بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

مستمرّ وتغيّر دائم ، نافذين في جوهر الأشياء وطبيعة العالم المادّي ، فذوات الأشياء في تجدّد دائم وانتثار متواصل والعالم حسب هذه النظريّة أشبه بنهر جار تنعكس فيه صورة القمر ، فالنّاظر الساذج يتصوّر أنّ هناك صورة منعكسة على الماء وهي باقية ثابتة والنّاظر الدقيق يقضي على أنّ الصّور تتبدّل حسب جريان الماء وسيلانه ، فهناك صور مستمرّة.

وعلى ضوء هذه النظرية ، العالم المادّي أشبه بعين نابعة من دون توقّف حتّى لحظة واحدة ، فإذا كان هذا حال العالم المادّي ، فكيف يصحّ لعاقل أن يقول إنّ العالم ، ومنه الإنسان ، إنّما يحتاج إلى العلّة في حدوثه دون بقائه ، مع أنّه ليس هنا أيّ بقاء وثبات ، بل العالم في حدوث بعد حدوث وزوال بعد زوال ، على وجه الاتصال والاستمرار بحيث يحسبه الساذج بقاء وهو في حال الزّوال والتبدّل والسيلان ( وتَرى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وهي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ) ( النمل / ٨٨ ) (١).

الوجه الثالث : إنّ القول بحاجة الممكن إلى العلّة في حدوثه دون بقائه غفلة عن واقعيّة المعلول ونسبته إلى علّته ، فإنّ وزانه إليها وزان المعنى الحرفي بالنّسبة إلى المعنى الاسمي ، فكما أنّه ليس للأوّل الخروج عن إطار الثاني في المراحل الثلاث : التصوّر ، والدّلالة ، والتّحقق ، فهكذا المعلول ليس له الخروج عن إطار العلّة في حال من الحالين الحدوث والبقاء.

فإذا كان هذا حال المقيس عليه فاستوضح منه حال المقيس. فإنّ المفاض منه سبحانه هو الوجود ، وهو لا يخلو عن إحدى حالتين : إمّا وجود واجب ، أو ممكن ، والأوّل خلف لأنّ المفروض كونه معلولاً ، فثبت الثاني ، وما هو كذلك لا يمكن أن يخرج عمّا هو عليه ( أي الامكان ). فكما هو ممكن حدوثاً ممكن بقاء ، ومثل ذلك لا يستغني عن الواجب في حال من الحالات. لأنّ الاستغناء آية انقلابه عن الامكان إلى الوجوب وعن الفقر إلى الغنى.

__________________

١ ـ البحث عن الحركة الجوهرية طويل الذيل. لاحظ كتاب ( الله خالق الكون : ص ٥١٤ ـ ٥٦٠ ) تجد فيه بغيتك.

٣٦١

نعم ، ما ذكرنا من النّسبة إنّما يجري في العلل والمعاليل الإلهيّة لا الفواعل الطّبيعيّة ، فالمعلول الإلهي بالنّسبة إلى علّته هو ما ذكرنا ، والمراد من العلّة الإلهيّة مفيض الوجود ومعطيه ، كالنّفس بالنسبة إلى الصّور الّتي تخلقها في ضميرها ، والارادة الّتي توجدها في موطنها ، ففي مثل هذه المعاليل تكون نسبة المعلول إلى العلّة كنسبة المعنى الحرفي إلى الاسمي.

وأمّا الفاعل الطّبيعي ، كالنّار بالنّسبة إلى الاحراق ، فخارج عن إطار بحثنا ، إذ ليس هناك علّيّة حقيقيّة ، بل حديث العلّيّة هناك لا يتجاوز عن تبديل أجزاء النّار إلى الحرارة ، وذلك كما هو الحال في العلل الفيزيائيّة والكيميائيّة ، فالعلّيّة هناك تبدّل عنصر إلى عنصر في ظلّ شرائط وخصوصيات توجب التبدّل ، وليس هناك حديث عن الايجاد والاعطاء.

وعلى ذلك فالتّفويض ـ أي استقلال الفاعل في الفعل ـ يستلزم انقلاب الممكن وصيرورته واجباً في جهتين :

الاُولى : الاستغناء في جانب الذات من حيث البقاء.

الثانية : الاستغناء في جانب نفس الفعل مع أنّ الفعل ممكن مثل الذّات.

الوجه الرابع : إنّ القول بالتّفويض يستلزم الشّرك ، أي الاعتقاد بوجود خالقين مستقلّين أحدهما العلّة العليا الّتي أحدثت الموجودات والكائنات والإنسان ، والاُخرى الإنسان بل كلّ الكائنات ، فإنّها تستقلّ بعد الخلقة والحدوث في بقائها أوّلاً ، وتأثيراتها ثانياً.

فلو قالت المعتزلة بالتّفصيل بين الكائنات والإنسان ونسبت آثار الكائنات إلى الواجب ، فهو لأجل أنّها لا تزاحم العدل دون الإنسان ، وعلى ما ذكرنا يكون التفصيل بلا دليل.

ثمّ إنّ القوم استدلّوا على المسألة العقليّة ( غناء الممكن في بقائه عن العلّة ) ، بالأمثلة المحسوسة ، منها : بقاء البناء والمصنوعات بعد موت البنّاء والصانع ، ولكنّ

٣٦٢

التّمثيل في غير محلّه ، لأنّ البنّاء والصانع فاعلان للحركة أي ضمّ بعض الأجزاء إلى بعض والحركة تنتهي بانتهاء عملهما فضلاً عن موتهما. وأمّا بقاء البناء والمصنوعات فهو مرهون للنّظم السائد فيهما ، فإنّ البناء يبقى بفضل القوى الطبيعيّة الكامنة فيه ، الّتي أودعها الله سبحانه في صميم الأشياء فليس للبنّاء والصانع فيها صنع ، وأمّا الهيئة والشّكل فهما نتيجة اجتماع أجزاء صغيرة ، فتحصّل من المجموع هيئة خاصّة وليس لهما فيها أيضاً صنع.

تمثيلان لإيضاح الحقيقة

الحقّ إنّ قياس المعقول بالمحسوس الّذي ارتكبته المعتزلة ـ لو صحّت النسبة ـ قياس غير تام ، ولو أراد المحقّق القياس والتّمثيل فعليه أن يتمسّك بالمثالين التّاليين :

الأوّل : إنّ مثل الموجودات الإمكانيّة بالنسبة إلى الواجب ، كمثل المصباح الكهربائي المضيء ، فالحسّ الخاطئ يزعم أنّ الضوء المنبعث من هذا المصباح هو استمرار للضّوء الأوّل ، ويتصوّر أنّ المصباح إنّما يحتاج إلى المولِّد الكهربائي في حدوث الضّوء دون استمراره. والحال إنّ المصباح فاقد للاضاءة في مقام الذّات ، محتاج في حصولها إلى ذلك المولِّد في كلِّ لحظة ، لأنّ الضوء المتلألئ من المصباح إنّما هو استضاءة بعد استضاءة واستنارة بعد استنارة ، من المولّد الكهربائي ، أفلا ينطفئ المصباح إذا انقطع الاتّصال بينه وبين المولّد؟ فالعالم يشبه هذا المصباح الكهربائي تماماً ، فهو لكونه فاقداً للوجود الذّاتي يحتاج إلى العلّة في حدوثه وبقائه ، لأنّه يأخذ الوجود آناً بعد آن ، وزماناً بعد زمان.

الثاني : نفترض منطقة حارّة جافّة تطلع عليها الشمس بأشعّتها المحرقة الشديدة. فإذا أردنا أن تكون تلك المنطقة رطبة دائماً بتقطير الماء عليها ، وإفاضته بما يشبه الرذاذ (١) ، فإنّ هذا الأمر يتوقّف على استمرار تقاطر الماء عليها ، ولو انقطع لحظة ساد

__________________

١ ـ المطر الضعيف

٣٦٣

عليها الجفاف ، وصارت يابسة.

فمثل الممكن يتّصف بالوجود باستمرار ، مثل هذه الأرض المتّصفة بالرطوبة دائماً ، فكما أنّ الثاني رهن استمرار إفاضة قطرات الماء عليها آناً بعد آن ، فهكذا الأوّل لا يتحقّق إلاّ باستمرار إفاضة الوجود عليه آناً بعد آن ، ولو انقطع الفيض والصِّلة بينه وبين المفيض لانعدم ولم يبق منه أثر.

تعلّق مقدور واحد بقادرين أو قدرتين

قد سبق أن القاضي اعتمد على هذا الوجه (١) في نفي صلة فعل العبد بالله سبحانه ، وزعم أنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقه للّه سبحانه يستلزم تعلّق المقدور الواحد بقادرين أو بقدرتين ، وهذا أمر محال سواء أكانا حادثين أم قديمين ، أم كان أحدهما حادثاً والآخر قديماً.

وقد خصّص القاضي الجزء الثّامن من أجزاء موسوعته « المغني » بالجبر والاختيار ، وأسماه « المخلوق » ويشتمل على عشرين فصلاً ، عرض فيها آراء المعتزلة المتنوِّعة في خلق الأفعال وناقش خصومهم ، وردّ على شبهاتهم.

وقد عقد فصلاً خاصّا (٢) لهذا الأمر ، واستدلّ على الامتناع بأدلّة عشر أو أزيد ، وهو أبسط الفصول وأوسعها من بينها ، وقد فات على القاضي تحرير محلِّ النّزاع ، وأنّ المراد من القدرتين ما هو. فهل المراد القدرتان العرضيّتان أو الطوّليتان؟

فإن كان المراد هو الاُولى فاستحالة اجتماع قدرتين تامّتين عرضيّتين على مقدور واحد لا يحتاج إلى الاطناب الّذي ارتكبه القاضي ، لأنّه ينتهي إلى خلف الفرض ، وتخرج العلّة التامّة عن كونها علّة تامّة ، وتصير علّة ناقصة.

لأنّ المقدور بعد التحقّق إمّا أن ينسب إلى كلتا القدرتين ، بحيث يكون لكلِّ منهما تأثير ودخالة ، فتعود العلّة التامّة إلى العلّة الناقصة ، والقادر التامّ إلى القادر غير

__________________

١ ـ لاحظ ص ٣٥٠ من هذا الجزء.

٢ ـ المغني : الجزء ٨، ص ١٠٩ ـ ١٦١.

٣٦٤

التامّ وهو خلف الفرض ، وهذا كما إذا اشترك رجلان في رفع الصّخرة ، مع قدرة كلِّ منهما على الرّفع وحده. فعند ذاك لا يعدّ كل منهما علّة تامّة في مقام الرفع.

وإمّا أن ينسب إلى واحدة منهما دون الاُخرى ، وهذا هو المطلوب.

وإمّا أن لا ينسب إلى واحدة منهما ، فكيف خرج عن كتم العدم ، مع أنّ حاجة الحادث إلى العلّة أمر واضح.

وأمّا اجتماع قدرتين عرضيّتين لكن ناقصتين على مقدور واحد ، فلا يترتّب عليه محذور أبداً.

واللائق بالبحث غير هاتين الصورتين ، فإنّ قدرة الله سبحانه وقدرة العبد ليستا في عرض واحد ، بل الثانية في طول الاُخرى ، فهو الّذي خلق العبد ، وحباه القدرة ، وأقدره على الايجاد وهو في كلِّ آن وحين يستمدُّ من مواهب ربّه. فالعبد وكلّ ما في الكون من علل وأسباب ، جنوده وقواه ، بين فاعل بالاختيار ، ومؤثّر بالاضطرار. فللفعل صلة بقدرة العبد ، كما أنّ له صلة بالله سبحانه وقدرته. وبوجه بعيد كالرؤية والسّماع ، فهما فعلان للأجهزة الظاهريّة من العين والسمع ، وفي الوقت نفسه فعلان للنفس القاهرة على قواه الباطنيّة والظاهريّة. فاجتماع قدرتين مثل هاتين لا يستلزم شيئاً من الاشكالات.

إنّ المعتزلة لم تجد في حلِّ مشكلة فعل الإنسان إلاّ سلوك أحد الطّريقين وزعمت أنّه لا طريق غيرهما ينتهي أحدهما إلى الجبر ، والآخرى إلى التفويض.

١ ـ صلة الفعل بالله سبحانه وانقطاعه عن العبد ، فعند ذاك يقال : فعلام يحاسَب العبد ويعاقب؟

٢ ـ نسبة الفعل إلى العبد وانقطاعه عن بارئه ، فيسأل : هل هناك أفعال تجاوز قدرة الله وهل يصدر في ملكه ما لا يريد؟

فالأشاعرة استسهلوا الاشكال الأوّل ونسبوا الفعل إلى الله سبحانه وصوّروا العبد محلاً لارادته وقدرته سبحانه ، من دون أن يقميوا لإرادة العبد وقدرته وزناً وقيمة.

٣٦٥

والمعتزلة اختارت الثاني واستسهلت وقوع ظاهرة خارجة عن سلطانه سبحانه.

ولو أنّ القوم وقفوا على الطّريق الثالث الّذي يتنزّه عن فساد المسلكين ويجمع مزيّتهما ، لأعرضوا عنهما والتجأوا إلى الحقّ اللاّحب وهو القول بالأمر بين الأمرين ، فللفعل صلة لخالق العبد ، كما أنّ له صلة لفاعل الفعل ، ولكنّ المسؤولية متوجّهة على العبد ، إذ هو الّذي يصرف القدرة الموهوبة عن اختيار فيما يختاره من الأفعال ويعمل من الأعمال. وسوف تقف على حقيقة الحال عند بيان عقائد الإماميّة فانتظر.

المسألة الثالثة :

في تقدّم الاستطاعة على الفعل

اختلفت المعتزلة والأشاعرة في تقدّم القدرة على المقدور ، فالطّائفة الاُولى على لزوم تقدُّمها عليه والثانية على لزوم المقارنة بينهما.

وكان الأولى البحث عن هذه المسألة فى باب القدرة. غير أنّ القاضي طرحه في باب العدل وقال : « ووجه اتّصاله به أنّه يلزم على القول بمقارنتها للمقدور ، تكليف ما لا يطاق وذلك قبيح ، ومن العدل أن لا يفعل القبيح ».

ثمّ استدلّ على مذهبه بوجهين :

الأوّل : لو كانت القدرة مقارنة لمقدورها لوجب أن يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفاً بما لا يطاق ، إذ لو أطاقه لوقع منه ، فلمّا لم يقع دلّ على أنّه كان غير قادر عليه. وتكليف ما لا يطاق قبيح.

الثّاني : إنّ القدرة صالحة للضدّين ، فلو كانت مقارنة لهما لوجب بوجودها وجود الضّدّين ، فيجب في الكافر وقد كلّف بالإيمان ، أن يكون كافراً مؤمناً دفعة واحدة ، وذلك محال (١).

__________________

١ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٣٩٦.

٣٦٦

يلاحظ على الاستدلال الأوّل : أنّه مبنيّ على تفسير القدرة بالعلّة التامّة الّتي يكون الفعل معها ضروريّ الوجود فيصحّ كلّ ما جاء فيه. وذلك لأنّ التّكليف مشروط بالقدرة ، والقدرة المفسّرة بالعلّة التامّة لا تنفكّ عن المقدور. فيستكشف عند عدم اعتناقه له بعد التّكليف ، فقدان القدرة والطّاقة ، إذ لو كانت لآمنت ، لاستحالة انفكاك العلّة التامّة عن معلولها. فيلزم تكليف ما لا يطاق وهو قبيح.

هذا ، ولكنّ المستدلّ غفل عن أنّ المراد من القدرة هو الاستعداد للفعل بحيث لو أراد وقع ، ومثل هذا لا يستلزم وجود المقدور ، ولا يستكشف من عدمه عدمه ، لأنّ الاستعداد للفعل ليس علّة تامّة للمقدور.

فللأشعري أن يلتزم باقتران القدرة للفعل في تكليف أبي جهل ، ولا يترتّب عليه أيّ تال فاسد عند امتناعه.

ويلاحظ على الثاني : أنّه فسِّرت القدرة فيه على خلاف ما فسّرت به في الدّليل الأوّل. ومبنى استدلاله في هذا الدّليل هو تفسير القدرة بالعلّة الناقصة والاستعداد ، لوضوح أنّ القدرة بهذا المعنى صالحة للضدّين ، لا القدرة بمعنى العلّة التامّة ، فلو قلنا باقترانها بالمقدور يصحّ أن نقول : إنّ القدرة صالحة للضدّين ولكن لا يلزم منه أن يكون مؤمناً وكافراً.

وبالجملة : كونها صالحة للضدّين مبنيّ على كونها علّة ناقصة ، ولزوم كون الإنسان مؤمناً وكافراً معاً ، مبنيّ على كونها علّة تامّة. فالاستدلال الواحد مبنيّ على مبنيين مختلفين.

والحقّ إنّ المسألة غير منقّحة في كلام الطّائفتين ، إذ لم ينقّح موضوع البحث ، ولا المراد من القدرة. فالحقّ هو التّفصيل بين القدرة بمعنى الاقتضاء فهي مقدّمة على الفعل ، والعلّة التامّة فمقارنة له (١).

__________________

١ ـ لاحظ الجزء الثاني من كتابنا هذا : ص ١٧٢.

٣٦٧

المسألة الرابعة :

في قبح التكليف بما لا يطاق

القول بجواز التّكليف بما لا يطاق نشأ من المسألة السابقة. ولو كانت السابقة منقّحة من حيث الموضوع والحكم ، لما اندفعت الأشاعرة إلى اختيار الجواز في هذه المسألة الّتي يشهد العقل السّليم بقبحه أوّلاً وعدم إمكانه ثبوتاً ثانياً ، إذ كيف يريد الإنسان بالارادة الجدّيّة الركض من الفالج ، والنّكاح من الطّفل الرضيع؟

ولكنّهم لمّا فسّروا القدرة بالعلّة التامّة من جانب ، واعتقدوا بلزوم اقترانها بالمقدور من جانب آخر ، واستنتجوا من عدم الاعتناق عدم القدرة ، فلزمهم عند تكليف الكفّار بالإيمان وعدم اعتناقهم ، القول بجواز التّكليف بما لا يطاق ، وإنّه كان هناك تكليف للكافر ، ولم تكن له طاقة ، وذلك لأنّه لو كانت له طاقة لآمن قطعاً. فبقاؤه على الكفر يكشف عن عدم قدرته ، إذ لو كانت لآمن قطعاً لحديث امتناع الانفكاك. فينتج أنّ التّكليف كان موجوداً ولم يكن هناك قدرة.

غير أنّ الأشعري ومن قبله ومن بعده ، لو فسّروا القدرة الّتي هي من شرائط التّكليف بمعنى العلّة الناقصة والاقتضاء ، لما لزمهم الالتزام بهذه النّتيجة الفاسدة ، حتّى ولو قالوا بلزوم الاقتران. ففي مورد أبي جهل وأبي لهب كان هناك تكليف أوّلاً ، وطاقة بمعنى الاستعداد والاستطاعة على نحو لو أراد كلّ لآمن ثانياً ، وكانت القدرة بهذا المعنى مقارنة للتّكليف ثالثاً. ولكن عدم إيمانه وإصراره على الكفر ، لايكشفعنفقدان الشّرط ، لأنّ الاستطاعة بمعنى الاقتضاء أعمّ من تحقّق المعلول معها وعدمه.

والعجب أنّ هؤلاء استدلّوا بآيات على ما يتبنّونه من جواز التّكليف بالقبيح. وبذلك عرّفوا الإسلام والقرآن مناقضين للفطرة وحكم العقل وإدراك العقلاء ـ أعاذنا الله من سوء الموقف.

٣٦٨

وبما أنّ الاجابة عن الاستدلال بالآيات واضحة ، طوينا الكلام عن استدلالاتهم ، روماً للاختصار ولما سبق منّا في الجزء الثاني في تحليل عقائد الأشعري (١).

المسألة الخامسة :

في أنّ الله لا يريد المعاصي

ذهبت المعتزلة إلى أنّه لا يجوز أن يكون سبحانه مريداً للمعاصي. وأوضح القاضي وجه صلة هذا البحث بباب العدل بأنّ الارادة فعل من الأفعال ، ومتى تعلّقت بالقبيح كانت واجبة لا محالة ، وكونه تعالى عدلاً يقتضي أن تنفى عنه هذه الارادة (٢).

المعتزلة ينظرون إلى المسألة من زاوية التّنزيه فيتصوّرون أنّ تنزيه الرّبِّ يتحقق بعدم تعلّق إرادته بالقبائح ، لأنّ من أراد القبيح يتّصف فعله بالقبح ويسري إلى الفاعل ، بينما يريد الأشعري تعظيم الرّب ، وأنّه لا يكون في ملكه ما لا يريد ويذهب إلى سعة إرادته.

وقد نقل التفتازاني في « شرح المقاصد » أنّه دخل القاضي عبد الجبّار ( ت ٤١٥ هـ ) دار الصاحب بن عبّاد ( ت ٣٨٥ هـ ) فرأى الاُستاذ أبا إسحاق الإسفرائيني ( ت ٤١٣ هـ ) ، فقال القاضي : « سبحان من تنزّه عن الفحشاء » ( مزدرياً بالاسفرائيني بأنّه لأجل القول بسعة إرادته يصفه سبحانه بالفحشاء ) فأجابه الاسفرائيني بقوله : « سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء » إيماءً بأنّ القاضي لأجل قوله بضيق إرادته سبحانه ، يعتقد بأنّ هناك أشياء تقع في سلطانه ومملكته خارجة عن مشيئته » (٣).

لكنّ القولين بين الافراط والتّفريط. وما يتبنّيانه من الغاية ( التّنزيه والتّعظيم ) يحصل برفض القولين ، والاعتناق بالقول الثّالث الّذي هو مذهب بين المذهبين ، وأمر

__________________

١ ـ لاحظ الجزء الثاني من هذه الموسوعة : ص ١٩٣.

٢ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٤٣١.

٣ ـ انظر شرح المقاصد : ج ٢، ص ١٤٥.

٣٦٩

بين الأمرين.

وهذا المذهب هو المرويّ عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ويوافقه العقل وتؤيّده نصوص الكتاب ، وهو جامع بين المزيّتين ومنزّهٌ عن شناعة القولين.

فالمعتزلة ، وإن أصابوا في تنزيه الرّبّ عن القبائح ، لكنّهم أخطأوا في تحديد سلطنته بإخراج أفعال عباده عن إحاطة إرادته وسلطنته وملكه ، فصوّروا الإنسان فاعلاً يفعل بارادته ، ويعمل بمشيئته مستقلاً بلا استمداد من ارادته ومشيئته سبحانه.

والأشاعرة ، وإن أصابوا في إدخال أفعال العباد في ملكه وسلطنته ، لكنّهم أخطأوا في جعل أفعال العباد مرادة للّه بالارادة المباشريّة. فصار هناك مريد واحد وهو الله سبحانه وغيره من الفواعل مظاهر إرادته. وهذا يستلزم كونه سبحانه هو المسؤول عن القبائح لكونه الفاعل لها.

وأمّا القول الثالث فهو عبارة عن سعة إرادته لكلِّ ظاهرة امكانيّة ، لكن لا بمعنى كونه سبحانه هو المصدر المباشر لكلِّ شيء ، بل بمعنى أنّه تعلّقت إرادته على صدور كلِّ فعل عن فاعله بما فيه من الخصوصيّات ، فلو صدر عنه بلا هذه الخصوصيّات لزم تخلّف مراده عن إرادته ، فتعلّقت ارادته سبحانه على كون النّار مصدراً للحرارة بلا علم وشعور ، بل عن جبر واضطرار. كما تعلّقت إرادته على صدور فعل الإنسان عنه باختيار ذاتيّ وحرّيّة فطريّة.

وباختصار ، شاء أن يكون الإنسان مختاراً في فعله وعمله. فإذا اختار وفعل فقد فعل بارادته ، كما فعل بارادة الله سبحانه. وليست الارادة الأزليّة منافية لحرّيّته واختياره ، وقد أوضحنا ذلك في أبحاثنا الكلاميّة (١). فلاحظ.

وهناك كلام للشّهيد الأجلّ محمّد بن مكّي ( المتوفى عام ٧٨٦ هـ ) عند بحثه عن تضافر الأخبار على أنّ صلة الأرحام تزيد في العمر ، يقرب ممّا ذكرناه ، قال قدس‌سره :

__________________

١ ـ لاحظ : الالهيات على ضوء الكتاب والسنة والعقل ، ص ٦٣٢، والجزء الثاني من هذه الموسوعة ، ص ٣٠٢.

٣٧٠

« أُشكل هذا بأنّ المقدّرات في الأزل ، والمكتوبات في اللّوح المحفوظ لا تتغيّر بالزيادة والنقصان لاستحالة خلاف معلوم الله تعالى ، وقد سبق العلم بوجود كلِّ ممكن أراد وجوده وبعدم كلِّ ممكن أراد بقاءه على حالة العدم أو إعدامه بعد ايجاده ، فكيف يمكن الحكم بزيادة العمر ونقصانه بسبب من الأسباب؟ ».

ثمّ أجاب وقال : « إنّ الله تعالى كما علم كميّة العمر ، علم ارتباطه بسببه المخصوص، وكما علم من زيد دخول الجنّة ، جعله مرتبطاً بأسبابه المخصوصة ، من إيجاده ، وخلق العقل له ، وبعث الأنبياء ونصب الألطاف ، وحسن الاختيار ، والعمل بموجب الشّرع ، فالواجب على كلِّ مكلّف الاتيان بما أُمر به ، ولا يتّكل على العلم ، فإنّه مهما صدر منه فهو المعلوم بعينه.

وبالجملة : جميع ما يحدث في العالم ، معلوم للّه تعالى على ما هو عليه واقع ، من شرط أو سبب وليس نصب صلة الرحم زيادة في العمر إلاّ كنصب الإيمان سبباً في دخول الجنّة » (١).

ولو أمعنت فى أطراف كلامه تجد أنّه ( قدّس الله سرّه ) يشير إلى نفس الجواب الّذي بيّناه خصوصاً قوله « جعله مرتبطاً بأسبابه المخصوصة من إيجاده .. وحسن الاختيار » وقوله : « جميع ما يحدث في العالم معلوم للّه تعالى على ما هو عليه ... ».

المسألة السادسة :

في وجوب اللّطف

اشتهرت العدليّة بوجوب اللّطف (٢) على الله سبحانه ، وخالفتهم الأشعريّة وبشر

__________________

١ ـ القواعد والفوائد : ج ٢، ص ٥٦، القاعدة ١٦٣.

٢ ـ المراد من الوجوب كونه مقتضى الحكمة ، أو الجود والكرم ، لا الوجوب بالمعنى المتبادر في أوساط الناس من حاكمية العباد على الله ، وكون تركه مستلزماً للذم واللوم أو العقاب ، وعلى ذلك فالحكم مستكشف العقل باعتبار ملاحظة أوصافه الجميلة. وعلى أيّ تقدير فمن قال به فإنما قال به من باب الحكمة ، تحصيلاً لهدف الخلقة ، أو هدف التكليف ، أو من باب الجود والكرم ، وأما إيجابه من باب العدل فلم يعلم له معنى محصل.

٣٧١

ابن المعتمر من معتزلة بغداد ، وإيضاح الحقّ يستدعي البحث عن أُمور :

الأوّل : تعريف اللّطف وبيان حقيقته وأقسامه.

إنّ اللّطف ، في اصطلاح المتكلّمين ، يوصف بوصفين :

١ ـ اللّطف المُحَصِّل.

٢ ـ اللّطف المُقَرِّب.

وهناك مسائل تترتّب على اللّطف بالمعنى الأوّل ، ومسائل أُخرى تترتّب على اللّطف بالمعنى الثاني ، وربّما يؤدّي عدم التّمييز بين المعنيين إلى خلط ما يترتّب على الأوّل بما يترتّب على الثاني .. ولأجل الاحتراز عن ذلك نبحث عن كلّ منهما بنحو مستقل.

١ ـ اللُّطف المحصِّل

اللُّطف المحصِّل : عبارة عن القيام بالمبادئ والمقدّمات الّتي يتوقّف عليها تحقّق غرض الخلقة ، وصونها عن العبث واللّغو ، بحيث لولا القيام بهذه المبادئ والمقدّمات من جانبه سبحانه ، لصار فعله فارغاً عن الغاية ، وناقَضَ حكمته الّتي تستلزم التحرّز عن العبث ، وذلك كبيان تكاليف الإنسان وإعطائه القدرة على امتثالها.

ومن هذا الباب بعث الرّسل لتبيين طريق السّعادة ، وتيسير سلوكها. وقد عرفت في الأدلّة السابقة ، أنّ الإنسان أقصر من أن ينال المعارف الحقّة ، أو يهتدي إلى طريق السّعادة في الحياة بالاعتماد على عقله ، والاستغناء عن التّعليم السماوي.

ووجوب اللّطف بهذا المعنى ، ليس موضع مناقشة لدى القائلين بحكمته سبحانه ، وتنزيهه عن الفعل العبثي الّذي اتّفق عليه العقل والنقل (١). وإنّما الكلام في « اللّطف المقرِّب » ، وإليك البيان فيه :

____________

١ ـ لاحظ سورة الذاريات : الآية ٥٦ وسورة المؤمنون : الآية ١١٥.

٣٧٢

٢ ـ اللُّطف المقرِّب

اللّطف المقرِّب : عبارة عن القيام بما يكون محصِّلا لغرض التّكليف بحيث لولاه لما حصل الغرض منه وذلك كالوعد والوعيد ، والتّرغيب والتّرهيب ، الّتي تستتبع رغبة العبد إلى العمل ، وبعده عن المعصية (١).

وهذا النّوع من اللّطف ليس دخيلاً في تمكين العبد من الطّاعة ، بل هو قادر على الطّاعة وترك المخالفة سواء أكان هناك وعد أم لا ، فإنّ القدرة على الإمتثال رهن التعرّف على التّكليف عن طريق الأنبياء ، مضافاً إلى إعطاء الطّاقات الماديّة ، والمفروض حصول هذه المبادئ والمقدّمات ، غير أنّ كثيراً من النّاس لا يقومون بواجبهم بمجرّد الوقوف على التّكليف ما لم يكن هناك وعد ووعيد وترغيب وترهيب ، فهذا النوع من اللّطف قد وقع موقع النِّقاش بين المتكلِّمين.

والحقّ هو القول بوجوب اللّطف إذا كان غرض التّكليف ( لا غرض الخلقة ) موقوفاً عليه عند الأكثريّة الساحقة من المكلّفين.

مثلاً لو فرضنا أنّ غالب المكلّفين ، لا يقومون بتكاليفهم بمجرّد سماعها من الرّسل ـ وان كانوا قادرين عليها ـ إلاّ إذا كانت مقرونة بالوعد والوعيد ، والتّرغيب والتّرهيب ، وجب على المكلِّف القيام بذلك ، صوناً للتّكليف عن اللّغوية ، ولو أهملها المكلِّف ترتّب عليه بطلان غرضه من التّكليف ، وبالتالي بطلان غرضه من الخلقة.

وفي الكتاب والسنّة إشارات إلى هذا النوّع من اللّطف. يقول سبحانه :

__________________

١ ـ عرّف اللطف المقرب بأنه هيئة مقربة الى الطاعة ومبعدة عن المعصية ، من دون أن يكون له حظّ في التمكين وحصول القدرة ، ولا يبلغ حدّ الالجاء.

فخرج بالقيد الأوّل ( لم يكن له حظ... ) اللطف المحصّل ، فإنّ له دخالة في تمكين المكلّف من الفعل بحيث لولاه لانتفت القدرة.

وخرج بالقيد الثاني ( لا يبلغ حدّ الإلجاء ) الإكراه والإلزام على الطاعة والاجتناب عن المعصية ، فإنّ ذلك ينافي التكليف الذي يتطلب الحرية والاختيار في المكلف ( لاحظ : كشف المراد ، ص ٢٠١، ط صيدا ).

وقال القاضي عبد الجبار : « اللطف هو كل ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنب القبيح ، أو ما يكون عنده أقرب إمّا إلى اختيار الواجب أو ترك القبيح » ( شرح الاصول الخمسة : ص ٥١٩ ).

٣٧٣

( وَبَلَوناهُم بالحَسَناتِ والسّيئاتِ لعلَّهُم يَرجِعون ) ( سوره الأعراف / ١٦٨ )

والمراد من الحسنات والسّيئات ، نعماء الدّنيا وضرّاؤها ، وكأنّ الهدف من ابتلائهم بهما هو رجوعهم إلى الحقّ والطّاعة.

و يقول سبحانه : ( وما أرسَلْنَا في قَرْيَة مِن نَبِىّ إلاّ أخَذْنا أهلَها بالبَأْساءِ والضََّرّاءِ لَعَلَّهُم يَضّرّعُون ) ( سوره الأعراف / ٩٤ ) وفي الآية إشارة إلى كلا القسمين من اللّطف ، ومفاد الآية أنّ الله تعالى أرسل رسله لإِبلاغ تكاليفه إلى العباد وإرشادهم إلى طريق الكمال ( اللّطف المحصِّل ) ، غير أنّ الرّفاه والرّخاء والتوغّل في النّعم المادّية ، ربّما يسبِّب الطّغيان وغفلة الإِنسان عن هدف الخلقة وإجابة دعوة الأنبياء ، فاقتضت حكمته تعالى أخذهم بالبأساء والضرّاء ، لعلّهم يَضّرّعون ويبتهلون إلى الله تعالى.

ولأجل ذلك نشهد أنّ الأنبياء لم يكتفوا باقامة الحجّة والبرهان ، والإتيان بالمعاجز، بل كانوا ـ مضافاً إلى ذلك ـ مبشِّرين ومنذرين ، وكان التّرغيب والتّرهيب من شؤون رسالتهم ، قال تعالى : ( رُسُلاً مُبَشِّرين ومُنذِرينَ ) ( سورة النساء / ١٦٥ ) والإنذار والتّبشير دخيلان في رغبة النّاس بالطّاعة وابتعادهم عن المعصية.

وفي كلام الإِمام عليّ عليه‌السلام إشارة إلى هذا :

قال عليه‌السلام : « أيّها الناس ، إنّ الله تبارك وتعالى لمّا خلق خلقَه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة ، فعلم أنّهم لم يكونوا كذلك إلاّ بأن يعرّفهم ما لهم وما عليهم ، والتّعريف لا يكون إلاّ بالأمر والنّهي (١) ، والأمر والنّهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد ، والوعد لا يكون إلاّ بالتّرغيب ، والوعيد لا يكون إلاّ بالتّرهيب ، والتّرغيب لايكون إلاّ بما تشتهيه أنفسهم وتلذّه أعينهم ، والتّرهيب لا يكون إلاّ بضدّ ذلك ... الخ » (٢).

وقوله عليه‌السلام : « والأمر والنّهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد » إشارة إلى أنّ

__________________

١ ـ هذا إشارة إلى اللطف المحصل.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٥، كتاب العدل والمعاد ، الباب الخامس عشر ، الحديث ١٣، ص ٣١٦.

٣٧٤

امتثال الأمر والنّهي ونفوذهما في نفوس النّاس ، يتوقّف على الثّواب والعقاب ، فلولاهما لما كان هناك حركة إيجابيّة نحو التّكليف إلاّ من العارفين الّذين يعبدون الله تعالى ، لا رغبة ولا رهبة ، بل لكونه مستحقّاً للعبادة.

فتحصّل من ذلك أنّ ما هو دخيل في تحقّق الرّغبة بالطّاعة ، والابتعاد عن المعصية في نفوس الأكثريّة الساحقة من البشر ، يجب على الله سبحانه القيام به صوناً للتّكليف عن اللّغو ، وبالتالي صوناً للخلقة عن العبث.

نعم ، إذا كانت هذه المبادئ كافية في تحريك الأكثريّة نحو الطّاعة ، ولكنّ القليل منهم لا يمتثلون إلاّ في ظروف خاصّة كاليسار في الرزق ، أو كثرة الرفاه ، فهل هو واجب على الله سبحانه؟ الظّاهر لا ، إلاّ من باب الجود والتّفضّل.

وبذلك يعلم أنّ اللّطف المقرِّب إذا كان مؤثّراً في رغبة الأكثريّة بالطّاعة وترك المعصية يجب من باب الحكمة ، وأمّا إذا كان مؤثّراً في آحادهم المعدودين ، فالقيام به من باب الفضل والكرم. وبذلك تقف على مدى صحّة ما استدلّ به بعضهم على اللّطف في المقام ، أو سقمه.

استدلّ القاضي عبد الجبّار على وجوب اللّطف بقوله : « إنّه تعالى كلّف المكلّف ، وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثّواب ، وعلم أنّ في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب ، واجتنب القبيح ، فلا بدّ من أن يفعل به ذلك الفعل وإلاّ عاد بالنّقض على غرضه ، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذ أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد اتّخذه ، وعلم من حاله أنّه لا يجيبه ، إلاّ إذا بعث إليه بعض أعزّته من ولد أو غيره ، فإنّه يجب عليه أن يبعث ، حتّى إذا لم يفعل عاد بالنّقض على غرضه وكذلك هيهنا » (١).

قال الشّهرستاني : « اللّطف عبارة عن كلِّ ما يوصل الإنسان إلى الطّاعة ويبعِّده عن المعصية ، ولمّا كان الله عادلاً في حكمه ، رؤوفاً بخلقه ، ناظراً لعباده ، لا يرضى لعباده

__________________

١ ـ شرح الاصول الخمسة : ص ٥٢١.

٣٧٥

الكفر ، ولا يريد ظلماً للعالمين ، فهو لم يدّخر عنهم شيئاً ممّا يعلم أنّه إذا فعل بهم ، أتوا بالطّاعة والصّلاح » (١).

وقال العلاّمة الحلي : « إنّ المكلِّف ـ بالكسر ـ إذا علم أن المكلّف ـ بالفتح ـ لايطيع إلاّ باللّطف ، فلو كلّفه من دونه ، كان ناقضاً لغرضه ، كمن دعا غيره إلى طعام ، وهو يعلم أنّه لا يجيبه إلاّ أن يستعمل معه نوعاً من التّأدّب ، فإن لم يفعل الداعي ذلك النّوع من التأدّب كان ناقضاً لغرضه ، فوجوب اللّطف يستلزم تحصيل الغرض » (٢).

وقال الفاضل المقداد : « إنّا بيّنّا أنّه تعالى مريد للطّاعة وكاره للمعصية ، فإذا علم أنّ المكلّف لا يختار الطّاعة ، أو لا يترك المعصية ، أو لا يكون أقرب إلى ذلك إلاّ عند فعل يفعله به ، وذلك الفعل ليس فيه مشقّة ولا غضاضة ، فإنّه يجب في حكمته أن يفعله ، إذ لو لم يفعله لكشف ذلك ، إمّا عن عدم إرادته لذلك الفعل ، وهو باطل لما تقدّم ، أو عن نقض غرضه إذا كان مريداً له ، لكن ثبت كونه مريداً له فيكون ناقضاً لغرضه.

ويجري ذلك في الشّاهد مجرى من أراد حضور شخص إلى وليمة ، وعرف أو غلب على ظنِّه أنّ ذلك الشّخص لا يحضر إلاّ مع فعل يفعله ، من إرسال رسول ، أو نوع ، أدب ، أو بشاشة ، أو غير ذلك من الأفعال ، ولا غضاضة عليه في فعل ذلك ، فمتى لم يفعل عُدّ ناقضاً لغرضه ، ونقض الغرض باطل ، لأنّه نقص، والنّقص عليه تعالى محال ، ولأنّ العقلاء يعدّونه سَفَهاً وهو ينافي الحكمة » (٣).

وهذه البيانات تدلّ على أنّ اللّطف واجب من باب الحكمة.

هذا كلام القائلين بوجوب اللّطف ، وهو على إطلاقه غير تام ، بل الحقّ هو التّفصيل بين ما يكون مؤثِّراً في تحقّق التّكليف بشكل عامّ بين المكلّفين ، فيجب من

__________________

١ ـ الملل والنحل : ج ١، ص ١٠٧.

٢ ـ كشف المراد : الفصل الثاني ، المسألة الثانية عشرة ، ص ٣٢٥، ط قم ١٤٠٧.

٣ ـ ارشاد الطالبين : ص ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

٣٧٦

باب الحكمة ، وإلاّ فيرجع إلى جوده وتفضّله من دون إيجاب عليه.

واستدلّ القائل بعدم وجوبه بقوله : « لو وجب اللّطف على الله تعالى لكان لا يوجد في العالم عاص، لأنّه ما من مكلّف إلاّ وفي مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب واجتنب القبيح ، فلمّا وجدنا في المكلّفين من أطاع وفيهم من عصى ، تبيّن أنّ الألطاف غير واجبة على الله تعالى » (١).

يلاحظ عليه : أنّ هذا المستدلّ لم يقف على حقيقة اللّطف ، ولذلك استدلّ بوجود العصاة على عدم وجوبه ، فهو تصوّر أنّ اللّطف عبارة عمّا لا يتخلّف معه المكلّف عن الإتيان بالطّاعة وترك المعصية ، فنتيجته كون وجود العصيان دليلاً على عدم وجوبه ، وعدم وجوده دليلاً على وجوبه ، مع أنّك قد عرفت في أدلّة القائلين به بأنّه ما يكون مقرِّباً إلى الطّاعة ومبعِّداً عن المعصية من دون أن يبلغ حدّ الإلجاء.

يقول القاضي عبد الجبّار : « إنّ العباد على قسمين ، فإنّ فيهم من يعلم الله تعالى من حاله أنّه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب ويتجنّب القبيح ، أو يكون أقرب إلى ذلك ، وفيهم من هو خلافه حتّى إن فعل به كلّ ما فعل لم يختر عنده واجباً ولا اجتنب قبيحاً » (٢).

ويؤيِّده ما ورد في الذِّكر الحكيم من أنّ هناك أُناساً لا يؤمنون أبداً ولو جاءهم نبيّهم بكلِّ أنواع الآيات والمعاجز.

قال سبحانه : ( وما تُغني الآياتُ والنُذُرُ عَن قول لا يُؤْمنون ) (٣).

وقال سبحانه : ( ولَئِن أَتَيْتَ الّذين أُوتُوا الكِتابَ بكلِّ آية ما تَبِعوا قِبلَتَك ) (٤).

وفي الختام نقول : إنّ اللُّطف سواء أكان المراد منه اللّطف المحصِّل أم اللّطف المقرِّب ، من شؤون الحكمة ، فمن وصفه سبحانه بالحكمة والتنزّه عن اللّغو والعبث ، لامناص له عن الاعتقاد بهذه القاعدة ، غير أنّ القول بوجوب اللّطف في المحصِّل

__________________

١ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٥٢٣.

٢ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ٥٢٠.

٣ ـ سورة يونس : الآية ١٠١.

٤ ـ سورة البقرة : الآية ١٤٥.

٣٧٧

أوضح من القول به في المقرِّب.

ولكن يظهر من الشّيخ المفيد أنّ وجوب اللّطف من باب الجود والكرم ، قال : « إنّ ماأوجبه أصحاب اللّطف من اللّطف ، إنّما وجب من جهة الجود والكرم ، لا من حيث ظنّوا أنّ العدل أوجبه ، وأنّه لو لم يفعل لكان ظالماً » (١).

يلاحظ عليه : أنّ إيجابه من باب الجود والكرم يختّص باللّطف الراجع إلى آحاد المكلّفين ، لا ما يرجع إلى تجسيد غرض الخلقة ، أو غرض التّكليف ، عند الأكثريّة الساحقة من المكلّفين ، كما عرفت.

ثمّ إنّ المراد من وجوب اللّطف على الله سبحانه ليس ما يتبادر إلى أذهان السطحيّين من الناس ، من حاكميّة العباد على الله ، مع أنّ له الحكم والفصل ، بل المراد استكشاف الوجوب من أوصافه تعالى ، فإنّ أفعاله مظاهر لأوصافه تعالى ، كما أنّ أوصافه مظاهر لذاته تبارك وتعالى. فإذا علمنا ـ بدليل عقليّ قاطع ـ أنّه تعالى حكيم ، استتبع ذلك واستلزم العلم بأنّه لطيف بعباده ، حيثما يَبطل غرض الخلقة أو غرض التّكليف لولا اللّطف.

المسألة السابعة :

في حدوث كلامه تعالى

من المسائل الّتي أثارت ضجّة كبرى بين العلماء وانتهت إلى محنة تعرف في التأريخ بمحنة الإمام أحمد بن حنبل ، هي البحث عن حدوث القرآن وقدمه ، وعن كونه مخلوقاً أو لا. فالمعتزلة على حدوث القرآن ونفي قدمه تنزيهاً له سبحانه عن المثل القديم وغير المخلوق ، وأصحاب الحديث والحنابلة وبعدهم الأشاعرة على ضدّهم وأنّه قديم أو ليس بمخلوق فراراً عن سمة الحدوث الطارئ على صفاته مثل التكلّم.

ولمّا وصلت المعتزلة في عصر المأمون وبعده في عصر الواثق إلى قمّة القدرة و

__________________

١ ـ أوائل المقالات : ص ٢٥ ـ ٢٦.

٣٧٨

كانت الخلافة العبّاسية تؤازرهم وتؤيّدهم ، خرجوا عن منهجهم السّابق ـ منهج الحرّيّة في الرأي والتفكّر ـ وسلكوا في هذه المسألة مسلك الضّغط. فطفقوا يحملون النّاس على عقيدتهم ( خلق القرآن ) بالقوّة والاكراه ، فمن خالفهم ولم يقرّ به يحكم عليه بالحبس تارة والضّرب أُخرى. وأوجد ذلك في حياتهم العلميّة نقطة سوداء ، وسيوافيك تفصيل حمل الناس على اعتناق عقيدتهم في هذا المجال في فصل خاصّ.

هذا من جانب ومن جانب آخر ، لمّا أخذ أحمد بن حنبل في هذا المجال موقف الصّمود والثّبات في عقيدته صار بطلاً في حياته ، وبعدها يضرب به المثل في الصّمود على العقيدة ، وقد استبطلته المعتزلة وصار إماماً في عقائد أهل السنّة بصموده في طريق عقيدته. ولإيضاح الحقّ نرسم اُموراً :

١ ـ مسلك أهل الحديث

إنّ مسلك أهل الحديث في اتّخاذ العقيدة في مسائل الدّين هو اقتفاء كتاب الله وسنّة رسوله. فما جاء فيها يؤخذ به وما لم يجئ فيها يسكت عنه ولا يبحث فيه ، ولأجل ذلك كان أهل الحديث يحرِّمون علم الكلام ، ويمنعون البحث عن كلِّ ما ليس وارداً في الكتاب والسنّة.

وعلى ضوء هذا كان اللازم على أهل الحديث السّكوت وعدم النّبس ببنت شفة في هذه المسألة ، لأنّ البحث فيها حرام على اُصولهم ، سواء أكان الموقف هو قدم القرآن أم حدوثه ، لأنّه لم يرد فيه نصّ عن رسول الله ، ولا عن أصحابه ، ومع الأسف كان موقفهم ـ وفي مقدّمهم أحمد بن حنبل ـ موقف الايجاب وتكفير المخالف.

يقول الإمام أحمد بن حنبل في كتاب « السنّة » : « والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهميّ كافر ، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّوجلّ ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق فهو أخبث من الأوّل ، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام اللّه ، فهو جهمي ، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو

٣٧٩

مثلهم » (١).

إنّ السّلفيين وحتّى أتباعهم في هذه الأيّام يتحرّجون من القول بأنّ الله ليس بجسم ، قائلين بأنّه لم يرد نصّ فيه في الشّريعة ، ولكن يتشدّقون بقدم القرآن وعدم حدوثه ، بلا اكتراث سالفهم ولاحقهم حتّى جعلوه أصلاً يدور عليه إسلام المرء وكفره.

٢ ـ النّصارى وقدم الكلمة

إنّ القول بقدم القرآن تسرّب إلى أوساط المسلمين من المسيحيّين ، حيث كانوا يقولون بقدم الكلمة. وقد صرّح بذلك الخليفة العبّاسي في كتابه الّذي بعثه من الرقّة إلى رئيس شرطة بغداد إسحاق بن إبراهيم يقول : « وضاهوا به قول النّصارى في ادّعائهم في عيسى بن مريم أنّه ليس بمخلوق إذ كان كلمة الله » (٢).

قال أبو العبّاس البغوي : « دخلنا على « فثيون » النّصراني وكان في دار الروم بالجانب الغربي ، فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كلاب ( الّذي كان يقول بأنّ كلام الله هو الله ) فقال : « رحم الله عبدالله كان يجيء فيجلس إلى تلك الزّاوية وأشار إلى ناحية من البيعة وعنى أخذ هذا القول ( كلام الله هو الله ) ولو عاش لنصّرنا المسلمين قال البغوي : وسأله محمّد بن إسحاق الطّالقاني ، فقال : ما تقول في المسيح؟ قال : ما يقوله أهل السنّة من المسلمين في القرآن » (٣).

قال أبو زهرة : « إنّ النّصارى الّذين كانوا في حاشية البيت الأموي وعلى رأسهم يوحنّا الدمشقي وغيرهم ، كانوا يبثّون الشّكوك بين المسلمين. فقد جاء في القرآن أنّ عيس بن مريم كلمة الله ألقاها إلى مريم. فكان يبثّ بين المسلمين أنّ كلمة الله قديمة فيسألهم : أ كلمته قديمة أم لا؟ فان قالوا : لا ، فقد قالوا : إنّ كلامه مخلوق. وإن قالوا :

__________________

١ ـ كتاب السنّة : ص ٤٩.

٢ ـ تاريخ الطبري : ج ٧، ص ١٩٨، حوادث سنة ٢١٨.

٣ ـ فهرست ابن النديم : الفن الثالث من المقالة الخامسة ص ٢٣٠.

٣٨٠