بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٩

فتابعه عمرو بن عبيد ، ووافقه على التديّن به من قال بها ومن اتّبعهما عليه ، إلى اعتزال الحسن البصري وأصحابه والتحيّز عن مجلسه فسمّاهم الناس المعتزلة لاعتزالهم مجلس الحسن بعد أن كانوا من أهله وتفرّدهم بما ذهبوا إليه من هذه المسألة من جميع الاُمّة وسائر العلماء ولم يكن قبل ذلك يعرف الاعتزال ولا كان علماً على فريق من الناس » (١).

ولولا قوله : « وتفرّدهم بما ذهبوا إليه في هذه المسألة من جميع الاُمّة وسائر العلماء » لكان نصّاً في هذه النظرية ، إلاّ أنّ هذا الذيل يمكن أن يكون إشارة إلى النظرية الأخرى الّتي ستبيّن.

قد نقل اعتزال واصل حلقة الحسن جماعة كثيرة ، فنقلها المرتضى في أماليه ج ١ ص ١٦٧، والبغدادي في الفرق بين الفرق ص ١١٨، والشهرستاني في الملل والنحل ج ١ ص ٤٨، وابن خلكان في وفيات الأعيان ج ٦ ص ٨، والمقريزي في خططه ج ٢ ص ٣٤٦.

وعلى كلّ تقدير فقد ناقش الدكتور « نيبريج » المستشرق هذه النظرّية بأنّه وردت تسمية هذه المدرسة بأهل الاعتزال بمن قال بالاعتزال ، ولو كان معنى الكلمة ما زعموه لما جاز مثل هذه التسمية ، ثم إنّ لها عدّة نظائر في عرف ذلك الزمان كالمرجئة يرادفها أهل الارجاء وهم الّذين قالوا بالإرجاء ، والرافضة يرادفها أهل الرفض ومن قال بالرفض (٢).

ولعلّ المناقشة في محلّها كما سيظهر مما ننقله عن المسعودي في النّظرية السادسة.

٥ ـ الاعتزال عن القولين السائدين في ذلك العصر

وهناك رأي خامس في تسميتهم بالاعتزال يظهر من شيخ المعتزلة أبي القاسم البلخي ( م ٣١٧ ) يقول : « والسبب الّذي له سمّيت المعتزلة بالاعتزال; أنّ الاختلاف

__________________

١ ـ أوائل المقالات ص ٥ ـ ٦.

٢ ـ مقدمة كتاب الانتصار لأبي الحسين الخياط ص ٥٤.

١٨١

وقع في أسماء مرتكبي الكبائر من أهل الصّلاة ، فقالت الخوارج : إنّهم كفّار مشركون وهم مع ذلك فسّاق ، وقال بعض المرجئة : إنّهم مؤمنون لإقرارهم بالله ورسوله وبكتابه وبما جاء به رسوله وإن لم يعملوا به ، فاعتزلت المعتزلة جميع ما اختلف فيه هؤلاء وقالوا نأخذ بما اجتمعوا عليه من تسميتهم بالفسق وندع ما اختلفوا فيه من تسميتهم بالكفر والإيمان والنفاق والشّرك ، قالوا : لأنّ المؤمن وليّ الله ، والله يجبّ تعظيمه وتكريمه وليس الفاسق كذلك ، والكافر والمشرك والمنافق يجب قتل بعضهم وأخذ الجزية من بعض ، وبعضهم يعبد في السرّ إلهاً غير الله ، وليس الفاسق بهذه الصفة.

قالوا : فلمّا خرج من هذه الأحكام ، خرج من أن يكون مسمّى بأسماء أهلها وهذا هو القول بالمنزلة بين المنزلتين أي الفسق منزلة بين الكفر والإيمان » (١).

و يظهر هذا من البغدادي أيضاً قال : « ومنها اتّفاقهم على دعواهم في الفاسق من اُمّة الإسلام بالمنزلة بين المنزلتين وهي أنّه فاسق لا مؤمن ولا كافر ، ولأجل هذا سمّاهم المسلمون « معتزلة » لاعتزالهم قول الاُمّة بأسرها » (٢) وفي الوقت نفسه نقل البغدادي ، قصّة اعتزال « واصل » حلقة الحسن بنحو يوهم كون وجه التسمية هو اعتزال واصل مجلس الحسن. لاحظ ص ١١٨.

ويظهر من ابن المرتضى تأييده. قال في ذيل كلامه : « سمّي وأصحابه معتزلة لاعتزالهم كلّ الأقوال المحدّثة والمجبّرة ». ثمّ ردّ على من زعم أنّ إطلاق المعتزلة لمخالفتهم الاجماع بقوله : « لم يخالفوا الإجماع ، بل عملوا بالمجمع عليه في الصدر الأوّل ورفضوا المحدثات المبتدعة » (٣).

ويظهر هذا أيضاً من نشوان بن سعيد اليمني حيث قال :

« وسمّيت المعتزلة معتزلة لقولهم بالمنزلة بين المنزلتين وذلك أنّ المسلمين اختلفوا

____________

١ ـ باب ذكر المعتزلة من مقالات الاسلاميين للبلخي ص ١١٥.

٢ ـ الفرق بين الفرق : ص ٢١ و١١٥، ط دار المعرفة.

٣ ـ المنية والأمل : لأحمد بن يحيى المرتضى ص ٤ طبع دار صادر.

١٨٢

في أهل الكبائر فقالت الخوارج : هم كفّار مشركون ، وقال بعض المرجئة : إنّهم مؤمنون ، وقالت المعتزلة : لا نسمّيهم بالكفر ولا بالإيمان ، ولا نقول إنّهم مشركون ولا مؤمنون بل فسّاق ، فاعتزلوا القولين جميعاً وقالوا بالمنزلة بين المنزلتين فسمّوا بالمعتزلة » (١).

٦ ـ جعل الفاسق معتزلاً عن الإيمان والكفر

وهذه النظرية غير النظرية الماضية ، فإنّ الاعتزال فيها كان وصفاً لنفس المعتزلة فهم اعتزلوا عن جميع ما اختلفت فيه من الآراء وأخذوا بالمتّفق عليه ، ولكنّه في هذه النظرية وصف لمورد الخلاف ، أعني الفاسق ، فجعلوه معتزلاً عن الإيمان والكفر ، فلا هو مؤٌمن ولا كافر ، وتظهر تلك النّظرية من المسعودي في مروجه ، قال في بيان الأصل الرابع من الاُصول الخمسة : « وأمّا القول بالمنزلة بين المنزلتين وهو الأصل الرابع ، فهو أنّ الفاسق المرتكب للكبائر ليس بمؤمن ولا كافر ، بل يسمّى فاسقاً على حسب ما ورد التّوقيف بتسميته وأجمع أهل الصّلاة على فسوقه ».

قال المسعودي : « وبهذا الباب سمّيت المعتزلة ، وهو الاعتزال ، وهو الموصوف بالأسماء والأحكام مع ما تقدّم من الوعيد في الفاسق من الخلود في النار » (٢).

وقال أيضاً : « مات واصل بن عطاء ـ ويكنّى بأبي حذيفة ـ في سنة إحدى وثلاثين ومائة وهو شيخ المعتزلة وقديمها ، وأوّل من أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين وهو أنّ الفاسق من أهل الملّة ليس بمؤمن ولا كافر وبه سمّيت المعتزلة وهو الاعتزال » (٣).

والدقّة في قوله : « وبه سمّيت ... » ( أي بعزل الفاسق عن الإيمان والكفر ) تعطي أنّ وجه التسمية يعود إلى جعل الفاسق منعزلاً عنهما.

__________________

١ ـ شرح رسالة الحور العين : ص ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

٢ ـ مروج الذهب : ج ٣، ص ٢٢٢، ط بيروت دار الأندلس.

٣ ـ نفس المصدر : ج ٤ ص ٢٢، ط بيروت دار الأندلس.

١٨٣

وهناك نظريّة سابعة ذكرها أحمد أمين المصري في فجر الإسلام ص ٣٤٤، ولكنّها من الوهن بمكان لم يرتضها هو نفسه في كتبه اللاحقة فلنضرب عنها صفحاً.

إلى هنا خرجنا بهذه النّتيجة أنّه لو كان أساس الاعتزال هو واصل بن عطاء أو عمرو بن عبيد ، فتسميتهم بالمعتزلة ، إمّا لاعتزال المؤسّس عن مجلس البحث أو باعتزاله عن الرأيين السائدين ، أو لاعتقادهم بكون الفاسق منعزلاً عن الكفر والإيمان ، وخروج مرتكب الكبيرة عن عداد المؤمنين والكافرين.

والعجب أنّ اُستاذ واصل كان يذهب إلى أنّه منافق ، وأراد بذلك تخفيف أمره بالنسبة إلى الكافر ، مع أنّ جزاء المنافق في الآخرة لو لم يكن أشدّ من الكافر ليس بأقلّمنه.

أرى أنّ إفاضة الكلام في تحقيق وجه التسمية أزيد من هذا خروج عن وضع الرسالة فلنرجع إلى سائر أسمائهم.

سائر ألقاب المعتزلة

فقد ذكر ابن المرتضى لهم أسماء اُخر.

١ ـ العدليّة : لقولهم بعدل الله وحكمته.

٢ ـ الموحّدة : لقولهم لا قديم مع الله (١).

ولأجل هذا يطلق على هذه الطّائفة أهل العدل والتوحيد ، ولعلّهم يعنون بالعدل مضافاً إلى ما ذكر ابن المرتضى نفي القدر بالمعنى المستلزم للجبر ، أو يريدون بذلك نفي كونه سبحانه خالقاً لأفعال العباد ، إذ فيه الظلم والقبيح والجور ، وأمّا التّوحيد فإنّهم يريدون منه نفي الصفات الزائدة القديمة ، فإنّ في الاعتقاد بزيادة الصفات اعتراف بقدماء معه سبحانه ، وتنزيهه سبحانه عن التشبيه والتجسيم ،

__________________

١. المنية والأمل ص ١.

١٨٤

وسيأتي أنّ هذين الأصلّين اللّذين يعدّان الرّكنين الأساسيين لمدرسة الاعتزال مأخوذان من خطب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٣ ـ أهل الحق : المعتزلة يعتبرون أنفسهم أهل الحق ، والفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة ، وقد فرغنا الكلام عن هذا الحديث وتعيين الفرقة الناجية في الجزء الأوّل.

٤ ـ القدرية : يعبّر عن المعتزلة في الكتب الكلاميّة بالقدريّة. والمعتزلة يطلقونها على خصمائهم ، وذلك لما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ القدريّة مجوس هذه الاُمّة. فلو قلنا بأنّ القدريّة منسوبة إلى القدر عِدْل القضاء ، فتنطبق على خصماء المعتزلة القائلين بالقدر السالب للاختيار. ولو قلنا بأنّها منسوبة إلى القدرة ، أي القائلين بتأثير قدرة الإنسان في فعله واختياره وتمكّنه في إيجاده ، فتنطبق ـ على زعم الخصماء ـ على المعتزلة لقولهم بتأثير قدرة الإنسان في فعله. وقد طال الكلام بين المتكلّمين في تفسير الحديث وذكر كلّ طائفة وجهاً لانطباقه على خصمها (١).

والحقّ أنّ المتبادر من الحديث هو القدريّة المنسوبة إلى القدر الّذي هو بمعنى التقدير ، وإطلاقه على مثبت القدر كأهل الحديث والحنابلة متعيّن ، إذ لا يطلق الشيء ويراد منه ضدّه.

فلو كان المراد منه المعتزلة يجب أن يراد منها نفي القدر. وقد روي عن زيد بن عليّ أنّه قال ـ حين سأله أبو الخطّاب عمّا يذهب إليه ـ : « أبرأ من القدريّة الّذين حملوا ذنوبهم على الله ومن المرجئة الّذين أطمعوا الفسّاق ». هذا ، ولقد أوضحنا المراد من الحديث في محلّه (٢).

٥ ـ الثنوية : المعتزلة يدعون بالثنوية ولعلّ وجهه ما يتراءى من بعضهم لقولهم

__________________

١ ـ لاحظ في الوقوف على هذه الوجوه كشف المراد للعلامة الحلي ص ١٩٥، وشرح المقاصد للتفتازاني ج ٢ ص ١٤٣، وقد مضى الكلام في سند الحديث ودلالته في فصل القدرية من هذا الجزء فلاحظ.

٢ ـ لاحظ الجزء الأول من الملل والنحل للمؤلف ص ١٠٣ ـ ١٠٩ ولاحظ الالهيات في ضوء الكتاب والسنة والعقل : محاضراتنا الكلامية بقلم الفاضل الشيخ حسن مكي.

١٨٥

الخير من الله والشرّ من العبد.

وهناك وجه آخر لتسميتهم بالثنويّة ، أو المجوسيّة ، وهو أنّ المعتزلة قالت باستقلال الإنسان في ايجاد فعله ، بل نقل عن بعضهم القول بحاجة الموجود في حدوثه إلى الواجب دون بقائه واستمراره ، فصيّروا الإنسان كأنّه مستقلّ فى فعله ، بل صيّروا الممكنات كواجب غنىّ عن العلّة في بقائه واستمراره ، دون حدوثه.

ولكنّ النسبة غير صحيحة ، إلاّ إلى بعض المتأخّرين من المعتزلة ، ولم يظهر لنا أنّ المتقدّمين منهم كانوا على هذا الرأي.

٦ ـ الوعيديّة : وإنّما اُطلقت عليهم هذه الكلمة لقولهم بالوعد والوعيد ، وأنّ الله صادق في وعده ، كما هو صادق في وعيده وأنّه لا يغفر الذنوب إلاّ بعد التوبة ، فلو مات بدونها يكون معذّباً قطعاً ولا يغفر له جزماً ويخلّد في النار ويعذّب عذاباً أضعف من عذاب الكافر.

٧ ـ المعطّلة : أي تعطيل ذاته سبحانه عن الصفات الذاتية ، وهذا اُلصق بالجهميّة الّذين يعدّون في الرعيل الأوّل فى نفي الصفات. وأمّا المعتزلة فلهم في الصفات مذهبان :

١ ـ القول بالنيابة ، أي خلوّ الذات عن الصفات ولكن تنوب الذات مكان الصفات في الآثار المطلوبة منها ، وقد اشتهر قولهم « خذ الغايات واترك المبادئ » ، وهذا مخالف لكتاب الله والسنّة والعقل. فإنّ النقل يدلّ بوضوح على اتّصافه سبحانه بالصفات الكماليّة ، وأمّا العقل ، فحدث عنه ولا حرج ، لأنّ الكمال يساوق الوجود وكلّما كان الوجود أعلى وأشرف يكون الكمالات فيه آكد.

٢ ـ عينيّة الصفات مع الذات واشتمالها على حقائقها. من دون أن يكون ذات وصفة ، بل الذات بلغت في الكمال إلى درجة صار نفس العلم والقدرة.

وهذا هو الظاهر من خطب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وتعضده البراهين

١٨٦

العقليّة وإطلاق المعطّلة على هذه الطائفة لا يخلو من تجنّ وافتراء.

والأولى بهذا الاسم أهل الحديث والحنابلة ، فإنّهم المعطِّلة حقيقة ، إذ عطّلوا العقول عن معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله ، ومنعوا الخوض فى المسائل العقليّة ، وكأنّ العقل خلق لا لغاية إلاّ للسعي وراء الحياة الماديّة.

٨ ـ الجهميّة : (١) وهذا اللّقب منحه أحمد بن حنبل لهم ، فكلّما يقول : قالت الجهميّة ، أو يصف القائل بأنّه جهمي يريد به المعتزلة لما وجد من موافقتهم الجهميّة في بعض المسائل ، وإن كانت الجهمية متقدّمة على المعتزلة ، لكنّها على زعمهم مهّدوا السّبيل للمعتزلة ، مع أنّك عرفت أنّ واصلاً أرسل أحد تلاميذه إلى معارضته وأنّهم لا يعدّون الجهم من رجالهم أو طبقاتهم لاختلافهم معه في بعض المسائل الجوهرية ، فإنّ الجهم جبريّ والمعتزلة قائلة بالاختيار ، ولعلّ بعض هذه التسميات من مصاديق قوله سبحانه ( ولا تنابزوا بالألقاب ) ( الحجرات / ١١ ).

٩ ـ المفنية :

١٠ ـ اللفظيّة :

وهذان اللقبان ذكرهما المقريزي وقال : أنّهم يوصفون بالمفنية لما نسب إلى أبى الهذيل من فناء حركات أهل الجنّة والنار ، واللّفظيّة لقولهم : ألفاظ القرآن مخلوقة والقبريّة لانكارهم عذاب القبر (٢).

__________________

١ ـ نسبة إلى الجهم بن صفوان ، وقد عرفت القول في عقائده وآرائه وأنّ المهم منه أمران : نفي الرؤية والجبر.

٢ ـ الخطط للمقريزي : ج ٤، ص ١٦٩.

١٨٧

الفصل الثاني

المبادئ الفكرية للاعتزال

و خطب الإمام عليّ عليه‌السلام

قد تعرّفت فيما مضى على تأريخ ظهور المعتزلة وأنّ الاعتزال بعنوان المنهج الفكري العلمي لا السياسي يرجع إلى أوائل القرن الثاني ، وذلك عندما اعتزل واصل بن عطاء عن حلقة الحسن البصري وشكّل حلقة دراسية فكريّة في مقابل اُستاذه ، والقرائن القطعيّة تؤكّد بظهوره في أوائل ذلك القرن ، فإنّ واصل بن عطاء من مواليد عام ٨٠ من الهجرة ، وقد توفّي اُستاذه الحسن البصري عام ١١٠، فمن البعيد أن يستطيع إنسان على تشكيل حلقة دراسيّة قابلة للذكر في مقابل الخطيب الحسن البصري ، وله من العمر دون العشرين. وهذا يؤكّد على أنّ الاعتزال ظهر في أوائل القرن الثاني.

ثمّ إنّ القول بالمنزلة بين المنزلتين وإن كان يعدُّ منطلق الاعتزال ، ومغرس بذره ، ولكن حقيقة الاعتزال لا تقوم بهذا الأصل ، ولا يعدّ الدرجة الاُولى من اُصوله ، فإنّ الأصلين التوحيد والعدل يعدّان حجر الأساس لهذا المنهج ، وسائر الاُصول في الدرجة الثانية.

وفي ضوء هذا يقف القارئ بفضل النصوص الآتية على أنّ الاعتزال أخذ ذينك الأصلين من البيت العلويّ عامّة ، ومن خطب الإمام عليّ عليه‌السلام وكلماته خاصّة ، ولأجل ذلك يجب أن يعترف بأنّ الاعتزال أخذ الاُصول الأصليّة لمنهجه من بيت الولاية.

١٨٨

ولأجل ايقاف القارئ هذا الاستنتاج ، نضع أمامه شواهد من التأريخ والاعترافات الّتي أجهر بها شيوخ المعتزلة :

١ ـ هذا هو الكعبي إمام المعتزلة في أوائل القرن الرابع يقول : « والمعتزلة يقال إنّ لها ولمذهبها أسناداً تتّصل بالنبيّ وليس لأحد من فرق الاُمّة مثلها ، وليس يمكن لخصومهم دفعهم عنه ، وهو أنّ خصومهم يقرّون بأنّ مذهبهم يسند إلى واصل بن عطاء ، وأنّ واصلاً يسند إلى محمّد بن عليّ بن أبي طالب وابنه أبي هاشم عبدالله بن محمد بن علي ، وأنّ محمّداً أخذ عن أبيه علىّ وأنّ علياً عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

٢ ـ كان واصل بن عطاء من أهل المدينة ربّاه محمّد بن عليّ بن أبي طالب وعلّمه ، وكان مع ابنه أبي هاشم عبدالله بن محمّد في الكتاب ، ثمّ صحبه بعد موت أبيه صحبة طويلة ، وحكي عن بعض السّلف أنّه قيل له : كيف كان علم محمّد بن عليّ؟ فقال : إذا أردت أن تعلم ذلك فانظر إلى أثره في واصل. ثمّ انتقل واصل إلى البصرة فلزم الحسن ابن أبي الحسن (٢).

٣ ـ وقال القاضي عبد الجبّار في « طبقات المعتزلة » : « وأخذ واصل العلم عن محمّد بن الحنفيّة وكان خالاً لأبي هاشم وكان يلازم مجلس الحسن » (٣).

وما ذكره القاضي لا ينطبق على الحقيقة ، فإنّ واصل بن عطاء الغزّال ولد بالمدينة سنة ثمانين ، وقد مات محمّد بن الحنفيّة عام ٨٠ أو ٨١، فلا يصحّ أخذ العلم منه ، والصّحيح أن يقال أخذ واصل العلم من أبي هاشم بن محمّد بن الحنفيّة ، وقد نقل المحقّق أنّ في حاشية الأصل « من أبي هاشم ».

والصّحيح ما في عبارته التالية ، قال :

٤ ـ وقال : « إنّ أبا الهذيل قد أخذ هذا العلم عن عثمان الطّويل ، وأخذ هو عن

__________________

١ ـ ذكر المعتزلة من مقالات الاسلاميين للبلخي : ص ٦٨.

٢ ـ ذكر المعتزلة للكعبي : ص ٦٤.

٣ ـ طبقات المعتزلة : ص ٢٣٤.

١٨٩

واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ، وأخذ واصل وعمرو عن أبي هاشم بن محمّد بن الحنفيّة ، وأخذ أبو هاشم عن أبيه محمّد بن الحنفيّة ، وأخذ محمّد عن أبيه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأخذ عليّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (١).

وقد تنبّه الشريف المرتضى لما ذكرنا. قال : « وذكر أبو الحسين الخيّاط أنّ واصلاً كان من أهل مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومولده سنة ثمانين ومات سنة إحدى وثلاثين ومائة. وكان واصل ممّن لقى أبا هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة وصحبه ، وأخذ عنه وقال قوم إنّه لقى أباه محمّداً وذلك غلط ، لأنّ محمّداً توفّي سنة ثمانين أو إحدى وثمانين وواصل ولد في سنة ثمانين » (٢).

٥ ـ وقال القاضي أيضاً : « فأمّا أبو هاشم عبدالله بن محمّد بن علي ، فلو لم يظهر علمه وفضله إلاّ بما ظهر عن واصل بن عطاء لكفى ، وكان يأخذ العلم عن أبيه.

فكان واصل بما أظهر بمنزلة كتاب مصنّفه أبو هاشم ، وذكر قوله فيه. وكذلك أخوه ، فإنّ غيلان يقال إنّه أخذ العلم من الحسن بن محمّد بن الحنفيّة أخي أبي هاشم » (٣).

٦ ـ وقال الشهرستاني : « يقال أخذ واصل عن أبي هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة » (٤).

٧ ـ وقال ابن المرتضى : « وسند المعتزلة لمذهبهم أوضح من الفلق ، إذ يتّصل إلى واصل وعمرو اتّصالاً شاهراً ظاهراً. وهما أخذا عن محمّد بن علي بن أبي طالب وابنه أبي هاشم عبدالله بن محمد ، ومحمّد هو الذي ربّى واصلاً وعلّمه حتّى تخرّج واستحكم. ومحمّد أخذ عن أبيه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

__________________

١ ـ المصدر نفسه : ص ١٦٤.

٢ ـ أمالي المرتضى : ج ١، ص ١٦٤ ـ ١٦٥.

٣ ـ طبقات المعتزلة : ص ٢٢٦.

٤ ـ الملل والنحل : ج ١ ص ٤٩.

١٩٠

٨ ـ وقال أيضاً : « ومن أولاد عليّ عليه‌السلام أبو هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة وهو الّذي أخذ عنه واصل وكان معه في المكتب فأخذ عنه وعن أبيه ، وكذلك أخوه الحسن بن محمّد اُستاذ غيلان ويميل إلى الإرجاء » (١).

٩ ـ وقال ابن أبي الحديد : « إنّ أشرف العلوم هوالعلم الإلهي ، لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان هو أشرف العلوم ومن كلامه ( عليّ عليه‌السلام ) اقتبس وعنه نقل ، ومنه ابتدأ وإليه انتهى. فإنّ المعتزلة ـ الّذين هم أهل التوحيد والعدل وأرباب النظر ، ومنهم تعلّم الناس هذا الفنّ ـ تلامذته وأصحابه ، لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة. وأبو هاشم تلميذ أبيه ، وأبوه تلميذه عليه‌السلام » (٢).

١٠ ـ وقال المرتضى في أماليه : « اعلم أنّ اُصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ وخطبه ، فإنّها تتضمّن من ذلك ما لا زيادة عليه ولا غاية وراءه ، ومن تأمّل المأثور في ذلك من كلامه ، علم أنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعد في تصنيفه وجمعه ، إنّما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الاُصول ، وروي عن الأئمّة ( من أبنائه عليهم‌السلام ) من ذلك ما يكاد لا يحاط به كثرة ، ومن أحبّ الوقوف عليه وطلبه من مظانّه أصاب منه الكثير الغزير الّذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة ، ونتاج للعقول العقيمة » (٣).

١١ ـ وقال القاضي عبدالجبّار : « وهذا المذهب ـ أعني صاحب الكبيرة لايكون مؤمناً ولا كافراً ولا منافقاً بل يكون فاسقاً ـ أخذه واصل بن عطاء عن أبي هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفيّة وكان من أصحابه » (٤).

__________________

١ ـ المنية والأمل : ص ٥ ـ ٦ وص ١١.

٢ ـ الشرح الحديدي : ج ١ ص ١٧.

٣ ـ أمالي المرتضى : ج ١ ص ١٤٨.

٤ ـ شرح الاُصول الخمسة : ص ١٣٨

١٩١

١٢ ـ وقال الدكتور حسن إبراهيم حسن : « فقد نسبت المعتزلة عقائدها إلى عليّ ابن أبي طالب ، وقلّما نجد كتاباً من كتبهم وعلى الأخصّ كتب المتأخّرين منهم إلاّادّعوا فيه أنّهُ ليس ثمّة مؤسّس لمذهب الاعتزال وعلم الكلام غير الإمام عليّ عليه‌السلام » (١).

١٣ ـ يقول محقّق كتاب شرح الاُصول الخمسة : « ويؤكّد المعتزلة أنّهم تلقّوا هذه الاُصول عن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويذكرون سندهم في ذلك ونحن نثبت فيما يلي هذا السند ـ كما على أوّل ورقة من شرح الاُصول (٢) ـ تعليق الفرزاذي.

يقول : أخذهذه الاُصول من الفقيه الإمام الأوحد نجم الدين أحمد بن أبي الحسين الكني ، وهو عنالفقيه الإمام الأجلّ محمّد بن أحمد الفرزاذي ، وهو عن عمّه الشيخ السعيد البارع إسماعيل بن عليّ الفرزاذي ، وهو عن محمّد بن مزدك ، وهو عن أبي محمّد بن متّويه ، وهو عن الشيخ أبي رشيد النيسابوري ، وهو عن قاضي القضاة عماد الدين عبد الجبار بن أحمد رحمه‌الله وهو عن الشيخ المرشد أبي عبدالله البصري ، وهو عن الشيخ أبي علي ابن خلاّد ، وهو عن الشيخ أبي هاشم وهو عن أبيه الشيخ أبي علي الجبائي وهو عن أبي يعقوب الشحام ، وهو عن عثمان الطّويل ، وهو عن الشيخ أبي الهذيل ، وهو عن واصل ابن عطاء ، وهو عن أبي هاشم (٣) محمّد بن الحنفية ، وهو عن أبيه أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وهو عن خير الأوّلين والآخرين وخاتم النبيّين محمد المصطفى ـ صلوات اللّه عليه ـ وهو عن جبرئيل عليه‌السلام وهو عن الله تعالى وليس لأحد من أرباب المذاهب مثل هذا الإس (٤) ناد. أفبعد هذه التصريحات يبقى شكّ في أنّ المعتزلة في اُصولهم عالة لعلوم أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام.

____________

١ ـ تاريخ الاسلام : ج ٢، ص ١٥٦، الطبعة السابعة.

٢ ـ النسخة المخطوطة.

٣ ـ وفي العبارة سقط والصحيح : « عبدالله بن محمد عن أبيه ».

٤ ـ مقدمة شرح الاُصول الخمسة ص ٢٤.

١٩٢

وسيوافيك التصريح من القاضي عبد الجبّار أنّ اُصول الاعتزال ترجع إلى أصلين : التوحيد والعدل ، وأمّا الاُصول الثّلاثة فهي داخلة تحت الأصلين وقد عرفت أنّ المعتزلة أخذت الأصلين من أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام.

١٤ ـ وقال أبو سعيد بن نشوان الحميري ( ت٥٧٣ ) إنّ لمذهب المعتزلة أسانيد تتصل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس لأحد من فرق الاُمة مثلهم ، ولا يمكن لحضومهم دفعه وذلك ان مذهبهم مستند إلى واصل بن عطاء وان واصلا يستند إلى محمد بن علي بن أبي طالب وهو ابن الحنفيه ، وإلى ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي وان محمد يسند إلى ابنه علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وإن علياً يسند إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

١٥ ـ وقال بن المرتضى : وسند مذهبهم أصح أسانيد أهل القبلة إذ يتصل إلى واصل وعمرو ... عن عبد الله بن محمد عن أبيه محمد بن علي بن الحنفيه عن أبيه علي عليه‌السلام عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ينطق عن الهوى (٢).

( كَلاّ إِنَّهَا تَذْكِرَةً * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَه )

__________________

١ ـ الحور العين : ٢٠٦.

٢ ـ البحر الزخار ١ : ٤٤.

١٩٣

الفصل الثالث

الشيعة والمعتزلة أيّتهما أصل للآخر

إنّ بعض المتسرِّعين من الكتّاب المتأخّرين كأحمد أمين المصريّ ومن حذا حذوه ، يصرّون على أنّ الشيعة أخذت منهجها الفكري في الاُصول والعقائد من المعتزلة ، لما رأوا من وحدة العقيدة في القول بالتوحيد والعدل ، وإنكار الرؤية وإثبات الحسن والقبح العقليين ، وقدرة العبد واختياره في أفعاله إلى غير ذلك من المبادئ المشتركة بين الطّائفتين.

نظريّة أحمد أمين ومناقشتها

يقول أحمد أمين : « ولقد قرأت كتاب الياقوت لأبي إسحاق إبراهيم من قدماء متكلّمي الشيعة الإماميّة ، فكنت كأنّي أقرأ كتاباً من كتب اُصول المعتزلة إلاّ في مسائل معدودة كالفصل الأخير في الإمامة ولكن أيّهما أخذ من الآخر؟

أمّا بعض الشيعة فيزعم أنّ المعتزلة أخذوا عنهم ، وأنّ واصل بن عطاء تتلمذ على جعفراً الصّادق عليه‌السلام وإنّي اُرجّح أنّ الشيعة أخذوا من المعتزلة تعاليمهم ، ونشوء مذهب الاعتزال يدلّ على ذلك ».

استدلّ أحمد أمين على ما يرتئيه بأنّ زيد بن عليّ زعيم الفرقة الشيعيّة الزيديّة تتلمذ لواصل بن عطاء.

وكان جعفر الصادق عليه‌السلام يتّصل بعمّه زيد. ويقول أبو الفرج في « مقاتل

١٩٤

الطالبيّين » : « كان جعفر بن محمّد يمسك لزيد بن عليّ بالركاب ، ويسوي ثيابه على السرج » فإذا صحّ ما ذكره الشهرستاني وغيره من تتلمذ زيد لواصل ، فلا يعقل كثيراً أنيتتلمذ واصل لجعفر ، وكثير من المعتزلة كان يتشيّع ، فالظّاهر أنّه عن طريق هؤلاء تسرّبت اُصول المعتزلة إلى الشيعة » (١).

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره الكاتب المصري اجتهاد في مقابل تنصيص أئمّة المعتزلة أنفسهم بأنّهم أخذوا اُصولهم من أبي هاشم ابن محمّد الحنفيّة ، وأخذ هو عن أبيه محمّد ، وهو أخذ من عليّ بن أبي طالب ومع هذا التنصيص من نفس المعتزلة فما معنى هذا الاجتهاد؟

ترى ابن المرتضى يعدّ عليّاً من الطبقة الاُولى للمعتزلة ، كما يعدّ الحسنين اللّذين اشتهر منهما القول بالتوحيد والعدل من الطبقة الثانية. وهكذا يذكر عدّة من علماء أهل البيت كالنفس الزكيّة وغيره من الطّبقة الثالثة. وقد نقل في كتابه هذا كلمات أئمّة أهل البيت وعلمائهم في الاُصول والعقائد (٢).

ومع هذا كيف يصحّ أن تكون الشيعة عالة على المعتزلة؟!

ونظير ذلك ما ذكره القاضي عبد الجبّار المعتزلي في « فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة » (٣).

أفبعد هذا التنصيص منهم يصحّ الاجتهاد في مقابل النصّ؟!

وأمّا ما استند إليه أحمد أمين ، فالحقّ أنّه لم يثبت أوّلاً تتلمذ واصل للإمام الصادق عليه‌السلام حتّى يثبت قوله : إنّ الصادق كان يمسك الركاب لتلميذ واصل وهو زيد ، ولميدّع أحد من المحقّقين تتلمذه للصّادق. كما أنّه لم يثبت تتلمذ زيد بن عليّ لواصل.

__________________

١ ـ ضحى الاسلام : ج ٣، ص ٢٦٧ ـ ٢٦٨، الطبعة الثالثة.

٢ ـ المنية والأمل : ص ٧ ـ ١٠.

٣ ـ فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة : ص ٢١٤.

١٩٥

ومن سبر تأريخ أئمّة أهل البيت وذرّيتهم الطيّبة وقف على أنّهم لم يدقّوا باب أحد من الناس ، بل تلقّوا ما تلقّوه عن نفس الأئمّة ، على أنّ زيد بن عليّ قد صلب عام ١٢١ وله من العمر في ذلك الوقت ٤٢. فيكون من مواليد عام ٧٩ أو ٨٠، وكان واصل من مواليد عام ٨٠، فمن البعيد أن يكون وليد البيت العلويّ تلميذاً لمن هو أصغر منه سنّاً أو مثله ، وقد عدّه الرجاليون من أصحاب أبيه عليّ السجاد عليه‌السلام ( م ٩٤ ) وأخيه الإمام الباقر عليه‌السلام ( م ١١٤ ) والإمام الصادق عليه‌السلام الّذي استشهد زيد في حياته.

نظريّة بعض المستشرقين ومناقشتها

وهناك رجال آخرون قد وقعوا في نفس هذه الشبهة ، وأرسلوها إرسال المسلّمات ، إمّا مجرّدة عن الدّليل أو مقرونة بتلفيقات غير منتجة. فمن الطائفة الاُولى المستشرق « آدم متز » يقول :

« لم يكن للشيعة حتّى ذلك الوقت ( عام ٣٣٤ ) مذهب كلامي خاصّ بهم ، فاقتبسوا عن المعتزلة اُصول الكلام وأساليبه ... حتّى إنّ ابن بابويه أكبر علماء الشيعة في القرن الرابع الهجري اتّبع في كتابه « العلل » طريقة علماء المعتزلة الّذين كانوا يبحثون عن علل كلّ شيء ـ إلى أن قال ـ : إنّ الشيعة من حيث العقيدة والمذهب هم ورثة المعتزلة » (١).

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ما ذكره يعرب عن قلّة اطّلاع المستشرق على الثّقافة الشيعية ، وعدم تعرّفه على المتكلمين البارزين فيهم قبل السنة المذكورة. ويكفي في ذلك مراجعة كتاب « تأسيس الشيعة الكرام لعلوم الإسلام » للسيد حسن الصدر ص ٣٥٣ ـ ٤٠٢. لقد كان للشيعة متكلّمون بارعون في الجدل والمناظرة في أبواب العقائد في القرون الثلاثة الاُول. وها نحن نأتي بأسماء نماذج من أبرع متكلّمي الشيعة في

__________________

١ ـ الحضارة الاسلاميّة في القرن الرابع الهجري لآدم متز : ج ١ ص ١٠٢.

١٩٦

القرن الثاني ، ونترك البحث عن غيرهم من السابقين واللاحقين إلى محلّه.

١ ـ عيسى بن روضة

يعرّفه النجاشي بقوله : « عيسى بن روضة حاجب المنصور كان متكلّماً جيّد الكلام ، وله كتاب في الإمامة وقد وصفه أحمد بن أبي طاهر في كتاب بغداد ، وذكر أنّه رأى الكتاب ، وقال بعض أصحابنا رحمهم‌الله : إنّه رأى هذا الكتاب. وقرأت في بعض الكتب أنّ المنصور لما كان بالحيرة تسمّع على عيسى بن روضة وكان مولاه وهو يتكلّم في الإمامة فاُعجب به واستجاد كلامه » (١).

٢ ـ علي بن إسماعيل بن ميثم التمّار البغداديّ

يقول ابن النديم : « أوّل من تكلّم في مذهب الإمامة : علي بن إسماعيل بن ميثم التمّار ، وميثم من جلّة أصحاب عليّ عليه‌السلام ولعليّ من الكتب كتاب الإمامة وكتاب الاستحقاق » (٢).

وقال النجاشي : « عليّ بن إسماعيل ... كوفيّ سكن البصرة ، وكان من وجوه المتكلّمين من أصحابنا ، كلّم أبا الهذيل والنظام ، له مجالس وكتب منها كتاب الإمامة ... وكتاب مجالس هشام بن الحكم » (٣).

٣ ـ أبو جعفر محمّد بن عليّ بن النعمان الملقّب بمؤمن الطاق

قال النجاشي : « وأمّا منزلته في العلم وحسن الخاطر فأشهر ، ... وله كتاب إفعل لا تفعل ... كتاب كبير حسن ... وله كتاب الاحتجاج في إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام وكتاب كلامه على الخوارج وكتاب مجالسه مع أبي حنيفة والمرجئة .... الخ » (٤).

__________________

١ ـ فهرست النجاشي : رقم الترجمة ٧٩٦.

٢ ـ فهرست ابن النديم : الفن الثاني من المقالة الخامسة ص ٢٢٣.

٣ ـ فهرست النجاشي : رقم الترجمة ٦٦١.

٤ ـ فهرست النجاشي : رقم الترجمة ٨٨٦.

١٩٧

وقال ابن النديم : « كان حسن الاعتقاد والهدى حاذقاً في صناعة الكلام ، سريع الحاضر والجواب ، وله مع أبي حنيفة مناظرات. ثمّ ذكر مناظرته مع أبي حنيفة في المتعة والرجعة » (١).

٤ ـ هشام بن الحكم

يقول ابن النديم : « هو من جلّة أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام وهو من متكلّمي الشيعة الإماميّة وبطائنهم وهو الّذي فتق الكلام في الإمامة ، وهذّب المذهب ، وسهّل طريق الحجاج فيه ، وكان حاذقاً بصناعة الكلام حاضر الجواب. وكان أوّلاً من أصحاب الجهم بن صفوان ، ثمّ انتقل إلى القول بالإمامة بالدّلائل والنظر » (٢).

يقول أحمد أمين : « أمّا هشام بن الحكم فيظهر أنّه أكبر شخصيّة شيعيّة في علم الكلام ... جدلاً ، قويّ الحجّة ، ناظر المعتزلة وناظروه ، ونقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرّقة تدلّ على حضور بديهته وقوة حجّته قد ناظر أبا الهذيل العلاّف المعتزلي » (٣).

أفبعد هذه الشخصيات البارزة (٤) في علم الكلام يصحّ قول هذا المستشرق الحاقد إنّه لم يكن للشيعة مذهب كلامي خاصّ بهم؟

وثانياً : إنّ الاستدلال على تأثّر الشيعة بالمعتزلة بتأليف الشيخ الصدوق « علل الشرائع » على غرار كتب المعتزلة الّذين يبحثون عن علل كلّ شيء ، يكشف عن أنّ المستشرق لم يرجع إلى نفس الكتاب رجوعاً دقيقاً ، فإنّ الكتاب فسّر علل الشرائع والأحكام ، بالأحاديث المرويّة عن النّبيّ والوصيّ والأئمّة من بعدهما عليهم‌السلام وليس

__________________

١ ـ فهرست ابن النديم : الفن الثاني من المقالة الخامسة ، ص ٢٦٤.

٢ ـ نفس المصدر.

٣ ـ ضحى الاسلام : ج ٣ ص ٢٦٨.

٤ ـ هذا قليل من كثير وقدجئنا بأسماء لفيف من متكلمي الشيعة في القرون الثلاثة في رسالتنا « الشيعة وعلم الكلام عبر القرون الأربعة ».

١٩٨

الكتاب تفسيراً للأحكام من نفس المؤلّف حتّى يقال إنّه ألّفه على غرار كتب المعتزلة.

وثالثاً : إنّ المناظرات الّتي دارت بين الشيعة والمعتزلة من عصر الإمام الباقر عليه‌السلام إلى العصر الّذي ارتمت فيه المعتزلة في أحضان آل بويه أدلّ دليل على أنّ النظام الفكري للشيعة لا يتّفق مع المعتزلة من لدن تكوّن المذهبين ، ومن أراد الوقوف على تلك المساجلات فعليه الرجوع إلى المصادر (١).

وهذا محمّد بن عبدالرحمان بن قبة ( المتوفّى قبل سنة ٣١٧ ) له كتاب الردّ على الجبّائي. ونقل النّجاشي عن أبي الحسين السوسنجردي ، أنّه قال : « مضيت إلى أبي القاسم البلخي إلى بلخ بعد زيارتي الرضا عليه‌السلام بطوس فسلّمت عليه وكان عارفاً بي ومعي كتاب أبي جعفر ابن قبة في الإمامة المعروف بالانصاف فوقف عليه ونقضه بـ « المسترشد في الإمامة » فعدت إلى الريّ فدفعت الكتاب إلى ابن قبة فنقضه بـ « المستثبت في الإمامة » فحملته إلى أبي القاسم فنقضه بـ « نقض المستثبت » فعدت إلى الري فوجدت أبا جعفر قد مات رحمه‌الله » (٢).

وهذا الحسن بن موسى النوبختي من أكابر متكلّمي الشيعة له ردود على المعتزلة :

١ ـ الردّ على الجبّائي ٢ ـ الرد على أبي الهذيل العلاّف في أنّ نعيم الجنّة منقطع ٣ ـ النقض على أبي الهذيل في المعرفة ٤ ـ النقض على جعفر بن حرب ٥ ـ الردّ على أصحاب المنزلة بين المنزلتين (٣).

وقد قام الشيخ المفيد ( ت ٣٣٦ ـ م ٤١٣ ) بنقض كثير من كتب المعتزلة ، فله الكتب التالية وكلّها ردود عليهم.

١ ـ الردّ على الجاحظ العثمانية ٢ ـ نقض المروانيّة له أيضاً ٣ ـ نقض فضيلة المعتزلة له أيضاً ٤ ـ النقض على ابن عبّاد في الإمامة ٥ ـ النقض على عليّ بن عيسى

__________________

١ ـ لاحظ : الفصول المختارة من العيون والمحاسن ، للشيخ المفيد ( م ٤١٣ ) وكنز الفوائد ، للعلامة الكراجكي ( م / ٤٤٩ ) ومناظرات هشام ومؤمن الطاق وغيرهم الواردة في بحار الأنوار.

٢ ـ رجال النجاشي : رقم ١٠٢٣.

٣ ـ رجال النجاشي : رقم ١٤٦.

١٩٩

الرماني ٦ ـ النقض على أبي عبدالله البصري في المتعة ٧ ـ نقض الخمس عشرة مسألة للبلخي ٨ ـ نقض الإمامة على جعفر بن حرب ٩ ـ الكلام على الجبائي في المعدوم ١٠ ـ نقض كتاب الأصمّ في الإمامة ١١ ـ كتاب الردّ على الجبّائي في التفسير ١٢ ـ عمد مختصرة على المعتزلة في الوعيد. إلى غير ذلك من كتبه حول الإمامة الّتي أكثر ردودها على ما ألّفته المعتزلة في هذا المجال (١).

كما أنّ تلميذه السيّد المرتضى ( ت ٣٥٥ ـ م ٤٣٦ ) نقض بعض كتب المعتزلة ، فألّف الشافي ردّاً على الجزء العشرين من كتاب المغني للقاضي عبد الجبّار ( م ٤١٥ ) (٢).

كلّ ذلك يعرّف موقف الطّائفتين في المسائل الكلاميّة وأنّهما وإن اجتمعتا في مسائل ، اختلفتا في مسائل كثيّرة أخرى.

نظرية مؤلف كتاب « المعتزلة » ومناقشتها

إنّ هنا وجوهاً اُخر لفّقها مؤلف كتاب « المعتزلة » تبعاً لأحمد أمين ربّما يستظهر منها عيلولة الشيعة في العقائد على المعتزلة وإليك تحليلها :

١ ـ إنّ المقدّسي نظر في كتب الفاطميّين الشيعة فى شمال أفريقيا فوجد أنّهم يوافقون المعتزلة في أكثر الاُصول (٣).

يلاحظ عليه : أنّه وجد الشيعة في بلاد العجم يقولون بالتوحيد والعدل كما تقول به المعتزلة ، وهو لا يدلّ على أنّ الشيعة أخذتهما من المعتزلة لو لم نقل بالعكس.

نعم ، إنّ المعتزلة بعد النكبة وطرق النّكسة في حياتهم لجأوا الى اُمراء آل بويه في أوائل القرن الرابع لما وجدوا فيهم من سعة الصدر ، واستعادوا في ظلّ حكمهم شيئاً من القوّة والسيطرة ، ولعلّنا نتحدّث عنه في محلّه ، ولم تكن تلك الالفة موجودة قبل النّكبة. كيف ومن قرأ تأريخ المعتزلة يقف على أنّهم كانوا خصماء الشيعة في العصور السابقة ،

__________________

١ ـ رجال النجاشي : رقم ١٠٦٧.

٢ ـ المصدر نفسه : رقم ٧٠٨.

٣ ـ يأتي سائر الوجوه ص ٢١٦ فانتظر.

٢٠٠