إجماعا بقسميه ، وخلاف شاذان من أصحابنا والشافعي من غيرهم غير قادح فيه ، على أن الأدلة مع قطع النظر عن الإجماع وافية بالمقصود كما عرفت الإشارة إليها سابقا ، بل لا يخفى على المتأمل في كلام شاذان في رسالته المحكية بتمامها في البحار أنه ليس خلافا فيما نحن فيه ، بل الظاهر إرادته الكراهة من عدم الجواز كما في غير الكعبة من الأبواب المفتوحة ، لأنه قد صرح بجواز الصلاة في العرصة مع فرض زوال البنيان ، وصرح‌

٣٥٥

بجوازها على السطح سواء كان بين يديه سترة من نفس البناء أو لا ، وغير ذلك مما هو كالصريح فيما ذكرنا ، فلاحظ وتأمل.

ولو استطال صف المأمومين في المسجد الحرام مثلا حتى خرج بعضهم عن سمت الكعبة بطلت صلاة ذلك البعض عندنا ، قربوا من الكعبة أم بعدوا ، خلافا للحنفية مطلقا والشافعية في الأخير ، ويأتي في بحث الجماعة إن شاء الله كيفية الصلاة جماعة بالاستدارة ، فلاحظ وتأمل وكيف كان فـ ( أهل كل إقليم ) أي صقع من الأرض ، ولعله ليس عربيا كما عن ابن الجواليقي ، لكن عن الأزهري أحسبه عربيا ، قال : وكأنه سمي إقليما لأنه مقلوم من الإقليم الذي يتاخمه أي مقطوع عنه يتوجهون إلى سمت أي ما يسامت الركن الذي على جهتهم لكن على حسب ما قررناه من مسامتة البعيد التي لا يعتبر فيها اتصال الخطوط ، نعم قد يناقش بأنه لا يوافق مختاره سابقا من كون قبلة البعيد الحرم ، ويدفع بأن ذلك منه شاهد على إرادة سعة الجهة منه كما ذكرناه سابقا ، أو يقال لا فرق بين جهة الركن والحرم من بعد ، واحتمال إرادة عين الحرم لا جهته كما سمعته من خلاف الشيخ بعيد ، إلا أن يحمل على إرادة مقابلة البعيد للحرم نحو ما ذكرناه سابقا في الكعبة ، وحينئذ يظهر فرق بين الجهتين ، ضرورة اختلافهما بذلك ضيقا وسعة ، والأمر سهل بعد الإحاطة بما عرفت ، ومن المعلوم إرادة ما بين الركنين من الركن في كلامه لا الركن بنفسه ، ضرورة عدم وجوب ذلك وعدم مسامتة جميع البلدان له ، كما هو واضح ، فما في المدارك ـ من أنه قد تقدم أن المعتبر عند المصنف في البعيد استقبال الحرم ، وعند آخرين الجهة ، وهما أوسع من ذلك ، فلا يتم الحكم بوجوب التوجه إلى سمت الركن نفسه ـ لا يخلو من نظر إن أراد بذلك المناقشة في الركن نفسه ، بل وكذا إن أراد المناقشة فيما يوهمه لفظ السمت ، لما عرفت ، فقوله متصلا بما سمعت منه ـ انه قال في المعتبر : وكل إقليم‌

٣٥٦

يتوجهون إلى سمت الركن الذي يليهم ، لما بيناه من وجوب استقبال الكعبة ما أمكن ، والذي يمكن أن يستقبل أهل كل إقليم الركن الذي يليهم ، وهو غير جيد أيضا ، إذ الذي سبق منه وجوب استقبال جهة الكعبة للبعيد لا نفس الكعبة ـ في غير محله أيضا ، للقطع بعدم إرادته اتصال الخطوط بالعين من ذلك ، بل المراد جهة الركن الذي يليهم دون غيره من الأركان ، لعدم تمكنهم منه ، فهو في الحقيقة بيان ما هم عليه في الواقع.

وكيف كان فأهل العراق ومن شاركهم إلى العراقي وهو الذي فيه الحجر وكذا أهل الشام إلى الشامي ، والمغرب إلى المغربي ، واليمن إلى اليماني بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، لكن في كشف اللثام عن بعض من عاصره أنه وضع آلة يستعلم بها نسبة البلاد إلى جهات الكعبة ، فاستعلم منها أن الحجر الأسود إلى الباب في جهة بعض بلاد الهند ، كهلوازه ، والباب في جهة بعضها الآخر كدهلا واكره وبافرس والصين وتهامة ومنصورة سند ، ومن الباب إلى منتصف هذا الضلع في جهة الأحساء والقطيف والبحرين وقندهار وكشمير وملتان وبست وسجستان وكرمان وبدخشان وتيبت وخانبالق وشيراز وبلخ وفارياب ، ومنه إلى السدس الرابع جهة هراة وختن وبيش بالق ويزدومر وقراقوم وترشين ونون وسمرقند وكاشغر وسرخس وكش وخجند وبخارا ورامهرمز وطوس وبناكت والمالق وسبزوار ، ومنه إلى السدس الخامس جهة أصفهان والبصرة وكاشان والأستراباد وكركانج وقم وري وساري وقزوين وساوة ولاهيجان وهمدان ، والسدس الأخير المنتهى إلى الشامي جهة كوما مدينة روس وشماخى وبلغار وباب الأبواب وبردعة وتفليس وأردبيل وتبريز وبغداد والكوفة وسر من رأى ، فخطأ الأصحاب قاطبة في قولهم : إن ركن الحجر قبلة أهل العراق ، وزعم أن قبلتهم الشامي وأنه العراقي أيضا ، وهو خلاف المعروف بين الأصحاب قديما وحديثا.

٣٥٧

وعن إزاحة العلة في معرفة القبلة للشيخ أبي الفضل شاذان بن جبريل القمي ، وهو من أجلاء فقهائنا كما في الذكرى أن أهل العراق وخراسان إلى جيلان وجبال الديلم وما كان في حدوده مثل الكوفة وبغداد وحلوان إلى الري وطبرستان إلى جبل سابور وإلى ما وراء النهر إلى خوارزم إلى الشاش وإلى منتهى حدوده ومن يصلي إلى قبلتهم من أهل المشرق يتوجهون إلى المقام والباب ، وأن أهل البصرة والبحرين واليمامة والأهواز وخوزستان وفارس وسجستان إلى تبت إلى الصين يتوجهون إلى ما بين الباب والحجر الأسود ، قال في كشف اللثام : « ولا ينافي اتفاق هذه البلاد في جهة القبلة اختلافها في العروض والأقاليم ، فإن الكل في سمت واحد » وفيه منع اتحاد السمت بعد الاختلاف في الطول المصرح به من أهل الخبرة ، ثم قال : نعم أورد عليه بعض المعاصرين أنها لو كانت كذلك لم يكن سمت قبلة العراق أقرب إلى نقطة الجنوب منه إلى مغرب الاعتدال ، بل كان الأمر بالعكس ، وهو إنما يرد لو كانت هذه البلاد أقل عرضا من مكة أو مساوية لها ، وفيه أن المؤثر في ذلك اختلاف الطول الثابت في أكثر العراق.

ثم أجاب عما خطأ به جميع الفقهاء بأن العراق وما والاه لما ازدادت على مكة طولا وعرضا فلهم أن يتوجهوا إلى ما يقابل الركن الشامي إلى ركن الحجر ، وبالجملة إلى أي جزء من هذا الجدار من الكعبة فبأدنى تياسر يتوجهون إلى ركن الحجر ، وهو أولى بهم من أن يشرفوا على الخروج عن سمت الكعبة خصوصا وسيأتي أن الحرم في اليسار أكثر ، ثم ان تقليل الانتشار مهم ، فإذا وجدت علامة تعم جميع ما في هذا السمت من الكعبة من البلاد كانت أولى بالاعتبار عن تمييز بعضها من بعض تيامنا وتياسرا ، فلذا اعتبروا علامة توجه الجميع إلى ركن الحجر ، وإن كان يمكن اعتبار علامة في بعضها تؤديه إلى الشامي أو ما يقرب منه ، قلت : هو جيد لو أن اعتراض‌

٣٥٨

المعترض مجرد الإمكان ، أما إذا كان المراد أن أهل العراق بعلامتهم المشهورة لهم لا يحصل لهم إلا استقبال الركن الشامي ، بل لو أرادوا أن يستقبلوا غيره لم يكن لهم علامة يطمئن بتحصيلها لذلك ، بخلاف ما يقوله الفقهاء من أن استقبالهم ركن الحجر فلا يجدي هذا الجواب كما هو واضح ، فتأمل.

وكيف كان فـ ( أهل العراق ومن والاهم ) وسامتهم إذا أرادوا معرفة القبلة يجعلون الفجر على المنكب الأيسر ، والمغرب على الأيمن ، والجدي بإسكان الدال المهملة ، وهو نجم معروف ، قيل ويصغره أهل الهيئة فرقا بينه وبين البرج ، وعن ابن إدريس إنكار تصغيره ، وانه سأل إمام اللغة في بغداد عن ذلك فقال : لا يصغر ، وعلى كل حال فالمراد جعله محاذي خلف المنكب الأيمن ، وعين الشمس عند زوالها على الحاجب الأيمن ، والقمر ليلة السابع عند الغروب ، وإحدى وعشرين عند الفجر وسهيل عند طلوعه مقابل المنكب الأيسر ، وتفصيل ذلك أن يعلم أولا أن أكثر العلامات المذكورة في كتب الأصحاب أو جميعها مستخرجة من علم الهيئة ، إذ لم نعرف نصا في شي‌ء منها سوى‌ خبر محمد بن مسلم (١) عن أحدهما عليهما‌السلام « سألته عن القبلة قال : ضع الجدي في قفاك وصل » ومرسل الصدوق (٢) قال رجل للصادق عليه‌السلام : « إني أكون في السفر ولا أهتدي إلى القبلة بالليل فقال : أتعرف الكوكب الذي يقال له جدي؟ قلت : نعم قال : اجعله على يمينك ، وإذا كنت في طريق الحج فاجعله بين كتفيك » وصحيح زرارة (٣) عن الباقر عليه‌السلام « لا صلاة إلا إلى القبلة ، قال : قلت : أين حد القبلة؟ قال : ما بين المشرق والمغرب قبلة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢.

٣٥٩

كله » وخبر إسماعيل بن زياد (١) المروي عن تفسير العياشي عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) قال : هو الجدي ، لأنه لا يزول ، وعليه بناء القبلة ، وبه يهتدي أهل البر والبحر » وآخر (٢) مروي عنه أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى (٣) : ( وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) قال : « ظاهر وباطن الجدي ، عليه تبنى القبلة ، وبه يهتدي أهل البر والبحر ، لأنه نجم لا يزول » والمروي (٤) عن رسالة المحكم والمتشابه عن تفسير النعماني بسنده إلى الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى (٥) : ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) ، قال : « معنى شطره نحوه إن كان قريبا ، وبالدلائل والأعلام إن كان محجوبا ، فلو علمت القبلة لوجب استقبالها والتولي والتوجه إليها ، ولو لم يكن الدليل عليها موجودا حتى تستوي الجهات كلها فله حينئذ أن يصلي باجتهاده حيث أحب واختار حتى يكون على يقين من الدلالات المنصوبة والعلامات المثبوتة ، فإن مال عن هذا التوجه مع ما ذكرناه حتى يجعل الشرق غربا والغرب شرقا زال معنى اجتهاده وفسد حال اعتقاده ، قال : وقد جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبر منصوص مجمع عليه أن الأدلة المنصوبة إلى بيت الله الحرام لا تذهب بكليتها حادثة من الحوادث منا من الله تعالى على عباده في إقامة ما افترض عليهم » وما عساه يظهر من سؤال موثق سماعة (٦) عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم ير الشمس ولا القمر ولا النجوم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٣ لكن رواه في الوسائل عن إسماعيل ابن أبي زياد وهو الصحيح.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٤ لكن رواه في الوسائل عن إسماعيل ابن أبي زياد وهو الصحيح.

(٣) سورة النحل ـ الآية ١٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٤.

(٥) سورة البقرة ـ الآية ١٣٩.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢.

٣٦٠