بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

فنستحلّه من دماء من قتلنا من أصحابه. فقال عليّ عليه‌السلام : « أما إنّ الله قد أحبط عملكما بندمكما على ما فعلتما » (١).

قال أبو الحسن : « والرافضة لجهلهم بأبي عليّ ومذهبه يرمونه بالنّصب وكيف وقد نقض كتاب عبّاد في تفضيل أبي بكر ، ولم ينقض كتاب الاسكافي المسمّى « المعيار والموازنة في تفضيل عليّ على أبي بكر » (٢).

إنّ العالم العابد رضي الدين بن طاووس ( المتوفّى سنة ٦٦٤ ) نقل كثيراً من آرائه في كتاب « سعد السعود » ونقضه ، ولو صحّت نسبة تلك الآراء إليه فهو مبغض للشيعة وقد أنكر كثيراً من الحقائق التأريخية فراجعه.

٦ ـ أبو هاشم الجبائي ( ت ٢٧٧ ـ م ٣٢١ )

عبدالسلام بن محمّد بن عبدالوهّاب بن أبي عليّ الجبائي ، قال الخطيب : « شيخ المعتزلة ومصنّف الكتب على مذاهبهم. سكن بغداد إلى حين وفاته » (٣).

وقال ابن خلّكان : « المتكّلم المشهور ، العالم بن العالم ، كان هو وأبوه من كبار المعتزلة ولهما مقالات على مذهب الاعتزال ، وكتب الكلام مشحونة بمذاهبهما واعتقادهما. وكان له ولد يسمّى أبا عليّ وكان عامّياً لا يعرف شيئاً. فدخل يوماً على الصاحب بن عبّاد فظنّه عالماً فأكرمه ورفع مرتبته. ثمّ سأله عن مسألة ، فقال : « لا أعرف نصف العلم » ، فقال له الصاحب : « صدقت يا ولدي ، إلاّ أنّ أباك تقدّم بالنصف الآخر » (٤).

وقد حكى الخطيب عنه تأريخ ولادته ، أنّه قال : « ولدت سنة سبع وسبعين ومائتين وولد أبي أبو عليّ سنة خمس وثلاثين ومائتين ومات في شعبان سنة ثلاث

__________________

١ ـ المنية والأمل : ص ٤٧.

٢ ـ المنية والأمل : ص ٤٧.

٣ ـ تاريخ بغداد : ج ١١، ص ٥٥.

٤ ـ وفيات الأعيان : ج ٣، ص ١٨٣.

٢٦١

وثلاثمائة ». قال أبو الحسن : ومات أبو هاشم في رجب سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة ببغداد وتولّيت دفنه في مقابر باب البستان من الجانب الشرقي ، وقد توفّي في اليوم الّذي توفّي أبو بكر بن دريد. وعن الحسن بن سهل القاضي : بينا نحن ندفن أبا هاشم إذ حملت جنازة اُخرى ومعها جُميعَة عرفتهم بالأدب. فقلت لهم : جنازة من هذه؟ فقالوا : جنازة أبي بكر ابن دريد ، فذكرت حديث الرشيد لمّا دفن محمّد بن الحسن والكسائي بالري في يوم واحد. قال : وكان هذا في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة ، فأخبرت أصحابنا بالخبر ، وبكينا على الكلام والعربيّة طويلاً ثم افترقنا.

وعلّق عليه الخطيب : « الصّحيح أنّ أبا هاشم مات في ليلة السبت الثالث والعشرين من رجب سنة إحدى وعشرين ، قال : وكان عمره ستّاً وأربعين سنة وثمانية أشهر وإحدى وعشرين يوماً » (١).

وقال القاضي نقلاً عن أبي الحسن بن فرزويه أنّه بلغ من العلم ما لم يبلغه رؤساء علم الكلام. وذكر أنّه كان من حرصه يسأل أبا عليّ ( والده ) حتّى يتأذّى منه ، فسمعت أبا عليّ في بعض الأوقات يسير معه لحاجة وهو يقول لا تؤذنا ويزيد فوق هذا الكلام.

وكان يسأله طول نهاره ما قدر على ذلك ، فاذا جاء اللّيل سبق إلى موضع مبيته لئلاّ يغلق أبو عليّ دونه الباب ، فيستلقي أبو عليّ على سريره ، ويقف أبو هاشم بين يديه قائماً يسأله حتّى يضجره ، فيحوّل وجهه عنه ، فيتحوّل إلى وجهه ، ولا يزال كذلك حتّى ينام ، وربّما سبق أبو عليّ فأغلق الباب دونه. قال : ومن هذا حرصه على ما اختصّ به من الذكاء ، لم يتعجّب من تقدّمه (٢).

كان أبو هاشم أحسن الناس أخلاقاً وأطلقهم وجهاً ، واستنكر بعض الناس خلافه مع أبيه ( في المسائل الكلاميّة ) وليس خلاف التابع للمتبوع في دقيق الفروع بمستنكر ، فقد خالف أصحاب أبي حنيفة إياه. وقال أبو الحسن بن فرزويه في ذلك

____________

١ ـ تاريخ بغداد : ج ١١، ص ٥٦.

٢ ـ طبقات المعتزلة للقاضي : ص ٣٠٤.

٢٦٢

شعراً وهو قوله :

يقولون بين أبي هاشم

وبين أبيه خلاف كبير

فقلت وهل ذاك من ضائر

وهل كان ذلك ممّا يضير

فخلّوا عن الشيخ لا تعرضوا

لبحر تضايق عنه البحور

فان أبا هاشم تلوه

إلى حيث دار أبوه يدور

ولكن جرى في لطيف الكلام (١)

كلام خفي وعلم غزير

فإيّاك إيّاك من مظلم

ولا تعد عن واضح مستنير (٢)

تأليفاته

ذكر ابن النديم لأبي هاشم كتباً ، وقال : « أبو هاشم عبدالسلام بن محمّد الجبّائي ، قدم مدينة السّلام سنة ٣١٤ وكان ذكيّاً حسن الفهم ، ثابت الفطنة ، صانعاً للكلام ، مقتدراً عليه ، قيّماً به ، وتوفّي سنة ٣٢١ وله من الكتب :

١ ـ الجامع الكبير ، ٢ ـ كتاب الأبواب الكبير ، ٣ ـ كتاب الأبواب الصغير ، ٤ ـ الجامع الصغير ، ٥ ـ كتاب الإنسان ، ٦ ـ كتاب العوض ، ٧ ـ كتاب المسائل العسكريات ، ٨ ـ النقض على أرسطو طاليس في الكون والفساد ، ٩ ـ كتاب الطبايع والنقض على القائلين بها ، ١٠ ـ كتاب الاجتهاد كلام (٣).

انتشار مذهبه

يظهر من البغدادي أنّ مذهبه كان منتشراً في أوائل القرن الخامس في بغداد وقد سمّى أتباعه بالبهشميّة وقال : هؤلاء أتباع أبي هاشم الجبّائي ، وأكثر معتزلة عصرنا على

__________________

١ ـ المراد من لطيف الكلام ، المباحث التي لها صلة لاثبات بعض العقائد الاسلاميّة وليست منها ، كالبحث عن الجوهر والعرض والأكوان والأفلاك وفي الحقيقة كان البحث عنها تبعاً للفلاسفة.

٢ ـ طبقات المعتزلة للقاضي : ص ٣٠٥.

٣ ـ فهرست ابن النديم : الفن الأوّل من المقالة الخامسة ص ٢٢٢.

٢٦٣

مذهبه ، لدعوة ابن عبّاد وزير آل بويه إليه (١).

تلاميذه

قد ذكر ابن المرتضى أبا هاشم في الطبقة التاسعة ، وذكر تلاميذه في الطبقة العاشرة ، وقال : « اعلم أنّ هذه الطّبقة تشتمل على من أخذ عن أبي هاشم وعمّن هو في طبقته مع اختلاف درجاتهم وتفاوت أحوالهم وقدّمنا أصحاب أبي هاشم لكثرتهم وبراعتهم ». ثمّ ذكر أسماء تلاميذه ، فمن أراد فليرجع إليه.

٧ ـ قاضي القضاة عبد الجبّار ( ت نحو ٣٢٤ ـ م ٤١٥ أو ٤١٦ )

هو عبدالجبّار بن أحمد بن عبدالجبّار الهمداني الأسدآبادي ، الملقّب بقاضي القضاة ولا يطلق ذلك اللّقب على غيره.

قال الخطيب : « كان ينتحل مذهب الشافعي في الفروع ومذاهب المعتزلة في الاُصول ، وله في ذلك مصنّفات وولي قضاء القضاة بالري وورد بغداد حاجّاً وحدّثبها.

وقال : مات عبدالجبّار بن أحمد قبل دخولي الري في رحلتي إلى خراسان وذلك في سنة ٤١٥ » (٢).

وترجمه الحاكم الجشمي ( المتوفّى عام ٤٩٤ هـ ) في كتاب « شرح عيون المسائل » وعدّه من الطبقة الحادية عشرة من طبقات المعتزلة وقال : « يعدّ من معتزلة ، البصرة من أصحاب أبي هاشم لنصرته مذهبه ».

قرأ على أبي إسحاق بن عيّاش أوّلاً ، ثمّ على الشيخ أبي عبدالله البصري (٣).

__________________

١ ـ تاريخ بغداد : ج ١١، ص ١١٣.

٢ ـ المصدر نفسه.

٣ ـ كلاهما من الطبقة العاشرة من طبقات المعتزلة.

٢٦٤

وليست تحضرني عبارة تنبئ عن محلِّه في الفضل وعلوّ منزلته في العلم ، فإنّه الّذي فتق الكلام ونشره ووضع فيه الكتب الجليلة الّتي سارت بها الركبان وبلغ المشرق والمغرب ، وضمّنها من دقيق الكلام وجليله ما لم يتّفق لأحد قبله ، وطال عمره مواظباً على التّدريس والاملاء حتّى طبّق الأرض بكتبه وأصحابه. وبَعُدَ صوته وعظم قدره وإليه انتهت الرئاسة في المعتزلة حتّى صار شيخها وعالمها غير مدافع ، وصار الاعتماد على كتبه ومسائله حتّى نسخ كتب من تقدّم من المشايخ وقرب عهده ، وشهرة حاله تغني عن الاطناب من وصفه. وفيه يقول أبو الأسعد الآبي في قصيدة له في التوحيد والعدل :

ويعدّ من مشايخ أهل العدل.

أم لكم مثل إمام الاُمّة

قاضي القضاة سيّد الأئمّة

من بثّ دين الله في الآفاق

وبتّ حبل الكفر والنفاق

وأصله من أسدآباد همدان ، ثمّ خرج إلى البصرة واختلف إلى مجالس العلماء وكان يذهب في الاُصول مذهب الأشعريّة وفي الفروع مذهب الشافعي ، ولما حضر المجالس وناظر ونظر عرف الحق ، وانقاد وانتقل إلى أبي إسحاق بن عيّاش فقرأ عليه مدّة ثمّ رحل إلى بغداد وأقام عند الشيخ أبي عبدالله مدّة مديدة حتّى فاق الأقران وخرج واحد دهره وفريد زمانه ، وصنّف وهو بحضرته كتباً كثيرة وكان ربّما يدرس بها وبالعسكر (١) ورامهرمز (٢).

وابتدأ بها إملاء « المغني » في مسجد عبدالله بن عبّاس متبرّكاً به. فلمّا قدم الريّ سألوه أن يجعله باسم بعض الكبار فأبى واستدعاه الصاحب إلى الريّ بعد سنة ستّين وثلاثمائة فبقى بها مواظباً على التدريس إلى أن توفّي سنة ٤١٥ أو ٤١٦ فكان يدرس ويملي وكثر الانتفاع به وطار ذكره في الآفاق.

__________________

١ ـ عسكر مكرم بلد مشهور من نواحي خوزستان.

٢ ـ مدينة من بلاد خوزستان.

٢٦٥

وروي أنّه كان في التفضيل بمذهب الشيخين (١) في التوقف ، ثمّ رجع في آخر عمره إلى تفضيل أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو المذكور في كتبه.

وكان الصاحب يقول فيه مرّة : هو أفضل أهل الأرض ، واُخرى : هو أعلم أهل الأرض (٢).

اسلوبه في الكتابة

يظهر من ترجمة حياته أنّ كتابه الكبير « المغني » الّذي يقع في عشرين جزءاً ممّا أملاه على تلاميذه ولم يكتبه ببنانه. يقول الحاكم : كان رحمه‌الله يختصر في الاملاء ويبسط في الدرس على ضدّ ما كان يفعله الشيخ أبو عبدالله (٣) فكان من حسن طريقته ترك الناس كتب من تقدّم. ولما فرغ من كتاب « المغني » بعث به إلى ( الصاحب ) فكتب ( الصاحب ) إليه كتاباً هذه صورته :

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أتمّ الله على قاضي القضاة نعمته ، وأجزل لديه منّته ، لقد أتمّ من كتاب « المغني » ذخيرة للموحّد ، وشجى للملحد ، وعتاداً للحق ، وسداداً للباطل ، وإنّه كتاب تفخر به شرعتنا على الشرع ، ونحلتنا على النحل ، واُمّتنا على الاُمم وملّتنا على الملل ، وفّقه الله له حين نامت الخواطر وكلّت الأوهام وظنّ الظانّون بالله أنّ العلم قد قبض ونخاعه قد ضعف ، وأنّ شيوخه الأعلون ( كذا ) قد شالت نعامتهم وخفّت بضاعتهم ، ووهن كاهلهم ، ودرج أفاضلهم ، ولم يدروا أنّ في سرّ الغيب إن كان آخراً بالاضافة إليهم ، إنّه الأوّل بالامامة عليهم ، كذلك يفعل الله ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون. فليقرّ قاضي القضاة ـ أدام الله تمكينه ـ عيناً بما قدّم لنفسه وأخّر واكتسب لغده وذخر ،

__________________

١ ـ هما الجبائيان أبو علي وأبو هاشم.

٢ ـ مقدّمة فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة : ص ١٣١.

٣ ـ هو الشيخ أبو عبدالله الحسين بن علي البصري من الطبقة العاشرة.

٢٦٦

وليرينّ في ميزانه ـ إن شاء الله ـ من ثواب ما دأب فيه واحتسب وسهر ليله وانتصب ، صابراً على كدّ الخواطر ومعانياً برد الأصايل إلى حرّ الهواجر ، أثقل من أحد وأرزن ، وأوفى من الرمل وأوزن ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْس مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْر مُحْضَراً ) وورد محمّد ولدنا بالنباء العظيم والصّراط المستقيم من الجزء الأخير من كتاب « المغني » فقلت يا بشراي ، هذا زاد المسافر ، وكفاية الحاضر وتحفة المرتاد وطفقت أنشئ وأقول :

ولو أنشر الشيخان عمرو وواصل

لقالا جوزيت الخير عنّا وأنعما

فأتمّ على قاضي القضاة نعمه ، كما أورد علينا ديمه والسلام (١).

ثمّ إنّ الحاكم بسط الكلام في أسماء تآليفه ، وقال : « إنّ له ٤٠٠ ألف ورقة ممّا صنّف في كلّ فنًّ وكان موفّقاً في التصنيف والتدريس ، وكتبه تتنوّع أنواعاً فله كتب في الكلام لم يسبق إلى تصنيف مثلها في ذلك الباب.

ثمّ سرد أسماء كتبه البالغة إلى ثلاثة وأربعين ، نأتي بها ملخّصاً :

١ ـ الدواعي والصوارف ، ٢ ـ الخلاف والوفاق ، ٣ ـ الخاطر ، ٤ ـ الاعتماد ، ٥ ـ المنع والتمانع ، ٦ ـ كتاب ما يجوز فيه التزايد وما لا يجوز، ٧ ـ المغني ، ٨ ـ الفعل والفاعل ، ٩ ـ المبسوط ، ١٠ ـ المحيط ، ١١ ـ الحكمة والحكيم ، ١٢ ـ شرح الاُصول الخمسة ، ١٣ ـ شرح الجامعين ، ١٤ ـ شرح الاُصول ، ١٥ ـ شرح المقالات ، ١٦ ـ شرح الأعراض وهذا كلّه في الكلام.

ومنها في اُصول الفقه :

١٧ ـ النهاية ، ١٨ ـ العمدة ، ١٩ ـ شرحها.

وهناك كتب في النّقض على المخالفين : ٢٠ ـ نقض اللمع ، ٢١ ـ نقض الامامة.

وهناك جوابات مسائل وردت عليه من الآفاق : ٢٢ ـ الرازيات ، ٢٣ ـ العسكريات ، ٢٤ ـ القاشانيات ، ٢٥ ـ الخوارزميات ، ٢٦ ـ النيسابوريات.

__________________

١ ـ الطبقتان ١١ و١٢ من كتاب شرح العيون ص ٣٦٩ ـ ٣٧١ للحاكم الجشمي.

٢٦٧

وهناك كتب في الخلاف والمواعظ :

٢٧ ـ الخلاف بين الشيخين ، ٢٨ ـ نصيحة المتفقّهة.

وله كتب تكلّم فيها على أهل الأهواء الخارجين عن الإسلام وغيرهم أوضح فيها الحقّ : ٢٩ ـ شرح الآراء.

وله كتب في علوم القرآن :

٣٠ ـ المحيط ، ٣١ ـ الأدلّة ، ٣٢ ـ التنزيه ، ٣٣ ـ المتشابه ، ٣٤ ـ شهادات القرآن ».

ثمّ قال الحاكم : « له كتب في كلّ فنّ بلغني اسمه أو لم يبلغ ، أحسن فيها غاية الاحسان ، نحو كتابه :

٣٥ ـ التجريد ، ٣٦ ـ المكّيات ، ٣٧ ـ الكوفيات ، ٣٨ ـ الجمل ، ٣٩ ـ العهود ، ٤٠ ـ المقدّمات ، ٤١ ـ الجدل ، ٤٢ ـ الحدود ، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده ، وذكر جميع مصنّفاته يتعذّر » (١) .

ومن حسن حظّ القاضي دون سائر المعتزلة أنّه قد طبعت كميّة هائلة من كتبه في الآونة الأخيرة ، وهذه الكتب رفعت الستار عن وجه عقائد المعتزلة وأغنتنا عن الرجوع إلى كتب خصومهم ، فنذكر ما طبع :

١ ـ « تنزيه القرآن عن المطاعن » : طبع في بيروت طبع دار النّهضة الحديثة.

واسمه يحكي عن محتواه ويجيب فيه عن كثير من الأسئلة الّتي تدور حول الآيات.

قال في ديباجته : « فقد أملينا كتاباً يفصِّل بين المحكم والمتشابه. عرضنا فيه سور القرآن على ترتيبها وبينّا معاني ما تشابه من آياتها ، مع بيان وجه خطأ فريق من الناس في تأويلها ، ليكون النفع به أعظم ».

__________________

١ ـ الطبقتان ١١ و١٢ من شرح العيون ص ٢٦٧ ـ ٢٦٩. للحاكم الجشمي تحقيق فؤاد سيّد. ط تونس.

٢٦٨

وطبع أيضاً في القاهرة سنة ١٣٢٦.

٢ ـ « طبقات المعتزلة » : وهو أساس « طبقات المعتزلة » لابن المرتضى. نشره فؤاد سيّد ، وأسماه « فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة » مع كتاب « ذكر المعتزلة » للكعبي و « الطبقات الحادية عشرة والثانية عشرة من شرح العيون » للحاكم الجشمي طبع سنة ١٤٠٦.

٣ ـ « شرح الاُصول الخمسة » : نشره عبدالكريم عثمان في القاهرة سنة ١٩٦ م ـ ١٣٨٤ هـ .

وهو كتاب مختصر جامع يعرض عقائد المعتزلة عامّة وعقيدة القاضي خاصّة ، وهو أحسن كتاب لمن أراد أن يطّلع على عقائدهم ، وقد أملاه على تلاميذه.

٤ ـ « المغني » : وهو من الكتب المبسوطة في عقائد المعتزلة. اكتشفته البعثة المصريّة في اليمن عام ١٩٥٢ وقد عثر منه حتّى الآن على ١٤ جزءاً. والكتاب يقع في عشرين جزءاً وإليك الأجزاء المطبوعة ٤ ـ ٥ ـ ٦ ـ ٧ ـ ٨ ـ ٩ ـ ١١ ـ ١٢ ـ ١٣ ـ ١٤ ـ ١٥ ـ ١٦ ـ ١٧ ـ ٢٠ والجزء الأخير يختصّ بالإمامة وهو الّذي نقضه السيّد المرتضى وأسماه « الشافي » وطبع في مجلّد كبير ، ولخّصه الشيخ الطوسي وأسماه « تلخيص الشافي » وطبع في جزأين.

٥ ـ « المحيط بالتكليف » : تحقيق السيّد عزمي ، طبع الدار المصريّة للتأليف ، جمعه الحسن بن أحمدبن متّويه ( ت٦٨٣ ). لاحظ مقدّمة المحقّق.

٦ ـ « متشابه القرآن » : تحقيق عدنان محمّد زر زور ، طبع دار التراث في القاهرة في جزأين.

تلاميذه

وقد فصّل الكلام ابن المرتضى في تلاميذه وجعلهم من الطّبقة ١٢ وأسماهم واحداً بعد آخر ، منهم أبو رشيد سعيد بن محمّد النيسابوري والشريف المرتضى

٢٦٩

أبوالقاسم عليّ بن الحسين الموسوي. أخذ عن قاضي القضاة عند انصرافه من الحج ، إلى غير ذلك من تلاميذه (١).

وقال الرضي في « شرح المجازات النبويّة » عند البحث عن حديث الرؤية : « ترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر » قال : « وممّا علّقته عن قاضي القضاة أبي الحسن عبد الجبّار بن أحمد عند بلوغي في القراءة عليه إلى الكلام في الرؤية أنّ من شروط قبول خبر الواحد أن يكون راويه عدلاً ، وراوي هذا الخبر : قيس بن أبي حازم عن جرير ابن عبدالله البجلي ، وكان منحرفاً عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ويقال إنّه كان من الخوارج ، وذلك يقدح في عدالته ويوجب تهمته في روايته ، وأيضاً فقد كان رمي في عقله قبل موته وكان مع ذلك يكثر الرواية ، فلا يعلم هل روى هذا الخبر في الحال الّتي كان فيها سالم التمييز أو في الحال الّتي كان فيها فاسد المعقول ، وكلّ ذلك يمنع من قبول خبره ، وبوجب إطراحه. ثمّ قال : وأقول أنا : ومن شرط قبول خبر الواحد أيضاً مع ما ذكره قاضي القضاة من اعتبار كون راويه عدلاً ، أن يعرى الخبر المرويّ من نكير السّلف ، وقد نقل نكير جماعة من السّلف على راوي هذا الخبر. منهم العرباض بن سارية السلمي وهو من مختصّي الصّحابة ، روى عنه أنّه قال : من قال : إنّ محمّداً رأى ربّه فقد كذب. وروى أيضاً عن بعض أزواج النبيّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنّها قالت : من زعم أنّ محمّداً رأى ربّه فقد أعظم الفرية على الله.

وقالت ذلك عند ذهاب بعض الناس إلى أنّ قوله تعالى ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ) إنّما اُريد بها رؤية الله سبحانه لا رؤية جبرائيل كما يقوله أهل العدل. وأيضاً ففي هذا الخبر كاف التّشبيه ، لأنّه قال : « ترونه كما ترون القمر » الّذي هو في جهة مخصوصة وعلى صفة معلومة. وإذا كان الأمر كما قلنا لم يكن للخبر ظاهر واحتجنا إلى تأويله كما احتجنا إلى ذلك في غيره » (٢).

__________________

١ ـ المنية والأمل : ص ٦٩ ـ ٧١.

٢ ـ المجازات النبوية تحقيق طه محمد ص ٤٨ ـ ٤٩.

٢٧٠

وقال أيضاً في تفسير قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « قيّدوا العلم بالكتاب » : « وذكر لي قاضي القضاة أبو الحسن عبدالجبّار بن أحمد عند قراءتي عليه ما قرأته من كتابه الموسوم بالعمد في اُصول الفقه : إنّ هذه العلوم المخصوصة ( العلوم العقليّة العمليّة كالتّحسين والتّقبيح العقليّين ) إنّما سمّيت عقلاً ، لأنّها تعقل من فعل المقبّحات ، لأنّ العلم بها إذا دعته نفسه إلى ارتكاب شيء من المقبّحات ، منعه علمه بقبحه من ارتكابه والاقدام على طرق بابه ، تشبيهاً بعقال الناقة المانع لها من الشرود ، والحائل بينها وبين النهوض. ولهذا المعنى لم يوصف القديم تعالى بأنّه عاقل ، لأنّ هذه العلوم غير حاصلة له ، إذ هو عالم بالمعلومات كلّها لذاته.

قال : وقيل أيضاً إنّما سمِّيت هذه العلوم المخصوصة عقلاً ، لأنّ ما سواها من العلوم يثبت بثباتها ويستقرّ باستقرارها تشبيهاً بعقال الناقة الّذي به تثبت في مكانها ، ولمثل ذلك قيل معقل الجبل للمكان الذي يلجأ إليه ويعتصم به ، وله سمّيت المرأة عقيلة ، وهي الّتي يمنعها شرف بيتها وكرم أهلها وقوّة حزمها من الإقدام على ما يشينها ، والتعرّض لما يعيبها. والكلام في تفصيل هذه العلوم وبيان ما لأجله احتيج إلى كلّ واحد منها يطول وليس هذا الكتاب من مظانّ ذكره ومواضع شرحه » (١).

__________________

١ ـ المجازات النبوية للشريف الرضي تحقيق طه محمد طه ص ١٨٠ ـ ١٨١.

٢٧١

الفصل الخامس

أعلام المعتزلة

قد تعرّفت على أئمّة المعتزلة الّذين رسموا معالم المذهب. وهناك شخصيّات لامعة شاركوا الأئمّة في نضج المذهب ونشره ، ولكنّهم دون الأئمّة في العلم والتفكير. ولأجل إيقاف القارئ على حياتهم وآرائهم وآثارهم نورد ترجمة قسم قليل منهم :

١ ـ أبوسهل بشر بن المعتمر ( م ٢١٠ ) مؤسّس مدرسة اعتزال بغداد

قال الشريف المرتضى : « هو من وجوه أهل الكلام ويقال : إنّ جميع المعتزلة بعده من مستجيبيه.

وقال أبو القاسم البلخي : إنّه من أهل بغداد وقيل من أهل الكوفة ... وله أشعار كثيرة يحتجّ فيها على أهل المقالات » (١).

وقال القاضي : « إنّه زعيم البغداديين من المعتزلة وله قصيدة طويلة يقال إنّها أربعون ألف بيت ، ردّ فيها على جميع المخالفين ، ويقال إنّ الرّشيد حبسه حين قيل له : إنّه رافضيّ. فقال في السجن أبياتاً بعثها إليه فأفرج عنه » (٢). توفّي عام ٢١٠ كما أرّخه الذّهبي في « لسان الميزان ».

____________

١ ـ أمالي المرتضى : ج ١، ص ١٨٦ ـ ١٨٧.

٢ ـ فضل الاعتزال للقاضي : ص ٢٦٥.

٢٧٢

٢ ـ معمّر بن عبّاد السلمي ( م ٢١٥ ) خريج مدرسة البصرة

يكنّى أبا عمرو وكان عالماً عدلاً وتفرّد بمذاهب وكان بشر بن المعتمر وهشام بن عمرو وأبو الحسين المدائني من تلامذته.

قال القاضي عبدالجبّار : « لمّا منع الرّشيد من الجدال في الدين وحبس أهل علم الكلام ، كتب إليه ملك السند : إنّك رئيس قوم لا ينصفون ويقلِّدون الرجال ويغلبون بالسيف ، فإن كنت على ثقة من دينك فوجّه إليّ من اُناظره ، فإن كان الحقّ معك تبعناك ، وإن كان معي تبعتني. فوجّه إليه قاضياً ، وكان عند الملك رجل من السمنية وهو الّذي حمله على هذه المكاتبة ، فلمّا وصل القاضي إليه أكرمه ورفع مجلسه ، فسأله السمني فقال : أخبرني عن معبودك هل هو القادر؟ قال : نعم ، قال : أفهو قادر على أن يخلق مثله؟ فقال القاضي : هذه المسألة من علم الكلام وهو بدعة ، وأصحابنا ينكرونه.

فقعال السمني : من أصحابك؟ فقال : فلان وفلان وعدّ جماعة من الفقهاء ، فقال السمني للملك : قد كنت أعلمتك دينهم وأخبرتك بجهلهم وتقليدهم وغلبتهم بالسيف ، قال : فأمر ذلك الملك القاضي بالانصراف ، وكتب معه إلى الرشيد : إنّي كنت بدأتك بالكتاب وأنا على غير يقين ممّا حكي لي عنكم ، فالآن قد تيقّنت ذلك بحضور هذا القاضي ـ وحكى له في الكتاب ما جرى.

فلمّا ورد الكتاب على الرّشيد قامت قيامته ، وضاق صدره ، وقال : أليس لهذا الدين من يناضل عنه؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين ، هم الّذين نهيتهم عن الجدال في الدين وجماعة منهم في الحبس. فقال : أحضروهم ، فلمّا حضروا قال : ما تقولون في هذه المسألة؟ فقال صبي من بينهم : هذا السؤال محال ، لأنّ المخلوق لا يكون إلاّ محدثاً ، والمحدث لا يكون مثل القديم ، فقد استحال أن يقال : يقدر على أن يخلق مثله أو لا يقدر ، كما استحال أن يقال : يقدر أن يكون عاجزاً أو جاهلاً ، فقال الرشيد : وجّهوا بهذا الصبي إلى السند حتّى يناظرهم. فقالوا : إنّه لا يؤمّن أن يسألوه عن غير هذا ، فيجب أن توجّه من يفي بالمناظرة في كلّ العلم. قال الرشيد : فمن لهم؟ فوقع اختيارهم على

٢٧٣

معمر ، فلمّا قرب من السند بلغ خبره ملك السند فخاف السمني أن يفتضح على يديه وقد كان عرفه من قبل ، فدسّ من سمّه في الطّريق فقتله » (١).

أقول : ما أجاب به الصّبي صحيح ، غير أنّ العبارة غير وافية ، والمقصود : ما سألته ( خلق المثل ) محال لا نفس السؤال محال.

قال صاحب كتاب « المعتزلة » : « فلئن صحّت هذه القصّة فإنّها تعني أنّ الرشيد لم يجد في مملكته الواسعة من يدافع عن الإسلام غير المعتزلة.

والواقع أنّ المعتزلة تحمّسوا لهذه القضية كثيراً ، فلم يكتفوا بالردّ على المخالفين وتقطيعهم بل تعدّوا ذلك إلى التبشير بالدين الإسلامي وحمل الناس على اعتناقه فكانوا لا ينفكّون يرسلون وفودهم لهذا الغرض إلى البلاد الّتي يكثر فيها المجوس أو غيرهم من الوثنيين » (٢).

ويقول صفوان الأنصاري شاعر المعتزلة في مدح واصل وصحبه ما يظهر حقيقة الجهود الّتي بذلوها في سبيل الدفاع عن حوزة الدين والتبشير به :

رجال دعاة لا يفلّ عزيمهم

تحكّم جبّار ولا كيد ساحر

إذا قال مرّوا في الشتاء تطاوعوا

وإن كان صيفاً لم يخف شهر ناجر (٣)

٣ ـ ثمامة بن الأشرس النميري ( م ٢١٣ ) خرّيج مدرسة بغداد

قال ابن النّديم : « نبيه من جلّة المتكلّمين المعتزلة ، كاتب بليغ ، بلغ من المأمون منزلة جليلة وأراده على الوزارة فامتنع » (٤).

__________________

١ ـ ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل ، ص ٣١ و٣٢.

٢ ـ المعتزلة : ص ٤٤.

٣ ـ البيان والتبيين : ج ١، ص ٣٧، نقلاً عن « المعتزلة » ص ٤٥. والناجر : أشدّ أشهر الصيف حرّاً.

٤ ـ الفهرست لابن النديم ، الفن الاول من المقالة الخامسة : ص ٢٠٧.

٢٧٤

قال البغدادي : « كان زعيم القدريّة في زمن المأمون والمعتصم والواثق ، وقيل : إنّه هو الّذي دعا المأمون إلى الاعتزال » (١).

وقال ابن المرتضى : « ثمامة ابن الأشرس ، يكنّى أبا معن النّميري وكان واحد دهره في العلم والأدب ، وكان جدلاً حاذفاً. قال أبو القاسم : قال ثمامة يوماً للمأمون : أنا اُبيّن لك القدر بحرفين وأزيد حرفاً للضّعيف. قال : ومن الضّعيف؟ قال : يحيى بن أكثم ، قال : هات ، قال : لا تخلو أفعال العباد من ثلاثة أوجه : إمّا كلّها من الله ولا فعل لهم ، لم يستحقُّوا ثواباً ولا عقاباً ولا مدحاً ولا ذمّاً. أو تكون منهم ومن الله ، وجب المدح والذمّ لهم جميعاً أو منهم فقط ، كان لهم الثّواب والعقاب والمدح والذّم. قال : صدقت (٢).

أقول : ذهب عليه أنّ استناد الفعل إلى الله والعبد إنّما يقتضي الاشراك في الثّواب والعقاب أو المدح والذّم إذا كانا فاعلين بالسّويّة في جميع المراحل ، حتّى في مرحلة الجزء الأخير من العلّة التامّة للفعل كما إذا اشترك الفاعلان معاً في إنقاذ غريق أو قتل إنسان ، وأمّا إذا كان أحدهما هو الجزء المؤثّر دون الآخر فيكون هو المسؤول ، وعليه الثّواب والعقاب ، وهذا هو الأمر بين الأمرين ، والعبد غير مجبور ولا مفوّض ، والتّفصيل في محله.

روى المرتضى أنّه سأل مجبر بشر بن المعتمر وقال له : « أنتم تحمدون الله على إيمانكم؟ قال : نعم ، فقال له : فكأنّه ( الله ) يحبُّ أن يحمد على ما لم يفعل وقد ذمّ ذلك في كتابه. فقال له : إنّما ذمّ من أحبّ أن يحمد على ما لم يفعل ممّن لم يعن عليه ، ولم يدع إليه. وهو يشغب إذ أقبل ثمامة بن أشرس ، فقال بشر للمجبر : قد سألت القوم وأجابوك ، وهذا أبو معن فاسأله عن المسألة ، فقال له : هل يجب عليك أن تحمد الله على الإيمان؟ فقال : لا ، بل هو يحمدني عليه ، لأنّه أمرني به ففعلته ، وأنا أحمده على الأمر به ، والتّقوية

__________________

١ ـ الفرق بين الفرق : ص ١٧٢.

٢ ـ المنية والأمل : ص ٣٥.

٢٧٥

عليه ، والدعاء إليه ، فانقطع المجبر ، فقال بشر : شنُعتْ فسهُلت » (١).

وقال يوماً للمأمون : « إذا وقف العبد بين يدي الله تعالى يوم القيامة فقال الله تعالى : ما حملك على معصيتي؟ فيقول على مذهب الجبر : يا ربِّ أنت خلقتني كافراً وأمرتني بما لم أقدر عليه ، وحلت بيني وبين ما أمرتني به ونهيتني عمّا قضيته عليّ وحملتني عليه أليس هو بصادق؟ قال : بلى ، قال : فإنّ الله تعالى يقول : ( يوم ينفع الصّادقين صدقهم ) أفينفعه هذا الصّدق؟ فقال بعض الهاشميّين : ومن يدعه يقول هذا أو يحتجّ ( به ). فقال ثمامة : أليس إذا منعه الكلام والحجّة يعلم أنّه قد منعه من إبانة عذره ، وأنّه لو تركه لأبأنّ عذره؟ فانقطع » (٢).

وقد ترجم له الخطيب في تأريخه ، ومن ظريف ما نقل عنه أنّه قال : شهدت رجلاً يوماً من الأيّام وقد قدّم خصماً إلى بعض الولاة فقال : أصلحك الله ناصبيّ رافضيّ جهمىُّ مشبِّه مجبّر قدريّ يشتم الحجّاج بن الزبير الّذي هدم الكعبة على عليّ بن أبي سفيان ويلعن معاوية بن أبي طالب. فقال له الوالي : ما أدري ممّا أتعجّب؟ من علمك بالأنساب أو من معرفتك بالمقالات؟ فقال : أصلحك الله ما خرجت من الكتاب حتّى تعلّمت هذا كلّه » (٣).

وقال الذّهبي : « من كبار المعتزلة ومن رؤوس الضّلالة ، كان له اتّصال بالرّشيد ، ثمّ بالمأمون وكان ذا نوادر وملح » (٤).

ومن أراد الوقوف على نوادره فعليه الرجوع إلى « المنية والأمل » و « فضل الاعتزال » وقد اتّفقا على أنّ وجه اتّصاله بالخلفاء صار سبباً لوجود بعض الهزل في كلامه وقد اتّخذه طريقاً إلى ميلهم إليه ليتوصّل به إلى المعونة في الدين.

__________________

١ ـ أمالي المرتضى : ج ١، ص ١٨٦. فضل الاعتزال : ص ٢٧٣ وفي المصدر الأخير : « سهّلت بعد ما صعبت ».

٢ ـ فضل الاعتزال : ص ٢٧٣. المنية والأمل : ص ٣٥ و٣٦.

٣ ـ تاريخ بغداد : ج ٧، ص ١٤٦.

٤ ـ ميزان الاعتدال : ج ١، ص ٣٧١.

٢٧٦

٤ ـ أبوبكر عبدالرحمن بن كيسان الأصمّ ( م قريباً من ٢٢٥ ) خرّيج مدرسة البصرة

قال القاضي : « كان من أفصح النّاس وأفقههم وأورعهم. لكنّه ينفي الأعراض وله تفسير عجيب ، وكان جليل القدر يكاتبه السلطان ، وعنه أخذ ابن عليّة (١) العلم ، والّذي نقم عليه أصحابنا بعد نفي الأعراض ، ازوراره عن عليّ عليه‌السلام وكان أصحابنا يقولون : بلى بمناظرة هشام بن الحكم فيعلوه هذا ويعلوه هذا » (٢).

٥ ـ أبو موسى عيسى بن صبيح المردار ( م ٢٢٦ ).

قال القاضي : « كان متكلّماً عالماً زاهداً وكان يسمّى راهب المعتزلة لعبادته ، ويقال : إنّ أبا الهذيل حضر مجلسه وسمع قصصه بالعدل وحسن بيانه على الله تعالى وعدله وتفضّله ، فقال : هكذا شهدت أصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء ، وأبي عثمان عمرو ، وله كتب في الجليّ من الكلام ولمّا حضرته الوفاة ذكر أنّ ما كان في يديه من المال شبهة لم يدر ما حكمها ، فأخرجها إلى المساكين تحرّزاً وإشفاقاً ، وقيل فيه شعر :

لكنّ من جمع المحاسن كلّها

كهلٌ يقال لشيخه المردار (٣)

تلاميذه

ذكر القاضي أنّ من تلاميذه الجعفرين والمراد : جعفر بن حرب وجعفر بن مبشر وذكر ترجمتهما في الطّبقة السابعة.

تأثير كلامه

إنّ جعفر بن حرب كان من الجند وكان في جنديّته ( ن خ حداثته ) يمرّ على

__________________

١ ـ إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي ، توفي ١٩٣ أو ١٩٤.

٢ ـ فضل الاعتزال : ص ٢٦٧.

٣ ـ المصدر نفسه : ص ٢٧٧ و٢٧٨.

٢٧٧

أصحاب أبي موسى ويعبث بهم ويؤذيهم ، فشكوا إلى أبي موسى فقال : تعهّدوا إلى أن يصير إلى مجلسي ، فلمّا صار إلى مجلسه وسمع كلامه ووعظه مرّ ( ظ خرج ) حتى دخل الماء عارياً من ثيابه ، وبعث إلى أبي موسى أن يبعث له ثياباً ليلبسها ففعل ، ثمّ لزمه فخرج في العلم ما عرف به.

وكان أبو الوليد بشر بن وليد بن خالد الكندي قاضياً على مدينة للخليفة المأمون ، وكان شديد القسوة على أبي موسى وأصحابه ، فدخل إبراهيم بن أبي محمّد اليزيدي وهو رضيع المأمون عليه فأنشد هذه الأبيات :

يا أيّها الملك الموحِّد ربّه

قاضيك بشر بن الوليد (١) حمار

ينفي شهادة من يبثّ بما به

نطق الكتاب وجاءت الآثار

فالنفي للتشبيه عن ربِّ العلا

سبحانه وتقْدس الجبّار

ويعدّ عدلاً من يدين بأنّه

شيخ تحيط بجمسه الأقطار

إنّ المشبِّه كافر في دينه

والدائنون بدينه كفّار

فاعزله واختر للرعية قاضياً

فلعلّ من يرضي ومن يختار

عند المريسى (٢) اليقين بربِّه

لو لم يشب توحيده اجبار

والدين بالارجاء مبنى أصله

جهل وليس له به استبشار

لكن من جمع المحاسن كلّها

كهل يقال لشيخه المزدار (٣)

٦ ـ أبو جعفر محمّد بن عبدالله الاسكافي ( م ٢٤٠ )

قال الخطيب : « محمد بن عبدالله أبو جعفر المعروف بالاسكافي أحد المتكلّمين من

__________________

١ ـ هو أبو الوليد ، بشر بن الوليد بن خالد الكندي قاضي مدينة منصور كما عرفت. توفي سنة ٢٣٨. لاحظ تاريخ بغداد : ج ٧، ص ٨٠.

٢ ـ هو بشر بن غياث المريسي العدوي ، كان يسكن بغداد وأخذ الفقه عن أبي يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة وكان الشافعي من أصدقائه مدّة اقامته ببغداد. توفي سنة ٢١٩، لاحظ تاريخ بغداد : ج ٧ ص ٥٦.

٣ ـ وقد ضبطه بعض المحققين بالزاء وبعده الدال. راجع فضل الاعتزال : ص ٢٧٧ ـ ٢٧٩.

٢٧٨

معتزلة البغداديّين ، له تصانيف معروفة ، وكان الحسين بن عليّ بن يزيد الكرابيسي صاحب الشافعي يتكلّم معه ويناظره وبلغني أنّه مات في سنة أربعين ومائتين » (١).

وقال ابن أبي الحديد : « كان شيخنا أبو جعفر الاسكافي رحمه‌الله من المتحقّقين بموالاة عليّ عليه‌السلام والمبالغين في تفضيله ، وإن كان القول بالتفصيل عامّاً شائعاً في البغداديّين من أصحابنا كافّة إلاّ أنّ أبا جعفر أشدُّهم في ذلك قولاً وأخلصهم فيه اعتقاداً » (٢).

وقال أيضاً : « وأمّا أبو جعفر الاسكافي وهو شيخنا محمّد بن عبدالله الاسكافي ، عدّه قاضي القضاة في الطّبقة السابعة من طبقات المعتزلة ، مع عبّاد بن سليمان الصيمري ، ومع زرقان ، ومع عيسى بن الهيثم الصوفي ، وجعل أوّل الطّبقة ثمامة بن أشرس أبا معن ، ثمّ أبا عثمان الجاحظ، ثمّ أبا موسى عيسى بن صبيح المردار ، ثمّ أبا عمران يونس بن عمران ... إلى أن قال : كان أبو جعفر فاضلاً عالماً صنّف سبعين كتاباً في علم الكلام » (٣).

وهو الّذي نقض كتاب « العثمانيّة » على أبي عثمان الجاحظ في حياته ، ودخل الجاحظ الورّاقين ببغداد ، فقال : من هذا الغلام السواري الّذي بلغنا أنّه يعرض لنقض كتبنا والاسكافي جالس ، فاختفى حتّى لم يره » (٤).

وكان أبو جعفر يقول بالتفضيل على قاعدة معتزلة بغداد ويبالغ في ذلك وكان علوي الرأي ، محقّقاً منصفاً ، قليل العصبيّة (٥).

__________________

١ ـ تاريخ بغداد : ج ٥، ص ٤١٦.

٢ ـ شرح ابن أبي الحديد : ج ٤، ص ٦٣ ولكلامه ذيل نافع ولكنّه خارج عن موضوع البحث.

٣ ـ لم نجد هذا النص في ترجمته في طبقات القاضي المطبوع والذي حققه « فؤاد سيد ». وهذا يعرب عن كون المطبوع ناقصاً محرّفاً. نعم ما بعد هذا النص موجود فيها.

٤ ـ فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة : ص ٢٧٦.

٥ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد; ج ١٧، ص ١٣٣.

٢٧٩

وظاهر نصّ القاضي أنّه ألّف تسعين كتاباً في علم الكلام (١).

وهذه صورة بعض كتبه : كتاب اللّطيف ، كتاب البدل ، كتاب الردّ على النظّام في أنّ الطّبعين المختلفين يفعل بهما فعلاً واحداً ، كتاب المقامات في تفضيل عليّ عليه‌السلام ، كتاب إثبات خلق القرآن ، كتاب الردّ على المشبّهة ، كتاب المخلوق على المجبِّرة ، كتاب بيان المشكل على برغوث ، كتاب التمويه نقض كتاب حفص، كتاب النّقض لكتاب أبي الحسين النجّار ، كتاب الردّ على من أنكر خلق القرآن ، كتاب الشّرح لأقاويل المجبِّرة ، كتاب إبطال قول من قال بتعذيب الأطفال ، كتاب جمل قول أهل الحق ، كتاب النّعيم ، كتاب ما اختلف فيه المتكلّمون ، كتاب الردّ على أبي حسين في الاستطاعة ، كتاب فضائل عليّ عليه‌السلام، كتاب الأشربة ، كتاب العطب ، كتاب الردّ على هشام ، كتاب نقض كتاب أبي شبيب في الوعيد (٢).

وقداشتهر من بين كتبه كتاب « النقض على العثمانيّة » للجاحظ، وهذا يدلّ على أنّ الرّجل كان مبدئياً متحمّساً حيث قام بالمحاماة عن أكبر شخصيّة إسلامّة من أهل بيتالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العصر الّذي استفحل الانحراف عن أهل البيت ، وشاع التكالب على الدُّنيا بين الناس ، وراج التقرّب إلى أرباب السلطة من بني العبّاس أعداء أهل البيت.

ولكن هذا الكتاب لم يصل لحدّ الآن إلى أيدي المحقّقين في عصرنا هذا ، غير ما نقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ، وقد استقصى محمّد هارون المصري محقِّق كتاب العثمانيّة للجاحظ ما رواه ابن أبي الحديد عن كتاب النّقض في شرحه ، فجمعه وطبعه في آخر كتاب « العثمانيّة ».

هذا ، وقد نقل المقريزي في خططه آراء خاصّة عنه وهي ساقطة وضعها أعداؤه عليه. قال : « الاسكافيّة أتباع أبي جعفر محمّد بن عبدالله الاسكافي ، ومن قوله : إنّ الله

__________________

١ ـ فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة : ص ٢٨٥.

٢ ـ المعيار والموازنة : المقدّمة ، ص ٢.

٢٨٠