حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

وقد أجريت له فور ولادته المراسيم الشرعية من الاذان والاقامة في اذنه كما أجريت له بعض المراسيم الاخرى في اليوم السابع من ولادته من حلق رأسه والتصدق بزنة شعره فضة على المساكين ، والعق عنه بكبش والتصدق به على الفقراء.

وكانت ولادته في عهد معاوية والبلاد الاسلامية تعج بالظلم ، وتموج بالكوارث والخطوب من ظلم معاوية وجور ولاته الذين نشروا الارهاب وأشاعوا الظلم في البلاد ، وقد تحدث الامام الباقر عن تلك المظالم الرهيبة ، وسنذكر حديثه في غضون هذا الكتاب.

تسميته :

وسماه جده رسول الله (ص) بمحمد ، وكناه بالباقر قبل أن يخلق بعشرات السنين ، وكان ذلك من أعلام نبوته كما يقول بعض المحققين ، وقد استشف (ص) من وراء الغيب ما يقوم به سبطه من نشر العلم واذاعته بين الناس فبشر به أمته ، كما حمل له تحياته على يد الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الانصاري وسنلمع الى ذلك فيما يأتي.

كنيته :

أما كنيته فهي : « أبو جعفر » (٩) ولا كنية له غيرها ، لقد كني بولده الامام جعفر الصادق (ع) الذي بعث الروح والحياة في هذه الامة وفجر ينابيع الحكمة في الارض.

ألقابه :

أما القابه الشريفة فقد دلت على ملامح شخصيته العظيمة ونزعاته الرفيعة وهي :

__________________

(٩) دلائل الامامة ( ص ٩٤ ).

٢١

١ ـ الأمين :

٢ ـ الشبيه : لأنه كان يشبه جده رسول الله (ص) (١٠).

٣ ـ الشاكر :

٤ ـ الهادي :

٥ ـ الصابر :

٦ ـ الشاهد : (١١)

٧ ـ الباقر : (١٢) وهذا من اكثر ألقابه ذيوعا وانتشارا ، وقد لقب هو وولده الامام الصادق ( بالباقرين ) كما لقبا ( بالصادقين ) من باب التغليب (١٣).

ويكاد مجمع المؤرخون والمترجمون للإمام على أنه انما لقب بالباقر لانه بقر العلم أي شقه ، وتوسع فيه فعرف أصله وعلم خفيه (١٤) ، وفيه يقول الامام الرضى :

يا باقر العلم لاهل التقى

وخير من لبى على الاجبل (١٥)

وكأنهم نظروا في ذلك الى ما أثر عنه من سعة العلوم والمعارف فجعلوا هذا اللقب مشعرا بها ، وقيل انما لقب به لكثرة سجوده فقد بقر جبهته

__________________

(١٠) الدر النظيم في مناقب الائمة من مصورات مكتبة الامام أمير المؤمنين ضياء العالمين الجزء الثاني مخطوط ، اعيان الشيعة ق ١ / ٤ / ٤٦٤.

(١١) جنات الخلود ، وناسخ التواريخ.

(١٢) تذكرة الحفاظ ١ / ١٢٤ ، نزهة الجليس ٢ / ٣٦ ، مرآة الجنان ١ / ٢٤٧ ، دائرة معارف وجدي ٣ / ٥٦٣.

(١٣) جامع المقال للشيخ الطريحي من مصورات مكتبة الامام الحكيم.

(١٤) عيون الاخبار وفنون الآثار ( ص ٢١٣ ) عمدة الطالب ( ص ١٨٣ ).

(١٥) جوهرة الكلام في مدح السادة الاعلام ( ص ١٣٣ ).

٢٢

أي فتحها ووسعها (١٦) وقيل انما لقب بذلك لقوله : « استصرخي الحق وقد حواه الباطل في جوفه ، فبقرت عن خاصرته ، واطلعت الحق من حجبه حتى ظهر وانتشر بعد ما خفى » (١٧) ولكن المشهور والذائع بين المؤرخين هو المعنى الاول دون غيره.

تحيات النبي الى الباقر :

ويجمع المؤرخون والرواة على أن النبي (ص) حمّل الصحابي العظيم جابر بن عبد الله الانصاري تحياته ، الى سبطه الامام الباقر ، وكان جابر ينتظر ولادته بفارغ الصبر ليؤدي إليه رسالة جده ، فلما ولد الامام وصار صبيا يافعا التقى به جابر فأدى إليه تحيات النبي (ص) وقد روى المؤرخون ذلك بصور متعددة وهذه بعضها :

١ ـ ما رواه آبان بن تغلب عن أبي عبد الله (ع) قال : ان جابر ابن عبد الله الانصاري كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله (ص) وكان رجلا منقطعا إلينا أهل البيت ، وكان يقعد في مجلس رسول (ص) وهو معتجر (١٨) بعمامة سوداء ، وكان ينادي : يا باقر العلم ، يا باقر العلم ، فكان أهل المدينة يقولون : جابر يهجر ، فكان يقول : والله ما أهجر ، ولكني سمعت رسول الله (ص) يقول : إنك ستدرك رجلا مني اسمه اسمي ، وشمائله شمائلي يبقر العلم بقرا ، فذاك الذي دعاني الى ما أقول : قال : فبينما جابر يتردد ذات يوم في بعض طرق المدينة إذ مر بطريق في ذاك الطريق كتاب فيه محمد بن علي فلما نظر إليه قال : يا غلام اقبل فأقبل ،

__________________

(١٦) مرآة الزمان في تواريخ الاعيان ٥ / ٧٨ من مصورات مكتبة الامام الحكيم.

(١٧) مرآة الزمان في تواريخ الاعيان الجزء الخامس مخطوط.

(١٨) معتجر : وهو وضع العمامة على الرأس.

٢٣

ثم قال له : ادبر فادبر ، ثم قال : شمائل رسول الله (ص) والذي نفسي بيده ، يا غلام ما اسمك؟ قال : اسمي محمد بن علي بن الحسين فجعل يقبل رأسه ، ويقول : بأبي أنت وأمي أبوك رسول الله (ص) يقرؤك السلام ... قال : فرجع محمد بن علي الى أبيه وهو ذعر فأخبره الخبر ، فقال له : يا بني قد فعلها جابر قال : نعم قال : ألزم بيتك يا بني .. » (١٩).

أما محتويات هذه الرواية فهي.

أ ـ أن شمائل الامام الباقر (ع) وملامحه كانت تضارع شمائل النبي (ص).

ب ـ ان النبي (ص) هو الذي سمى سبطه بمحمد ، واضفى عليه لقب الباقر ، وأنه يبقر العلم بقرا.

ج ـ ان الامام زين العابدين (ع) قد خاف على ولده مما أخبر به جابر عن النبي (ص) في شأنه ، ويعود السبب في ذلك الى أن الحكومة الاموية قد فرضت الرقابة الشديدة على الامام زين العابدين فكانت تحصي عليه انفاسه ، وتتعرف على من يخلفه ويقوم مقامه من بعده لتنكل به فخشى (ع) على ولده من أن يناله الامويون بسوء أو مكروه.

٢ ـ ما رواه ابن عساكر ان الامام زين العابدين (ع) ومعه ولده الباقر دخل على جابر بن عبد الله الانصاري ، فقال له جابر : من معك يا ابن رسول الله؟ قال : معي ابني محمد فاخذه جابر وضمه إليه وبكى ثم قال : اقترب اجلي ، يا محمد ، رسول الله (ص) يقرؤك السلام فسئل وما ذاك؟ فقال : سمعت رسول الله (ص) يقول : للحسين بن علي يولد لابنى هذا ابن يقال له علي بن الحسين ، وهو سيد العابدين إذا كان يوم القيامة ينادي مناد ليقم سيد العابدين فيقوم علي بن الحسين ، ويولد

__________________

(١٩) أصول الكافي « ١ / ٤٦٩ ـ ٤٧٠ » رجال الكشي ( ص ٢٧ ـ ٢٨ ).

٢٤

لعلي بن الحسين ابن يقال له محمد اذا رأيته يا جابر فاقرأه منى السلام ، يا جابر اعلم أن المهدي من ولده ، واعلم يا جابر ان بقاءك بعده قليل .. » (٢٠)

٣ ـ ما رواه تاج الدين بن محمد نقيب حلب بسنده عن الامام الباقر عليه‌السلام قال : دخلت على جابر بن عبد الله فسلمت عليه. فقال لي من أنت؟ وذلك بعد ما كف بصره ، فقلت له : محمد بن علي بن الحسين ، فقال : بأبي أنت وأمي ادن مني فدنوت منه فقبل يدي ثم اهوى الى رجلي فاجتذبتها منه ، ثم قال : إن رسول الله (ص) يقرؤك السلام ، فقلت وعلى رسول الله (ص) السلام ورحمة الله وبركاته ، وكيف ذلك يا جابر؟ قال : كنت معه ذات يوم فقال : لي يا جابر لعلك تبقى حتى تلقى رجلا من ولدي يقال له محمد بن علي بن الحسين يهب له الله النور والحكمة فاقرأه مني السلام ... » (٢١).

٤ ـ ما ذكره صلاح الدين الصفدي قال : « كان جابر يمشي بالمدينة ويقول يا باقر متى القاك؟ فمر يوما في بعض سكك المدينة فناولته جارية صبيا في حجرها فقال لها : من هذا؟ فقالت : محمد بن علي بن الحسين فضمه الى صدره ، وقبل رأسه ويديه ، وقال : يا بني جدك رسول الله (ص) يقرؤك السلام ثم قال : يا باقر نعيت الى نفسي فمات في تلك الليلة. » (٢٢)

٥ ـ ما ذكره بعض الاسماعيلية أن النبي (ص) قال : لجابر إنك ستلحق ولد ولدي هذا وأشار الى الحسين فاذا أدركته فاقرأه عنى السلام ، وقل : له يا باقر العلم ابقره. ففعل ذلك .. » (٢٣).

__________________

(٢٠) تاريخ ابن عساكر ٥١ / ٤١ من مصورات مكتبة الامام أمير المؤمنين

(٢١) غاية الاختصار ( ص ٦٤ ).

(٢٢) الوافي بالوفيات ٤ / ١٠٢.

(٢٣) مسائل مجموعة من الحقائق العالية والدقائق والاسرار السامية ( ص ٩٩ ) لمؤلف مجهول.

٢٥

٦ ـ ما رواه الحافظ نور الدين الهيثمي عن أبي جعفر (ع) قال أتاني جابر بن عبد الله وأنا في الكتاب فقال : اكشف عن بطنك فكشفت عن بطني فقبله ثم قال : ان رسول الله (ص) أمرني أن اقرأ عليك السلام. » (٢٤)

هذه بعض الروايات وهي قد اتفقت على أن النبي (ص) حمل جابر ابن عبد الله الانصاري تحياته الى الامام الباقر (ع) وقد استشف (ص) من وراء الغيب ما يقوم به سبطه من نشر العلم واذاعته بين الناس وانه من جملة اوصيائه الذين يفجرون الحكمة والنور في الارض.

ملامحه :

أما ملامحه الشريفة فهي حسب ما يقول جابر بن عبد الله الانصاري كانت كملامح رسول الله (ص) وشمائله (٢٥) وكما شابه جده النبي (ص) في هذه الظاهرة فقد شابهه في معالي أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيين.

ووصفه بعض المعاصرين له فقال : إنه كان معتدل القامة اسمر اللون (٢٦) رقيق البشرة له خال ، ضامر الكشح ، حسن الصوت مطرق الرأس (٢٧).

ذكاؤه المبكر :

وكان (ع) في طفولته آية من آيات النبوغ والذكاء ، ويقول الرواة إن جابر بن عبد الله الانصاري على شيخوخته كان يأتيه فيجلس بين يديه فيعلمه ... وقد بهر جابر من سعة علوم الامام ومعارفه وطفق يقول :

__________________

(٢٤) مجمع الزوائد ١ / ٢٢.

(٢٥) أصول الكافي ١ / ٤٦٩.

(٢٦) اخبار الدول ( ص ١١١ ) جوهرة الكلام في مدح السادة الاعلام ( ص ١٣٢ ).

(٢٧) اعيان الشيعة ق ١ / ٤ / ٤٧١.

٢٦

« يا باقر لقد أوتيت الحكم صبيا ... » (٢٨)

وقد عرف الصحابة ما يتمتع به الامام منذ نعومة اظفاره من سعة الفضل والعلم الغزير فكانوا يرجعون إليه في المسائل التي لا يهتدون إليها ويقول المؤرخون ان رجلا سأل عبد الله بن عمر عن مسألة فلم يقف على جوابها فقال للرجل : اذهب إلى ذلك الغلام ـ وأشار الى الامام الباقر ـ فاسأله ، وأعلمني بما يجيبك فبادر نحوه وسأله فاجابه (ع) عن مسألته وخف الى ابن عمر فاخبره بجواب الامام ، وراح ابن عمر يبدي اعجابه بالامام قائلا : « انهم أهل بيت مفهمون » (٢٩).

لقد خص الله أئمة أهل البيت (ع) بالعلم والفضل ، ووهبهم الكمال المطلق الذي يهبه لأنبيائه ورسله ، فكان كل فرد منهم لا تخفى عليه أية مسألة تعرض عليه ، ويقول المؤرخون ان الامام كان عمره تسع سنين وقد سئل عن أدق المسائل فأجاب عنها.

هيبته ووقاره :

وبدت على ملامح الامام (ع) هيبة الأنبياء ووقارهم ، فما جلس معه أحد إلا هابه وأكبره وقد تشرف قتادة وهو فقيه أهل البصرة بمقابلته فاضطرب قلبه من هيبته وأخذ يقول له :

« لقد جلست بين يدي الفقهاء وأمام ابن عباس فما اضطرب قلبي من أي أحد منهم مثل ما اضطرب قلبي منك. » (٣٠).

لقد كان الامام بقية الله في أرضه ، وتجلت في شخصيته سمات اوليائه واحبائه الذين اضفى عليهم الهيبة والوقار ، وممن غمرتهم هيبة الامام الشاعر

__________________

(٢٨) علل الشرائع ( ص ٢٣٤ ).

(٢٩) المناقب ٤ / ١٤٧.

(٣٠) اثبات الهداة ٥ / ١٧٦.

٢٧

المغربي يقول في وصفه له :

يا ابن الذي بلسانه وبيانه

هدي الانام ونزل التنزيل

عن فضله نطق الكتاب وبشرت

بقدومه التوراة والانجيل

لو لا انقطاع الوحي بعد محمد

قلنا : محمد من أبيه بديل

هو مثله في الفضل إلا إنه

لم يأته برسالة جبريل (٣١)

وروى المؤرخون أن الامام (ع) لم ير ضاحكا ، وإذا ضحك يقول : « اللهم لا تمقتني » (٣٢) لقد ابتعد عن كل ما ينافي الوقار وسمو الشخصية ، وكان البارز من صفاته ذكر الله ، ففي جميع أوقاته كان لسانه مشغولا بذكر الله ، وسنذكر ذلك عند البحث عن مظاهر شخصيته.

نقش خاتمه :

أما نقش خاتمه فهو : « العزة لله جميعا » (٣٣) وكان يتختم بخاتم جده الامام الحسين (ع) وكان نقشه « إن الله بالغ أمره » (٣٤) وذلك مما يدل على انقطاعه التام إلى الله وشدة تعلقه به.

إقامته :

وأقام الامام (ع) طيلة حياته في يثرب دار الهجرة ، فلم يبرحها إلى بلد آخر ، وقد كان فيها المعلم الاول ، والرائد الاكبر للحركات العلمية والثقافية ، وقد اتخذ الجامع النبوي مدرسة له فكان فيه يلقي بحوثه على تلاميذه.

__________________

(٣١) المناقب ٤ / ١٨١.

(٣٢) صفة الصفوة ٢ / ٦٢ ، تذكرة الخواص ( ص ٣٤٩ ).

(٣٣) حيلة الاولياء ٣ / ١٨٩.

(٣٤) أعيان الشيعة ق ١ / ٤ / ١٦٩.

٢٨

فى ظلال الحسين وعلي

٢٩
٣٠

نشأ الامام أبو جعفر (ع) في بيت الرسالة ومهبط الوحي ، ومصدر الاشعاع في دنيا الاسلام ، وكان جده الامام الحسين (ع) وأبوه الامام زين العابدين يغذيانه بالمثل الكريمة ، ويفيضان عليه ما استقر في نفسيهما من الخير والهدى ، ويعلمانه السلوك النير والاتجاه السليم ليكون قدوة لهذه الأمة ... وفيما يلي عرض لنشأته في ظلال جده وأبيه.

فى ظلال جده :

وعنى الامام الحسين (ع) بتربية حفيده فأفرغ عليه أشعة من روحه المقدسة التي أضاءت آفاق هذا الكون ، وكان فيما يرويه المؤرخون ـ يجلسه في حجره ، ويوسعه تقبيلا ، ويقول له :

« إن رسول الله (ص) يقرؤك السلام ... » (١).

وهو اشعار من الجد لحفيده بأن النبي (ص) ينتظر منه القيام بدوره القيادي لأمته أن يفجر في ربوعها ينابيع الحكمة ، ويذيع فيها العلم ، ويهديها إلى سواء السبيل وشاهد الامام الباقر (ع) وهو في غضون الصبا جده الامام الحسين (ع) أيام المحنة الكبرى التي طافت به حينما أبتلي بطاغية زمانه ، وفرعون هذه الأمة يزيد بن معاوية الذي كان يشكل أعظم خطر على الاسلام ، وقد دعاه لبيعته ، والخنوع لحكمه ، فصرخ (ع) في وجهه ، وانطلق في مسيرته الخالدة ، ليرفع كلمة الله عالية في الارض ، ويؤدي رسالته الاسلامية بأمانة واخلاص ، فضحى بنفسه وأهل بيته وأصحابه بتلك التضحية المشرقة التي أقام بها مجد الاسلام ، وقضى بها على خصومه واعدائه ، وقد زخرت بالقيم الكريمة والمثل العليا ، وتفاعلت مع عواطف

__________________

(١) تاريخ دمشق ٥١ / ٣٨ ، سير اعلام النبلاء ٤ / ٢٤١ من مصورات مكتبة الحكيم.

٣١

الناس ومشاعرهم وهي تفيض بالعطاء السمح ، وتقدم أروع الدروس عن التضحية في سبيل الحق والواجب وستبقى ندية عاطرة في جميع الاحقاب والآباد وهي تمثل شرف الانسان وسمو قصده.

وقد جرت فصول تلك المأساة الخالدة أمام الباقر وهو في غضون الصبا ، يقول (ع) : « قتل جدي الحسين ولي أربع سنين ، واني لأذكر مقتله ، وما نالنا في ذلك الوقت » (٢)

وقد روى (ع) الكثير من فصولها ، وروى الطبري بسنده عنه بعض صورها ، كما الف جماعة من أعلام أصحابه كتبا اسموها ( مقتل الحسين ) دونوا فيها ما سمعوه منه ، ومن غيره أهوال كارثة كربلا ، ذكر الكثير منها ابن النديم في فهرسته وعلى أي حال فان تلك المأساة الخالدة قد تركت ـ من دون شك ـ في نفسه اعظم اللوعة والحزن ، وظلت مآسيها واشجانها ملازمة له طوال حياته.

فى ظلال ابيه :

عاش الامام أبو جعفر (ع) في كنف أبيه الامام زين العابدين (ع) ما يزيد على ( ٣٤ عاما ) وقد لازمه وصاحبه طيلة هذه المدة فلم يفارقه ، وقد تأثر بهديه المشرق الذي يمثل هدي الأنبياء والمرسلين ، فما رأى الناس مثل الامام زين العابدين (ع) في تقواه وورعه وزهده ، وشدة انقطاعه واقباله على الله ... ونلمع الى بعض أحواله وشئونه لأن سيرته قد انطبعت في قرارة نفس الامام الباقر وارتسمت في اعماق ذاته ، وفيما يلي ذلك :

__________________

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٦١.

٣٢

اكبار وتعظيم :

واجمع رجال الفكر والعلم في عصر الامام زين العابدين على تعظيمه واكباره وتقديمه بالفضل على غيره وهذه بعض كلماتهم.

١ ـ سعيد بن المسيب.

وغمرت هيبة الامام وعظمته سعيد بن المسيب فراح يقول : « ما رأيت قط افضل من علي بن الحسين ، وما رأيته قط إلا مقت نفسي ، ما رأيته يوما ضاحكا .. » (٣).

٢ ـ الزهري :

وهام الزهري بحب الامام يقول : « ما رأيت قرشيا أفضل منه » (٤) وقال : « ما رأيت أفقه من علي بن الحسين » (٥).

٣ ـ زيد بن اسلم :

يقول زيد بن اسلم : « ما رأيت مثل علي بن الحسين » (٦).

٤ ـ عمر بن عبد العزيز :

وقال عمر بن عبد العزيز لما أتاه نعي الامام : « ذهب سراج الدنيا ، وجمال الاسلام ، وزين العابدين » (٧).

٥ ـ أبو حازم :

يقول أبو حازم : « ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين » (٨).

__________________

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٤٦.

(٤) تهذيب التهذيب ٧ / ٣٠٥ ، وفي الحلية ( ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين ).

(٥) حلية الاولياء ٣ / ٣٠٩.

(٦) طبقات الفقهاء ( ص ٣٤ ).

(٧) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٤٨.

(٨) حلية الاولياء ٣ / ١٤١.

٣٣

٦ ـ مالك :

يقول مالك : « لم يكن في أهل بيت رسول الله (ص) مثل علي بن الحسين » (٩).

٧ ـ جابر بن عبد الله :

وممن هام بحب الامام الصحابي العظيم جابر بن عبد الله الانصاري يقول : « ما رؤي من أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين. » (١٠)

٨ ـ الواقدي :

يقول الواقدي : « كان علي بن الحسين من أورع الناس وأعبدهم واتقاهم لله عز وجل .. » (١١)

وحكت هذه الكلمات انطباعات هؤلاء الاعلام من الامام ، فقد اقروا جميعا على تقديمه بالفضل والعلم على غيره من ابناء الأسرة النبوية ـ في عصره ـ التي تمثل الكمال المطلق للإنسان.

سمو اخلاقه :

أما معالي أخلاقه فانها نفحة من روح الله يهتدي بها الحائر ويسترشد بها الضال وقد حاكى بهذه الظاهرة جده الرسول (ص) الذي امتاز على سائر النبيين بسمو اخلاقه.

وكان (ع) ـ فيما أجمع عليه المؤرخون ـ يقابل كل من اساء إليه بالعفو والصفح الجميل ، ويغدق عليه ببره ومعروفه ، ليقلع من نفسه جذور البغي والاعتداء على الغير ، وهذه بعض البوادر التي أثرت عنه.

__________________

(٩) تهذيب التهذيب ٧ / ٣٠٥.

(١٠) الامام زين العابدين ( ص ٧٣ ).

(١١) البداية والنهاية ٩ / ١٠٤.

٣٤

أ ـ يقول المؤرخون : إن اسماعيل بن هشام المخزومي كان واليا على يثرب ، وكان من أعظم المبغضين والحاقدين على آل البيت (ع) وكان يبالغ في إيذاء الامام زين العابدين ، ويشتم آباءه على المنابر ، تقربا الى حكام دمشق ، ولما ولي الوليد بن عبد الملك الخلافة بادر الى عزله والوقيعة به لهنات كانت بينه وبينه قبل أن يلي الملك والسلطان ، وقد أوعز بايقافه للناس لاستيفاء حقوقهم منه ، وفزع هشام كأشد ما يكون الفزع من الامام (ع) لكثرة إساءته له ، وقال : ما أخاف إلا من علي بن الحسين فانه رجل صالح يسمع قوله فيّ ، ولكن الامام عهد إلى أصحابه ومواليه ان لا يتعرضوا له بمكروه ، وخف إليه فقابله ببسمات فياضة بالبشر ، وعرض عليه القيام بما يحتاج إليه في محنته قائلا له :

« يا ابن العم عافاك الله لقد ساءني ما صنع بك فادعنا إلى ما احببت .. »

وذهل هشام ، وراح يقول بإعجاب :

( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) فيمن يشاء .. » (١٢)

ب ـ ومن معالي اخلاقه هذه البادرة التي ترفعه الى مستوى لم يبلغه أي مصلح كان عدا آبائه ، كما تدلل على امامته.

لقد روى المؤرخون أنه كان في كل يوم من شهر رمضان يذبح شاة ويطبخها ويوزعها على الفقراء والمحرومين ، وفي يوم حمل غلامه اناء فيه شيء من المرق وكان يغلى من شدة الحرارة فعثر الغلام باحد اطفال الامام ، فتوفي الطفل في الوقت ، فارتفعت الصيحة من العلويات ، وكان الامام يصلي فلما انفلت من صلاته أخبر بوفاة ولده فاسرع (ع) الى الغلام فرآه يوعد من شدة الخوف ، فقابله بلطف وحنان ، وقال له :

« لقد ظننت بعلي بن الحسين الظنون ، ظننت أنه يعاقبك ويقتص

__________________

(١٢) وسيلة المآل في عد مناقب الآل ( ص ٢٠٨ ).

٣٥

منك .. اذهب فأنت حر لوجه الله ، وهذه أربعة آلاف دينار هدية إليك ، واجعلني في حل من الخوف الذي داخلك من أجلي ... » (١٣).

أي نفس ملائكية هذه النفس ، إنها لتفوق نفوس عباد الله الصالحين الذين امتحن الله قلوبهم بالايمان ... لقد ورث هذه الاخلاق العظيمة من جده الرسول العظيم (ص) الذي أسس مكارم الاخلاق في الارض.

ج ـ ومن معالي اخلاقه أنه كان خارجا من المسجد فالتقى به رجل من شانئيه فقابل الامام بالسب والشتم فثار في وجهه بعض موالي الامام وأصحابه فنهرهم (ع) وأقبل على الرجل بلطف قائلا :

« ما ستر عليك من أمرنا أكثر ... الك حاجة نعينك عليها .. »

واستحيا الرجل وودّ أن الارض قد وارته ، وبان عليه الانكسار والندم ، وبادر نحوه الامام (ع) فالقى عليه خميصة ، وأمر له بألف درهم ، وطفق الرجل يقول :

« اشهد أنك من بني الرسل!! » (١٤).

هذه بعض البوادر من معالي اخلاقه التي تفيض بالرحمة والحلم ، ونكران الذات ... والحق ان اخلاق أهل البيت (ع) مدرسة تقوم على الشرف والنبل وعلى كل ما يسمو به الانسان.

نشره للعلم :

وانصرف الامام زين العابدين (ع) بعد كارثة كربلا الى نشر العلم واذاعته بين الناس ولم يقتصر على علم الحديث والفقه ، وإنما عنى بالأخلاق والآداب والفلسفة والحكمة.

وقد أمد الفكر الاسلامي بطاقات هائلة من العلم والحكمة وآداب

__________________

(١٣) صفة الصفوة.

(١٤) وسيلة المآل فى عد مناقب الآل ( ص ٢٠٨ ).

٣٦

السلوك حفلت بها صحيفته ، ورسالته في الحقوق ، وغيرهما من موسوعات الحديث وكتب الاخلاق ، وقد قام بدور إيجابي وبناء في ابراز مثل الاسلام وقيمه وتعاليمه.

حثه على طلب العلم :

وكان (ع) يحث المسلمين على طلب العلم ، ويدعوهم الى المبادرة في تحصيله لأنه الاداة الخلاقة لتطورهم وازدهار حياتهم يقول (ع) : « لو علم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج ، وخوض اللجج ».

وأوصى (ع) بعض أصحابه ببسط العلم ونشره ، وأن لا يتجبر على من يعلمه ، يقول (ع) :

« فان أنت احسنت في تعليم الناس ، ولم تتجبر عليهم زادك الله من فضله ، وإن أنت منعت علمك ، وأخرقت بهم عند طلبهم العلم منك كان حقا على الله عز وجل أن يسلبك العلم وبهاءه ، ويسقط من القلوب محلك. » (١٥)

تكريمه لطلاب العلوم :

وكان (ع) يعتني بطلاب العلوم ويرفع مكانتهم ، فاذا رأى أحدا منهم رحب به وقال له : « مرحبا بوصية رسول الله (ص) » ويقول الامام الباقر (ع) كان أبي زين العابدين اذا نظر الى الشباب الذين يطلبون العلم أدناهم إليه ، وقال : مرحبا بكم أنتم ودايع العلم ، ويوشك اذ أنتم صغار قوم أن تكونوا كبار آخرين (١٦).

__________________

(١٥) مكارم الاخلاق ( ص ١٤٣ ) لرضي الدين الطبرسي.

(١٦) الدر النظيم ( ص ١٨١ ) الانوار البهية ( ص ١٠٣ ).

٣٧

احتفاف القراء به :

واحتف القراء بالامام زين العابدين ، وكانوا لا يفارقونه فقد كانوا يكتسبون منه العلوم والمعارف والآداب ، وتحدث سعيد بن المسيب عن مدى ملازمتهم للإمام يقول : إن القراء كانوا لا يخرجون إلى مكة حتى يخرج علي بن الحسين ، فخرج وخرجنا معه الف راكب (١٧).

عتقه للموالى :

وكان الامام زين العابدين (ع) يعطف على الموالي كأشد ما يكون العطف ، فكان يشتريهم ، ويشتري نساءهم ، ويعتقهم جميعا لينعموا بالحرية والكرامة ، وإذا اعتقهم منحهم الأموال الطائلة ، والثراء العريض ليستغنوا عما في أيدي الناس.

وقد تبنى طائفة من الموالي فجعل يغذيهم بأنواع العلوم والمعارف ، وقد تخرج على يده مجموعة منهم كانوا من كبار العلماء في ذلك العصر ، وكان ذلك هو السبب في تزعم الموالي للحركة العلمية في تلك العصور ، كما ان ذلك هو السبب في انتشار الولاء لأهل البيت (ع) عندهم ، وانضمامهم لكل حركة سياسية تدعو الى التخلص من الحكم الاموي ، وارجاع الخلافة لاهل البيت (ع) الذين كانوا الملجأ لكل بائس ومحروم.

عبادته وتقواه :

وكان الامام زين العابدين من رهبان هذه الامة في عبادته وتقواه. وقد لقب بذي الثفنات لكثرة سجوده ، كما لقب بالمتهجد ، وزين العابدين ، وسيد العابدين (١٨) والسجاد وهي تشير الى كثرة عبادته ، وعظيم اقباله على الله ، وقد روى المؤرخون أنه إذا توضأ اصفر لونه ، فيقول له

__________________

(١٧) البحار ٢ / ٨٣.

(١٨) الدر النظيم ( ص ١٧٩ ).

٣٨

أهله : ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيقول لهم : أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ (١٩) وقد دخل عليه ولده الباقر فرآه قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد ، فقد اصفر لونه من السهر ورمصت عيناه من البكاء ودبرت جبهته من كثرة السجود ، وورمت ساقاه من القيام في الصلاة ، فلم يملك ولده نفسه من البكاء ، وكان الامام زين العابدين في شغل عنه ، فلما بصر بولده أمره ان يناوله بعض الصحف التي فيها عبادة جده الامام أمير المؤمنين (ع) فناوله تلك الصحف فجعل يتأمل فيها ، ثم تركها ضجرا وراح يقول :

« من يقوى على عبادة علي ابن أبي طالب » :

(٢٠) وكان (ع) إذا قام للصلاة بين يدي الله توجه بقلبه ومشاعره نحو الخالق العظيم ، فلا يشغله أي شأن من هذه الحياة ، ويقول الامام الباقر (ع) : كان أبي اذا وقف للصلاة لم يشتغل بغيرها ، ولم يسمع شيئا لشغله بها وقد سقط بعض ولده فانكسرت يده ، فصاح أهله وجيء بالمجبر فجبر يده والصبي يصرخ من شدة الالم ، والامام لم يسمع فلما اصبح ورأى الصبي قد شدت يده فسأل عن ذلك فأخبره أهله بذلك (٢١).

وقد أجهدته العبادة أي اجهاد ، فقد حمل نفسه من أمرها رهقا ، وقد خاف عليه أهله ، فراحوا يتوسلون إليه ليخفف من عبادته ، وهو يأبى ذلك ، يقول الامام الباقر (ع) : لما رأت فاطمة بنت الامام أمير

__________________

(١٩) درر الابكار في وصف الصفوة الاخيار من مصورات مكتبة الامام الحكيم.

(٢٠) أعلام الورى ( ص ٣٦٠ ) عيون الاخبار وفنون الآثار ( ص ١٥١ ـ ١٥٢ ) الدر النظيم ( ص ١٨٠).

(٢١) الدر النظيم ( ص ١٧٩ ).

٣٩

المؤمنين ما يفعل ابن أخيها علي بن الحسين بنفسه من الدأب في العبادة اقبلت الى جابر بن عبد الله الانصاري فقالت له :

« يا صاحب رسول الله إن لنا عليكم حقوقا ، ومن حقنا عليكم ان إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهادا أن تذكروه الله وتدعوه الى البقيا على نفسه ، وهذا علي بن الحسين بقية أبيه الحسين قد انخرم أنفه ، ونقبت جبهته وركبتاه وراحتاه مما دأب على نفسه في العبادة .. »

وانطلق جابر الى الامام زين العابدين فوجده في محرابه قد أضنّته العبادة ، واجهدته الطاعة ونهض الامام فاستقبل جابر ، واجلسه إلى جنبه ، وسأله سؤالا حفيا عن حاله ، واقبل جابر عليه قائلا :

« يا ابن رسول الله أما علمت أن الله تعالى إنما خلق الجنة لكم ولمن أحبكم ، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم ، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟ .. »

فاجابه الامام بلطف وحنان قائلا :

« يا صاحب رسول الله ، أما علمت أن جدي رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر ، فلم يدع الاجتهاد له وتعبد ـ بأبي وأمي ـ حتى انتفخ ساقه ، وورم قدمه ، وقد قيل له : أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : أفلا أكون عبدا شكورا ... »

ولما نظر جابر الى الامام لا يغنى معه قول يميل به من الجهد والتعب ، طفق يقول له : « يا ابن رسول الله ، البقيا على نفسك ، فانك من أسرة بهم يستدفع البلاء ، وبهم تستكشف الادواء ، وبهم تستمطر السماء ... »

فاجابه الامام بصوت خافت :

٤٠