حقوق أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم

حقوق أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم

المؤلف:


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-367-5
الصفحات: ١٤٨

عليه وسلم)! ويدرج تحته روايات الصلاة التي تجمع الآل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي يقول بصحتها!! إلاّ أنه مع ذلك يورد الصلاة البتراء عند ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الباب وفي غيره.

وقد استنكر أحد علمائهم المتأخرين هذه الظاهرة أيضاً بقوله : ونرى من الخطأ ما يفعله عامة أهل العلم في كتبهم وفي دروسهم من الاقتصار على الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون أهله ، فيقولون مثلاً : (صلى اللّه عليه وسلم) ، وهو مخالف لما جاء عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وآله وسلم ، فليكن المسلم من ذلك على بال (١).

ـ طريقة أخرى في غمط حق الآل في الصلاة :

ولهم في غمط حق الآل في الصلاة طريقة أخرى وهي إشراك غيرهم معهم كي لا يبقى لهم ما يميزهم ، وهذه الطريقة لها جذور تأريخية مدروسة ، فهي ذاتها التي اتبعها معاوية مع فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام في الكتاب الذي بعثه إلى بلاد الإسلام كافة ، فجاء فيه : « ... ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فأن هذا أحبّ إليّ وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته» (٢). وفي المقام حيث ما ذكروا الآل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اردفوا معهم الصحابة بلا مستند ولا دليل من آية أو رواية سوى ما يحملوه من ارتكازات وسلائق توارثوها ، تحملهم على عدم التفاعل مع الفضائل التي ينفرد بها أهل البيت عليهم‌السلام.

هذا مع أنّهم في فتاوى فقهائهم يكرهون ذلك ولا يجوزوه على غير الآل ،

__________________

(١) الأنوار الباهرة / أبو الفتوح التليدي : هامش صفحة ٣٢.

(٢) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ١١ : ٢٥ ـ ٢٧.

١٠١

قال ابن قيم الجوزية : «وفي الصلاة على غير آله صلى اللّه عليه وسلم من الصحابة ومن بعدهم ، فكره ذلك مالك ، وقال : لم يكن ذلك من عمل من مضى ، وهو مذهب أبي حنيفة أيضاً ، وسفيان بن عيينة ، وسفيان الثوري ، وبه قال طاوس» (١) ثم قال : وهذا مذهب أصحاب الشافعي ، وذكر لهم عشرة وجوه يستدلون بها على اختصاص الصلاة بالنبي وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانتصر لهم ابن القيم وردّ الوجوه التي تخالف قولهم (٢).

وقال في موضع آخر : الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقّ له ولآله دون سائر الأمّة ، ومن لم يوجبها فلا ريب أنه يستحبّها عليه وعلى آله ، أو يكرهها ، أو لا يستحبّها لسائر المؤمنين ، أو لا يجوزُها على غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله (٣).

فإن تعجب فعجب ما تراه من عدم أدائهم للصلاة على الآل مع إقرارهم بذلك وإذعانهم له كحق مشروع ، ومن إلحاقهم الصلاة على الصحابة مع الآل مع كونهم يكرهون ذلك ولا يجوزوه لعدم الدليل عليه.

ـ تكلف الدليل على الصلاة البتراء :

مما تقدم اتضح أن ثمّة حالة من التهافت بين معطيات الدليل العلمي إذا ما ولجوه فيرغمهم على ذكر الآل ، وبين واقعهم المتكأ على الماضي والذي عوّدهم وفرض عليهم الصلاة البتراء ، فألجأ هذا الحال بعضهم إلى تكلف الدليل وخلق التبريرات لذلك ، وهذا النهج ليس بعزيز في بنائهم الفكري فله نظائر عديدة ،

__________________

(١) جلاء الأفهام / ابن قيم : ٣٥١.

(٢) جلاء الأفهام / ابن قيم : ٣٥١.

(٣) جلاء الأفهام / ابن قيم : ١٧٤.

١٠٢

وفي المقام حاول السخاوي الاستدلال على صحة الصلاة البتراء في كتابه (القول البديع) تحت عنوان تنبيه ، قال : إن قال قائل : ما وجه التفرقة بين الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين الآل في الوجوب مع كونه معطوفاً عليه إذا كان مستند الوجوب قوله : قولوا كذا ، فلم أوجبتم البعض دون البعض؟ فالجواب عنه ـ كما قيل ـ من وجهين :

أحدهما : إن المعتمد فى الوجوب إنما هو الأمر الوارد في القرآن بقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً ) لم يأمر بالصلاة على آله ، وأما تعليمه (صلى اللّه عليه وسلم) كيفية الصلاة عليه لما سألوه فبين لهم المقدار الواجب وزادهم رتبة الكمال على الواجب ، وهو إنما سألوه عن الصلاة عليه ، وهذا مبني على الخلاف في جواز حمل الأمر على حقيقته ومجازه ، والصحيح جوازه ، وقد يجيب المسؤول بأكثر مما سئل عنه لمصلحته كما وقع ذلك منه (صلى اللّه عليه وسلم) كثيراً كقوله حين سئل عن التطهير بماء البحر فقال : « هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته » ولم يكن في سؤالهم ذكر ميتة البحر.

والوجه الثاني : أن جوابه (صلى اللّه عليه وسلم) لمن سأله ورد بزيادات ونقص ، وانما يحمل على الوجوب ما اتفقت الروايات عليه ، إذ لو كان الكل واجباً لما اقتصر في بعض الأوقات على بعضه ، وفي بعض الطرق الصحيحة إسقاط الصلاة على الآل ، وذلك في صحيح البخاري في حديث أبي سعيد ، لكنّه أثبتها في البركة مع أنهم لم يسألوه عن البركة ولا أمر بها في الآية ، وأيضاً فحديث أبي حميد المتفق عليه ليس فيه الصلاة على الآل ولا فيه البركة أيضاً ، إنما قال : « على أزواجه وذريته » ، وبين الذرية والآل عموم

١٠٣

وخصوص (١).

جواب الوجه الأول :

جواب الوجه الأول ضمن النقاط التالية :

١ ـ قولكم : «إنّ المعتمد في الوجوب إنما هو الأمر الوارد في القرآن» ، يفهم منه عدم اعتمادكم على السنّة كتشريع ، فإن كان ذلك فهو مردود ، لأنّ اتفاق المسلمين على خلافه ، وإن لم يكن كذلك فلا معنى لتصدير كلامكم به.

٢ ـ قولكم : «بيّن لهم المقدار الواجب وزادهم رتبة الكمال على الواجب» تدّعون فيه أن ذكر الآل زيادة كمال وليس بواجب ، وهي دعوى باطلة ، لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في مقام بيان التشريع بحكم تكليفه كمبين للأحكام ، وعليه إذا زاد على أصل التشريع بدون أن ينصب قرينة على ذلك يلزم منه نقض الغرض وهو قبيح ، مضافاً إلى أن السائلين حديثو عهدٍ بالتكليف والشريعة ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حريص عليهم ، وعلى التشريع أن يرد عليه ما يخرجه عن قصده.

٣ ـ قولكم : «وهو إنما سألوه عن الصلاة عليه» ، والظاهر أنكم تسوقونه سياق القرينة أو الدليل على دعوتكم المتقدمة ، ومرادكم فيه أنّ السؤال كان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط ، فما زاد في الجواب على حدود السؤال فهو ليس بمأمور به ، لأن السائل لم يسأل عنه! وكأنّ التشريع يحدده سؤال السائل وليس جواب المشرع!!

__________________

(١) القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع / السخاوي : ٨١.

١٠٤

وهي دعوى مضحكة حقاً ، فهل نسي أنّ السائل ليس له علم بحقيقة التشريع ، وهو بعدُ لم يسمع إلاّ بالأمر الوارد في الآية ، وهو خاص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط ، فمن الطبيعي أن يسأل عن مورد الآية فقط ، إلاّ أن الجواب ليس من الضروري أن يكون بحدود السؤال لعدم لزوم استيعابه لحقيقة التشريع بالضرورة.

مضافاً إلى أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام التفسير للآية ، فليس من المعقول أن يقتصر في تفسيرها على حدود السؤال ويخلّ بالبيان المطلوب ، لذا ليس من الصحيح أن نأخذ ببعض التفسير ونترك البعض بحجّة أنّ السائل لم يسأل عنه.

ومن جهة أُخرى فإنّ هناك روايات جاء السؤال بها صريحاً عن أهل البيت ،كما في رواية كعب بن عجرة ، قال : «سألنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقلنا : يا رسول اللّه كيف الصلاة عليكم أهل البيت ، فإنّ اللّه قد علمنا كيف نسلم» ، وأخرجها الحاكم وعقّب عليها بقوله : «وإنما خرجته ليعلم المستفيد أنّ أهل البيت والآل جميعاً هم» (١) حيث إن السؤال كان عن أهل البيت والجواب جاء بلفظ الآل.

وهذه الدعوى قد ردّها ابن حجر بقوله : ففي رواية عبد اللّه بن عيسى كيف الصلاة عليكم أهل البيت ، فإنّ اللّه علمنا كيف نسلم ، أي : علّمنا اللّه كيف السلام عليك على لسانك وبواسطة بيانك ، وأما إتيانه بصفة الجمع في قوله (عليكم) فقد بيّن مراده بقوله (أهل البيت) لأنه لو اقتصر عليها لاحتمل أن يريد بها التعظيم ، وبها تحصل مطابقة الجواب للسؤال حيث قال : «على محمد

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ : ١٦٠ / ٤٧١٠ كتاب معرفة الصحابة.

١٠٥

وآل محمد». وبهذا يستغني عن قول من قال : في الجواب زيادة على السؤال ؛ لأن السؤال عن كيفية الصلاة عليه فوقع الجواب عن ذلك بزيادة كيفية الصلاة على آله (١).

أما ابن حجر الهيتمي فيعتقد أنّ الصحابة قد سألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الصلاة على أهل البيت عليهم‌السلام ، كما جاء بالروايات لأنّهم فهموا أنّ الآية تريدهم بالأمر ،قال : فسؤالهم بعد نزول الآية وإجابتهم بـ «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد» إلى آخره ، دليل ظاهر على أنّ الأمر بالصلاة على أهل بيته وبقية آله مراد من هذه الآية ، وإلاّ لم يسألوا عن الصلاة على أهل بيته وآله عقب نزولها ولم يجابوا بما ذكر ، فلما أُجيبوا به دلّ على أن الصلاة عليهم من جملة المأمور به (٢).

ومن الطريف في المقام أنّ أحد علمائهم ـ وهو الطيبي ـ يعتقد أنّ كل سؤال ورد في الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتضمن السؤال عن الصلاة على أهل البيت عليهم‌السلام دون الحاجة إلى التصريح قال : في معنى سؤال الأصحاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف نصلي عليك؟ يقول : معناه كيف نصلي على أهل بيتك ، لأن الصلاة عليه قد عرفت مع السلام من الآية ، قال : فكان السؤال عن الصلاة تشريفاً لهم (٣).

وأمّا قولكم بجواز حمل الأمر على حقيقته ومجازه ، فنقول : نعم يصحّ ذلك بشرط نصب قرينة ، ولا قرينة في البين ، وفي الروايات الأمر واحد والظهور واحد ، فلا حجّة لك في الفصل.

وفي ذلك يقول الصنعاني : ولا عذر لمن قال بوجوب الصلاة عليه (صلى اللّه

__________________

(١) فتح الباري / العسقلاني ١٢ : ٤٤٣ باب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) الصواعق المحرقة ٢ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠.

(٣) فتح الباري / العسقلاني ١٢ : ٤٤٨ باب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٠٦

عليه وسلم) من القول بوجوبها على الآل إذ المأمور به واحد (١).

٥ ـ المثال الذي جئتم به لتقريب الدعوى لا يصحّ لعدم مطابقته للمقام. وتوضيحه : أنّ الزيادة في الجواب لها نحوان :

الأول : أن تكون متعلقة بموضوع السؤال ، وخفي على السائل أن يسأل عنها ، فيأتي بها المجيب وكأنه يقول للسائل بلسان الحال : كان عليك أن تسأل هكذا ، وهنا الزيادة لا تكون حقيقية ، وإنما سميت كذلك تسامحاً بلحاظ السؤال.

الثانية : زيادة لا علاقة لها بموضوع السؤال ، ولكن لمناسبة ما جاء بها ، وهنا تكون الزيادة حقيقية ، ومثالك من هذا النحو ، وإلاّ ما علاقة حليّة ميتة البحر بموضوع السؤال ، وهو التطهير بماء البحر ، ولكن جاء بها رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمناسبة ذكر ماء البحر من باب تبليغ الأحكام تفضّلاً منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أما فيما نحن فيه فالصلاة على الآل ليست بخارجة عن موضوع السؤال ، وهو الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا تكون زيادة كما تحاول تصويره من خلال المثال.

جواب الوجه الثاني :

اعتمد فيه على حديثين من أحاديث تعليم صيغة الصلاة خليا من ذكر الآل عليهم‌السلام.

أحدهما : عن أبي حميد الساعدي ، والآخر عن أبي سعيد الخدري ، والأول ذكر الصلاة على أزواجه وذريته بدل الآل عليهم‌السلام ، وهذا الحديث لم يروه إلاّ مالك

__________________

(١) سبل السلام / الصنعاني ١ : ٣٠٥ / شرح حديث (٣٣٦).

١٠٧

ابن أنس ، أخرجه في الموطأ عن عبد اللّه بن أبي بكر عن أبيه أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم الأنصاري (١) ، وأخرجه البقية كلهم عن مالك بسنده (٢) ، وأبو بكر هذا من ولاة بني أُمية ، فقد تولى المدينة المنورة لسليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز (٣) ، وعليه لابدّ أن يكون ممن يبغض أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام ويلعنه ،وإلاّ لا يمكن أن ينال ولاية لبني أمية ، وهذا من المسلّمات التأريخية ،ومن كان هذا حاله كيف يروي حديثاً فيه فضيلة لأمير المؤمنين عليه‌السلام؟! ومن هنا لا يبعد القول أن يكون قد وضعه تقرباً لأسياده وبغضاً لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

وعلى من عول على هذا الحديث يقول ابن حجر : واستدلّ به على أنّ الصلاة على الآل لا تجب لسقوطها في هذا الحديث ، وهو ضعيف (٤).

وأما الثاني : وهو حديث أبي سعيد الخدري ، فقد ورد بطرق كلها تنتهي إلى رواية يزيد بن عبد اللّه بن الهاد ، عن عبد اللّه بن خباب ، عن أبي سعيد الخدري (٥) ، وفي لفظه يقصر الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويذكر الآل في البركة

__________________

(١) الموطأ / مالك بن أنس ١ : ١١٨ / ٢٤٣.

(٢) صحيح البخاري ٤ : ٦٠٤ / ١٥٢٥ كتاب الأنبياء ، باب يزفون النسلان في المشي ، صحيح مسلم ١ : ٢٥٦ / ٤٠٧ كتاب الصلاة ، باب الصلاة على النبي بعد التشهد ، مسند أحمد ٦ : ٥٩٠ / ٢٣٠٨٩ ، سنن ابن ماجه ١ : ٨٨٨ / ٩٠٥.

(٣) تهذيب الكمال / المزي ٣٣ : ١٣٧ / ٧٢٥٤ وبقية المصادر الرجالية.

(٤) فتح الباري ١٢ : ٤٦١ كتاب الدعوات ـ باب هل يصلى على غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٥) صحيح البخاري ٦ : ٤٨٩ / ١٢٢٣ ، ١٢٢٤ كتاب التفسير (باب ان اللّه وملائكته يصلون ... ) ، مسند أحمد ٤ : ٤٤٣ / ١١٠٤١ ، سنن النسائي ٣ : ٤٩ ، سنن ابن ماجه ١ : ٤٨٧ / ٩٠٣.

١٠٨

فقط ، وهذا اللفظ الوارد بطريق واحد عن أبي سعيد الخدري ، يمكن أن نورد عليه أنه من البعيد أن يكون رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خصّ أبا سعيد الخدري بتعليمه هذه الصيغة من الصلاة دون بقية الصحابة الذين أجمعوا على ذكر الآل ، والمفروض أن يكون التشريع واحد ، هذا إن قلنا بدقة نقل ألفاظ الحديث كما هي ، ولو أن الراجح في المقام أن يكون قد غفل أحد الرواة ولم يحفظ ذكر الآل في الصلاة ، وهذا ليس بعزيز في تراثنا الروائي ، وقد أكد ذلك ابن حجر بقوله : والحق أن ذكر محمد وإبراهيم وذكر آل محمد وآل إبراهيم ثابت في أصل الخبر ، وإنما حفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر (١).

ومع القول بصحة هذين الحديثين فلايصح الاعتماد عليهما في مقام العمل وترك الثابت المتواتر الذاكر للآل عليهم‌السلام والذي يتحصل منه السنة القطعية اللازم العمل بها بالضرورة ، ويحكم على هذين الحديثين بالشذوذ ، وشاهده عزوف أهل الاختصاص عنهما وعدم اعتمادهما في مقام الاستدلال ، ومن تتبع ذلك يجده واضحاً ، وما قدمناه من نماذج لاستدلالاتهم يلقي الضوء على هذه الحقيقة.

ونختم الكلام بما قاله الصنعاني في سبل السلام ، قال : الصلاة عليه لا تتم ويكون العبد ممتثلاً بها حتى يأتي بهذا اللفظ النبوي الذي فيه ذكر الآل ، لأنه قال السائل : كيف نصلي عليك؟ فأجابه بالكيفية أنها الصلاة عليه وعلى آله ، فمن لم يأتِ بالآل ، فما صلى عليه بالكيفية التي أمر بها ، فلا يكون ممتثلاً للأمر ، فلا يكون مصلياً عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن فرق بين ألفاظ هذه الكيفية بإيجاب بعضها

__________________

(١) فتح الباري ١٢ : ٤٤٦ باب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٠٩

وندب بعضها فلا دليل له على ذلك (١).

* * *

__________________

(١) سبل السلام / الصنعاني ١ : ٣٠٥ / شرح حديث (٣٣٦).

* تنويه : النصوص التي اعتمدناها من المصادر السنّية تعتمد الصلاة المبتورة ونحن استبدلناها بالصلاة التامّة إلاّ بعضها أبقيناها للضرورة فلاحظ.

١١٠

الفصل الرابع

حقوق أهل البيت السياسية

وفيه ثلاثة مباحث :

المبحث الأول : حقّ الولاية

ونعني بهذا الحقّ أنّ العترة الطاهرة هم ولاة الأمر بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم الخلفاء الشرعيون الذين لهم حقّ التصرف في شؤون الأمة الإسلامية ، مثلهم في ذلك مثل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال تعالى : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) (١).

وفي هذا المعنى جاء الكتاب العزيز صريحاً ، قال تعالى : ( إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) (٢). وكذلك جاءت السنّة المطهرة بوافر من الأحاديث ، وفي مقدمتها حديث الغدير المتواتر نقلاً الصريح دلالةً.

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٦.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٥٥.

١١١

سبب نزول الآية

تضافرت الروايات في أن المراد من (الذين آمنوا) هو مولى الموحدين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي تصدّق بخاتمه وهو في حال الصلاة ، فنزلت الآية تأكيداً لولايته بعد ولاية اللّه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أخرج الحاكم الحسكاني الحنفي في كتابه (شواهد التنزيل) روايات كثيرة عن جمع من الصحابة والتابعين منهم : عبد اللّه بن عباس ، وأنس بن مالك ، ومحمد بن الحنفية ، وعبد الملك بن جريج المكي ، وعمار بن ياسر ، وجابر بن عبد اللّه الأنصاري ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وأبو ذر الغفاري ، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وكلّها تؤكّد المعنى الذي ذكرناه.

وفيما يلي نذكر رواية أبي ذر الغفاري رضي‌الله‌عنه في هذا الموضوع ، قال : أما إني صليت مع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً من الأيام صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهم اشهد أني سألت في مسجد رسول اللّه فلم يعطني أحد شيئاً. وكان علي راكعاً ، فأومأ إليه بخنصره اليمنى ـ وكان يتختم فيها ـ فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما فرغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال : « اللهم إنّ أخي موسى سألك فقال : ربّ اشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ، واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اُشدد به أزري وأشركه في أمري ، فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ) (١) اللهمّ وأنا محمد نبيك وصفيك ، اللهمّ فاشرح

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٣٥.

١١٢

لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أخي أشدد به أزري ».

قال أبو ذرّ : فواللّه ما استتم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلام حتى هبط عليه جبرئيل من عند اللّه وقال : يا محمد ، هنيئاً لك ما وهب اللّه لك في أخيك. قال : « وما ذاك يا جبرئيل؟ » قال : أمر اللّه أمتك بموالاته إلى يوم القيامة ، وأنزل قرآناً عليك ( إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) (١).

وأخرج خبراً آخر بسنده إلى عبد اللّه بن عباس قال : أقبل عبد اللّه بن سلام ومعه نفرٌ من قومه ممن قد آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا رسول اللّه ، إن منازلنا بعيدة وليس لنا مجلس ولا مُتحدَّث دون هذا المجلس ، وإن قومنا لما رأونا آمنّا باللّه وبرسوله وصدقناه رفضونا ، وآلوا على أنفسهم أن لا يجالسونا ولا يناكحونا ولا يكلّمونا ، فشقّ ذلك علينا. فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٢).

ثمّ إنّ النبي خرج إلى المسجد ، والناس بين قائم وراكع ، فبصر بسائل فقال

__________________

(١) شواهد التنزيل / الحسكاني ١ : ٢٢٩ ـ ٢٣١ / ٢٣٥ ، وعنه رواه الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ٣٦١ـ٣٦٢ / تفسير الآية ، وقال معلقاً عليه : (وروى هذا الخبر أبو اسحاق الثعلبي في تفسيره بهذا الاسناد بعينه). وعن أبي إسحاق الثعلبي رواه الحمويني الشافعي في فرائده ١ : ١٩١ / ١٥١ الباب (٣٩) ، ورواه أيضاً سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص : ١٨ ، منشورات الشريف الرضي ـ قم / ١٤١٨ه ،والشبلنجي في نور الأبصار : ١٧٠ ، دار الفكر ـ بيروت.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٥٥.

١١٣

له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « هل أعطاك أحد شيئاً؟ ». قال : نعم ، خاتم ... وأومأ بيده إلى عليّ. فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « على أي حال أعطاك؟ » قال : أعطاني وهو راكع. فكبّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ قرأ « ومن يتولَّ اللّه ورسوله والذين آمنوا فان حزب اللّه هم الغالبون » (١).

فأنشأ حسان بن ثابت يقول في ذلك :

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي

وكل بطيء في الهدى ومسارع

أيذهب مدحي والمحبّر ضائعاً

وما المدح في جنب الإله بضائع

وأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعاً

زكاةً فدتك النفس يا خير راكع

فأنزل فيك اللّه خير ولاية

فبيّنها في نيرات الشرائع (٢)

وأخرج الطبري عن السدي ، وأبي جعفر ، وعتيبة بن أبي حكيم ، ومجاهد : أنّ المعنيّ بالآية : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، لمرور السائل بعلي عليه‌السلام وهو راكع في المسجد ، وأعطاه خاتمه في حال الركوع. (٣)

وذكر الشيخ الأميني في (الغدير) المصادر والمراجع من كتب الحديث والتفسير والسيرة الناقلة للحديث ، وعدّ منها ستّاً وستين مصدراً ابتداءً من

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٥٦.

(٢) شواهد التنزيل ١ : ٢٣٤ / ٢٣٧ ، المناقب / الخوارزمي : ١٨٦ الفصل (١٧) ، فرائد السمطين ١ : ١٨٩ ـ ١٩٠ / ١٥٠ الباب (٣٩) ، أسباب النزول / الواحدي : ١٤٨.

(٣) تفسير الطبري مج٤ ، ٦ : ٣٨٩ ـ ٤٠٠ / ٩٥٢١ ، ٩٥٢٢ ، ٩٥٢٣ ، ٩٥٢٤. الدر المنثور / السيوطي : ٥١٩ ـ ٥٢٠ أخرجه عن ابن عباس ، وسلمة بن كهيل ، ومجاهد وغيره.

١١٤

القاضي أبي عبد اللّه محمد بن عمر المدني الواقدي المتوفّى سنة ٢٠٧ ، وانتهاءً بالشيخ عبد القادر بن محمد السعيد الكردستاني المتوفّى سنة ١٣٠٤. (١)

معنى الولي

إنّ لفظة (وليكم) يراد بها في الآية معنى الأولى في التصرف وتدبير الأُمور ، وذلك ظاهر من استعمالات هذه اللفظة في اللغة ، ومن القرائن التي تساعد على هذا المعنى في الآية.

١ ـ الاستعمالات اللغوية

قال ابن منظور : الوليّ : وليّ اليتيم : الذي يلي أمره ويقوم بكفايته. وولي المرأة : الذي يلي عقد النكاح عليها ولا يدعها تستبدَّ بعقد النكاح دونه. وفي الحديث : « أيّما امرأة نُكحت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل » وفي رواية : « وليّها » أي متولِّي أمرها. (٢) وهنا يأتي الولي بمعنى الأولى ، فما يليه من أمر اليتيم والمرأة أولى مما يليانه من أنفسهما. وقال الراغب في مادة ولي : الولاء والتوالي : حقيقته تولي الأمر ، والولي والمولى يستعملان في ذلك. (٣)

وَنِعْمَ وليُّ الأمْرِ بَعْدَ وليِّهِ

ومنتجَعُ التّقوى ونِعْمَ المقرّبُ (٤)

__________________

(١) الغدير / الأميني ٣ : ٢٢٠ ، تحقيق ونشر مركز الغدير ، ط١ / ١٤١٦ هـ.

(٢) لسان العرب ١٥ : ٤٠٧ مادة (ولي).

(٣) المفردات / الراغب الأصفهاني : ٨٨٥ مادة (ولي).

(٤) مجمع البحرين / الطريحي ٣ : ١٩٧٦ / (ولّى) ، مؤسسة البعثة ـ قم ـ ط١ / ١٤١٤ هـ.

١١٥

ومن استعمالات ولي في القرآن قوله تعالى : ( وما لكم من دون اللّه من وليّ ولا نصير ) (١) وهنا فسّر الطبري الولي بأنه القائم بالأمر ، قال : ومن ذلك : قيل : فلان وليّ عهد المسلمين ، يعني به القائم بما عهد إليه من أمر المسلمين ، أمّا النصير ، فقد فسّره بمعنى المؤيد والمقوي (٢) ، وهناك آيات أخرى فُسِّرت بهذا المعنى أيضاً.

٢ ـ القرائن المحتفّة بالآية

بعد أن تبين أنّ استعمالات لفظة ولي في اللغة وغيرها بمعنى الأولى والمتصرّف ، نذكر هنا بعض ما اكتنف الآية من قرائن منتزعة من ألفاظها وسياقها وتركيبها الدلالي ، يؤكد ويعضّد القول بأنها بمعنى الأولى والمتصرف ، لا بمعنى النصرة أو الناصر ، كما قيل.

١ ـ لو كانت بمعنى النصرة والمعونة لما حصرت بالثلاثة المشار إليهم ، لأن النصرة عامّة ومطلوبة من الكلّ ، كما في آية ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) (٣).

٢ ـ إن المخاطبين بـ ( إنما وليكم ) هم بين اثنين ؛ إما مؤمن ، وإما غير مؤمن ، فإذا قلنا إن الولاية بمعنى النصرة ، فنصرة ( الذين آمنوا ) لغير المؤمن ممتنعة ، وللمؤمن لا معنى لها ، لأن كلّ المؤمنين يلزمهم النصرة لبعضهم البعض ، فلا يبقى مائز بين الطرفين. وعليه لابدّ من القول بأن الولي بمعنى الأولى

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٠٧.

(٢) تفسير الطبري ٢ : ٦٧٦.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ٧١.

١١٦

والمتصرف ، لا بمعنى الناصر.

٣ ـ الآية التي بعدها ( ومن يتولّ اللّه ورسوله والذين آمنوا فان حزب اللّه هم الغالبون ) والتي تشترك معها في ( الذين آمنوا ) لا تتجه إلاّ إذا حمل معنى الولي على المتصرّف والمدبّر للأمر ، لأنه حزب اللّه المشار له في الآية يحتاج إلى ولي يدبّر الأمر لا محبّ وناصر.

٤ ـ لتصحيح وجود وصف ( وهم راكعون ) لابدّ من حمل الولي على معنى الأولى والمتصرف ، وإلاّ يصبح زائداً لا معنى له (تنزّه كلام اللّه تعالى عن ذلك) ، لأن أداء الزكاة ممن وُصِف بالنصرة لا يحتاج إلى أن يكون في حال الركوع.

الشبهات المثارة حول الآية

على الرغم من صراحة ووضوح دلالة الآية على ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام لاكتنافها بقرائن عدة تنبئ عن مقاصدها ، وكونها مشفوعة بالأثر الصحيح المثبت لدلالتها ، فقد تلمّس البعض شبهات واهية لا تساعد على صرف دلالة الآية عن المراد ، وفيما يلي أهم ما عوّلوا عليه من هذه الشبهات :

١ ـ حمل صيغة العموم على المفرد

قالوا : إنّ الآية جاءت بصيغة الجمع ( الذين آمنوا ) ، والمراد حسب المدّعى واحد ، واستخدام لفظ الجمع وإرادة الواحد خلاف الظاهر ، أو هو مجاز ، وحمل اللفظ على الحقيقة هو الأصل. (١)

__________________

(١) تفسير الرازي ١٢ : ٣٨٤ ـ ٣٨٥ الحجّة الثالثة بتصرف.

١١٧

نقول : إنّ استعمال الجمع وإرادة الواحد كثير في لغة العرب على سبيل التعظيم ، وقد جاء ذلك في القرآن الكريم في آيات كثيرة ، منها قوله تعالى : ( يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ) (١) قال المفسرون : إن القائل هو عبد اللّه ابن أُبي ، وقوله تعالى : ( يقولون لأن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل ) (٢) والقائل هو عبد اللّه بن أبي أيضاً ، وقوله تعالى : ( تلقون إليهم بالمودّة ) (٣) المقصود هو طالب بن أبي بلتعة ، وغيرها كثير.

فعليه إذا وردت القرينة الصارفة عن الظاهر يؤخذ بالمعنى المجازي ، وأي قرينة أكبر من تخصيص المورد بصفات لا تحصل إلاّ في فرد فضلاً عن الروايات الكثيرة المعينة لمصداق « الذين آمنوا » في الآية؟

أما في سبب مجيء الآية بصيغة الجمع ، فقد قال الزمخشري : جيء به على لفظ الجمع ، وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً ، ليرغّب الناس في مثل فعله ، فينالوا مثل ثوابه ، ولينبّه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقّد الفقراء. (٤)

٢ ـ وحدة السياق

قالوا : إن آية ( إنما وليكم ) وقعت بين آيات فيها الولاية بمعنى النصرة والمحبّة ، فالقول بأنّ الولاية هنا بمعنى التصرف والإمرة يترتّب عليه وقوع معنى

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٥٢.

(٢) سورة المنافقون : ٦٣ / ٨.

(٣) سورة الممتحنة : ٦٠ / ١.

(٤) الكشاف / الزمخشري ١ : ٦٨٢ / تفسير سورة المائدة : ٥ / ٥٥.

١١٨

مغاير بين معنيين متحدين ، وهذا مخلٌّ ببلاغة وإعجاز القرآن. (١)

أقول : إن الأُمة الإسلامية أجمعت على أن ترتيب الآيات داخل السور توقيفي بأمر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، فقد تجتمع آيتان لكل منها سبب نزول يختلف عن الآخر ووقت نزول يختلف عن الآخر ، ولكن لحكمة ما يأمر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوضعهما في مكان واحد ، وإنّك تجد في القرآن هذا الأمر جليّاً ، حيث إن الثابت أن أول سورة نزلت من القرآن تجدها في أواخر القرآن ، وآخر سورة تجدها في وسط القرآن وهكذا الآيات ، وخير شاهد على ذلك الآيات المدنية في السور المكية وبالعكس.

٣ ـ الصدقة المستحبّة هل هي زكاة؟

قالوا : إن الخاتم الذي تصدّق به أمير المؤمنين عليه‌السلام كان صدقة مستحبة ، والزكاة تطلق على الصدقة الواجبة ، ولم يكن عليّ عليه‌السلام يتوفّر على المال الذي يصل إلى نصاب الزكاة ، لذا لا يستقيم المعنى على ما تذهبون إليه. (٣)

نقول : أولاً : القول بأنّها صدقة مستحبّة مجرّد دعوى بدون دليل ، فأمير المؤمنين عليه‌السلام له من المال ما يمكن تحقّق الزكاة الواجبة فيه ، فيكفي في ذلك ما يغنمه من الحروب الكثيرة التي شارك بها ، وكذلك ما يحصل عليه من كدّه وعمله ، وأُعطياته للفقراء والمساكين تدلل على ذلك ، وأما ما عليه من الزهد

__________________

(١) تفسير الرازي ١٢ : ٣٨٤ / الحجّة الأُولى ، بتصرف.

(٢) راجع : الاتقان في علوم القرآن / السيوطي ١ : ١٨٩ ـ ١٩٠ / النوع الثامن عشر : في جمعه وترتيبه.

(٣) تفسير الرازي ١٢ : ٣٨٦ / الوجه الأول ، بتصرّف.

١١٩

والتقشف وضيق المأكل والملبس فهو يعكس حالة الزهد والإعراض عن الدنيا مع التمكن منها ، وهو أعظم وأبلغ من حالة الزهد مع عدم التمكّن ، وهذا ما يليق بشأن سيد الموحّدين أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وليس بالضرورة يدلّل على عدم التوفر على المال كما اشتبه ذلك على صاحب الشبهة.

وثانياً : لو تنزلنا وقبلنا إنها صدقة مستحبة ، فلا يمنع من تسميتها بالزكاة ، لأن القرآن الكريم استعملها في معناها اللغوي العام جرياً على ما يقتضيه الفهم العرفي ، وليس كما عليه عرف الفقهاء حسب الاصطلاح الجاري من اطلاقها على الصدقة الواجبة فقط ، كما نجد ذلك في استعمالها في آيات مكيّة مع أن الزكاة الواجبة شُرّعت في المدينة المنورة بعد هجرة سيد المرسلين عليه‌السلام ، ومثاله قوله تعالى : ( وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَادُمْتُ حَيّاً ) (١) وغيرها (٢) من الآيات المباركة.

٤ ـ الفعل الكثير أثناء الصلاة :

قالوا : إن الثابت عن أمير المؤمنين عليه‌السلام كونه تامّ الانقطاع إلى اللّه تعالى أثناء الصلاة ، والالتفات لكلام السائل والاستجابة له خلاف ما أشرنا إليه ، وكذلك فإن الإيماء للسائل لأخذ الخاتم من الفعل الكثير المنافي للصلاة. (٣)

أقول : نعم ، إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام تام الانقطاع إلى اللّه تعالى سواء كان في الصلاة أو في غيرها ، فهو لا يعرف في كل أمرٍ يقدم عليه إلاّ وجهه عزّوجلّ ،

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٣١.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٧٣ ، سورة لقمان : ٣١ / ٤ ، سورة النمل : ٢٧ / ٣.

(٣) تفسير الرازي ١٢ : ٣٨٦ / الوجه الثاني بتصرّف.

١٢٠