بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

طائفة » (١).

يلاحظ عليه : أنّ المعتزلة لم تقل في الإمامة بالنصّ، وإنّما يقولون بالاختيار. ونسبة نظرية النصّ إليهم مبنيّ على عدّ الشيعة القائلين بالنص منهم ، وهو خطأ.

ولا يخفى على القارئ بعد الاحاطة بما حقّقنا حول الاُصول الخمسة تفكيك الاُصول عمّا يترتب عليها من الأحكام ، وقد خلط هو وقبله الأشعري بين المبني وما يترتب عليه من البناء وغيرهما من الاُصول.

وتحقيق الحقّ حول هذه الاُصول يستدعي رسم اُمور تلقي ضوءاً على الأبحاث التالية :

١ ـ أصلان أو اُصول خمسة؟

إنّ القاضي عبدالجبّار ليس أوّل من ألّف في عقائد المعتزلة باسم الاُصول الخمسة بل سبق في ذلك شخصان آخران من خرّيجي المدرستين ، أحدهما : أبو الهذيل العلاّف البصري ، والثاني : جعفر بن حرب البغدادي.

قال النّسفي في « بحر الكلام » : « خرج أبو الهذيل فصنّف لهم كتابين وبيّن مذهبهم ، وجمع علومهم ، وسمّى ذلك : « الخمسة الاُصول » ، وكلّما رأوا رجلاً قالوا له : هل قرأت « الاُصول الخمسة » فإن قال : نعم ، عرفوا أنّه على مذهبهم » (٢).

وقال ابن المرتضى : « ومنهم جعفر بن حرب ( م ٢٣٦ ) الّذي عدّه المرتضى من الطّبقة السابعة فقال : له الاُصول الخمسة » (٣).

والظاهر أنّ القاضي أملى شرح الاُصول الخمسة على غرار الكتابين الماضيين وكتبه عدد من تلاميذه ، وقد اختلفت كلمة القاضي في عدّ الاُصول ، فجعلها في شرح

__________________

١ ـ الملل والنحل : ج ١، ص ٤٤ ـ ٤٦، طبعة دار المعرفة.

٢ ـ نقله محقق شرح الاُصول الخمسة للقاضي ، ص ٢٦، عن مخطوط دار الكتب المصرية لبحر الكلام ، ورقة ٥٧.

٣ ـ المنية والامل : ص ٤١. والصحيح « الخمسة ».

٣٠١

الاُصول خمسة على الوجه الّذي عرفت ، وجعلها في « المغني » (١) اثنين : التوحيد والعدل. وجعل غيرهما داخلاً في ذينك الأصلين. وجعلها في كتاب « مختصر الحسنى » ، أربعة : التوحيد والعدل والنبوّات والشرائع ، وأدخل الوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشرائع. ويظهر من كلمات تلاميذه الّذين أملى لهم القاضي كتاب « الاُصول الخمسة » أنّ ما فعله في « المغني » هو الأرجح ، قالوا :

إنّ النبوّات والشرائع داخلان في العدل ، لأنّه كلام في أنّه تعالى إذا علم أنّ صلاحنافي بعثة الرُّسل وأن نتعبّد بالشريعة ، وجب أن يبعث ونتعبّد ، ومن العدل أن لا يُخلّ بما هو واجب عليه. وكذلك الوعد والوعيد داخل في العدل. لأنّه كلام في أنّه تعالى إذا وعد المطيعين بالثّواب ، وتوعّد العصاة بالعقاب فلا بدّ من أن يفعل ولا يخلف في وعده ولا في وعيده ، ومن العدل أن لا يُخلف ولا يكذب ، وكذلك المنزلة بين المنزلتين داخل في باب العدل ، لأنّه كلام في أنّ الله تعالى إذا علم أنّ صلاحنا في أن يتعبّدنا بإجراء أسماء وأحكام على المكلّفين وجب أن يتعبّدنا به ، ومن العدل أن لا يُخلّ بالواجب وكذا الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فالأولى أن يقتصر على ما أورده « في المغني » (٢).

يلاحظ عليه : أوّلاً : ـ أنّه لو صحّ إدخال المنزلة بين المنزلتين في باب العدل ، حسب البيان الّذي سمعت ، لصحّ إدخال المعارف العقليّة كلّها تحته بنفس البيان ، بأن يقال إنّ الله تعالى إذا علم أنّ صلاحنا أن يتعبّدنا بالمعارف وجب أن يتعبّدنا بها ، ومن العدل أن لا يُخلّ بالواجب ، ولا أرى أنّ واحداً من المعتزلة يقبل ذلك.

وثانياً ـ إنّ الاُصول الاعتقاديّة على قسمين :

قسم يجب الاعتقاد به بنفس عنوانه ولا يكفي الاعتقاد بالجامع البعيد الّذي يشمله ، وذلك كالاعتقاد بنبوّة النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعموميّة رسالته وخاتميتها ، فالكلّ ممّا

____________

١ ـ من أبسط كتب القاضي وأهمها ، يقع في عشرين جزءاً ، طبع منه أربعة عشر جزءاً ولم يعثر على الباقي.

٢ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ١٢٣.

٣٠٢

تجب معرفته بنفس عنوانه ولا يكفي في معرفته عرفان عدله سبحانه ، بحجّة أنّ النبوّات والشرائع داخلة تحته ، فمن عرف الله سبحانه بالعدل كفى في معرفة ما يقع تحته.

ولعلّ المعارف العقليّة الّتي يستقلّ العقل بعنوانها من مقولة القسم الأوّل.

وقسم آخر يكفي فيه الاعتقاد بالعنوان البعيد ولا يلزم الاعتقاد بشخصه ، كالاعتقاد ببعض الخصوصيّات الواردة في الحياة البرزخيّة والأخروية.

٢ ـ ما يلزم المكلّف عرفانه من اُصول الدين

عرّف المتكلّمون اُصول الدين بـ « ما يجب الاعتقاد به على وجه التفصيل أو الاجمال » ويقابلها الفروع فهي ما يجب العمل به. ويظهر من القاضي أنّه يجب على كلّ مسلم ، عالماً كان أو غيره ، الاعتقاد بالاُصول الخمسة أمّا التوحيد والعدل فذلك لوجهين :

١ ـ إنّ في ترك الاعتقاد بالتوحيد والعدل مظنّة الضرر ويخاف الإنسان من تركه.

٢ ـ إنّهُ لطف في أداء الواجبات واجتناب المقبّحات.

وأمّا الاُصول الاُخر فيجب الاعتقاد بها ، لأنّ العلم بكمال التوحيد والعدل موقوف على ذلك ، ألا ترى أنّ من جوّز على الله تعالى في وعده ووعيده الخلف والاخلال بما يجب عليه من إزاحة علّة المكلّفين وغيره فإنّه لا يتكامل له العلم بالعدل ، ولا فرق في ذلك بين من يسلك طريقة العلماء وبين من لا يكون كذلك ، لأنّ العامي أيضاً يلزمه معرفة هذه الاُصول على سبيل الجملة ، وإن لم يلزمه معرفتها على سبيل التّفصيل ، لأنّ من لم يعرف هذه الاُصول ، لا على الجملة ، ولا على التّفصيل ، لم يتكامل علمه بالتوحيد والعدل (١).

يلاحظ عليه أوّلاً : ـ أنّ القول بلزوم معرفة الاُصول الخمسة على النّحو الّذي

__________________

١ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ١٢٣ ـ ١٢٤.

٣٠٣

تسرده المعتزلة قول بلا دليل. كيف والنّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقبل إسلام من شهد الشهادتين وإن لم يشهد على بعض هذه الاُصول ، ومعنى الشهادة الثانية هو التصديق بكلّ ما جاء به وهذا يكفي في تسمية الشاهد مسلماً إذا اعترف بلسانه ، ومؤمناً إذا اعترف بقلبه. وعلى ضوء ذلك فلا يلزم عرفان هذه الاُصول ، لا على وجه التفصيل أي بالبرهنة والاستدلال ، ولا على وجه الاجمال أي تلقّيها اُصولاً مسلّمة.

وثانياً : أنّه لو صحّ ما ذكره من البيان بطل الاقتصار على الاُصول الخمسة ، لأنّ الاعتقاد بالنبوّات والشرائع والمعاد وحشر الأجساد ممّا يتكامل به العلم بالعدل ، فمن لم يعرفها ، لا على وجه الجملة ولا على وجه التفصيل ، لم يتكامل اعتقاده بالتوحيد والعدل ، وقس عليه سائر الاُصول.

والّذي يمكن أن يقال في المقام أنّ ما يجب تحصيله من هذه الاُصول الخمسة هو وجوب معرفة وحدانيّته على الوجه اللائق به ، وأمّا الاُصول الأربعة فلا دليل على وجوب عرفانها بعينها استدلالاً أو تعبّداً.

٣ ـ سبب الاقتصار على الاُصول الخمسة

قد تعرّفت على أنّه لا وجه للاقتصار على الاُصول الخمسة ، لما مرّ من أنّ أمر النبوّات والشرائع والمعاد أولى بأن يعدّ من الاُصول ، غير أنّ القاضي حاول أن يبيّن وجه الاقتصار على الخمسة فقال : « إنّ المخالف في هذه الاُصول ربّما كفر وربّما فسق وربّما كان مخطئاً.

أمّا من خالف في التّوحيد ونفى عن الله تعالى ما يجب إثباته ، وأثبت ما يجب نفيه عنه ، فإنّه يكون كافراً.

وأمّا من خالف في العدل وأضاف إلى الله تعالى القبائح كلّها من الظّلم والكذب وإظهار المعجزات على الكذّابين وتعذيب أطفال المشركين بذنوب آبائهم

٣٠٤

والإخلال بالواجب ، فإنّه يكفّر أيضاً.

وأمّا من خالف في الوعد والوعيد وقال : إنّه تعالى ما وعد المطيعين بالثّواب ، ولاتوعّد العاصين بالعقاب البتّة ، فإنّه يكون كافراً ، لأنّه ردّ ما هو معلوم ضرورة من دين النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وكذا لو قال : إنّه تعالى وعد وتوعّد ولكن يجوز أن يخلف في وعيده ، لأنّ الخلف في الوعيد كرم ، فإنّه يكون كافراً لاضافة القبيح إلى الله تعالى.

فان قال : إنّ الله تعالى وعد وتوعّد ، ولا يجوز أن يخلف في وعده ووعيده ، ولكن يجوز أن يكون في عمومات الوعيد شرط أو استثناء لم يبيّنه الله تعالى ، فإنّه يكون مخطئاً.

وأمّا من خالف في المنزلة بين المنزلتين ، فقال : إنّ حكم صاحب الكبيرة حكم عبدة الأوثان والمجوس وغيرهم فإنّه يكون كافراً ، لأنّا نعلم خلافه من دين النّبيّ والاُمّة ضرورة.

فان قال : حكمه حكم المؤمن في التعظيم والموالاة في الله تعالى ، فإنّه يكون فاسقاً ، لأنّه خرق إجماعاً مصرّحاً به على معنى أنّه أنكر ما يعلم ضرورة من دين الاُمّة.

فان قال : ليس حكمه حكم المؤمن ولا حكم الكافر ولكن اُسمّيه مؤمناً ، فإنّه يكون مخطئاً.

وأمّا من خالف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً ، وقال : إنّ الله تعالى لميكلّف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً ، فإنّه يكون كافراً ، لأنّه ردّ ما هو معلوم ضرورة من دين النّبىّّ ودين الاُمّة.

فان قال : إنّ ذلك ممّا ورد به التّكليف ، ولكنّه مشروط بوجود الإمام فإنّه يكون مخطئاً » (١).

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من الوجوه الثلاثة من الكفر والفسق والخطاء ، لاتختصّ

__________________

١ ـ شرح الاُصول الخمسة ، ص ١٢٥ ـ ١٢٦، يريد من العبارة الأخيرة الشيعة الامامية القائلين بأنّ بعض المراتب من الأمر بالمعروف مشروط بوجود الامام المعصوم مع بسط اليد.

٣٠٥

بهذه الخمسة ، فهناك اُصول حالها حال الخمسة. فإنّ منكر نبوّة النّبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عالميّة رسالته أو خاتميّتها كافر. ومنكر عصمته بلا شب فاسق ، ومعها مخطىء.

وهناك وجه آخر لتخصيص الخمسة من الاُصول بالذكر أشار إليه القاضي في كلامه وقال : « إنّ خلاف المخالفين لنا لا يعدو أحد هذه الاُصول. ألا ترى أنّ خلاف الملحدة والمعطّلة والدهرية والمشبّهة قد دخل في التوحيد. وخلاف المجبّرة بأسرهم دخل في باب العدل. وخلاف المرجئة دخل في باب الوعد والوعيد. وخلاف الخوارج دخل تحت المنزلة بين المنزلتين. وخلاف الإماميّة دخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر »(١).

وهذا الوجه وإن صحّح سبب الاقتصار على الخمسة ، لكنّه يدلّنا على شيء آخر غريب في باب العقائد والاُصول ، وهو أن السابر في كتب الحنابلة والأشاعرة والمعتزلة يقف بوضوح على أنّ أكثر الاُصول الّتي اتخّذتها الطوائف الإسلاميّة اُصولاً عقائدية ليست إلاّ اُصولاً كلاميّة ناتجة من المعارك العلمية ، وليست اُصولاً للدين أعني ما يجب على كلِّ مؤمن الإيمان به بالتفصيل والبرهنة أو بالاجمال وإن لم يقترن بالبرهان.

والاُصول الخمسة الّتي يتبنّاها المعتزلة مؤلّفة من اُمور تعدُّ من اُصول الدين كالتوحيد والعدل على وجه ، ومن اُصول كلاميّة أنتجوها من البحث والنقاش، وأقحموها في الاُصول لغاية ردّ الفرق المخالفة الّتي لا توافقهم في هذه المسائل الكلاميّة.

وعند ذاك يستنتج القارئ أنّ ما اتّخذته المعتزلة من الاُصول ، وجعلته في صدر آرائها ليست إلاّ آراء كلاميّة لهذه الفرقة ، تظاهروا بها للردّ على المجبّرة والمشبّهة والمرجئة والإمامية وغيرهم من الفرق على نحو لولا تلكم الفرق لما سمعت من هذه الاُصول ذكراً ، « وليس هذه أوّل قارورة كسرت في الإسلام » ، فإنّ السلفيّين وأهل الحديث والحنابلة وبعدهم الأشاعرة ذهبوا هذا المذهب فقاموا بتنظيم قائمة بيّنوا فيها « قولهم

__________________

١ ـ شرح الاُصول الخمسة ، ص ١٢٤.

٣٠٦

الّذي يقولون به ، وديانتهم الّتي يدينون بها » (١). وبيّنوا « مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنّة ، فمن خالف شيئاً منها في هذه المذاهب أو طعن فيها ، أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة ، زائل عن منهج أهل السنّة وسبيل الحقّ » (٢).

وفي الوقت نفسه إنّ أكثر ما جاء في قائمتي الشيخين اُصول كلاميّة نتجت من البحث والنزاع ، وصفت لدى الشيخين بعد عراك ، ومن تلك الاُصول القول بقدم القرآن وكونه غير مخلوق ، مع تصريح أئمّة الحديث بعدم ورود نصّ في ذلك من الرسول ومنها كون خير الاُمّة الخلفاء الراشدين ويتفاضلون بحسب تقدّم تصدّيهم للخلافة ، فالأوّل منهم هو الأفضل ثمّ الثاني ... ومعنى هذا أنّ الاُصول الّتي يدين بها أهل السنّة لم تكن منتظمة ولا مرتّبة في عصر الرسول والصحابة ولا التابعين ، وإنّما انتظمت بعد احتكاك الآراء واختلاف الأفكار حتّى أنتج البحث والنقاش هذه الاُصول والكلّيات. وإنّ ذا من العجب.

إنّ الاُصول الّتي يدين بها أهل الحديث والأشاعرة هي الّتي مزّقت الاُمّة الواحدة تمزيقاً ، وصيّرتها فرقاً شتى ، وما هذا إلاّ لأجل إصرارهم على أنّ هذه الاُصول اُصول الديانة ، والزائل عنها خارج عن الجماعة. وكان في وسعهم التفريق بين الاُصول العقائدية الّتي لا منتدح لمسلم عن عرفانها والإيمان بها إجمالاً أو تفصيلاً ، والاُصول الكلاميّة الّتي وصل إليها البحث الكلامي بفضل النقاش في ضوء الكتاب والسنّة والبرهان العقلي القائم على اُصول موضوعية مبرهنة.

وعند ذلك تتجلّى عندك حقيقة ناصعة وهي أنّ أكثر الفرق الّتي عدّها أصحاب الملل والنحل والمقالات فرقاً إسلاميّة ، فإنّما هي فرق كلامية وليست فرقاً دينية إسلاميّة داخلة في الثلاث والسبعين فرقة بحيث تكون الواحدة منها ناجية والبواقي هلكى ، لأنّ الإذعان بحكم مرتكب الكبيرة ليس ملاكاً للنجاة والهلاك حتّى تكون فرقة منهم من

__________________

١ ـ هذه نفس عبارة الشيخ الأشعري في « الابانة » الباب الثاني ، ص ١٧.

٢ ـ وهذه نفس عبارة إمام الحنابلة في كتابه « السنة » ، ص ٤٤.

٣٠٧

أهل النجاة وغيرهم من أهل النار ، ويكون الإيمان منوطاً بالإذعان به ، وعدم الإيمان موجباً للخروج عنها ، بل أقصى ما يقال في حقّ هذه الاُصول أنّها اُصول حقّة صحيحة دلّ على صحّتها الدليل ، ولكن ليس كلّ حقّ ممّا يجب الإذعان به أو يؤاخذ على عدم الاعتقاد به.

هذا هو الشيخ أبو جعفر الطحاوي المصري ( م ٣٢١ ) كتب رسالة حول عقيدة أهل السنّة تشتمل على مائة وخمسة اُصول زعم أنّها عقيدة الجماعة والسنّة على مذهب فقهاء الاُمّة : أبي حنيفة ، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري ، وأبي عبدالله محمّد ابن الحسن الشيباني (١) وقد كتب على هذه الرسالة شروح وتعاليق ، واحتلّت مكانها ـ بعد زمن ـ « العقائد النسفية ». واللأسف أنّ كلّ أصل من الكتابين ردّ على فرقة وملّة. فصارت الاُصول الإسلاميّة عبارة عن عدّة اُصول يرد بكلِّ أصل ملّة ونحلة ، كالملاحدة والمجبِّرة والقدرية والرافضة من الفرق الكلامية الّتي أنجبتها الأبحاث والتيّارات الفكرية.

ثم إنّي وقفت بعد ما حرّرته على ما نقلته المستشرقة « سوسنه ديفلد » محقّقة كتاب « طبقات المعتزلة » لابن المرتضى عن الاُستاذ « هـ. ريتر » : « من أراد أن يفهم إحدى العقائد السنّية فعليه أن يستحضر في خاطره أنّ كلّ جملة منها إنّما هي ردّ على إحدى الفرق المخالفة لها من الشيعة والخوارج والمرجئة والجهمية والمعتزلة ، ولقد تشكّلت عقيدة أهل السنّة بردّ الفرق الضاّلة الّتي لم تسمّ « ضالّة » إلاّ بعد غلبة أصحاب السنّة والجماعة » (٢).

فواجب على الباحث المنصف الّذي يبتغي الحقيقة ، التفكيك بين اُصول الدين والاُصول الكلامية. وعند ذلك تحصل الوحدة بين الاُمّة أو تقرّب الخطى بين الفرق ، ويقلّ التشاحّ والنزاع المؤدّي إلى الهلاك.

إذا عرفت هذه الاُمور فلنأخذ بتفصيل الاُصول الخمسة واحداً بعد آخر :

__________________

١ ـ شرح العقائد الطحاوية : ص ٢٥.

٢ ـ طبقات المعتزلة لابن المرتضى : المقدمة. ط بيروت.

٣٠٨

الأصل الأوّل

التوحيد

عرِّف التوحيد في مصطلح المتكلّمين بأنّه العلم بأنّ الله سبحانه واحد لا يشاركه غيره في الذات والصفات والأفعال والعبادة وبالجملة ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء ) ( الشورى / ١١ ). والّذي يصلح للبحث عنه في هذا الأصل عبارة عن الاُمور التالية :

١ ـ إثبات وجوده سبحانه في مقابل الدهريّة والماديّة القائلين بأصالة المادّة وقدمها وغناها في الفعل والانفعال وإيجاد الأنواع عن قدرة خارجة عن نطاقها.

٢ ـ إنّه سبحانه واحد لا ثاني له ، بسيط لا جزء له ، فهو الواحد الأحد ، خلافاً للثنويّة والمانويّة في الواحديّة ، وللنّصارى في الأحديّة.

٣ ـ عرفان صفاته سبحانه سواء أكانت من صفات الذات ككونه عالماً قادراً حيّاً سميعاً بصيراً مدركاً ، أم من صفات الأفعال ككونه خالقاً رازقاً غافراً.

٤ ـ كيفيّة استحقاقه لهذه الصّفات وتبيّن وجه حملها عليه سبحانه ، فهل تحمل عليه كحملها على سائر الممكنات أو لا؟

٥ ـ تنزيهه سبحانه عمّا لا يليق به كالحاجة وكونه جسماً أو جسمانيّاً ، عرضاً أو جوهراً أو غير ذلك.

٦ ـ تنزيهه سبحانه عن إمكان الرؤية الّتي يتبنّاها أهل الحديث والأشاعرة

٣٠٩

بحماس.

فمع أنّ هذه الأبحاث الستّة صالحة للبحث في هذا الأصل ، لكن نرى أنّ المعتزلة يركّزون على البحث عن الرابع والسادس أكثر من غيرهما ، ويمرّون على الأبحاث الباقية مروراً إجمالياً. وما هذا إلاّ لأنّ أهل الحديث والأشاعرة متّفقون معهم فيها. وهذا أيضاً يؤيّد ما ذكرنا من أنّ الاُصول العقائدية إنّما رتّبت ونظمت بين كلّ فرقة لأجل الردّ على مخالفيها لا لبيان الاُصول الّتي يناط بها الإسلام والإيمان في عصر النّبيّ والصحابة.

و لأجل ذلك صار التوحيد عند المعتزلة رمزاً للتنزيه ، فكلّما أطلقت هذه الكلمة ، انصرفت أذهانهم إلى تنزيهه سبحانه عمّا لا يليق به في باب الصّفات ومجال الروية.

وبما أنّهم ينفون الصفات الزائدة على ذاته سبحانه ، وتثبته الأشاعرة وقبلهم أهل الحديث ، صارت الصفاتية شعاراً لهذه الفرقة.

إذا وقفت على ذلك فلنركّز على النّقاط الّتي يرجى تبيينها في زاوية فكر الاعتزال ونطوي الكلام عن غيرها لعدم الخلاف ، فنقول :

إنّ البحث عن صفاته سبحانه يتمركز على نقاط ثلاث :

الاُولى : تبيين كيفيّة استحقاقه سبحانه لصفاته الكماليّة وحملها عليه ، فهل هذه الصّفات حادثة أو قديمة ، زائدة على الذات أم لا؟

الثانية : تبيين كيفية حمل الصفات الخبرية عليه الواردة في الذكر الحكيم من اليد والوجه والعين ، فهل تحمل على الله سبحانه بظواهرها الحرفيّة كما عليه السّلفية والأشاعرة ، أو تحمل عليه بظواهرها التصديقيّة ، أو لا هذا ولا ذاك بل تؤوّل لقرائن عقليّة؟

الثالثة : نفي الرؤية الحسية الّتي يدّعيها أهل الحديث.

فلنرجع إلى تبيين النقطة الاُولى أعني تبيين كيفيّة حمل الصّفات عليه.

٣١٠

أ ـ نفي الصفات الزائدة على ذاته

اتّفق أهل الحديث والكلابيّة وتبعهم الشيخ الأشعري على أنّ لله سبحانه صفات ذات كماليّة قديمة ، زائدة على ذاته.

قال القاضي : « وعند الكلابيّة إنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان أزليّة ، وأراد بالأزلي القديم ، إلاّ أنّه لمّا رأى المسلمين متّفقين على أنّه لا قديم مع الله تعالى لم يتجاسر على إطلاق القول بذلك ، ثمّ نبغ الأشعري وأطلق القول بأنّه تعالى يستحقُّ هذه الصّفات لمعان قديمة لوقاحته وقلّة مبالاته بالإسلام والمسلمين » (١) ورائدهم في هذه العقيدة هو الظّواهر القرآنية. قال سبحانه : ( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) ( النساء / ١٦٦ ) ، وقال تعالى : ( وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إلاّ بِعِلْمِهِ ) ( فاطر / ١١ ). وقال عزّ من قائل : ( ذو القوّة المتين ) ( الذاريات / ٥٨ ).

قالوا : إنّ ظواهر هذه الآيات تعرب عن أنّ هنا ذاتاً ولها علم ولها قدرة كلاهما يغايران ذاته. ولو كانا نفس ذاته لما صحّ التعبير بقوله ( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) أو ( ذُو القوة المتين ) ومثلها سائر الآيات الظاهرة في مغايرة الصّفات للذات (٢).

هذا دليل أهل الحديث والكلابيّة والأشاعرة ونرجع إلى تبيين مفاد الآيات بعد الفراغ من دليل المعتزلة.

تثنية القديم في نظريّة أهل الحديث

إنّ هذه النظريّة الّتي يتبنّاها أهل الحديث اغتراراً بظواهر النّصوص، تؤدّي إلى تعدّد القديم المنتهي إلى تعدّد الواجب حسب عدد الصفات ، وأيّ ثنويّة أسوأ من هذه؟ فلو قالت الثنويّة بأصلين أزليّين هما النور والظلمة ، وقالت المانويّة بأنّ العالم مركّب من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر ظلمة ، أو قالت النّصارى بالأقانيم

__________________

١ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ١٨٣.

٢ ـ لاحظ : الابانة للشيخ الأشعري : ص ١٠٧.

٣١١

الثّلاثة فقد قال هؤلاء الأشاعرة بقدماء كثيرين بحسب تعدّد الصفات.

وبذلك تقف على أنّ الحافز على التركيز على نفي الصّفات الزائدة ، هو التحفّظ على التوحيد ووحدانيّة الواجب والقديم ، ونفي المثيل والنّظير له أخذاً بقوله سبحانه ( ليس كمثله شيء ) و( قل هو الله أحد ).

فمن المحتمل عند البعض أنّ المعتزلة أرادوا بهذا ، الردّ على فكرة الأقانيم لدى النّصارى ، فإنّ القول بأنّ الذات الإلهيّة جوهر يتقوّم بأقانيم أي صفات هي الوجود والعلم والحياة ، قد أدى إلى الاعتقاد باستقلال الأقانيم عن الجوهر ، وإلى اعتبار الصّفات أشخاصاً ، وإلى تجسّد « الاقنوم الثاني » ـ اقنوم العلم ـ في الابن. فلموا جهة هذا الاعتقاد نفى المعتزلة وصف الله بأنّه جوهر واعتبروا الصّفات هي الذات غير مغايرة لها ، فصفات الله ليست حقائق مستقلّة وإنّما هي اعتبارات ذهنيّة ، ويمكن أن تختلف وجوه الاعتبارات في النظر إلى الشيء الواحد دون أن يلزم من ذلك التعدّد في ذاته ، فيقال عالم ونعني إثبات علم هو ذاته ، ونفي الجهل عن ذاته ، ويقال : قادر ونعني إثبات ذاته ونفي العجز، فالله حيّ عالم قادر بذاته لا بحياة وعلم وقدرة زائدة على ذاته (١).

يلاحظ عليه : أنّه إنّما يصح لو كانت الصّفات الذاتيّة منحصرة في الثلاث : العلم والقدرة والحياة حتّى يقال إنّ الهدف من القول بالعينيّة نفي توهّم التثليث ، بل الصفات الذاتية أكثر من ذلك.

أضف إلى ذلك أنّ تفسير عقيدة المعتزلة في باب الصّفات بأنّها ليست حقائق مستقلّة وإنّما هي اعتبارات ذهنيّة ، غير تامّة ناشئة من تفسير خصومهم بما ذكر ، بل الحقُّ أنّ مرادهم هو أنّ واقعيّة خارجيّة بسيطة تجمع هذه الواقعيات ببساطتها ووحدتها ، لا أنّها اعتبارات ذهنيّة ، وليست للصفات واقعيّة خارجية ، فإنّه لا ينطبق إلاّ على القول بالنيابة.

____________

١ ـ نهاية الاقدام في علم الكلام للشهرستاني : ص ١٩٢ ـ ١٩٤، و « في علم الكلام » قسم المعتزلة للدكتور أحمد محمود صبحي ، ص ١٢٣.

٣١٢

محاولة الأشاعرة لتصحيح تثنية القديم

لمّا كان ما استند إليه أهل الاعتزال من البرهان في نفي الصفات الزائدة برهاناًدامغاً قاطعاً للنزاع ، حاول أهل التفكير من الأشاعرة نقده ، ولكن أتوا بالعجب العجاب. فهذا هو القاضي عضد الدين الإيجي يجيب عن البرهان في مواقفه بقوله : « إنّ الكفر إثبات ذوات قديمة لا ذات وصفات » (١) وقد أقرّه شارحه الشريف الجرجاني.

وهو من الوهن بمكان ، إذ هو أشبه بتخصيص القاعدة العقليّة ، والقاعدة العقليّة لا تخصّص. إذ لسائل أن يسأل : أيّ فرق بين الذات والوصف حتّى يكون القول بتعدّد الأوّل موجباً للكفر دون الثاني ، مع أنّ ملاك الكفر موجود في كلا الموضعين ، فإنّ القول بتعدّد القدماء قول بتعدّد الواجب ، قول بتعدد الغنيّ بالذات المستغني عن غيره ، قول بتعدّد من يكون وجوده عن ذاته لا عن غيره ، وهذا كلّه من صفات الباري عزّ اسمه ، فلو كانت صفاته غير ذاته وكانت قديمة ، تكون واجبة غنيّة عن كلّ شيء ، واجدة لوجودها.

وهناك محاولة ثانية للتخلّص عن تعدّد القدماء وهي القول بأنّ الصفات لا هو ولا غيره (٢) وهذا أشبه باللّغز مع أنّ العقائد الإسلاميّة تتّسم بسمة الوضوح والسهولة ، لا التعقيد والغموض الّذي ربّما ينتهي في المقام إلى رفع النقيضين.

ولو قال بحدوث الصفات ـ ولن يقول أبداً ـ يكون الفساد أفحش، والمصيبة أعظم ، لأنّ اتّصافه بالقدرة الحادثة مثلاً إمّا بالاختيار وإمّا بالإيجاب. والأوّل محال لاستلزامه محذور التسلسل في صفاته ، لأنّ الكلام ينتقل إلى القدرة الثانية. فهل اتّصافه بها عن اختيار أو بايجاب؟ فعلى الأول يعود السؤال فيلزم التسلسل. وعلى الثاني يلزم أن يكون فاعلاً موجباً بالذات ، وأىُّ نقص أعظم من تصوير مبدأ الكمال والجمال وخالق

__________________

١ ـ المواقف : ص ٢٨٠.

٢ ـ أوائل المقالات : ص ١٧.

٣١٣

القدرة والاختيار في الإنسان ، فاعلاً موجباً في اتّصافه بصفاته ، فلو صحّ كونه موجباً في مورد ، فليصحّ في سائر الموارد ككونه فاعلاً موجباً بالقياس إلى مصنوعاته.

وهذه الاُمور هي الحوافز الحقيقية الّتي دعت المعتزلة إلى القول بالتوحيد والتنزيه في باب الصفات ونفي الصفات الزائدة والمعاني القائمة بذاته ، ولم يكن الحافز إلاّ الفرار عن الثنويّة وتوابعها.

ومن الجسارة الواضحة بل الظلم الفاحش اتّهام هذه الفرقة بما كتبهم عنه أهل الملل والمقالات. فهذا الأشعري يتّهمهم بقوله « أرادت المعتزلة أن تنفي أنّ الله عالم قادر حيّ سميع بصير ، فمنعهم خوف السيف من إظهارهم نفي ذلك ، فأتوا بمعناه ، لأنّهم إذا قالوا : لا علم لله ولا قدرة له ، فقد قالوا : إنّه ليس بعالم ولا قادر ووجب ذلك عليهم ، وهذا إنّما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل ، لأنّ الزنادقة قال كثير منهم إنّ الله ليس بعالم ولا قادر ولا حيّ ولا سميع ولا بصير ، فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه وقالت : إنّ الله عالم قادر حيّ سميع بصير من طريق التسمية ( الكتاب والسنّة ) من غير أن يثبتوا له حقيقة العلم والقدرة والسّمع والبصر.

وحاصل (١)تحليل الشيخ أنّ المعتزلة كانت بصدد نفي الأسماء والصفات وفاقاً للزنادقة ، فلم يقدروا عليه خوفاً من السلطة ، ولكنّهم نفوا العلم والقدرة والحياة حتّى يتسنّى لهم نفي الأسماء والصفات ( العالم والقادر ) بالملازمة ، فمثلهم كمثل من خرج من الباب موهماً للانصراف ثمّ دخل من النافذة.

تلك والله جرأة في الدين وجسارة بلا مبرّر ، والآثار الباقية من المعتزلة تبيّن لنا جهة إصرارهم على نفي الصفات الزائدة على الذات. وليست الغاية نفي أسمائه وصفاته وتصوير كونه سبحانه غير عالم ولا قادر ، بل الغاية نفي الثنويّة وتعدُّد الواجب.

قال القاضي : « لو كان عالماً بعلم ، لكان لا يخلو إمّا أن يكون موجوداً أو معدوماً ،

__________________

١ ـ الابانة : ص ١٠٧ ـ ١٠٨.

٣١٤

لا يجوز أن يكون معدوماً ، وإن كان موجوداً فلا يخلو إمّا أن يكون قديماً أو محدثاً ، والأقسام كلُّها باطلة ، فلم يبق إلاّ أن يكون عالماً بذاته على ما نقوله » (١).

وقال أيضاً : « لو كان يستحقّ هذه الصفات لمعان قديمة ، وجب أن تكون هذه المعاني مثلاً لله تعالى ... إلى آخر ما أفاده » (٢).

كلّ ذلك يعرب عن أنّ الداعي لنفي الصفات الأزليّة هو تنزيهه سبحانه عن المثل بل الأمثال. تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

نعم هناك حافزان آخران صارا سببين لنفي الصفات الزائدة على الذات نشير إليهما :

١ ـ تركيب الذات مع الصّفات ، فإنّه سبحانه كما هو واحد لا نظير له ولا مثيل فهو عزّ وجلّ « أحد » بسيط لا جزء له ، والتركيب حليف الامكان ، لأنّ المركّب متقوّم بالأجزاء ، والمتقوّم لا يكون واجباً ولا غنياً.

٢ ـ استلزام القول بالصفات الزائدة على الذات كونه سبحانه ناقصاً مستكملاً بالخارج عن ذاته وحيطة وجوده ، مع أنّه سبحانه كلّ الجمال والكمال ، لا يشذُّ كمال عن حيطة وجوده ، ولاجمال عن حدِّ ذاته.

ولأجل هذين الأمرين مع ما تقدّم من حديث تعدّد القدماء اشتهرت المعتزلة بنفاة الصفات « الصفات الزائدة على الذات » كما اشتهرت الأشاعرة بالصفاتية ، متظاهرين بأنّ هناك ذاتاً ووصفاً ، والذات غير الوصف ، وكلاهما قديمان.

إذا عرفت موقف المعتزلة في نفي الصفات الزائدة على الذات ، فهلمّ معي نقرأ بحثاً آخر من هذا المقام وهو تبيين كيفيّة حمل الصّفات على ذاته سبحانه على مذهبهم ، إذ كيف يمكن توصيفه سبحانه بأنّه عالم وقادر مع القول بعدم الصفات الزائدة على

____________

١ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ١٨٣.

٢ ـ المصدر نفسه : ص ١٩٥، ولاحظ ص ١٩٧. ولاحظ الملل والنحل : ج ١ ص ٤٦ في تبيين القاعدة الأولى من القواعد الأربع الّتي اختارها واصل بن عطاء ، ترى فيها التصريح منه بأنّ الغاية لنفي الصفات هو التنزيه.

٣١٥

الذات أي عدم العلم والقدرة المغايرين لها.

وهذا هو البحث المهمّ في المقام ، فنقول : إنّ لهم في تبيين كيفيّة الحمل آراء مختلفة بين صحيح وزائف وإليك الاشارة إلى عناوين مذاهبهم إلى أن نأخذ بالتّفصيل.

أ ـ مذهب أبي الهذيل : إنّه عالم بعلم هو هو.

ب ـ مذهب أبي عليّ الجبّائي : إنّه يستحقُّ هذه الصفات الأربع الّتي هي كونه قادراً ، عالماً ، حيّاً ، موجوداً لذاته.

ج ـ مذهب أبي هاشم : إنّه يستحقّها لما هو عليه في ذاته (١).

هذه هي مذاهبهم الثلاثة في تبيين كيفيّة الحمل ، وقد حاق بها الابهام ، وإليك التوضيح :

توضيح مذهب أبي الهذيل

إنّ أبا الهذيل من كبار رجال الاعتزال وأحد شيوخ مدرسة البصرة ، توفّي سنة ٢٣٥ هـ ، ويعتبر أوّل من نظم قواعد الاعتزال ووضع اُصوله ، ولكنّ الزّمان عبث بكتبه ، ولأجل ذلك طرأ على مذهبه الابهام حتّى إنّ القاضي عبدالجبّار أرجعه إلى مذهب أبي عليّ الجبّائي وقال : « أراد أبو الهذيل ما ذكره الشيخ أبو عليّ إلاّ أنّه لم تتلخّص له العبارة » (٢).

لكن ما نقل عنه حول مذهبه في علم الباري يدفعنا إلى القول بأنّ مذهبه في باب الصفات يغاير مختار الجبّائي وإليك هذه الكلمات :

قال الشيخ الأشعري : « والفرقة الهذيليّة يزعمون أنّ لله علماً هو هو ، وقدرة هي هو ، وحياة هي هو ، وسمعاً هو هو ، وكذلك قالوا في سائر صفات الذات » (٣).

__________________

١ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ١٨٢.

٢ ـ المصدر نفسه : ص ١٨٣.

٣ ـ مقالات الاسلاميين : ص ١٧٩.

٣١٦

قال الشهرستاني : « انفرد أبو الهذيل بعشر قواعد ، الاُولى : إنّ الباري تعالى عالم بعلم وعلمه ذاته ، قادر بقدرة وقدرته ذاته ، حيّ بحياة وحياته ذاته ، وإنّما اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الّذين اعتقدوا أنّ ذاته واحدة لا كثرة فيها بوجه ، وإنّما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته بل هي ذاته » (١).

ولو صحّ نقل هذه الكلمات عن أبي الهذيل فهو لا يهدف إلى إنكار أسمائه كالعالم والقادر والحي ، ولا إلى إنكار صفاته من العلم والقدرة والحياة ، بل يعترف بهما معاً ، غير أنّه يقول باتّحاد الصفات مع الذات وجوداً وعينيّة ، وتغايرهما مفهوماً دفعاً للاشكالات المتوجّهة إلى القول بالزيادة.

ولأجل إيقاف القارئ على مرام الشيخ أبي الهذيل نأتي بالتوضيح التالي :

إنّ المتبادر من قولنا « عالم ، قادر ، حيّ » في نظر أهل اللّسان هو الذات الموصوفة بالعلم والقدرة والحياة ، بمعنى أنّه يتبادر مفهوم بسيط ينحلّ إلى ذلك المركّب مآلاً. فتكون هناك اثنينيّة باعتبار أنّ هناك موصوفاً ومعروضاً ووصفاً وعرضاً.

هذا هو المتبادر في الاستعمالات العرفيّة ، ولا يمكن إنكار ذلك أبداً. ولكنّه بهذا المعنى لا يصحّ إطلاقه على الله ، لاستلزامه تثنية الواجب أوّلاً ، وتركّبه من شيئين ثانياً ، واستكماله بغيره ثالثاً. فلأجل ذلك يجب أن يصار في توصيفه سبحانه إلى فرض آخر يحفظ معه أمران : كونه سبحانه واجداً لحقيقة العلم والقدرة والحياة حتّى لا يلزم التّعطيل ، وكونه واحداً بسيطاً غير مركّب من شيء وشيء حتّى لا ترد الاشكالات الثلاثة الماضية ، والتحفّظ على هذين الأمرين لا يحصل إلاّ بالقول بأنّ أوصافه سبحانه ونعوته كلّها موجودة بوجود واحد وهو وجود الذات ، وهي بمفردها مصداق لهذه النعوت ، ويكفي نفس وجودها في حمل هذه الصفات الكماليّة عليها بلا طروء تعدُّد في مرحلة الذات. ولأجل تقريب المطلب وأنّه يمكن أن تحمل صفات كثيرة على شيء

__________________

١ ـ الملل والنحل : ج ١، ص ٤٩ ـ ٥٠.

٣١٧

واحد ، وينتزع منه مفاهيم عديدة ، نأتي بمثال وإن كان الفرق بين المثل والممثّل عظيماً ، ولكنّ الهدف هو التقريب لا التشبيه.

إذا تصوّرنا الإنسان الخارجي وفرضنا له ماهيّة ، فلها ذاتيات ـ كالحيوان والناطق ـ يعدّان من الاُمور الذاتية بالنسبة إلى ماهيته ، فهذه الذاتيات موجودة بوجود واحد شخصي من دون أن تكون حيثيّة الحيوان في الخارج غير حيثيّة الناطق ، بل الإنسان الخارجي كلّه بوحدته مصداق للحيوان ، كما هو كلّه مصداق للناطق.

فهنا شيء واحد وهو الشخصية الخارجية الّتي هي مصداق الإنسان ، يصحّ أن ينتزع منه مفاهيم كثيرة من دون أن تنثلم وحدته.

وعلى ضوء هذا المثال نقول : إنّ ذاته سبحانه بوحدتها وبساطتها ، مصداق لكونه عالماً وقادراً وحيّاً ، وليست حقيقة العلم في ذاته تغاير واقعيّة القدرة فيه. كما أنّ كليهما لا يغايران حقيقة الحياة. بل الذات الواحدة بما أنّها موجود بسيط ، مصداق لهذه الكمالات من دون أن تضمّ إلى الذات ضميمة أو تطرأ كثرة.

وبهذا البيان تحفظ على بساطته ، كما تحفظ على كونه واجداً لحقيقة الصفات الكماليّة. ولا يهدف هذا البيان إلى إخلاء الذات عن حقيقة هذه الصّفات ، ولا تعطيلها عن الاتّصاف بها ، بل يريد أنّ الذات لأجل كونها كلّ الكمال وكلّ الجمال ، وليس فوقها موجود أكمل وأجمل ، بوحدتها وبساطتها واجدة لحقيقة هذه الصفات. والفرق بين كونه سبحانه عالماً وكون زيد عالماً ، بعد اشتراكهما في كونهما واجدين لحقيقة هذا الوصف ، هو أنّه سبحانه ببساطته واجد لهذا الكمال ، وذاته مصداق للعلم ، ولكنّ زيداً بذاته غير واجد لهذا الكمال وإنّما وصل إليه في مرتبة بعدها.

نعم ، كونه سبحانه عالماً بهذا المعنى يخالف ما هو المتبادر منه لفظ « العالم » وأشباهه ، فإنّ المتبادر منه هو الذات المتّصفة بالمبدأ لا الذات البسيطة المتحقّق فيها المبدا ، والقسم الثاني مصداق جديد لم يتعرّف عليه العرف كما لم يتعرّف عليه الواضع ، وإنّما هو مصداق كشف عنه العقل بدقّته وغفل عنه العرف لمسامحته ، ولكنّه لا يضر

٣١٨

بالاطلاق ، لأنّ العرف لا يتوجّه إلى هذه الدّقائق ، وأهل الدقّة غير غافلين عن هذا الفرق ، وارتكاب خلاف الظواهر بهذا المقدار فراراً عن الاشكالات العقليّة كثير النظير (١).

ثمّ إنّ القائلين بوحدة الصّفات مع الذات لا يعنون منها الوحدة من حيث المفهوم والموضوع له ، بداهة أنّ ما يفهم من لفظ الجلالة في قولنا « الله عالم » غير ما يفهم من المحمول كلفظ « العالم » وإنّما يعنون بها الوحدة من حيث العينيّة والتحقّق ، بمعنى أنّ ما هو المصداق للفظ الجلالة هو المصداق للفظ العالم ، وهكذا سائر الصفات.

برهان بديع لاثبات الوحدة

ثمّ إنّ لأهل التّحقيق في إثبات الوحدة العينيّة براهين دقيقة نكتفي بذكر واحد منها :

« إنّ بديهة العقل حاكمة بأنّ ذاتاً ما إذا كان لها من الكمال ما هو بحسب نفس ذاتها ، فهي أفضل وأكمل من ذات لها كمال زائد على ذاتها ، لأنّ تجمّل الاُولى بذاتها ، وتجمّل الثانية بصفاتها. وما تجمّل بذاته أشرف ممّا يتجمّل بغير ذاته ، وإن كان ذلك الغير صفاته. وواجب الوجود يجب أن يكون في أعلى ما يتصوّر من البهاء والشّرف والجمال ، لأنّ ذاته مبدأ سلسلة الوجودات وواهب كلّ الخيرات والكمالات ، والواهب المفيض لا محالة أكرم وأمجد من الموهوب المفاض عليه ، فلو لم يكن كماله بنفس حقيقته المقدّسة ، بل مع اللّواحق لكان المجموع من الذات واللّواحق أشرف من الذات المجرّدة ، والمجموع معلول فيلزم أن يكون المعلول أشرف وأكمل من علّته وهو محال بيّن الاستحالة » (٢).

هذا هو واقع النّظرية وحقيقتها ، وأنت إذا لاحظت دليلها وما أوضحناها به

__________________

١ ـ قال سبحانه ( الآن خفف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً ) ( الانفال / ٦٦ ) فهل يمكن الأخذ بظاهره البدئي في أنّه لم يكن عالماً قبله.

٢ ـ الاسفار : ج ٦، ص ١٣٤ ـ ١٣٥.

٣١٩

تقف على أنّ ما ردّ به تلك النظرية ناش عن عدم الوقوف على مراد القائل ، ولو أنّهم كانوا واقفين على مصدر هذه النظريّة لما وجّهوا إليها سهامهم المرقوشة ، وإليك تلك الردود واحداً بعد الآخر.

١ ـ قال الأشعري : « وألزم أبو الهذيل فقيل له : إذا قلت إنّ علم الله هو الله فقل : يا علم الله اغفر لي وارحمني فأبى ذلك ، فلزمته المناقضة ».

٢ ـ وقال : « إنّ من قال عالم ولا علم ، كان مناقضاً ، كما أنّ من قال علم ولا عالم كان مناقضاً » (١).

يلاحظ عليه : أمّا أوّلاً : فإنّ أبا الهذيل لم يقل بالوحدة من حيث المفهوم وإنّما قال بالوحدة من حيث التحقق والعينيّة وما ذكره من النّقض إنّما يرد على الوجه الأوّل لا على الوجه الثاني. فلا يصحّ أن يقال « يا علم الله اغفرلي » ، لأنّ المفهوم من لفظ علم الله غير المفهوم من لفظ الجلالة ، فلا يصحّ أن يوضع « علم الله » من حيث المفهوم مكان لفظ « الله » ويدعى بمفهوم غيره ، ولأجل ذلك لا يصحّ أن يقال يا موجود ، ويقصد به الله سبحانه ، بحجّة أنّ ماهيّته إنيّته ، ووجوده نفس ماهيّته.

وأمّا ثانياً : فبأنّ الشيخ الأشعري خلط بين نظريّة أبي الهذيل ونظرية الجبّائي الّذي تتلمذ عليه الشيخ الأشعري سنين متمادية إلى أن رفضه ورفض مذهبه ، وانسلك في عداد الحنابلة. فتصوّر أنّ مذهب أبي عليّ نفس مذهب أبي الهذيل. ففي مذهب أبي علي ، الذات خالية من الصّفات الحقيقيّة ، غير أنّها نائبة منابها ، ولأجل هذه النيابة يصحّ الحمل ، ويجيء توضيحه عمّا قريب ، بخلافه على مذهب أبي الهذيل.

٣ ـ قال البغدادي : « الفضيحة الرابعة من فضائحه ( أبي الهذيل ) قوله بأنّ علم الله سبحانه وتعالى هو الله وقدرته هي هو ، ويلزمه على هذا القول أن يكون الله تعالى علماً وقدرة ، ولو كان هو علماً وقدرة لاستحال أن يكون عالماً قادراً ، لأنّ العلم لا يكون

__________________

١ ـ الابانة : ص ١٠٨.

٣٢٠