بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

شيء معلوم لله سبحانه في الأزل. غير أنّ علمه الأزلي لا يصيِّر الإنسان مسيّراً مكتوف الأيدي ، لأنّ علمه سبحانه لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن الإنسان على الإطلاق وبأيّ وجه كان ، وإنّما تعلّق بصدوره منه في ظلّ المبادئ الموجودة فيه ، ومنها الإرادة والاختيار والحريّة والانتخاب وباختصار; علمه سبحانه تعلّق بأنّ الإنسان فاعل مختار يفعل كلّ شيء بإرادته ومثل هذا العلم لو لم يؤكّد الاختيار لما كان سبباً للجبر.

وقد أوضحنا هذا الجواب عند البحث عن عموم مشيئته سبحانه وعلمه في الجزء الثاني من هذه الموسوعة :

نعم ، عمرو بن عبيد وكلّ من يعتقد بعدله سبحانه لا يجنح إلى روايات القدر الّتي تعرِّف الإنسان كالريشة في مهبِّ الريح. ولقد ذكرنا نزراً من تلك الأحاديث في كتابنا هذا.

وفود عمرو على الإمام الباقر عليه‌السلام

روي أنّ عمرو بن عبيد وفد على محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام لامتحانه بالسؤال عن بعض الآيات ، فقال له : « جعلت فداك ، ما معنى قوله تعالى : ( أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمواتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ) ( الانبياء / ٣٠ ) ما هذا الرّتق والفتق؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : كانت السّماء رتقاً لا ينزل القطر وكانت الأرض رتقاً لا تخرج النّبات ، ففتق الله السّماء بالقطر ، وفتق الأرض بالنبات ». فانطلق عمرو ولم يجد اعتراضاً ومضى.

ثمّ عاد إليه فقال : أخبرني جعلت فداك عن قوله تعالى : ( ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ) ( طه / ٨١ ) ما غضب الله؟ فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : « غضب الله تعالى عقابه يا عمرو. من ظنّ أنّ الله يغيّره شيء فقد كفر » (١).

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ٤٦، ص ٣٥٤ نقلاً عن المناقب لابن شهر آشوب. وغيره.

٢٤١

وفود عمرو على الإمام الصادق عليه‌السلام

روى الطّبرسي في « الاحتجاج » عن عبدالكريم بن عتبة الهاشمي قال : كنت عند أبي عبداللّه عليه‌السلام بمكّة إذ دخل عليه أناس من المعتزلة فيهم عمرو بن عبيدوواصل ابن عطاء وحفص بن سالم ، وأناس من رؤسائهم وذلك حين قتل الوليد (١) واختلف أهل الشّام بينهم فتكلّموا وأكثروا ، وخطبوا فأطالوا فقال لهم أبوعبدالله عليه‌السلام : « إنّكم قد أكثرتم عليّ وأطلتم فأسندوا أمركم إلى رجل منكم فليتكلّم بحجّتكم وليوجز، فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد فأبلغ وأطال ، فكان فيما قال : قتل أهل الشام خليفتهم ، وضرب الله بعضهم ببعض ، وتشتّت أمرهم. فنظرنا فوجدنا رجلاً له دين وعقل ومروّة ومعدن للخلافة وهو محمّد بن عبدالله بن الحسن (٢) فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه ثمّ نظهر أمرنا معه ، وندعو الناس إليه ، فمن بايعه كنّا معه وكان معنا ... إلى آخر ما قال. فلّما تمّ كلامه أجابه الإمام بكلام مسهب. وفي آخر كلامه : « اتّق الله يا عمرو وأنتم أيّها الرّهط ، فاتّقوا الله ، فإنّ أبي حدّثني وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب الله وسنّة رسوله أنّ رسول الله قال : من ضرب النّاس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلِّف (٣).

روى الصّدوق في عيونه عن عليّ الرضا عليه‌السلام عن أبيه ، عن جدّه عليهم‌السلام قال : « دخل عمرو بن عبيد البصري على أبي عبدالله ، فلّما سلّم وجلس عنده تلا هذه الآية : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ ) ( الشورى / ٣٧ ) ثمّ سأل عن الكبائر فأجابه عليه‌السلام فخرج عمرو بن عبيد وله صراخ من بكائه وهو يقول : هلك والله من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعلم » (٤).

____________

١ ـ الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان. قتل في جمادى الآخرة عام ١٢٦ وكان فاسقاً شرّيباً للخمر.

٢ ـ الملقّب بالنفس الزكية ، قتل بالمدينة في خلافة المنصور عام ١٤٥.

٣ ـ بحار الأنوار : ج ٤٧، ص ٢١٣ ـ ٢١٥.

٤ ـ بحار الأنوار : ج ٤٧، باب مكارم أخلاقه ، ص ١٩، الحديث ١٣.

٢٤٢

٣ ـ أبو الهذيل العلاّف ( ت ١٣٥ ـ م ٢٣٥ )

أبو الهذيل محمّد بن الهذيل العبدي ـ نسبة إلى عبدالقيس ـ وكان مولاهم وكان يلقّب بالعلاّف ، لأنّ داره في البصرة كانت في العلاّفين (١).

قال ابن النّديم : « : كان شيخ البصريّين في الاعتزال ومن أكبر علمائهم وهو صاحب المقالات في مذهبهم ومجالس ومناظرات.

نقل ابن المرتضى عن صاحب المصابيح أنّه كان نسيج وحده وعالم دهره ولم يتقدّمه أحد من الموافقين ولا من المخالفين. كان إبراهيم النظّام من أصحابه ، ثمّ انقطع عنه مدّة ونظر في شيء من كتب الفلاسفة ، فلمّا ورد البصرة كان يرى أنّه قد أورد من لطيف الكلام ما لم يسبق إلى أبي الهذيل. قال إبراهيم : فناظرت أبا الهذيل في ذلك فخيّل إليّ أنّه لم يكن متشاغلاً إلاّ به لتصرّفه فيه وحذقه في المناظرة فيه (٢).

قال القاضي : « ومناظراته مع المجوس والثنويّة وغيرهم طويلة ممدودة وكان يقطع الخصم بأقلّ كلام. يقال إنّه أسلم على يده زيادة على ٣٠٠٠ رجل ».

قال المبِّرد : « ما رأيت أفصح من أبي الهذيل والجاحظ، وكان أبو الهذيل أحسن مناظرة. شهدته في مجلس وقد استشهد في جملة كلامه بثلاثمائة بيت ... وفي مجلس المأمون استشهد في عرض كلامه بسبعمائة بيت » (٣).

وما ناظر به المخالفين دليل على نبوغه المبكر وتضلّعه في هذا الفن ، فلنذكر بعضه :

١ ـ مات ابن لصالح بن عبد القدّوس الّذي يرمى بالزندقة ، فجزع عليه ، فقال له أبو الهذيل : « لا أعرف لجزعك عليه وجهاً ، إذ كان الناس عندك كالزّرع فقال صالح :

__________________

١ ـ أمالي المرتضى : ج ١، ص ١٧٨، وفيات الأعيان : ج ٤، ص ٢٦٥ ـ ٢٦٧ رقم الترجمة ٦٠٦ وقد قيل في تاريخ وفاته غير هذا نقله المرتضى في أماليه.

٢ ـ فهرست ابن النديم : ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٣ ـ المنية والأمل : ص ٢٦ ـ ٢٧.

٢٤٣

يا أبا الهذيل إنّما أجزع عليه لأنّه لم يقرأ كتاب « الشكوك ». فقال : ما هذا الكتاب يا صالح؟

قال : هو كتاب قد وضعته ، من قرأه يشك ّ فيما كان حتّى يتوهّم أنّه لم يكن ، ويشكّ فيما لم يكن حتّى يتوهّم أنّه قد كان. فقال له أبو الهذيل : فشكّ أنت في موت ابنك ، واعمل على أنّه لم يمت وإن كان قد مات. وشكّ أيضاً في قراءته كتاب « الشكوك » وإن كان لم يقرأه » (١).

٢ ـ بلغ أبا الهذيل في حداثة سنّه أنّ رجلاً يهوديّاً قدم البصرة وقطع جماعة من متكلّميها ، فقال لعمّه : « يا عمّ امض بي إلى هذا اليهودي حتّى اُكلّمه. فقال له عمّه : يا بنيّ كيف تكلّمه وقد عرفت خبره ، وأنّه قطع مشايخ المتكلّمين! فقال : لا بدّ من أن تمضي بي إليه. فمضى به.قال : فوجدته يقرّر الناس على نبوّة موسى عليه‌السلام ، فإذا اعترفوا له بها قال : نحن على ما اتّفقنا عليه إلى أن نجمع على ما تدّعونه ، فتقدّمت إليه ، فقلت : أسألك أم تسألني؟ فقال : بل أسألك ، فقلت : ذاك إليك ، فقال لي : أتعترف بأنّ موسى نبيّ صادق أم تنكر ذلك فتخالف صاحبك؟ فقلت له : إن كان موسى الّذي تسألني عنه هو الّذي بشّر بنبيّي عليه‌السلام وشهد بنبوّته وصدّقه فهو نبيّ صادق ، وإن كان غير من وصفت ، فذلك شيطان لا أعترف بنبوّته; فورد عليه ما لم يكن في حسابه ، ثمّ قال لي : أتقول إنّ التوراة حقّ؟ فقلت : هذه المسألة تجري مجرى الاُولى ، إن كانت هذه التوراة الّتي تسألني عنها هي الّتي تتضمّن البشارة بنبيّي عليه‌السلام فتلك حق ، وإن لم تكن كذلك فليست بحق ، ولا أقرّ بها.

فبهت واُفحم ولم يدر ما يقول. ثمّ قال لي : أحتاج أن أقول لك شيئاً بيني وبينك ، فظننت أنّه يقول شيئاً من الخير ، فتقدّمت إليه فسارّني فقال لي : اُمّك كذا وكذا واُمّ من علّمك ، لا يكنّي ، وقدّر أنّي أثب به ، فيقول : وثبوا بي وشغبوا علي ، فأقبلت على من كان في المجلس فقلت : أعزّكم الله ، ألستم قد وقفتم على سؤاله إيّاي وعلى جوابي

__________________

١ ـ الفهرست لابن النديم : الفن الأوّل من المقالة الخامسة ص ٢٠٤ ـ وفيات الأعيان : ج ٤، ص ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

٢٤٤

إيّاه؟ قالوا : بلى ، قلت : أفليس عليه أن يردّ جوابي أيضاً؟ قالوا : بلى ، قلت لهم : فإنّه لمّا سارّني شتمني بالشتم الّذي يوجب الحد ، وشتم من علّمني ، وإنّما قدّر أنّني أثب عليه ، فيدّعي أنّنا واثبناه وشغبنا عليه ، وقد عرّفتكم شأنه بعد الانقطاع فانصروني ، فأخذته الأيدي من كلّ جهة فخرج هارباً من البصرة » (١).

أقول : إنّ ما طرحه الرجل اليهودي من الشبهة كانت شبهة دارجة لأهل الكتاب يتمسّكون بها كلّ منهم من غير فرق بين اليهودي والمسيحي. وقد سأل الجاثليق النصراني الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام في مجلس المأمون عن هذه الشبهة ، فقال الجاثليق : ما تقول في نبوّة عيسى وكتابه هل تنكر منهما شيئاً؟ قال الرضا عليه‌السلام : « أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه ... وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتابه ولم يبشّر به اُمّته » (٢).

إنّ الإمام الطاهر عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام قدم خراسان عام ١٩٩، وتوفّي بها عام ٢٠٣ هـ ، وكانت المناظرات خلال هذه السنوات دائرة ومجالسها بالعلماء والاُدباء حافلة ، فنقلوا ما دار بين الإمام والجاثليق إلى العواصم الإسلاميّة. فليس من البعيد أن يكون أبو الهذيل قد اقتبس كلامه من الإمام عليه‌السلام ، كما أنّ من المحتمل أن يكون من باب توارد الخاطر.

٣ ـ أتى إليه رجل فقال : « اُشكل عليّ أشياء من القرآن فقصدت هذا البلد فلم أجد عند أحد ممّن سألته شفاء لما أردته ، فلمّا خرجت في هذا الوقت قال لي قائل : إنّ بغيتك عند هذا الرّجل فاتّق الله وأفدني ، فقال أبو الهذيل ماذا أشكل عليك؟ قال : آيات من القرآن توهمني أنّها متناقضة وآيات توهمني أنّها ملحونة. قال : فماذا أحبّ إليك ، اُجيبك بالجملة أو تسألني عن آية آية؟ قال : بل تجيبني بالجملة ، فقال أبو الهذيل : هل تعلم أنّ محمّداً كان من أوساط العرب وغير مطعون عليه في لغته ، وأنّه

__________________

١ ـ أمالي المرتضى : ج ١، ص ١٧٨ ـ ١٧٩.

٢ ـ الاحتجاج للشيخ الطبرسي : ج ٢، ص ٢٠٢ وللمناظرة صلة ، من أراد فليراجع.

٢٤٥

كان عند قومه من أعقل العرب فلم يكن مطعوناً عليه؟ فقال : اللّهمّ نعم ، قال أبو الهذيل : فهل تعلم أنّ العرب كانوا أهل جدل؟ قال : اللّهمّ نعم ، قال : فهل اجتهدوا عليه بالمناقضة واللّحن؟ قال : اللّهمّ لا ، قال أبو الهذيل : فتدع قولهم على علمهم باللّغة وتأخذ بقول رجل من الأوساط؟ قال : فأشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، قال : كفاني هذا وانصرف وتفقّه في الدين » (١).

تآليفه

بينما لم يذكر ابن النّديم أيّ تأليف لأبي الهذيل يحكي ابن المرتضى عن يحيى بن بشر أنّ لأبي الهذيل ستّين كتاباً في الرّدّ على المخالفين في دقيق الكلام (٢).

نعم ، ذكر ابن النّديم في باب الكتب المؤلّفة في متشابه القرآن أنّ لأبي الهذيل العلاّف كتاباً في ذلك الفن (٣).

قال ابن خلّكان : « ولأبي الهذيل كتاب يعرف بالميلاس وكان « ميلاس » رجلاً مجوسياً وأسلم ، وكان سبب إسلامه أنّه جمع بين أبي الهذيل وبين جماعة من الثنويّة ، فقطعهم أبو الهذيل فأسلم ميلاس عند ذلك » (٤).

وذكر البغدادي كتابين لأبي الهذيل هما « الحجج » و « القوالب » والثاني ردُّ على الدهريّة (٥).

أقول : إنّ من سبر كتاب « الفرق بين الفرق » لعبد القاهر البغدادي يعرف حقده على المعتزلة وعلى ذوي الفكر ولذلك ترجمه بصورة تكشف عن عمق غيظ له ، فقال : « كان مولى لعبد القيس وقد جرى على منهاج أبناء السبايا لظهور أكثر البدع منهم ، وفضائحه تترى تكفِّره فيها سائر فرق الاُمّة من أصحابه في الاعتزال ومن غيرهم ،

__________________

١ ـ طبقات المعتزلة للقاضي : ص ٢٥٤.

٢ ـ المنية والأمل : ص ٢٥.

٣ ـ الفهرست لابن النديم : الفن الثالث من المقالة الاُولى ص ٣٩.

٤ ـ وفيات الأعيان : ج ٤ ص ٢٦٦.

٥ ـ الفرق بين الفرق : ص ١٢٤.

٢٤٦

وللمعروف بالمزدار من المعتزلة كتاب كبير فيه فضائح أبي الهذيل ، وفي تكفيره بما انفرد به من ضلالته. وللجبّائي أيضاً كتاب في الردّ على أبي الهذيل في المخلوق ، يكفّره فيه ، ولجعفر بن حرب المشهور في زعماء المعتزلة أيضاً كتاب سمّاه « توبيخ أبي الهذيل » وأشار بتكفير أبي الهذيل ، وذكر فيه أنّ قوله يجرّ إلى قول الدهريّة » (١).

تشيّعه

قال ابن المرتضى : « ذكروا أنّه صلّى عليه أحمد بن أبي دؤاد القاضي فكبّر عليه خمساً ، ثمّ لمّا مات هشام بن عمرو فكبّر عليه أربعاً ، فقيل له في ذلك ( ما وجه ذلك )؟ فقال : « إنّ أبا الهذيل كان يتشيع لبني هاشم فصلّيت عليه صلاتهم » وأبو الهذيل كان يفضّل عليّاً على عثمان. وكان الشيعي في ذلك الزمان من يفضّل عليّاً على عثمان » (٢).

وهذا يكشف عن أنّ التشيّع ربّما يستعمل في تفضيل الإمام عليه‌السلام على خليفة أو على الخلفاء الثلاث فقط ، ولا يلازم التشيّع القول بكون عليّ هو خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلافصل. فإنّ هذا هو التشيّع بالمعنى الأخصّ.

قال ابن أبي الحديد : « سئل شيخنا أبو الهذيل أيّما أعظم منزلة عند الله : عليّ عليه‌السلام أم أبوبكر؟ فقال : والله لمبارزة عليّ عمرواً يوم الخندق تعدل أعمال المهاجرين والأنصار وطاعاتهم كلّها ، فضلاً عن أبي بكر » (٣).

وفاته

إذا كانت ولادة أبي الهذيل ١٣٥ ووفاته ٢٣٥ فقد توفّى الرجل عن عمر يناهز المائة.

ويقول ابن خلّكان : « وكان قد كفّ بصره ، وخرف في آخر عمره إلاّ أنّه كان لا

__________________

١ ـ الفرق بين الفرق : ص ١٢١ ـ ١٢٢.

٢ ـ المنية والأمل : ص ٢٨.

٣ ـ شرح نهج البلاغة : ج ١٩ ص ٦٠.

٢٤٧

يذهب عليه شيء من الأصول ، لكنّه ضعف عن مناهضة المناظرين وحجاج المخالفين وضعف خاطره » (١).

و جرى ابن قتيبة في كتابه « تأويل مختلف الحديث » على ذمّ مشايخ المعتزلة ورميهم بقصص خرافيّة ، فنقل أوّلاً عن بعض أصدقاء أبي الهذيل أنّه بذل مائة ألف درهم على الإخوان. ثمّ قال ردّاً على هذه القصّة : « وكان أبو الهذيل أهدى دجاجة إلى موسى بن عمران فجعلها تأريخاً لكلّ شيء ، فكان يقول : فعلت كذا وكذا قبل أن أهدي إليك تلك الدّجاجة أو بعد أن أهديت إليك تلك الدّجاجة ». ثمّ فرّع على ذلك وقال : « هذا نظر من لا يقسم على الاخوان عشرة أفلس فضلاً عن مائة ألف » (٢).

« اللّهمّ لا تجعل في قلوبنا غلاّ للذين آمنوا ».

كلمة بذيئة

عنون الخطيب شيخ المعتزلة محمّداً أبا الهذيل ، ولكنّه جرى فيه كعادته فيهم بتسليط لسانه عليهم فقال : « شيخ المعتزلة » ، ومصنّف الكتب في مذاهبهم وهو من أهل البصرة. ورد بغداد وكان خبيث القول. فارق إجماع المسلمين وردّ نصّ كتاب الله عزّوجلّ إذ زعم أنّ أهل الجنّة تنقطع حركاتهم فيها ، حتّى لا ينطقوا نطقة ولا يتكلّموا بكلمة ، فلزمه القول بانقطاع نعيم الجنّة عنهم والله تعالى يقول : ( اُكلّها دائم ).

وجحد صفات الله الّتي وصف بها نفسه ، وزعم أنّ علم الله هو الله ، وقدرة الله هي الله. فجعل الله علماً وقدرة ـ تعالى الله عمّا وصفه به علوّاً كبيراً ـ » (٣).

يلاحظ عليه : أنّ النسبة الاُولى لم تثبت بعد ، وهؤلاء هم الأشاعرة ينقلونه عن أبي الهذيل وأتباعه ، وقد اعتذر أبو الحسين الخيّاط عن هذه النسبة في كتابه « الانتصار » وبما

__________________

١ ـ وفيات الأعيان : ج ٤ ص ٢٦٧.

٢ ـ تأويل مختلف الحديث : ص ٤٣.

٣ ـ تاريخ بغداد : ج ٣، ص ٣٦٦.

٢٤٨

أنّ كتب الرجل قد ضاعت وعبث بها الزمان فلا يصحّ في منطق العقل الجزم بذلك إلاّ إذا تواتر النّقل وهو مفقود.

وأمّا النسبة الثانية فقد غفل عن مغزاها الخطيب فتصوّره أمراً شنيعاً مع أنّ أبا الهذيل يقصد بذلك الوصول إلى قمّة التوحيد ، وهو نفي كون صفاته سبحانه زائدة على ذاته. لأنّ القول بالزيادة يستلزم التركيب ( تركيب ذاته مع صفاته السبع الكماليّة ) وقد أوضحناه في الجزء الثاني من كتابنا فراجع (١).

والّذي يندي الجبين أن يقذف الشيخ بأمر شنيع. نقل الخطيب عن أبي حذيفة : كان أبو الهذيل يشرب عند ابن لعثمان بن عبدالوهاب ، قال : فراود غلاماً في الكنيف ... إلى آخر ما ذكره في الوقيعة به الّتي يجب أن يحدّ القاذف ويبرء المرمىّ بها ، ولكنّ الطائفيّة البغيضة دفعت الخطيب إلى نقل القصّة بلا اكتراث.

( إنّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةَ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ).

٤ ـ النظّام ( ت ١٦٠ هـ ـ م ٢٣١ هـ ) (٢)

إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظّام

النظّام : هو الشخصيّة الثالثة للمعتزلة ومن متخرّجي مدرسة البصرة للاعتزال.

قال ابن النديم : يكنّى أبا إسحاق ، كان متكلّماً شاعراً أديباً وكان يتعنّف أبا نؤاس وله فيه عدّة مقطّعات وإيّاه عنى أبو نؤاس بقوله :

فقل لمن يدّعي في العلم فلسفة

حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء

لا تحظر العفو إن كنت امرءاً حرجاً

فانّ حظركه بالدين إزراء (٣)

__________________

١ ـ ص ٧٨ ـ ٧٩ وسيوافيك بيانه في الفصل المختص ببيان الاُصول الخمسة للمعتزلة.

٢ ـ في ميلاده ووفاته أقوال اُخر وما ذكرناه هو المؤيد بالقرائن.

٣. فهرست ابن النديم : الفن الأوّل من المقالة الخامسة ص ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

٢٤٩

وذكره الكعبي في « ذكر المعتزلة » وقال : « هو من أهل البصرة ثمّ نقل آراءه الّتي تفرّد بها » (١).

وقال الشريف المرتضى : « كان مقدّماً في علم الكلام ، حسن الخاطر ، شديد التدقيق والغوص على المعاني ، وإنّما أدّاه إلى المذاهب الباطلة الّتي تفرّد بها واستشنعت منه ، تدقيقه وتغلغله وقيل : إنّه مولى الزياديين من ولد العبيد وإنّ الرّق جرى على أحد آبائه » (٢).

وذكره القاضي عبدالجبّار في « طبقات المعتزلة » وقال : « إنّه من أصحاب أبي الهذيل وخالفه في أشياء » (٣).

ذكاؤه المتوقّد

١ ـ روى الشّريف المرتضى أنّ أبا النظّام جاء به وهو حدث إلى الخليل بن أحمد ( م ١٧٠ هـ ) ليعلِّمه فقال له الخليل يوماً يمتحنه ـ وفي يده قدح زجاج ـ : يا بني ، صف لي هذه الزّجاجة ، فقال : أبمدح أم بذمّ؟ قال : بمدح ، قال : نعم ، تريك القذى ، لا تقبل الأذى ، ولا تستر ما وراء ، قال : فذمّها ، قال : سريع كسرها ، بطيء جبرها ، قال : فصف هذه النّخلة ، وأومأ إلى نخلة في داره ، فقال : أبمدح أم بذم؟ قال : بمدح ، قال : هي حلو مجتناها ، باسق منتهاها ، ناظر أعلاها ، قال : فذمّها ، قال : هي صعبة المرتقى ، بعيدة المجتنى ، محفوفة بالأذى ، فقال الخليل : با بني ، نحن إلى التعلم منك أحوج.

قال الشّريف المرتضى بعد نقل هذه القصّة : « وهذه بلاغة من النظّام حسنة ، لأنّ البلاغة هي وصف الشيء ذمّاً أو مدحاً بأقصى ما يقال فيه » (٤).

٢ ـ قال أبوعبيدة : « ما ينبغي أن يكون فى الدّنيا مثله ، فإنّي امتحنته فقلت : ما

__________________

١ ـ فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة : ص ٧٠.

٢ ـ أمالي المرتضى : ج ١، ص ١٨٧.

٣ ـ فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة : ص ٢٦٤.

٤ ـ أمالي المرتضى : ج ١، ص ١٨٩.

٢٥٠

عيب الزجاج؟ فقال على البديهة : يسرع إليه الكسر ولا يقبل الجبر » (١).

٣ ـ روي أنّه كان لا يكتب ولا يقرأ وقد حفظ القرآن والتوراة والانجيل والزبور وتفسيرها مع كثرة حفظه الأشعار والأخبار واختلاف النّاس في الفتيا (٢).

٤ ـ قال الجاحظ : « الأوائل يقولون : في كلّ ألف سنة رجل لا نظير له. فان كان ذلك صحيحاً فهو : أبو إسحاق النظّام » (٣).

ولو صحّ ما نقلناه في حقّه ، فهو يحكي عن كون المترجم له ذا نبوغ مبكر ، وذكاء وقّاد ، وقابليّة كبيرة ، ومثل هذا لو وقع تحت رعاية صحيحة وتربّى على يدي اُستاذ بارع يتجلّى نبوغه بأحسن ما يمكن وتتفجّر طاقاته لصالح الحقائق ، وإدراك الواقعيّات ، وإذا فقد مثل ذلك الاُستاذ البارع وهو على ما ذكرناه من المواهب والقابليّات انحرف انحرافاً شديداً ، وتحرّكت طاقاته في اتّجاه الجناية على الحقائق وظلم الواقعيات.

ولعلّ ما يحكى عن النظام من بعض الأفكار المنحرفة ـ إن صحّت ـ فذلك نتيجة النبوغ غير الموجّه ، والقابليّة غير الخاضعة للارشاد والهداية.

وسيوافيك بعض أفكاره غير الصّحيحة ، غير أنّ أكثر مصادرها هي كتب الأشاعرة كـ « مقالات الإسلاميين » للأشعري ، و « الفرق بين الفرق » وغيرهما من كتب الأشاعرة الّذين ينظرون إلى المعتزلة بعين العداء ومخالفي السنّة.

نعم هجوم الأشاعرة عليه ، وردّ بعض المعتزلة عليه (٤) يعرب عن شذوذ في منهجه ، وانحراف في فكره.

٥ ـ روى القاضي أنّه كان يقول عندما يجود بنفسه : « اللّهمّ إن كنت تعلم أنّي لم اُقصّر في نصرة توحيدك ولم أعتقد مذهباً إلاّ سنده التوحيد ، اللّهمّ إن كنت تعلم ذلك فاغفر لي ذنوبي وسهِّل عليّ سكرات الموت ». قال : فمات من ساعته (٥).

__________________

١ ـ المنية والأمل ، لابن المرتضى : ص ٢٩.

٢ ـ المنية والأمل ، لابن المرتضى : ص ٢٩.

٣ ـ المنية والأمل ، لابن المرتضى : ص ٢٩.

٤ ـ لاحظ الفرق بين الفرق ص ١٣٢ ترى ردود المعتزلة عليه. فقد ذكر أنّ لأبي الهذيل والجبائي والاسكافي وجعفر بن حرب ردوداً عليه.

٥ ـ فضل الاعتزال للقاضي : ص ٢٦٤ ـ المنية والأمل ص ٢٩ ـ ٣٠.

٢٥١

ولو صحّ هذا فلا يصحّ ما ينسب إليه البغدادي من أنّ النظّام كان أفسق خلق الله عزّوجلّ وأجرأهم على الذنوب العظام وعلى إدمان شرب المسكر. وقد ذكر عبدالله بن قتيبة في كتاب « مختلف الحديث » أنّ النظّام كان يغدو على مسكر ويروح على مسكر وأنشد قوله في المسكر :

ما زلت آخذ روح الزقّ في لطف

وأستبيح دماً من غير مذبوح

حتّى انثنيت ولي روحان في بدن

والزقّ مطّرح جسم بلا روح

ثمّ أخذ البغدادي في ذمِّه بكلمات رديئة لا تصلح للنقل ، وقد عدّ البغدادي له أزيد من عشرين فضيحة وجعل بعضها سبباً لكفره ، غير أنّ بعضها ليس بفضيحة وبعضها الآخر لا يوجب الكفر (١) والبغداديّ في هذه التّهم والنّسب ـ كما قال ـ تبع شيخ أصحاب الحديث ابن قتيبة حيث قال : « وجدنا النظّام شاطراً من الشطّار يغدو على سكر ويروح على سكر ويبيت على جرائرها ويدخل في الأدناس ويرتكب الفواحش والشائنات » ثمّ ذكر البيتين (٢).

أفي ميزان النّصفة الاعتماد على قول الخصم عند القضاء عليه؟.

وذكر الشهرستاني له مسائل انفرد بها وأنهاها إلى ثلاث عشرة مسألة (٣) وفي قلمه نزاهة قابلة للتقدير بخلاف البغدادي في الفرق ونذكر نموذجين من هذه الفضائح المزمومة :

١ ـ قوله بانقسام كلِّ جزء لا إلى نهاية. فزعم البغدادي أنّ نتيجة ذلك القول إحالة كون الله تعالى محيطاً بأجزاء العالم ، عالماً بها ، وذلك قول الله تعالى : ( وأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وأَحْصَى كُلَّ شَيْء عَدَداً ) ( الجن / ٢٨ ) (٤).

____________

١ ـ الفرق بين الفرق : ص ١٣١ ـ ١٥٠.

٢ ـ تأويل مختلف الحديث : ص ١٧ و١٨.

٣ ـ الملل والنحل : ج ١ ص ٥٤ ـ ٥٨.

٤ ـ الفرق بين الفرق : ص ١٣٩.

٢٥٢

يلاحظ عليه : أنّ القائل ببطلان تركّب الجسم من أجزاء لا يتجزّا ، وأنّ كلّ جزء مفروض ينقسم إلى ما لا نهاية له ، لا يعنى به انقسام كلِّ جزء إلى ما لا نهاية له بالفعل ، بحيث يكون في كلِّ ذرة أجزاء فعليّة مترتبة متسلسلة ، بل المراد هو الانقسام بالقوّة ، بمعنى أنّ الانقسام لا ينتهي إلى جزء لا يمكن تقسيمه عقلاً ، لأنّ ما نفرضه جزءاً غير متجزّئ، شرقه غير غربه ، فيكون منقسماً بهذا الشّكل إلى ما لا نهاية له ، وإن كان ينتهي إلى جزء لا يمكن تقسيمه حسّاً لأجل ضعف أدوات التّقسيم ، ولكن هذا لا يصدّ التقسيم العقلي ولا يمنع منه.

وهذا واضح لمن أمعن النّظر في أدلّة القائلين ببطلان الجزء الّذي لا يتجزّأ. فالبغدادي خلط بين مسألة أجزاء غير متناهية بالفعل ومسألة أجزاء غير متناهية بالقوّة ، وما فرضه إشكالاً ـ على فرض صحّته في نفسه ـ إنّما يترتّب على الأوّل دون الثّاني ، لأنّ العالم على الفرض الثّاني يكون متناهياً بالفعل ، ويكون سبحانه محيطاً بأجزاء العالم ، عالماً به ، وإن كان غير متناه بالقوّة ، لكن مناط العلم هو الأوّل لا الثّاني.

و ثانياً : نفرض أنّ العالم له أجزاء غير متناهية ، ولكنّه سبحانه أيضاً موجود غير متناه ، على ما برهن عليه في محلّه ، فلا يشذّ عن حيطة وجوده شيء ، نعم من خصّ وجوده سبحانه بالعرش فوق السّماوات لا محيص له عن توصيفه بالتّناهي والله سبحانه منزّه عن التّناهي وأحكام الممكنات.

٢ ـ قوله بأنّ الإنسان هو الروح وهو جسم لطيف تداخل بهذا الجسم ، ثمّ رتّب عليه على زعمه إشكالات : منها; أنّ الإنسان على هذا لا يرى على الحقيقة وإنّما يرى الجسد الّذي فيه الإنسان.

ومنها; أنّه يوجب أنّ الصّحابة ما رأوا رسول الله وإنّما رأوا قالباً فيه الرّسول ، إلى غير ذلك من الاشكالات الواهية.

أقول : لايظهر من القرآن كون الروح هو الجسم اللّطيف المتداخل في البدن ، ولكنّه يظهر منه كون حقيقة الإنسان هي روحه ، وأنّ واقعيَّته وشخصيّته بروحه لا

٢٥٣

بجسده. قال سبحانه : ( قُلْ يَتَوَفَّيكُمْ مَلَكُ المَوتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون ) ( السجدة / ١١ ). إنّ كلمة « التوفّي » لا تعني الاماتة كما هو معروف ، بل تعني الأخذ والقبض ، فقوله سبحانه ( يتوفّاكم ) بمعنى يأخذكم ويقبضكم ، فالآية ظاهرة في أنّ ملك الموت يأخذ الإنسان كلّه ، ويكون محفوظاً عند ربّه ، وهذا إنّما يتمّ ولو كان حقيقة الإنسان هو روحه ونفسه ، لا روحه وجسمه ، وإلاّ يكون المأخوذ بعض الإنسان وجزئه ، لوضوح أنّ ملك الموت يأخذ أحد الجزأين وهو الرّوح ويترك الجزء الآخر وهو يودع في القبر الّذي لا علاقة لملك الموت به.

وما رتّب البغدادي على نظريّة النظّام من الاشكالات لا يستحقّ الردّ والنّقد.

إذا عرفت هذين النموذجين الّذين عدّهما البغدادي من فضائح النظّام ـ وليسا منها ـ فعند ذا يتبيّن وجوب دراسة آراء ذلك الرجل في جوّ هادىء بعيد عن الحقد والبغض حتّى يتّضح الحقّ عن الباطل ، مع أنّه لا مصدر لنسبة هذه الآراء إلاّ كتب الأشاعرة وبصورة ناقصة « الانتصار » لأبي الحسين الخيّاط ، وليس كتابنا هذا كتاباً كلاميّاً وإنّما هو كتاب تأريخ العقائد ولأجل ذلك نكتفي بهذا المقدار ، غير أنّه نرى من الواجب التعرّض لعقيدة منسوبة إليه في إعجاز القرآن المعروفة بمذهب الصِّرفة.

النظّام ومذهب الصرفة في إعجاز القرآن

من الآراء الباطلة الّتي نسبت إلى النظّام ، هو حصر إعجاز القرآن في الاخبار عن المغيبات ، وأمّا التأليف والنّظم فقد كان يجوِّز أن يقدر عليه العباد لولا أنّ الله منعهم بمنع (١). وقد نقل عنه البغدادي في « الفرق » بقوله : « إنّه أنكر إعجاز القرآن فى (٢) نظمه ».

وقال الشهرستاني : « قوله في إعجاز القرآن إنّه من حيث الاخبار عن الاُمور الماضية والآتية ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة ، ومنع العرب عن الاهتمام به

__________________

١ ـ مقالات الاسلاميين : ص ٢٢٥.

٢ ـ الفرق بين الفرق : ص ١٣٢.

٢٥٤

جبراً وتعجيزاً ، حتّى لو خلاّهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله بلاغة وفصاحة ونظماً » (١).

أقول : لا شكّ أنّ مذهب الصرفة في إعجاز القرآن مذهب مردود بنصّ القرآن وإجماع الاُمّة ، لأنّ مذهب الصرف يرجع إلى أنّ القرآن لم يبلغ في مجال الفصاحة والبلاغة حدّ الإعجاز، حتّى لا يتمكّن الإنسان العادي من مباراته ومقابلته ، بل هو في هذه الجهة لا يختلف عن كلام الفصحاء والبلغاء ، ولكنّه سبحانه يحول بينهم وبين الإتيان بمثله ، إمّا بصرف دواعيهم عن المعارضة ، أو بسلب قدرتهم عند المقابلة.

ومن المعلوم أنّ تفسير إعجاز القرآن بمثل هذا باطل جدّاً لأنّ القرآن عند المسلمين معجز لكونه خارق للعادة لما فيه من ضروب الإعجاز في الجوانب الأربعة : ١ ـ الفصاحة القصوى ٢ ـ البلاغة العليا ٣ ـ النظم المخصوص ٤ ـ الاُسلوب البديع. فقد تجاوز عن حدِّ الكلام البشري ووصل إلى حدّ لا تكفي في الاتيان بمثله القدرةُ البشريّة.

يقول الطّبرسى في تفسير قوله : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً ) ( الإسراء / ٨٨ ) « معناه قل يا محمد لهؤلاء الكفّار : لئن اجتمعت الإنس والجنّ متعاونين متعاضدين على أن يأتوا بمثل هذا القرآن من فصاحته وبلاغته ونظمه على الوجوه الّتي هو عليها من كونه في الطبقة العليا من البلاغة والدرجة القصوى من حسن النظم وجودة المعاني وتهذيب العبارة .. لعجزوا عن ذلك ولم يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً » (٢).

إنّ مذهب الصرفة كمذهب الصّدفة لدى المادِّيين في الوهن والبطلان ، فإنّه سبحانه أرفع شأناً من أن يأمر الإنسان والجنّ بأن يباروا القرآن ، ويرضى منهم بمباراة بعضه لو تعذّر عليهم الكل ، ثمّ يعترض سبيلهم ويصرف منهم القوّة والهمّة ويمنعهم

__________________

١ ـ الملل والنحل : ج ١ ص ٥٦ ـ ٥٧.

٢ ـ مجمع البيان : ج ٦ ص ٦٧٦.

٢٥٥

من أن يأتوا بما أراد منهم مع قدرتهم عليه قبل عزم المباراة والمقابلة.

ولو صحّ وجه إعجازه في الصّرفة ، فيتمّ حتّى مع كونه كلاماً مغسولاً من الفصاحة ، ومبذولاً مرذولاً للغاية ، وكلّما حاول الإنسان أن يقابله ، صرفت دواعيه وسلبت قدرته عن الاتيان بمثله ، هوكما ترى (١).

مؤلّفاته

مع أنّه كثر اللّغط والصّياح حول آراء النظّام (٢) فطبع الحال يقتضي أن يكون له عشرات المؤلّفات ، غير أنّه لم يصل من أسماء مؤلّفاته إلينا أزيد ممّا يلي :

١ ـ التّوحيد٢ ـ العالم (٣) ٣ ـ الجزء (٤) ٤ ـ كتاب الردّ على الثنويّة (٥).

ومن أراد أن يرجع إلى متفرِّداته ـ إن صحّت النّسبة ـ فليرجع إلى « الملل والنحل » للشهرستاني ، فإنّه جمعها تحت ثلاث عشرة مسألة ، مع النزاهة ورعاية أدب البحث ، خلافاً للبغدادي ، فإنّ كلامه بعيد عن الأدب.

٥ ـ أبو علي محمّد بن عبدالوهّاب الجبّائي ( ت ٢٣٥ ـ م ٣٠٣ )

هو أحد أئمّة المعتزلة في عصره ، وإماماً في كلامه ويعرّفه ابن النديم في فهرسته بقوله : « هو من معتزلة البصرة ، ذلّل الكلام وسهّله ويسّر ما صعب منه ، وإليه انتهت رئاسة البصريّين في زمانه ، لا يدافع في ذلك. وأخذ عن أبي يعقوب الشحّام. ورد البصرة

__________________

١ ـ ومن أراد البحث حول تلك النظرية فعليه الرجوع إلى المصادر التالية : أوائل المقالات للشيخ المفيد ص ٣١، بحار الأنوار : ج ١٢، ص ١ ـ ٣٢. المعجزة الخالدة للعلامة الشهرستاني ص ٩٢ ـ ٩٣. مقال للكاتب الفكيكي في مجلّة رسالة الإسلام ، العدد الثالث من السنة الثالثة ، والعدد الأول من السنة الرابعة. الجزء الثاني من الإلهيات من محاضراتنا الكلامية التي قام بتحريرها الشيخ الفاضل حسن مكي العاملي.

٢ ـ ألّف محمد عبد الهادي أبو ريدة كتاباً مستقلاً حول آراء النظام وأسماه « إبراهيم بن سيار النظام » وطبع عام ١٣٦٥ بالقاهرة وقد جمع آراءه عن مصادر مطبوعة ومخطوطة.

٣ ـ ذكرهما أبو الحسين الخياط ( م ٣١١ ) في الانتصار ص ١٤ ـ ١٧٢.

٤ ـ مقالات الاسلاميين : ج ٢ ص ٣١٦.

٥ ـ الفرق بين الفرق : ص ١٣٤.

٢٥٦

وتكلّم مع من بها من المتكلّمين ، وصار إلى بغداد ، فحضر مجلس أبي ... إلضّرير وتكلّم فتبيّن فضله وعلمه ، وعاد إلى العسكر ومولده سنة ٢٣٥ هـ وتوفّي سنة ٣٠٣ هـ » (١).

وقال ابن خلّكان : « إنّه أحد أئمّة المعتزلة ، كان إماماً في علم الكلام ، وأخذ هذا العلم عن أبي يوسف يعقوب بن عبدالله الشحّام البصري رئيس المعتزلة بالبصرة في عصره. له في مذهب الاعتزال مقالات مشهورة وعنه أخذ الشيخ أبو الحسن الأشعري علم الكلام وله معه مناظرة روتها العلماء » (٢).

قال الياقوت : « الجبّائي منسوب إلى « جبّا » بضمّ الجيم وتشديد الباء : بلد أو كورة من خوزستان ، ومن الناس من جعل عبّادان من هذه الكورة وهي في طرف من البصرة والأهواز، حتّى جعل من لا خبرة له « جبّا » من أعمال البصرة وليس الأمر كذلك ـ إلى أن قال ـ : « جبّا » في الأصل عجمي وكان القياس أن ينسب إليها جُبّوي ، فنسبوا إليها جبّائي على غير قياس مثل نسبتهم إلى الممدود ، وليس فى كلام العجم ممدود ، وجبّا أيضاً من أعمال النّهروان » (٣).

وقد أثنى عليه ابن المرتضى في « المنية والأمل » بما لا مزيد عليه فقال : « وهو الّذي سهّل علم الكلام ويسّره وذلّله وكان مع ذلك فقيهاً ورعاً زاهداً جليلاً نبيلاً ، ولم يتّفق لأحد من إذعان سائر طبقات المعتزلة له بالتقدّم والرئاسة بعد أبي الهذيل مثله ، بل ما اتّفق له هو أشهر أمراً وأظهر أثراً ، وكان شيخه أبا يعقوب الشحّام ، ولقى غيره من متكلّمي زمانه وكان على حداثة سنّه معروفاً بقوّة الجدل » (٤).

مناظراته

١ ـ حضر من علماء المجبِّرة رجل يقال له صقر. فإذا غلام أبيض الوجه زجّ

__________________

١ ـ فهرست ابن النديم الفن الأول من المقالة الخامسة ص ٢١٧ ـ ٢١٨.

٢ ـ لاحظ الجزء الثاني من كتابنا هذا ص ١٨.

٣ ـ معجم البلدان : ج ٢ ص ٩٦ ـ ٩٧ طبع التراث العربي.

٤ ـ المنية والأمل : ص ٤٥.

٢٥٧

نفسه في صدر صقر وقال له : أسألك؟ فنظر إليه الحاضرون وتعجّبوا من جرأته مع صغر سنّه. فقال له : سل ، فقال : هل الله تعالى يفعل العدل؟ قال : نعم ، قال : أفتسمّيه بفعله العدل عادلاً؟ قال : نعم ، قال : فهل يفعل الجور؟ قال : نعم ، قال : أفتسمّيه جائراً؟ قال : لا ، قال : فيلزم أن لا تسمّيه بفعله العدل عادلاً ، فانقطع صقر ، وجعل الناس يسألون من هذا الصّبي؟ فقيل : هو غلام من جبّاء (١).

يلاحظ على تلك المناظرة : أنّه في وسع المجبِّر أن يقول : إن أسماءه سبحانه توقيفيّة ولا يصحّ لنا تسميته بما لا يسمّي به نفسه.

٢ ـ روى ابن المرتضى أنّ أبا عليّ ناظر بعضهم في الإرجاء وأبو حنيفة والزبير حاضران ، فقال أبو حنيفة : إنّ أبا عمرو بن العلاء لقي عمرو بن عبيد ، فقال له : يا أبا عثمان إنّك أعجميّ ولست بأعجميّ اللّسان ولكنّك أعجميّ الفهم. إنّ العرب إذا وعدت أنجزت ، وإذا أوعدت أخلفت وأنشد شعراً :

إنّي وإن أوعدته ووعدته

لمخلف إيعادي ، ومنجز موعدي

فقال أبو عليّ : إنّ أبا عثمان أجابه بالمسكت وقال له : إنّ الشاعر قد يكذب وقد يصدق ، ولكن حدّثني عن قول الله عزّ وجلّ : ( لأََمْلأََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) ( هود / ١١٩، السجدة / ١٣ ) إن ملأها أتقول صدق؟ قال : نعم ، وإن لم يملأها أفتقول صدق؟ فسكت أبو حنيفة.

يلاحظ عليه : أنّه سبحانه إنّما يخلف بما أوعده إذا عفا عن الكافر والمشرك والمسلم جميعاً ، وأمّا إذا عفا عن المسلمين خاصّة فلا يلزم الكذب ، لأنّه لا يستلزم خلف الايعاد الوارد في الآية المباركة ، ولا يلزم خلوّ جهنّم من الجنّة والنّاس الّذي أشار الله إليه بقوله : ( لأََمْلأََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) ، لأنّ من يجري عليه العفو أقلّ ممّن يكون محكوماً بدخول الجحيم ، وليس القائل بالعفو يقول بأنّ العفو يعمّ كلّ

__________________

١ ـ المنية والأمل : ص ٤٦.

٢٥٨

كافر ومشرك ومسلم ، وإنّما يتحقّق في إطار محدود ومضيّق. كيف وقد وعد سبحانه على وجه الجزم والقطع بقوله : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ ) ( النساء / ٤٨ ) وليس المراد من الغفران هو المغفرة لأجل التّوبة ، لأنّ الغفران بعد التوبة يعمّ المشرك وغيره ، وإنّما المراد هو الغفران والمغفرة بلا توبة وإنابة ، والمشرك والمنافق لا يعمّهما العفو أبداً ويكفي ذلك في تحقّق وعيد الربّ وصدق إخباره ( لأََمْلأََنَّ جَهَنَّمَ ).

وخلاصة القول : أنّ القائل بالعفو في مورد الايعاد يدّعي قضيّة جزئيّة لا قضيّة كلّيّة استيعابيّة ، وللبحث صلة تمرّ عليك عند البحث عن اُصول المعتزلة فارتقب.

ثمّ إنّ في وسع أبي عليّ أن يقابل شعر المناظر بشعر شاعر آخر وينشد قوله :

إنّ أبا ثابت لمجتمع الرأي

شريف الآباء والبيت

لا يخلف الوعد والوعيد ولا

يبيت من ثاره على فوت (١)

تأليفاته

يظهر ممّا نقله ابن المرتضى أنّه غزير الإنتاج. قال : قال أبو الحسين : « وكان أصحابنا يقولون : إنّهم حرّروا ما أملاه أبو عليّ فوجدوه مائة ألف وخمسين ألف ورقة ، قال : وما رأيته ينظر في كتاب إلاّ يوماً نظر في زيج الخوارزمي ، ورأيته يوماً أخذ بيده جزءاً من الجامع الكبير لمحمّد بن الحسن وكان يقول : إنّ الكلام أسهل شيء ، لأنّ العقل يدلّ عليه » (٢).

يلاحظ عليه : أنّ علم الكلام كما يستمدّ من العقل ، يستمدّ من الكتاب والسنّة الصّحيحة خصوصاً فيما يرجع إلى ما بعد الموت ، وأنّ الاستبداد بالعقل الشخصي من دون المراجعة لآراء من سبق من الأعاظم لا ينتج شيئاً ناضجاً. فكما أنّ التقاء الأسلاك

__________________

١ ـ المنية والأمل : ص ٤٨.

٢ ـ نفس المصدر : ص ٤٧.

٢٥٩

الكهربائيّة يوجب تفجّر النور والطاقة ، فهكذا التقاء الأفكار والآراء يوجب اكتساح ظلمات الجهل عن أمام المفكّر.

ويظهر من ابن المرتضى في ترجمة الأصمّ أنّ لأبي عليّ تفسيراً ، قال : « وكان أبو عليّ لا يذكر أحداً في تفسيره إلاّ الأصمّ » (١) ومن المحتمل أن يكون المقصود أنّه لا يذكر من آراء الرجال في التفسير شيئاً إلاّ عن الأصمّ.

ويظهر أيضاً منه ـ في ترجمة أبي محمّد عبدالله بن العبّاس الرامهرمزي تلميذه ـ أنّ لأبي عليّ كتباً في الردّ على أهل النجوم ، ويذكر أنّ كثيراً منها يجري مجرى الأمارات الّتي يغلب الظنّ عندها (٢).

كما يظهر منه ـ في ترجمة الخراسانيّين الثّلاثة الّذين خرّجوا على أبي عليّ وأخذوا عنه ـ أنّ أبا عليّ أملى كتاب « اللّطيف » لأبي الفضل الخجندي ، ثالث الخراسانيّين (٣).

ونقل ابن عساكر في « تبيين كذب المفتري » عن الشيخ الأشعري أنّ له كتاباً في الردّ على كتاب « الاُصول » لاُستاذه أبي عليّ الجبّائي (٤).

إلى غير ذلك ممّا أهمل أرباب التراجم ذكره في ترجمته.

لمحة من أحواله

روى ابن المرتضى وقال : قال أبو الحسن : « وكان من أحسن الناس وجهاً وتواضعاً ـ إلى أنّ قال ـ : وكان إذا روى عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لعليّ والحسن والحسين وفاطمة : « أنا حرب لمن حاربكم ، وسلم لمن سالمكم » يقول : العجب من هؤلاء النوابت (٥)يروون هذا الحديث ثمّ يقولون بمعاوية » (٦).

وروى عن عليّ عليه‌السلام أنّ رجلين أتياه فقالا : ائذن لنا أن نصير إلى معاوية

__________________

١ ـ المنية والأمل : ص ٣٣.

٢ ـ نفس المصدر : ص ٥٨.

٣ ـ نفس المصدر : ص ٦٥.

٤ ـ تبيين كذب المفتري : ص ١٣٠.

٥ ـ تطلق على الحشوية ومن لفّ لفّهم.

٦ ـ المنية والأمل : ص ٤٧.

٢٦٠