بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

الاُصول الخمسة للباهلي ، ٨ ـ كتاب ردّ الإمامة لبعض الروافض ، ٩ ـ الردّ على اُصول القرامطة ، ١٠ ـ كتاب ردّ تهذيب الجدل للكعبي ، ١١ ـ رد وعيد الفسّاق للكعبي أيضاً ، ١٢ ـ رد أوائل الأدلّة له أيضاً.

٩ ـ الفرق بين المنهجين : الأشعرية والماتريدية :

لا شكّ أنّ الإمامين ، الأشعري والماتريدي كانا يتحرّكان في فلك واحد وكانت الغاية هي الدفاع عن عقيدة أهل السنّة ، والوقوف في وجه المعتزلة و ـ مع ذلك ـ لايمكن أن يتّفقا في جميع المسائل الرئيسية ، فضلاً عن التّفاريع ، وذلك لأنّ الأشعري اختار منهج الإمام أحمد ، وطابع منهجه هو الجمود على الظّواهر ، وقلّة العناية بالعقل والبرهان ، والشيخ الأشعري وإن تصرّف فيه وعدّله ، ولكن لمّا كان رائده هو الفكرة الحنبليّة فقد عرقلت نطاق عقله عن التوسّع ، ولو تجاوز عنها فإنّما يتجاوز مع التحفّظ على اُصولها.

وأمّا الماتريديّ فقد تربّى في منهج تلامذة الإمام أبي حنيفة ، ويعلو على ذلك المنهج ، الطّابع العقلي والإستدلال ، كيف ومن اُسس منهجه الفقهي ، هوالعمل بالمقاييس والاستحسانات ، وعلى ضوء هذا فلا يمكن أن يكون التلميذان متوافقين في الاُصول ، فضلاً عن الفروع ، وأن يقع الحافر على الحافر في جميع المجالات ، وقد أشغل هذا الموضوع بالَ المحقّقين ، وحاولوا تبيين أنّ أيّاً من الداعيين أعطى للعقل سلطاناً أكبر ، وتفرّقوا في ذلك إلى أقوال نذكرها :

١ ـ قال أحمد أمين المصري : « لقد اتّفق الماتريدي والأشعري على كثير من المسائل الأساسية ، وقد أُلِّفت كتب كثيرة وملخّصات ، بعضها يشرح مذهب الماتريدي كـ ( العقائد النسفية ) لنجم الدين النسفي ، وبعضها يشرح عقيدة الأشعري كـ ( السنوسية ) و ( الجوهرة ) ، وقد أُلِّفت كتب في حصر المسائل الّتي اختلف فيها الماتريدي والأشعري ، ربّما أوصلها بعضهم إلى أربعين مسألة ـ ثمّ قال : إنّ لون الإعتزال

٢١

أظهر في الأشعريّة بحكم تتلمذ الأشعري للمعتزلة عهداً طويلاً ، واستشهد على ذلك بأنّ الأشعري يقول بوجوب المعرفة عقلاً قبل بعث الأنبياء دون الماتريدي » (١).

والظّاهر أنّ ما ذكره الكاتب من هفو القلم وسهوالفكر ، إذ مضافاً إلى أنّ كتابي الماتريدي « التوحيد والتفسير » وآراء تلاميذه تشهد على خلاف ما ذكر. إنّ ما استشهد به على ما تبنّاه خلاف الواقع ، فالأشعري يقول بوجوب المعرفة سمعاً لا عقلاً ، والماتريدي على العكس كما ستوافيك نصوص القوم عند عرض المذهب ، والعجب أنّه قد سجّل نظرية الإمامين قبيل هذا ، على خلاف ما ذكره هنا وقال : يقول الماتريدية : إنّه تعالى لو لم يبعث للناس رسولاً لوجب عليهم بعقولهم معرفته تعالى ، ومعرفة وحدانيّته ، واتّصافه بما يليق ، وكونه محدثاً للعالم ، كما روي ذلك عن أبي حنيفة ، وذهب مشايخ الأشاعرة إلى أنّه لا يجب إيمان ، ولا يحرم كفر قبل البعث.

فإذا (٢) كان أحمد أمين قائلاً بغلبة لون الإعتزال على الأشعري ، فهناك من ذهب إلى خلافه ، وإليك البيان :

٢ ـ قال أبو زهرة : « إنّ منهاج الماتريدية للعقل سلطان كبير فيه من غير أيّ شطط أو إسراف ، والأشاعرة يتقيّدون بالنّقل ويؤيِّدونه بالعقل ، حتّى إنّه يكاد الباحث يقرّر أنّ الأشاعرة في خطّ بين الإعتزال وأهل الفقه والحديث ، والماتريديّة في خطّ بين المعتزلة والأشاعرة ، فإذا كان الميدان الّذي تسير فيه هذه الفرق الإسلاميّة الأربع ، والّتي لا خلاف بين المسلمين في أنّها جميعاً من أهل الإيمان ، ذا أقسام أربعة ، فعلى طرف منه المعتزلة ، وعلى الطرف الآخر أهل الحديث ، وفي الربع الّذي يلي المعتزلة ، الماتريديّة ، وفي الربع الّذي يلي المحدّثين ، الأشاعرة » (٣).

يلاحظ عليه : أنّه كيف جعل أبو زهرة هؤلاء كلّهم من أهل الايمان ، مع أنّ بين

__________________

١ ـ ظهر الاسلام : ج ٤ ص ٩١ ـ ٩٥.

٢ ـ المصدر نفسه.

٣ ـ تاريخ المذاهب الاسلاميّة : ج ١ ص ١٩٩.

٢٢

أهل الحديث طوائف المشبِّهة ، والمجسِّمة ، والقائلين بالجبر المستلزم للغوية التكليف وبعث الأنبياء ، فهل يصحّ أن يعدّ من يصوّر بعث الأنبياء لغواً ، وإنزال الكتب عبثاً ، من أهل الإيمان؟ والحال أنّه لا تقصر عقيدة هؤلاء عن عقيدة أهل الجاهليّة الاُولى الّذين وصفهم الإمام علي عليه‌السلام في خطبة بقوله « وأهل الأرض يومئذ ( يوم بعث النّبي الأكرم ) ملل متفرِّقة ، وأهواء منتشرة ، وطوائف متشتّتة ، بين مشبِّه للّه بخلقه ، أو ملحد في اسمه ، أو مشير به إلى غيره » (١).

ويا للعجب! إذا قسّم أبو زهرة ساحة الإيمان كلّها لهذه الطوائف الأربع ، فأين يقع مكان أئمّة أهل البيت في هذه الساحة وليس لأحد إنكار فضيلتهم ، لأنّهم الّذين أوجب الله سبحانه مودّتهم في القرآن وجعلها أجر رسالته وقال : ( قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَودَّةَ في القُرْبى ). ( الشورى / ٢٣ )؟!! وعرّفهم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّهم أعدال الكتاب وقرناؤه ، وقال : « إنّي تارك فيكم الثّقلين : كتاب الله وعترتي » (٢).

وقد عرف الأبكم والأصمّ ـ فضلاً عن غيرهما ـ أنّ أئمّة أهل البيت لم يكونوا في أحد هذه المذاهب ، ولا كانوا مقتفين لأحد هذه المناهج ، بل كان لهم منهج خاصّ لا يفترق عن الكتاب ، والسنّة ، والعقل السليم ، فما معنى هذا التقسيم؟ « ما هكذا تورد يا سعد الإبل » و « تلك إذاً قسمة ضيزى » ، « أهم يقسمون رحمة ربّك ... ».

٣ ـ قال الشّيخ محمّد زاهد الكوثري : « الماتريديّة هم الوسط بين الأشاعرة والمعتزلة ، وقلّما يوجد بينهم متصوّف ، فالأشعريّ والماتريدي هما إماما أهل السنّة والجماعة في مشارق الأرض ومغاربها ، لهم كتب لا تحصى ، وغالب ما وقع بين هذين الإمامين من الخلاف من قبيل اللّفظي » (٣).

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من أنّ الماتريديّة بين الأشاعرة والمعتزلة وإن كان متيناً ،

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الخطّبة ١ طبعة عبده ص ٢٥.

٢ ـ حديث متفق عليه رواه الفريقان.

٣ ـ مقدمة تبيين كذب المفتري : ص ١٩.

٢٣

كما سيأتي عند عرض مذهبهم ، لكن كون الخلاف بين الإمامين لفظيّاً واضح البطلان ، إذ كيف يكون النّزاع في التحسين والتقبيح العقليّين ، أمراً لفظيّاً ، مع أنّه تترتّب على الإثبات والإنكار مسائل كلاميّة كثيرة؟ أو كيف يكون الاختلاف في كون فعل الانسان فعلاً له حقيقة أو مجازاً من الاختلاف اللّفظي؟.

٤ ـ قال محقّق كتاب « التّوحيد » للماتريدي ، في مقدّمته : « إنّ شيخيّ السنّة يلتقيان على منهج واحد ومذهب واحد ، في أهمّ مسائل علم الكلام الّتي وقع فيها الخلاف بين فرق المتكلّمين » (١).

ولعلّه لا يرى الخلاف في التّحسين والتّقبيح ، وكون فعل الانسان فعلاً له حقيقة ، أو مجازاً ، اختلافاً جوهريّاً ، كما لا يرى الاختلاف في كون صفاته عين ذاته ، أو زائدة عليه ، أو جواز التّكليف بما لايطاق ، وعدمه كذلك. فاللازم عرض مذهبه عن طريق نصوصه الواردة في توحيده ، وتفسيره ، وكتب أنصاره ، حتى يعلم مدى اتّفاق الداعيين ، واختلافهما.

وقبل ذلك نختم البحث بكلمة الامام البزدوي ، أحد أنصار الماتريديّة في القرن الخامس ، وكان جدّ والده أحد تلاميذه. قال :

« وأبو الحسن الأشعري وجميع توابعه يقولون إنّهم من أهل السنّة والجماعة ، وعلى مذهب الأشعري عامّة أصحاب الشافعي ، وليس بيننا وبينهم خلاف إلاّ في مسائل معدودة قد أخطأوا فيها » (٢) وذكر بعد ذلك ، تلك المسائل المعدودة وهي لا تتجاوز عن ثلاث ، وسيوافيك نصّه! ولأجل وجود الإختلاف الجوهري بين المذهبين قام جماعة من المعنيّين بتبيين الفروق الموجودة فيهما ، بين موجز في الكلام ، ومسهب فيه ، وربّما ألّفوا كتباً ورسائل ، وإليك ما وقفنا عليه في هذا المجال :

أ ـ اُصول الدين للامام البزدوي ، قال فيه تحت عنوان « ما خالف أبو الحسن

__________________

١ ـ مقدمة التوحيد ، بقلم محققه الدكتور فتح اللّه خليف : ص ١٨.

٢ ـ اُصول الدين للامام محمد بن محمد بن عبد الكريم البزدوي : ص ٢٤٢.

٢٤

الأشعري عامّة أهل السنّة والجماعة ».

١ ـ قال أهل السنّة والجماعة : إنّ للّه تعالى أفعالاً ، وهي الخلق ، والرزق ، والرحمة ، واللّه تعالى قديم بأفعاله كلّها ، وأفعال اللّه ليست بحادثة ، ولامحدثة ، ولا ذات الله ، ولا غير الله تعالى ، كسائر الصِّفات.

وأبوالحسن الأشعري أنكر أن يكون للّه تعالى فعل ، وقال : الفعل والمفعول واحد ، ووافق في هذا القدريّة والجهميّة ، وعليه عامّة أصحابه ، وهو خطأ محض (١).

٢ ـ وقال أهل السنّة والجماعة : المعاصي والكفر ليست برضى اللّه ، ولا محبّته ، وإنّما هي بمشيئة اللّه تعالى.

وأبوالحسن قال : إنّ اللّه تعالى يرضى بالكفر والمعاصي ، ويحبّها ، وهو خطأ محض أيضاً.

٣ ـ وقال أهل السنّة والجماعة : إنّ الايمان هو التّصديق والإعتقاد بالقلب ، والإقرار باللّسان ، وقال أبو الحسن : إنّ الايمان هو التّصديق بالقلب ، والإقرار بالّلسان فرض من الفروض ، وهو خطأ أيضاً. وشرّ مسائله مسألة الأفعال.

وذكر أبوالحسن في كتاب « المقالات » مذهب أهل الحديث ، ثمّ قال : وبه نأخذ، ومذهب أهل الحديث في هذه المسائل الثّلاث مثل مذهب أهل السنّة والجماعة. فهذا القول يدلّ على أنّه كان يقول مثل ما قال أهل السنّة والجماعة في هذه المسائل ، ولكن ذكر في الموجز الكبير كما ذكرنا هنا ، فكان حبّه (٢) في هذه المسائل قولان ، فكأنّه رجع عن هذه المسائل الثّلاث.

وكان يقول : كلّ مجتهد مصيب في الفروع ، وعامّة أهل السنّة والجماعة قالت : يخطىء ويصيب (٣).

__________________

١ ـ سيوافيك عند عرض مذهب الماتريديّة توضيح مرامهم.

٢ ـ كذا في الأصل وضبطه المحقق بضم الباء.

٣ ـ اُصول الدين للبزدوي : ص ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

٢٥

ب ـ « إشارات المرام من عبارات الامام » تأليف كمال الدين البياضي الحنفيّ من علماء القرن الحادي عشر ، فقد طرح النّقاط الخلافيّة بين الإمامين فبلغ إلى خمسين مسألة (١).

ج : نظم الفرائد وجمع الفوائد في بيان المسائل الّتي وقع فيها الاختلاف بين الماتريديّة والأشعريّة تأليف عبد الرحيم بن علي المعروف بـ « شيخ زاده » طبع في القاهرة ( عام ١٣١٧ هـ ).

د : الروضة البهيّة في ما بين الأشعريّة والماتريديّة تأليف أبي عذبة ، طبع في حيدر آباد ( عام ١٣٣٢ هـ ).

هـ : خلافيّات الحكماء مع المتكلّمين ، وخلافيّات الأشاعرة مع الماتريديّة ، تأليف عبدالله بن عثمان بن موسى مخطوطة دار الكتب المصريّة ( بالرقم ٣٤٤١ج ) (٢).

و : قصيدة في الخلاف بين الأشعريّة والماتريديّة تأليف تاج الدين السبكي ، مؤلّف ( طبقات الشافعيّة الكبرى ) المطبوعة بمصر ( عام ١٣٢٤ هـ ) مخطوطة الجامعة العربيّة الرقم (٢٠٢) المصوّرة عن مخطوطة جامع الشيخ بالاسكندرية (٣).

وهذه العناية المؤكّدة في طول الأجيال تعرب عن كون الفرق أو الفوارق جوهريّاً ، لا لفظيّاً ، وإلاّ فلا وجه لتأليف الكتب والرسائل لبيان الفوارق اللّفظية أو الجزئيّة ، الموجودة بين المنهجين ، وسيظهر الحقّ في البحث التالي.

١٠ ـ عرض مذهب الماتريدي :

ولا نهدف في هذا الفصل إلى عرض كلّ ما يعتقد به الماتريدي في مجال العقائد والاُصول ، فإنّ قسماً من عقائده هو عين عقيدة أهل الحديث والأشعري ، وقد عرضنا

__________________

١ ـ اشارات المرام : ص ٥٣ ـ ٥٦.

٢و٣ ـ انظر مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي : ص ٢٥.

٢٦

عقائدهم في الجزء الأول من هذه السلسلة ، وإنّما نقوم ببيان الاُصول المهمّة الّتي افترق فيها عن الأشعري ، مع الاعتراف بأنّ الماتريدي يتدرّع في بعض الموارد بنفس ما يتدرّع به الأشعري ، ومن هذا الباب تصحيح القول بالرؤية ، فإنّ القول برؤيته في النشأة الآخرة ملازم لكونه سبحانه محاطاً وواقعاً في جهة ومكان ، ومن أجل ذلك قام العلمان في دفع الإشكال على نمط واحد ، وهو أنّ الرؤية تقع « بلا كيف » أو ما يفيد ذلك ، حتّى يُرضيا بذلك أهل النقل والعقل.

قال ابن عساكر : « قالت الحشويّة المشبِّهة : إنّ اللّه سبحانه وتعالى يرى مكيّفاً محدوداً كسائر المرئيات ، وقالت المعتزلة والجهمية والنجارية : إنّه سبحانه لا يرى بحال من الأحوال فسلك الأشعري طريقاً بينهما فقال : يرى من غير حلول ، ولا حدود ، ولا تكييف ، كما يرانا هو سبحانه وتعالى ، وهو غير محدود ، ولا مكيّف » (١).

وقد نقلنا نصوص نفس الأشعري في موضع الرؤية عند عرض عقائده (٢).

وقال الماتريدي في ذلك البحث : « فإن قيل : كيف يرى؟ قيل : بلا كيف ، إذ الكيفيّة تكون لذي صورة ، بل يرى بلا وصف قيام وقعود ، واتّكاء وتعلّق ، واتّصال وانفصال ، ومقابلة ومدابرة ، وقصير وطويل ، ونور وظلمة ، وساكن ومتحرِّك ، ومماسّ ومباين ، وخارج وداخل ، ولا معنى يأخذه الوهم ، أو يقدره العقل ، لتعاليه عن ذلك » (٣).

يلاحظ عليه : أنّ الرؤية بهذه الخصوصيّات إنكار لها ، وأشبه بالأسد بلا ذنب ، ولارأس.

والّذي تبيّن لي بعد التأمّل في آرائه في كثير من المسائل الكلاميّة ، أنّ منهجه كان يتمتّع بسمات ثلاث :

١ ـ الماتريدي أعطى للعقل سلطاناً أكبر ، ومجالاً أوسع ، وذلك هو الحجر الأساس

__________________

١ ـ تبيين كذب المفتري لابن عساكر : ص ١٤٩ ـ ١٥٠.

٢ ـ لاحظ الجزء الثاني : ص ٢٠١.

٣ ـ التوحيد للماتريدي : ص ٨٥.

٢٧

للسمتين الأخيرتين.

٢ ـ إنّ منهج الماتريدي أبعد من التّشبيه والتّجسيم من الأشعري ، وأقرب إلى التّنزيه.

٣ ـ إنّه وإن كان يحمل حملة عنيفة على المعتزلة ، ولكنّه إلى منهجهم أقرب من الإمام الأشعري.

وتظهر حقيقة هذا الأمر إذا عرض مذهبه في مختلف المسائل ، ولمعرفة جملة من مواضع الاختلاف ودراسة نقاط القوّة والضّعف ، نذكر موارد عشرة ونترك الباقي روماً للإختصار.

١ ـ استيلاؤه على العرش :

اتّفق الداعيان على أنّه يجب الإيمان بما جاء في القرآن من الصِّفات للّه تبارك وتعالى ، ومنها استيلاؤه على العرش، والأشعري يفسّره على نحو الإثبات ويؤمن بظاهره بلا تفويض ولا تأويل ، وأنّ الله حقيقةً مستو على العرش لكن استيلاءً مناسباً له ، ويقول : « إنّ الله مستو على العرش الّذي فوق السّماوات » ولأجل دفع توهّم التجسيم يقول : « يستوي على عرشه كما قال ، يليق به من غير طول الإستقرار » ويستشهد بما روي عن رسول الله : إذا بقي ثلث الليل ينزل اللّه تبارك وتعالى ، فيقول : من ذا الّذي يدعوني فأستجيب له (١).

وعلى ضوء هذا فالأشعري ممّن يثبت الصفات الخبريّة للّه بلا تفويض معناها إليه ، غاية الأمر يتدرّع بلفظة « على نحو يليق به » أو « بلا كيف » كما في الموارد الاُخر ، ولكنّ الماتريدي مع توصيفه سبحانه بالصفات الخبريّة ، يفوِّض مفاد الآية إليه سبحانه ، فهو يفارق الأشعري في التّفويض وعدمه ، ويخالف المعتزلة في التّأويل وعدمه ، فالأشعري من المثبتة بلا تفويض وتأويل ، وهو من المثبتة مع التّفويض ، كما أنّ المعتزلة

__________________

١ ـ الابانة : ص ٨٥.

٢٨

من المؤوِّلة ، وبذلك يتّضح كونه بين الأشعري والمعتزلي ، وإليك نصّه في مورد استوائه على العرش :

قال : « وأمّا الأصل عندنا في ذلك أنّ اللّه تعالى قال ليس كمثله شيء » فنفى عن نفسه شبه خلقه ، وقد بيّنا أنّه في فعله وصفته متعال عن الأشباه ، فيجب القول بـ ( الرّحمنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوى ) على ما جاء به التنزيل ، وثبت ذلك في العقل ، ثمّ لا نقطع تأويله على شيء ، لاحتماله غيره مما ذكرنا ، واحتماله أيضاً ما لم يبلغنا ممّا يعلم أنّه غير محتمل شبه الخلق ، ونؤمن بما أراد اللّه به ، وكذلك في كلّ أمر ثبت التنزيل فيه ، نحو الرؤية وغير ذلك ، يجب نفي الشبه عنه ، والإيمان بما أراده من غير تحقيق على شيء دون شيء ، واللّه الموفِّق » (١).

٢ ـ معرفته سبحانه واجبة عقلاً :

اتّفق الداعيان على وجوب معرفة الله ، واختلفا في طريق ثبوت هذا الوجوب ، فالأشعري وأتباعه على أنّه سمعي ، والمعتزلة على أنّه عقلي ، قال العضدي في المواقف : النّظر إلى معرفة اللّه واجب إجماعاً ، واختلف في طريق ثبوته ، فهو عند أصحابنا السمع ، وعند المعتزلة العقل. أمّا أصحابنا فلهم مسلكان :

الأوّل : الاستدلال بالظّواهر مثل قوله تعالى : ( قُلِ انْظُرُوا مَاذا فِي السَّمواتِ وَالأَرْضِ ) إلى آخره (٢).

ولا يخفى وهن النّظرية ، لاستلزامها الدور ، لأنّ معرفة الإيجاب تتوقّف على معرفة الموجِب ، فإنّ من لا نعرفه بوجه من الوجوه ، كيف نعرف أنّه أوجب؟ فلو استفيدت معرفة الموجِب من معرفة الإيجاب ، لزم الدور.

وأيضاً : لو كانت المعرفة تجب بالأمر ، فهو إمّا متوجّه إلى العارف باللّه أو غيره ،

__________________

١ ـ التوحيد للماتريدي : ص ٧٤.

٢ ـ المواقف : ص ٢٨ وشرحها ج ١ ص ١٢٤و الآية ١٠١ من سورة يونس ..

٢٩

فالأوّل تحصيل للحاصل ، وأمّا الثاني ، فهو باطل ، لاستحالة خطاب الغافل ، إذ كيف يصحّ الأمر بالغافل المطلق بأنّ الله قد أمره بالنّظر والمعرفة ، وأنّ امتثال أمره واجب إلاّ إذا خصّ الوجوب بالشّاك.

هذا ما عليه الأشاعرة ، وأمّا الماتريديّة فتقول بوجوبها عقلاً مثل المعتزلة. قال البياضي : « ويجب بمجرّد العقل في مدة الاستدلال ، معرفة وجوده ، ووحدته ، وعلمه ، وقدرته ، وكلامه ، وإرادته ، وحدوث العالم ، ودلالة المعجزة على صدق الرّسول ، ويجب تصديقه ، ويحرم الكفر ، والتّكذيب به ، لا من البعثة وبلوغ الدعوة » (١).

القول بوجوب هذه الاُمور من جانب العقل من قبل أن يجيء الشرع دفعاً لمحذور الدور يعرب عن كون الداعي ، أعطى للعقل سلطاناً أكبر مما أعطاه الأشعري له.

٣ ـ الاعتراف بالتحسين والتقبيح العقليين :

إنّ لمسألة التحسين والتقبيح العقليين دوراً مؤثّراً في المسائل الكلامية ، فالأشاعرة على إنكارهما زاعمين أنّ القول باستطاعة العقل على دركهما ، يستلزم نفي حرّية المشيئة الإلهيّة والتزامها بقيد وشرط ، وقد أوضحنا حال هذه النّظرية عند عرض عقائد الأشاعرة (٢). وأمّا المعتزلة فهم على جانب مخالف ، وأمّا الماتريديّة فيعترفون بالتحسين والتقبيح ببعض مراتبهما.

قال البياضي : والحسن بمعنى استحقاق المدح والثّواب ، والقبح بمعنى استحقاق الذمّ والعقاب على التكذيب عنده ( أبي منصور الماتريدي ) إجمالاً عقلي ، أي يعلم به حكم الصانع في مدّة الاستدلال في هذه العشرة (٣). كما في التوضيح وغيره ، لا بإيجاب العقل للحسن والقبح ، ولا مطلقاً كما زعمته المعتزلة ، أمّا كيفيّة الثّواب وكونه

__________________

١ ـ اشارات المرام : فصل الخلافيات بين جمهور الماتريدية والأشعرية ص ٥٣.

٢ ـ لاحظ الجزء الثاني : ص ٣١٠ ـ ٣٣٢.

٣ ـ اشارة إلى ما ذكره من المسائل العشر خلال البحث في وجوب المعرفة عقلاً.

٣٠

بالجنّة ، وكيفيّة العقاب وكونه بالنّار ، فشرعي ، واختار ذلك الامام القفّال الشاشي ، والصيرفي ، وأبو بكر الفارسي ، والقاضي أبو حامد ، وكثير من متقدّميهم ، كما في القواطع للامام أبي المظفّر السمعاني الشافعي والكشف الكبير ، وهو مختار الامام القلانسي ومن تبعه كما في ( التبصرة البغدادية ). ولا يجوز نسخ مالا يقبل حسنه أو قبحه السقوط كوجوب الايمان ، وحرمة الكفر واختاره المذكورون ـ إلى أن قال : ـ ويستحيل عقلاً اتّصافه تعالى بالجور وما لا ينبغي ، فلا يجوز تعذيب المطيع ، ولا العفو عن الكفر ، عقلاً ، لمنافاته للحكمة ، فيجزم العقل بعدم جوازه ، كما في التنزيهات (١).

وغير خفيّ على النابه أنّ الشيخ الماتريدي قد اعترف بما هو المهمّ في باب التحسين والتقبيح العقليين وإليك الاشارة إليه :

١ ـ استقلال العقل بالمدح والذمّ في بعض الأفعال ، وهذا هو محلّ النزاع في بابهما بأن يجد العقل من صميم ذاته أنّ هنا فعلين مختلفين يستحقّ فاعل أحدهما المدح ، وفاعل الآخر الذم ، سواء أكان الفاعل بشراً ، أم انساناً ، أم ملكاً ، أم غيرهما ، وتبتنى عليه اُصول كثيرة كلاميّة أوعزنا إليها عند عرض عقائد الأشعري وآرائه.

٢ ـ استقلال العقل بكونه سبحانه عادلاً ، فلا يجوز عليه تعذيب المطيع ، وأين هو ممّا يقول به الأشعري من أنّه يجوز للّه سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة وهو عادل إن فعله (٢).

٣ ـ نعم أنكر الشيخ إيجاب العقل للحسن والقبح ، ولكنّه لو كان واقفاً على مغزى إيجاب العقل لم يعترض عليه ، إذ لا يوجد في أديم الأرض إنسان عاقل عارف بمقام الربّ والخلق ، يجعل العقل موجِباً ومكلِّفاً ـ بالكسر ـ واللّه سبحانه موجَباً ومكلَّفاً ـ بالفتح ـ، لأنّ شأن العقل هو الادراك ، ومعنى إيجابه القيام بالحسن ، والاجتناب عن ضدّه ، هو استكشافه لزوم القيام بالأوّل وامتناع القيام بالثّاني بالنّظر إلى

__________________

١ ـ اشارات المرام : فصل الخلافيات بين الماترديّة والأشاعرة ، ص ٥٤.

٢ ـ اللمع : ص ١١٦.

٣١

المبادىء الموجودة في الفاعل الحكيم ، فالمتّصف بكلّ الكمال ، والمبرّأ عن كلّ سوء ، لايصدر منه إلاّ الحسن لوجود الصارف عن غيره ، ويمتنع صدور غيره عنه ، وليس هذا الامتناع امتناعاً ذاتيّاً بمعنى تحديد قدرته ومشيئته ، بل قدرته ومشيئته مطلقتان بالذّات غير محدودتين ، فهو سبحانه قادر على كلا القسمين من الفعل أعني الحسن والقبح ، لكن بالنّظر إلى أنّه عالم واقف على قبح الأفعال ، وغنىُّ عن فعل القبح ، يترك القبيح ولا يفعله ، واللّه الحكيم كتب على نفسه أن لا يخلّ بالحسن ولا يفعل القبيح ، وليس دور العقل إلاّ دور الكشف والتبيين ، والتعبير بالإيجاب بملاك الوقوف على المبادئ الكماليّة الموجودة في المبدأ كقولك : يجب أن تكون زوايا المثلّث متساوية مع زاويتين قائمتين ، فإنّ الخصوصيّة التكوينيّة الكامنة فيه مبدأ ذلك الإيجاب ، والعقل كاشفه ، ومع ذلك ربّما يعبّر عن ذلك بالإيجاب.

٤ ـ اختار الماتريدي قصور العقل عن تعيين كيفيّة الثواب وكونه بالجنّة ، وكيفيّة العقاب وكونه بالنار وهو الحق ، فإنّ أقصى ما يستقلّ به العقل هو لزوم مثوبة المطيع ومجازاة العاصي ، وأمّا الكيفيّة فلا يستقلّ العقل بشيء منها ( على فرض كون الثّواب بالاستحقاق ). نعم ما ذكره من أنّه ليس للّه العفو عن الكفر عقلاً ، فالظّاهر أنّه تحديد رحمته وقد سبقت غضبه ، والتّعذيب حقُّ له ، وله الإعمال وله العفو كعصيان المؤمن الفاسق. نعم أخبر المولى سبحانه بأنّه لا يغفر الشرك ، ويغفر ما دون ذلك.

٤ ـ التكليف بما لا يطاق غير جائز :

ذهب الأشعري إلى جواز التكليف بما لايطاق وقال : « والدليل على جواز تكليف ما لا يطاق من القرآن قوله تعالى للملائكة : ( أَنْبِؤُني بِأسْماءِ هؤلاءِ ) ( البقرة / ٣١ ) يعني أسماء الخلق ، وهم لا يعلمون ذلك ولا يقدرون عليه .... إلى غير ذلك من الآيات الّتي عرفت مفادها في محلّها (١).

____________

١ ـ لاحظ الجزء الثاني من هذا الكتاب : ١٨٥.

٣٢

والماتريدي مخالف صنوه الداعي ويقول : « ولا يجوز التكليف بما لا يطاق لعدم القدرة أو الشرط ، واختاره الاُستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني كما في ( التبصرة ) وأبوحامد الاسفرائيني كما في شرح السبكي لعقيدة أبي منصور » (١).

هذا ما نقله البياضي عن الماتريديّة ، وأمّا نفس أبي منصور فقد فصّل في كتابه « التوحيد » بين مضيِّع القدرة فيجوز تكليفه ، وبين غيره فلا يجوز. قال : « إنّ تكليف من مُنع عن الطاقة فاسد في العقل ، وأمّا من ضيّع القوّة فهو حقّ أن يكلّف مثله ، ولو كان لا يكلّف مثله لكان لا يكلّف إلاّ من يطيع » (٢).

يلاحظ عليه :

١ ـ أنّ من الاُصول المسلّمة عند العقل ، كون الامتناع بالإختيار غير مناف للإختيار ، فمن ألقى نفسه من شاهق عن اختيار فقد قتل نفسه اختياراً ، فالقتل بعد الإلقاء وإن كان خارجاً عن الاختيار ، ولكنّه لمّا كان الإلقاء ـ الّذي يُعدّ من مبادئ القتل ـ في اختياره ، يعدّ القتل فعلاً اختياريّاً لا اضطراريّاً.

٢ ـ أنّ من فقد القدرة ، وعجز عن القيام بالعمل ، سواء أكان بعامل اختياريّ أم غيره ، لا يصحّ تكليفه به عن جد ، لأنّ فاقد القدرة والجماد في هذه الجهة سواسية ، فلا تظهر الارادة الجدّية في صقع الذهن ، ولو خوطب العاجز فإنّما يخاطب بملاكات أُخر من التقريع ، والتنديد ، وغيرهما.

وفي ضوء هذين الأمرين يستنتج أنّ من ضيّع قدرته يُعذَّب ، لما تقرّر من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ولكن لا يصحّ تكليفه بعد الضياع ، للغويّة الخطاب واستهجانه ، وبذلك يظهر وهن برهان المفصّل من أنّه لو لم يصحّ تكليف المضيِّع للقدرة لاختصّ التكليف بالمطيع ، لما عرفت من أنّ سقوط التكليف والخطاب

__________________

١ ـ اشارات المرام : ص ٥٤ في فصل الخلافيات بين جمهور الماتريدية والأشعرية.

٢ ـ التوحيد : ص ٢٦٦.

٣٣

بالتضييع ، لايستلزم سقوط العقاب والمؤاخذة ، وقد اشتهر بين القوم أنّ الامتناع بالاختيار ، لاينافي الاختيار عقاباً لا خطاباً ، ولو كان الماتريدي واقفاً على أنّ القائلين بامتناع التكليف بما لايطاق ، قائلون بصحّة عقوبة من ضيّع القدرة ، وجعل نفسه في عداد العجزة ، لما فصّل بين من مُنع منه الطّاقة ، ومن ضيّعها ، ولما ضرب الجميع بسهم واحد.

٥ ـ أفعال اللّه سبحانه معلّلة بالغايات :

ذهبت الأشاعرة إلى أنّ أفعاله سبحانه ليست معلّلة بالأغراض ، وأنّه لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح عليه شيء ، واستدلّوا على ذلك بما يلي :

١ ـ لو كان فعله تعالى لغرض ، لكان ناقصاً لذاته ، مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض ، لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه ، وهو معنى الكمال (١).

وقالت الماتريديّة : أفعاله تعالى معلّلة بالمصالح والحكم تفضّلاً على العباد ، فلا يلزم الاستكمال ولا وجوب الأصلح واختاره صاحب المقاصد (٢).

هل الغاية ، غاية للفاعل أو للفعل؟

إنّ الأشعري خلط بين الغرض الراجع إلى الفاعل ، والغرض الراجع إلى فعله ، فالاستكمال موجود في الأوّل دون الثاني ، والقائل بكون أفعاله معلّلة بالأغراض ، والغايات ، والدواعي ، والمصالح ، إنّما يعني بها الثاني دون الأوّل ، والغرض بالمعنى الأوّل ينافي كونه غنيّاً بالذات ، وغنيّاً في الصِّفات ، وغنيّاً في الأفعال ، والغرض بالمعنى الثاني يوجب خروج فعله عن كونه عبثاً ولغواً ، وكونه سبحانه عابثاً ولاغياً ، فالجمع بين كونه غنيّاً غير محتاج إلى شيء ، وكونه حكيماً منزّهاً عن العبث واللّغو ، يتحقّق بالقول باشتمال

__________________

١ ـ المواقف : ص ٣٣١.

٢ ـ اشارات المرام : ص ٥٤.

٣٤

أفعاله على مصالح وحِكم ترجع إلى العباد والنظام ، لا إلى وجوده وذاته ، كما لا يخفى.

تفسير العلة الغائية :

العلّة الغائيّة الّتي هي إحدى أجزاء العلّة التامّة ، يراد منها في مصطلح الحكماء ، ما تُخرج الفاعلَ من القوّة إلى الفعل ، ومن الامكان إلى الوجوب ، ويكون مقدّمة صورة وذهناً ، ومؤخّرة وجوداً وتحققاً ، فهي السبب لخروج الفاعل عن كونه فاعلاً بالقوّة إلى كونه فاعلاً بالفعل ، مثلاً النجّار لا يقوم بصنع الكرسيّ إلاّ لغاية مطلوبة مترتّبة عليه ، ولولا تصوّر تلك الغاية لما خرج عن كونه فاعلاً بالقوّة ، إلى ساحة كونه فاعلاً بالفعل ، وعلى هذا فللعلّة الغائيّة دور في تحقّق المعلول ، وخروجه من الإمكان إلى الفعليّة ، لأجل تحريك الفاعل نحو الفعل ، وسوقه إلى العمل.

ولا نتصوّر العلّة الغائيّة بهذا المعنى في ساحته سبحانه لغناه المطلق في مقام الذات ، والوصف ، والفعل ، فكما أنّه تامّ في مقام الوجود ، تامّ في مقام الفعل ، فلا يحتاج في الإيجاد إلى شيء وراء ذاته ، وإلاّ فلو كانت فاعليّة الحقّ كفاعليّة الانسان ، الذي لايقوم بالايجاد والخلق ، إلاّ لأجل الغاية المترتّبة عليه ، لكان ناقصاً في مقام الفاعليّة ، مستكملاً بشيء وراء ذاته وهو لا يجتمع مع غناه المطلق.

هذا ما ذكره الحكماء ، وهو حقّ لا غبار عليه ، وقد استغلّته الأشاعرة في غير موضعه واتّخذوه حجّة لتوصيف فعله عارياً عن أيّة غاية وغرض ، وجعلوا فعله كفعل العابثين واللاعبين ، يفعل ( العياذ باللّه ) بلا غاية ، ويعمل بلا غرض ، ولكنّ الاحتجاج بما ذكره الحكماء لإثبات ما رامته الأشاعرة واضح البطلان ، لأنّ إنكار العلّة الغائيّة بهذا المعنى ، لا يلازم أن لا يترتّب على فعله مصالح وحكم ينتفع بها العباد ، وينتظم بها النظام ، وإن لم تكن مؤثّرة في فاعليّة الحقّ وعليّته ، وذلك لأنّه سبحانه فاعل حكيم ، والفاعل الحكيم لا يختار من الأفعال الممكنة إلاّ ما يناسب ذلك ، ولا يصدر منه ما يضادّه ويخالفه.

٣٥

وبعبارة ثانية ، لا نعني من ذلك أنّه قادر لواحد من الفعلين دون الآخر وأنّه في مقام الفاعليّة يستكمل بالغاية ، فيقوم بهذا دون ذاك ، بل هو سبحانه قادر على كلا الأمرين ، لا يختار منهما إلاّ ما يوافق شأنه ، ويناسب حكمته ، وهذا كالقول بأنّه سبحانه يعدل ولا يجور ، فليس يعنى من ذلك أنّه تامّ الفاعليّة بالنسبة إلى العدل دون الجور ، بل يعنى أنّه تام القادريّة لكلا العملين ، لكن عدله ، وحكمته ، ورأفته ، ورحمته ، تقتضي أن يختار هذا دون ذلك مع سعة قدرته لكليهما.

هذا هي حقيقة القول بأنّ أفعال اللّه لا تعلّل بالأغراض والغايات المصطلحة ، مع كون أفعاله غير خالية عن المصالح والحكم من دون أن يكون هناك استكمال.

دليل ثان للأشاعرة :

ثمّ إنّ أئمّة الأشاعرة لمّا وقفوا على منطق العدليّة في المقام ، وأنّ المصالح والحكم ليست غايات للفاعل بل غايات للفعل ، وأنّها غير راجعة إلى الفاعل ، بل إلى العباد والنّظام ، طرحوه على بساط البحث فأجابوا عنه وإليك نصّ كلامهم :

١ ـ « فان قيل : لانسلّم الملازمة ، فإنّما الغرض قد يكون عائداً إلى غيره.

قيل له : نفع غيره والاحسان إليه إن كان أولى بالنسبة إليه تعالى من عدمه ، جاء الالزام ، لأنّه تعالى يستفيد حينئذ بذلك النّفع والاحسان ما هو أولى به وأصلح ، وإن لم يكن أولى بل كان مساوياً ، أو مرجوحاً ، لم يصلح أن يكون غرضاً له » (١).

وقد جاء بنفس هذا البيان « الفضل بن روزبهان » في ردّه على « نهج الحقّ » للعلاّمة الحلّي وقال :

« إنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه ، وذلك لأنّ ما يستوي وجوده وعدمه بالنّظر إلى الفاعل ، أو كان وجوده مرجوحاً بالقياس إليه ، لا يكون باعثاً

__________________

١ ـ المواقف : ص ٣٣٢.

٣٦

على الفعل ، وسبباً لإقدامه عليه بالضّرورة ، فكلّ ما يكون غرضاً وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل ، وأليق به من عدمه ، فهو معنى الكمال ، فإذن يكون الفاعل مستكملاً بوجوده ، ناقصاً بدونه » (١).

يلاحظ عليه : أنّ المراد من الأصلح والأولى به ، ما يناسب شؤونه ، فالحكيم لايقوم إلاّ بما يناسب شأنه ، كما أنّ كلّ فاعل غيره يقوم بما يناسب المبادئ الموجودة فيه ، فتفسير الأصلح والأولى بما يفيده ويكمِّله ، تفسير في غير موضعه.

ومعنى أنّه لا يختار إلاّ الأصلح والأولى ، ليس أنّ هناك عاملاً خارجاً عن ذاته ، يحدِّد قدرته ومشيئته ويفرض عليه إيجاد الأصلح والأولى ، بل مقتضى كماله وحكمته ، هو أن لا يخلق إلاّ الأصلح والأولى ، ويترك اللّغو والعبث ، فهو سبحانه لمّا كان جامعاً للصّفات الكماليّة ومن أبرزها كونه حكيماً ، صار مقتضى ذلك الوصف ، إيجاد ما يناسبه وترك ما يضادّه ، فأين هو من حديث الاستكمال ، والاستفادة ، والالزام ، والافراض ، كلّ ذلك يعرب عن أنّ المسائل الكلاميّة طرحت في جوّ غير هادئ وأنّ الخصم لم يقف على منطق الطّرف الآخر.

والحاصل ، أنّ ذاته سبحانه تامة الفاعليّة بالنسبة إلى كلا الفعلين : الفعل المقترن مع الحكمة ، والخالي عنها ، وذلك لعموم قدرته سبحانه للحسن والقبيح ، ولكن كونه حكيماً يصدّه عن ايجاد الثاني ويخصّ فعله بالأوّل ، وهذا صادق في كلّ فعل له قسمان : حسن وقبيح. مثلاً ، اللّه سبحانه قادر على إنعام المؤمن وتعذيبه ، وتامّ الفاعليّة بالنّسبة إلى الكل ، ولكن لا يصدر منه إلاّ القسم الحسن منهما لا القبيح ، فكما لا يستلزم القول بصدور خصوص الحسن دون القبيح ( على القول بهما ) كونه ناقصاً في الفاعليّة ، فهكذا القول بصدور الفعل المقترن بالمصلحة دون المجرّد عنها ، وإنعام المؤمن ليس مرجوحاً ولا مساوياً مع تعذيبه بل أولى به وأصلح ، لكن معنى صلاحه وأولويّته لا يهدف إلى استكماله أو استفادته منه ، بل يهدف إلى أنّه المناسب لذاته الجامعة للصفات الكماليّة ،

__________________

١ ـ دلائل الصدق : ج ١ ص ٢٣٣.

٣٧

المنزهة عن خلافها ، فجماله وكماله ، وترفّعه عن ارتكاب القبيح ، يطلب الفعل المناسب له ، وهو المقارن للحكمة ، والتجنّب عن مخالفتها.

والحاصل أنّ الله سبحانه فعل أم لم يفعل فهو كامل بلانهاية ، لكن لو فعل لاختار المناسب للحكمة وأين هو من الاستكمال.

دليل ثالث للأشاعرة :

وهناك دليل ثالث لهم حاصله : أنّ غرض الفعل خارج عنه ، يحصل تبعاً له وبتوسّطه ، وبما أنّه تعالى فاعل لجميع الأشياء ابتداءً ، فلا يكون شيء من الكائنات إلاّ فعلاً له ، لا غرضاً لفعل آخر لا يحصل إلاّ به ، ليصلح غرضاً لذلك الفعل ، وليس جعل البعض غرضاً أولى من البعض (١).

وكان عليه أن يقرّر الدليل بصورة كاملة ويقول : لو كان البعض غاية للبعض فإمّا أن ينتهي إلى فعل لا غاية له فقد ثبت المطلوب ، أو لا فيتسلسل وهو محال.

يلاحظ عليه : ـ أنّه لايشكّ من أطلّ بنظره إلى الكون ، أنّ بعض الأشياء بما فيها من الآثار خلق لأشياء اُخر ، فالغاية من ايجاد الموجودات الدانية كونها في خدمة العالية منها ، وأمّا الغاية في خلق العالية هي إبلاغها إلى حدّ تكون مظاهر ومجالي لصفات ربِّه ، وكمال بارئه.

إذا نظرنا إلى الكون بالنظر التجزيئي نرى هناك أوائل الأفعال ، وثوانيها ، وثوالثها و ... فيقع الداني في خدمة العالي ، ويكون الغرض من إيجاد العالي إيصاله إلى كماله الممكن الّذي هو أمر جميل بالذات ، ولا يطلب إيجاد الجميل بالذات غاية سوى وجوده لأنّ الغاية منطوية في وجوده.

هذا إذا نظرنا إلى الكون بالنظر التجزيئي. وأمّا إذا نظرنا إلى الكون بالنظر

__________________

١ ـ المواقف : ص ٣٢٢.

٣٨

الجملي ، فالغاية للنّظام الجملي ليس أمراً خارجاً عن وجود النظام حتّى يسأل عنها بالنحو الوارد في الدليل ، بل هي عبارة عن الخصوصيّات الموجودة فيه وهي بلوغ النظام بأبعاضه وأجزائه إلى الكمال الممكن ، والكمال الممكن المتوخّى من الإيجاد خصوصيّة موجودة في نفس النظام ، ويعدّ صورة فعليّة له ، فالله سبحانه خلق النظام ، وأوجد فعله المطلق ، حتّى يبلغ ما يصدق عليه فعله كلاًّ أو بعضاً إلى الكمال الّذي يمكن أن يصل إليه. فليست الغاية شيئاً مفصولاً عن النظام ، حتّى يقال ما هي الغاية لهذه الغاية حتّى تتسلسل ، أو تصل إلى موجود لا غاية له.

وبما أنّ إيصال كلّ ممكن إلى كماله ، غاية ذاتيّة ، لأنّه عمل جميل بالذات ، فيسقط السؤال عن أنّه لماذا قام بهذا ، لأنّه حين أوصل كلّ موجود إلى كماله الممكن ، فالسؤال يسقط إذا انتهى إلى السؤال عن الأمر الجميل بالذات.

فلو سئلنا عن الغاية لأصل الايجاد وإبداع النظام ، لقلنا : بأنّ الغرض من الإيجاد عبارة عن إيصال كلّ ممكن إلى كماله الممكن. ثمّ إذا طرح السؤال عن الهدف من إيصال كلِّ ممكن إلى كماله الممكن ، لكان السؤال جزافياً ساقطاً ، لأنّ العمل الحسن بالذات ، يليق أن يفعل ، والغاية نفس وجوده.

فالايجاد فيض من الواجب إلى الممكن ، وإبلاغه إلى كماله فيض آخر ، يتمّ به الفيض الأوّل ، فالمجموع فيض من الفيّاض تعالى إلى الفقير المحتاج ، ولا ينقص من خزائنه شيء ، فأيّ كمال أحسن وأبدع من هذا؟ وأىُّ غاية أظهر من ذلك ، حتّى تحتاج إلى غاية اُخرى؟ وهذا بمثابة أن يسأل لماذا يفعل اللّه الأفعال الحسنة بالذات؟ فإنّ الجواب ، مستتر في نفس السؤال وهو أنّه فعله لأنّه حسن بالذات ، وما هو حسن بالذات نفسه الغاية ، ولا يحتاج إلى غاية اُخرى.

ولأجل تقريب الأمر إلى الذهن نأتي بمثال : إذا سألنا الشابّ الساعي في التّحصيل وقلنا له : لماذا تبذل الجهود في طريق تحصيلك؟ فيجيب : لنيل الشهادة العلمية. فإذا أعدنا السؤال عليه وقلنا : ما هي الغاية من تحصيلها؟ يجيبنا : للاشتغال في

٣٩

إحدى المراكز الصناعية ، أو العلميّة ، أو الاداريّة. فإذا أعدنا السؤال عليه وقلنا : ماهي الغاية من الاشتغال فيها؟ يقول : لتأمين وسائل العيش مع الأهل والعيال. فلو سألناه بعدها عن الغاية من طلب الرفاه وتأمين سبل العيش، لوجدنا السؤال جزافياً. لأنّ ما تقدّم من الغايات وأجاب عنها ، غايات عرضية لهذه الغاية المطلوبة بالذات ، فإذا وصل الكلام إلى الأخيرة يسقط السؤال.

القرآن وأفعاله سبحانه الحكيمة :

والعجب عن غفلة الأشاعرة من النصوص الصريحة في هذا المجال. يقول سبحانه ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) ( المؤمنون / ١١٥ ) وقال عزّ من قائل : ( وما خَلَقْنَا السَّمواتِ والأرضَ وما بَيْنَهُما لاعِبين ) ( الدخان / ٣٨ ).

وقال سبحانه : ( ومَا خَلَقْنَا السَّماءَ والأرضَ ومَا بَيْنَهُما بَاطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ ) ( ص / ٢٧ ) وقال سبحانه : ( ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنسَ إلاّ لِيَعْبُدُون ) ( الذاريات / ٥٦ ) إلى غير ذلك من الآيات الّتي تنفي العبث عن فعله ، وتصرّح باقترانها بالحكمة والغرض.

وأهل الحديث وبعدهم الأشاعرة الّذين اشتهروا بالتعبّد بظواهر النصوص تعبّداً حرفيّاً غير مفوّضين معانيها إلى الله سبحانه ولا مؤوّليها ، لا مناص لهم إلاّ تناسي الآيات الماضية ، أو تأويلها ، وهم يفرّون منه ، وينسبونه إلى مخالفيهم.

عطف مذهب الحكماء على مذهب الأشاعرة :

ومن الخطأ الواضح ، عطف مذهب الحكماء على مذهب الأشاعرة ، وتصوير أنّ الطّائفتين يقولون بأنّ أفعال اللّه سبحانه غير معلّلة بالأغراض ، وهو خطأ محض. كيف وهذا صدر المتألهين يخطِّئ الأشاعرة ويقول : « إنّ من المعطِّلة قوماً جعلوا فعل اللّه تعالى خالياً عن الحكمة والمصلحة ، مع أنّك قد علمت أنّ للطّبيعة غايات » (١) وقال أيضاً :

__________________

١ ـ الأسفار : ج ٢، ص ٥٩.

٤٠