مستند الشّيعة - ج ٢

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-77-9
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥١٠

بل تعدّوا إلى معاودة المجامع إلى الجماع قبل الغسل مطلقا ، للمروي في كشف الغمة : « كان أبو عبد الله عليه‌السلام إذا جامع وأراد أن يعاود توضأ للصلاة » (١).

وفي دلالته على الاستحباب نظر ، لجواز أن يكون لارتفاع الكراهة ، ولذا جعلنا خبر الوشاء مؤيدا.

نعم ، عن المبسوط نفي الخلاف فيه (٢) ، وهو كاف في المقام.

ومنها : جماع المحتلم ، كما في نهاية الشيخ والمهذب والوسيلة والمعتبر والنزهة (٣) وغيرها (٤) ، لفتوى هؤلاء الأجلة ، لا لمرسلة الفقيه : « يكره أن يغشى الرجل المرأة وقد احتلم حتى يغتسل من احتلامه » (٥) كما قيل (٦) ، فإنّ الاستدلال بها له غفلة.

ومنها : دخول المرأة على زوجها ليلة زفافها ، فيستحب التوضؤ ، لخبر أبي بصير : « إذا دخلت إن شاء الله فمرها قبل أن تصل إليك أن تكون متوضئة ، ثمَّ لا تصل إليها حتى تتوضأ » (٧).

ومنها : جلوس القاضي في مجلس القضاء ، كما ذكره في النزهة (٨).

__________________

أبواب الوضوء ب ١٣ ح ٢.

(١) راجع التعليقة رقم ٥ من ص ٤٠.

(٢) المبسوط ٤ : ٢٤٣.

(٣) النهاية : ٤٨٢ ، المهذب ٢ : ٢٢٢ ، الوسيلة : ٣١٤ ، المعتبر ١ : ١٩٣ ، نزهة الناظر : ٩.

(٤) كالقواعد ١ : ٢ ، والبيان : ٣٧.

(٥) الفقيه ٣ : ٢٥٦ ـ ١٢١٢ ، الوسائل ٢٠ : ١٣٩ أبواب مقدمات النكاح ب ٧٠ ح ١.

(٦) يستفاد الاستدلال بها من الروض : ١٥.

(٧) الكافي ٥ : ٥٠٠ النكاح ب ٥٠ ح ١ ، التهذيب ٧ : ٤٠٩ ـ ١٦٣٦ ، الوسائل ٢٠ : ١١٥ أبواب مقدمات النكاح ب ٥٥ ح ١ ، بتفاوت يسير.

(٨) نزهة الناظر : ١٠.

٤١

ولا بأس بإثبات الاستحباب به ، وإلاّ فلم أظفر فيه على نص.

ومنها : تكفين الميت إذا كفّنه من غسّله قبل اغتساله ، كما يأتي.

ومنها : قبل الأغسال المسنونة ، كما في الكافي والبيان والنفلية (١) ، لمرسلة ابن أبي عمير : « كل غسل قبله وضوء إلاّ غسل الجنابة » (٢).

ولعلك تظفر بمواضع أخرى يستحب فيه الوضوء لو تتبعت أخبار الأطهار وكلمات العلماء الأخيار.

وأما الثالث : وهو : الوضوء الرافع لكراهة بعض المباحات للمحدث ، فله أيضا أنواع :

منها : لقدوم المسافر من سفر على أهله ، للرواية : « من قدم من سفر فدخل على أهله وهو على غير وضوء فرأى ما يكره فلا يلومن إلاّ نفسه » (٣).

ومنها : لجماع الحامل ، للمروي في العلل و ( المجالس ) (٤) : « إذا حملت امرأتك فلا تجامعها إلاّ وأنت على وضوء » (٥).

ومنها : لطلب الحاجة مطلقا ، لخبر ابن سنان ، المتقدم (٦).

ومنها : قبل الأكل وبعده ، كما يأتي في كتاب المطاعم. وفي غير ذلك مما لعلك تظفر به في مطاوي الأخبار.

__________________

(١) الكافي في الفقه : ١٣٥ ، البيان : ٣٨ ، النفلية : ٦ ، وفيه : مع الأغسال المسنونة.

(٢) الكافي ٣ : ٤٥ الطهارة ب ٢٩ ح ١٣ ، التهذيب ١ : ١٣٩ ـ ٣٩١ ، الاستبصار ١ : ١٢٦ ـ ٤٢٨ ، الوسائل ٢ : ٢٤٨ أبواب الجنابة ب ٣٥ ح ١.

(٣) نقلها ابن سعيد في نزهة الناظر : ١٠ عن مقنع الصدوق ، ولكنا لم نعثر عليها فيه.

(٤) الموجود في النسخ : المحاسن والصواب ما أثبتناه. كما في الوسائل ١ : ٣٨٥ أبواب الوضوء ب ١٣ ح ١ ، والحدائق ٢ : ١٤٠ ، والبحار ١٠ : ٢٨٠.

(٥) العلل : ٥١٦ ، أمالي الصدوق : ٤٥٦.

(٦) تقدم في ص ٣٨.

٤٢

الفصل الثالث :

في واجباته من الأفعال والشرائط‌

وهي أمور :

الأوّل : النية.

وهي : القصد إلى الفعل لغة وعرفا وشرعا ، إذ لم تثبت لها حقيقة شرعية ، بل ولا المتشرعة ، ووجوب بعض القيود فيها شرعا لا يجعله جزءا لها.

قيل : النية بهذا المعنى لا يمكن انفكاكها عن الفعل الاختياري ، إذ لا يمكن صدور الاختياري بغير قصد ، ولو كلّف به كان تكليفا بالمحال ، فلا معنى لاشتراطها ، والفرق فيها بين العبادات وغيرها كما وقع في عبارات الأصحاب ، فالمراد منها فيها ليس هذا المعنى ، بل قصد الفعل إطاعة لله ، أو مع قيد آخر أيضا مما يجوز انفكاكها ويصح اشتراطها ، فتكون النية من الألفاظ المنقولة (١).

وفيه : أنّ عدم إمكان صدور الفعل الاختياري من غير قصد لا ينافي إمكان صدور الفعل من غير اختيار ، كالوقوع في الماء اضطرارا في الغسل ، وإصابة المطر إلى الثوب في الغسل ، فمرادهم من اشتراط النية بمعناها الحقيقي ـ أي القصد ـ أنه لا يكفي ذلك في حصول الامتثال الذي تحصيله واجب في العبادات وإن أمكن كفايته في ترتب الأثر الذي هو المطلوب في غيرها ، فمرادهم من الفرق بين العبادات وغيرها التوقف الكلي وعدمه.

وها هنا مسائل :

المسألة الأولى : النية بالمعنى المذكور واجبة في الوضوء ، فلو أتى ببعض أفعاله لا عن قصد بطل إجماعا حتى من الإسكافي كما في المعتبر (٢) ، وعليه الإجماع‌

__________________

(١) قاله الوحيد البهبهاني في شرح المفاتيح ( مخطوط ).

(٢) المعتبر ١ : ١٣٨.

٤٣

في الخلاف والمختلف والغنية والتذكرة (١).

والحجة فيه ـ بعد الإجماع وتوقف صدق الامتثال الواجب تحصيله في العبادات عليه ـ قوله عليه‌السلام في حسنة الثمالي وغيرها من المستفيضة : « لا عمل إلاّ بنية » (٢) بل في رواية ابن عيينة : « ألا وإنّ النية هو العمل » (٣) وهو تأكيد.

ومعنى الأوّل أنه لا يتحقق العمل إلاّ مع القصد. وهو كذلك ، لأنّ ما لا قصد فيه ليس عملا لشخص ، إذ عمل الشخص ما صدر عنه بقصده ، فإنّ من وقع في ماء بلا اختيار لا يقال : أنه غسل جسده ، فإنّ كل ما يتحقق في الخارج ليس عملا ، بل هو ما عمله عامل ، ولا ينسب عمل إلى عامل إلاّ مع صدوره عنه بالقصد والاختيار ، ويلزمه أنّه إذا طلب الشارع عملا من غيره لا يتحقق إلاّ مع القصد إليه.

واستعماله في العرف في غيره أحيانا ـ لو سلّم ـ لا يضر ، لأنّه أعم من الحقيقة ، غايته احتمال الاشتراك المعنوي ، وتعارضه مع التجوز ، وهو أيضا غير ضائر ، لأن الحق فيه التوقف ، فلا يعلم صرف الحديث عن حقيقته التي هي نفي العمل ، فيحمل عليها.

مع أنّه لو سلّم صدق العمل عرفا على ما لا نيّة فيه أيضا نمنع كونه كذلك في زمان الشارع ، والعمل بأصالة عدم النقل مع تلك الأحاديث باطل.

مع أنّ ها هنا كلاما آخر ، وهو : أنه مما لا شك فيه أنّه لا بدّ من نسبة العمل إلى شي‌ء من كونه مؤثرا فيه ، وهذا بديهي ، والتأثير قد يكون مع المباشرة ، وقد يكون بالأمر والبعث ، كما يقال : قتل السلطان فلانا. والأفعال المطلوبة من المكلف لمّا كان مطلوبا مما هو إنسان أي النفس دون البدن ، وتأثيره لا يكون إلاّ‌

__________________

(١) الخلاف ١ : ٧١ ، المختلف : ٢٠ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٥٢ ، التذكرة ١ : ١٤.

(٢) الكافي ٢ : ٨٤ الايمان والكفر ب ٤٣ ح ١ ، الوسائل ١ : ٤٦ أبواب مقدمة العبادات ب ٥ ح ١.

(٣) الكافي ٢ : ١٦ الايمان والكفر ب ١١ ح ٤ ، الوسائل ١ : ٥١ أبواب مقدمة العبادات ب ٦ ح ٥.

٤٤

بالأمر والبعث للبدن ، وهما لا يتصوران إلاّ مع القصد والشعور ، ويلزمه أن لا يصدر عمل عما هو المكلف حقيقة أي النفس إلاّ بالقصد. ولمّا كان الحديث مقصورا على أفعال المكلفين بقرينة المقام ، لا يراد من النفي فيه إلاّ معناه الحقيقي وإن قلنا بعدم توقف مطلق العمل على القصد ، ويكون المراد بيان أنه لا عمل مطلقا أو من أفعال المكلفين إلاّ مع القصد.

ويمكن أن يكون المراد أنه لا عمل من الأعمال الشرعية إلاّ مع القصد ، فلا وضوء ولا غسل ولا صلاة وهكذا إلاّ ما صدر بقصد وشعور ، فلا يتحقق الامتثال بدونه.

ومما ذكر ظهر أنه لا حاجة إلى صرف المستفيضة عن حقيقتها ، ولا يرد ما استشكله بعضهم من اقتضائه اشتراط النية في المعاملات ، مع أنه خلاف الإجماع ، فإنه إنما يرد على من اعتبر القيود في النية ، وأما بهذا المعنى فيشترط في المعاملات إجماعا ، إلاّ في ما ليس الأثر مترتبا على العمل ، بل على تحقق السبب في الخارج كيف ما كان.

ثمَّ لو سلّم عدم بقاء الأخبار على حقيقتها ، فالمتبادر من مثلها ـ كما صرحوا به ـ نفي الصحة أو الأثر ، وهو أيضا مثبت للمطلوب.

ويدل عليه أيضا : ما يأتي من اشتراط قصد القربة ، حيث إنّ الخاص مستلزم للعام.

المسألة الثانية : ويجب اشتمالها على القربة بأن يكون فعله لله سبحانه ، بالإجماع والكتاب والمستفيضة.

منها : الخبران : « الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا به ، فإذا صعد بحسناته يقول الله تعالى : اجعلوها في سجّين إنه ليس إياي أراد بها » (١).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٩٤ الايمان والكفر ب ١١٦ ح ٧ ، الوسائل ١ : ٧١ أبواب مقدمة العبادات ب ١٢ ح ٣.

٤٥

والمروي في عدة الداعي : « ويصعد الحفظة بعمل العبد بفقه واجتهاد وورع » إلى أن قال : « فيقول الملك : قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه ، أنا ملك الحجاب أحجب كل عمل ليس لله » إلى أن قال : « أمرني ربي أن لا أدع عملا يجاوزني إلى غيري ما لم يكن خالصا لله. ويصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجا به من صلاة وزكاة وصيام وحج وعمرة » إلى أن قال : « فيقول : أنتم حفظة عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه ، إنّه لم يردني بهذا العمل ، عليه لعنتي » (١).

وخبر علي بن سالم : « قال الله تعالى : أنا خير شريك ، من أشرك معي غيري في عمل عمله لم أقبله إلاّ ما كان خالصا لي » (٢).

ورواية عقبة : « اجعلوا أمركم هذا لله ، ولا تجعلوه للناس ، فإنه ما كان لله فهو لله ، وما كان للناس فلا يصعد إلى الله » (٣).

دل كل ذلك على عدم قبول عمل ليس لله ، وهو يستلزم عدم الإجزاء ، للتلازم بينهما ، وهو يستلزم عدم الصحة لترادفهما.

ورواية أبي بصير : عن حد العبادة التي إذا فعلها فاعلها كان مؤديا ، فقال : « حسن النية بالطاعة » (٤).

والبحث باحتمال عدم كون الوضوء عبادة مدفوع بالإجماع بل الضرورة ، بل عليه دلت الروايات.

كالصحيح (٥) : « إنما الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن‌

__________________

(١) عدة الداعي : ٢٢٨ ـ ٢٢٩ ، المستدرك ١ : ١١٢ أبواب مقدمة العبادات ب ١٢ ح ٩.

(٢) الكافي ٢ : ٢٩٥ الايمان والكفر ب ١١٦ ح ٩ ، الوسائل ١ : ٦١ أبواب مقدمة العبادات ب ٨ ح ٩.

(٣) الكافي ٢ : ٢٩٣ الايمان والكفر ب ١١٦ ح ٢ ، الوسائل ١ : ٧١ أبواب مقدمة العبادات ب ١٢ ح ٥.

(٤) الكافي ٢ : ٨٥ الايمان والكفر ب ٤٣ ح ٤ ، الوسائل ١ : ٤٩ أبواب مقدمة العبادات ب ٦ ح ٢.

(٥) في « ه‍ » و « ق » الصحيحة.

٤٦

يعصيه » (١).

والخبر ، وفيه ـ بعد إرادة الراوي صب الماء على يده للوضوء ـ : « أما سمعت الله يقول ( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) وها أنا ذا أتوضأ للصلاة وهي العبادة » (٢).

وآخر : « كان أمير المؤمنين عليه‌السلام إذا توضأ لم يدع أحدا يصب عليه الماء ، فقال بعد السؤال عنه : لا أحب أن أشرك في صلاتي أحدا ، وقال الله تعالى : ( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا .. ) الآية » (٣).

دلاّ على أنّ الصلاة عبادة والوضوء منها ، كما ورد في المعتبرة أن : « افتتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم » (٤) وأن « الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلث طهور » (٥).

بل دلاّ على أنّ الإشراك في الوضوء إشراك في العبادة فيكون عبادة.

ومن ذلك يظهر وجه آخر لاشتراط القربة ، وهو أنّ العبادة لغة اسم لما تتحقق به العبادة المصدرية ، وهي الإتيان بلوازم العبودية ، والأصل عدم النقل ، ولا يكون ذلك بشهادة العرف واللغة إلاّ فيما كان مطلوبا للمعبود وجوبا أو ندبا ، ( مأتيا به ) (٦) لأجل إطاعته وأنه مطلوبه ، وهذا معنى القربة ، ومن هذا يعلم أنّ كل مطلوب للشارع ( يعتبر ) (٧) فيه نية القربة فهو عبادة وبالعكس.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢١ الطهارة ب ١٤ ح ٢ ، التهذيب ١ : ١٣٨ ـ ٣٨٧ ، الوسائل ١ : ٤٨٤ أبواب الوضوء ب ٥٢ ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٦٩ الطهارة ب ٤٦ ح ١ ، التهذيب ١ : ٣٦٥ ـ ١١٠٧ ، الوسائل ١ : ٤٧٦ أبواب الوضوء ب ٤٧ ح ١ ، الكهف : ١١٠.

(٣) الفقيه ١ : ٢٧ ـ ٨٥ ، الوسائل ١ : ٤٧٧ أبواب الوضوء ب ٤٧ ح ٢.

(٤) الفقيه ١ : ٢٣ ـ ٦٨ ، الوسائل ١ : ٣٦٦ أبواب الوضوء ب ١ ح ٧.

(٥) الفقيه ١ : ٢٢ ـ ٦٦ ، الوسائل ١ : ٣٦٦ أبواب الوضوء ب ١ ح ٨.

(٦) في « ه‍ » : بإتيانه.

(٧) في « ه‍ » : يطلب.

٤٧

ومما يدل دلالة واضحة على اشتراطها واعتبارها : بداهة وجوب امتثال أوامر الله سبحانه ، وهو متوقف عرفا على قصد الطاعة والإتيان بالفعل لأجل الأمر بالضرورة ، فإنّ العبد إذا فعل ما أمر به مولاه وغيره لا لأنه أمره بل لأجل أنه أمره غيره لا يعدّ ممتثلا للمولى البتة ، بل قد يعدّ عاصيا بالفعل ، كما إذا أمره عدو مولاه معلقا قتل المولى عليه ، ولذا لو فعل أحد مطلوب الله سبحانه واقعا الذي ظن حرمته يعد عاصيا مستحقا للعقاب ، ولذا لا يجب فيما لا امتثال فيه كالوضعيات من المعاملات ونحوها مما ليس المقصود فيه الإطاعة.

ويظهر مما ذكر أنّ الأصل في كل ما تعلق الأمر به كونه عبادة ، لأنّ ما تعلق به يجب امتثاله المتوقف على القربة ، وما تعتبر فيه القربة فهو عبادة كما مر.

وتدل على المطلوب أيضا الآيات والروايات الناهية عن الرياء في الأعمال ، والمصرحة بعدم قبول ما يتضمنه وبطلانه (١).

ثمَّ المراد بقصد القربة كما عرفت : قصد كون الفعل لله سبحانه ، أي امتثالا لأمره ، أو موافقة لطاعته ، أو انقيادا لحكمه ، أو إجابة لدعوته ، أو أداء لشكره ، أو تعظيما لجلالة ، أو نحو ذلك ، أو طلبا للرفعة عنده بواسطته تشبيها بالقرب المكاني ونيل ثوابه ، أو الخلاص من عقابه.

فتصح العبادة مع أحد تلك القصود ، لصدق كون العمل لله والخلوص اللذين هما الثابت اعتبارهما واشتراطهما من أدلة القربة المتقدمة مع واحد منها. أمّا مع غير الأخيرين ( منها ) (٢) فبالإجماع بل ضرورة العرف واللغة.

وأمّا مع واحد منهما فعلى الأصح بل الأشهر ، كما صرح به والدي ـ رحمه‌الله ـ في اللوامع ، لقوله سبحانه ( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً. إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) (٣) جمع بين كون الإطعام لوجه‌

__________________

(١) راجع الوسائل ١ : ٦٤ ، ٧٠ أبواب مقدمة العبادات ب ١١ ، ١٢.

(٢) لا توجد في « ق ».

(٣) الدهر : ٨ ـ ٩.

٤٨

الله الذي هو معنى الخلوص وبين تعليله بالخوف منه سبحانه ، وللأخبار المتكثرة.

منها : خبر ابن سالم السابق (١) ( حيث ) (٢) دل على أنّ العمل الخالص ما لم يشرك فيه غير الله سبحانه ، فهو كاف في تحقق الخلوص ، ولا شك في أنّ ما يفعل لأجل نيل ثواب الله أو الخلاص من عقابه لم يشرك فيه غيره.

وأصرح منه : صحيحة ابن مسكان ، ورواية ابن عيينة :

الأولى : في قول الله عزّ وجلّ ( حَنِيفاً مُسْلِماً ) (٣) قال : « خالصا مخلصا ليس فيه شي‌ء من عبادة الأوثان » (٤).

والثانية : « العمل الخالص : الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلاّ الله عزّ وجلّ » (٥).

وهي صريحة في عدم منافاة قصد الثواب للخلوص ، إذ من يقصده خاصة لم يقصد حمد الغير ، ولأنّ حمد الله سبحانه ثواب منه له.

ويدل أيضا على حصول الامتثال بقصد أحدهما : كلّ ما دل ( من الآيات المتكثرة والأخبار المتواترة ) (٦) على مدح العمل بأحد القصدين والأمر به المستلزمين للقبول الملازم للصحة.

فمن الآيات ما تقدم ، سيما مع تفريع قوله ( فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ ) (٧) عليه ، وقوله سبحانه ( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ) (٨) ، ( وَيَدْعُونَنا

__________________

(١) في ص ٤٦‌

(٢) لا توجد في « ه‍ » و « ق ».

(٣) آل عمران : ٦٧.

(٤) الكافي ٢ : ١٥ الايمان والكفر ب ١١ ح ١ ، الوسائل ١ : ٥٩ أبواب مقدمة العبادات ب ٨ ح ١ ، والآية في الروم : ٦٧.

(٥) الكافي ٢ : ١٦ الايمان والكفر ب ١١ ح ٤ ، الوسائل ١ : ٦٠ أبواب مقدمة العبادات ب ٨ ح ٤.

(٦) ما بين القوسين ليس في « ق ».

(٧) الدهر : ١٠.

(٨) السجدة : ١٦.

٤٩

رَغَباً وَرَهَباً ) (١) ، ( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٢) والفلاح : الفوز بالثواب ، ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (٣) وغير ذلك.

ومن الروايات : رواية جابر وابن أبي سارة وعلي بن محمّد :

الأولى : « اعملوا لما عند الله » (٤).

والثانية : « لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا ، ولا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو » (٥).

والثالثة : وفيها ـ بعد تكذيبه الذين يعصون ويقولون نرجو ـ : « من رجا شيئا عمل له ، ومن خاف شيئا هرب منه » (٦).

ويدل عليه : كتاب أمير المؤمنين عليه‌السلام لبعض ما وقفه : « هذا ما أوصى به وقضى به في ماله عبد الله عليّ ابتغاء وجه الله ليولجني به الجنة ويصرفني به عن النار ويصرف النار عني » (٧).

فلو لم تكن العبادة بهذه النية صحيحة لم يصح له أن يفعل ذلك ويلقن به غيره ويظهره في كلامه.

وحسنة خارجة : « العبّاد ثلاثة : قوم عبدوا الله خوفا فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء ، وقوم عبدوا الله حبا له فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة » (٨).

__________________

(١) الأنبياء : ٩٠.

(٢) الحج : ٧٧.

(٣) آل عمران : ١٣٣.

(٤) الكافي ٢ : ٧٤ الايمان والكفر ب ٣٦ ح ٣.

(٥) الكافي ٢ : ٧١ الايمان والكفر ب ٣٣ ح ١١.

(٦) الكافي ٢ : ٦٨ الايمان والكفر ب ٣٣ ح ٦.

(٧) الكافي ٧ : ٤٩ الوصايا ب ٣٥ ح ٧ ، التهذيب ٩ : ١٤٦ ـ ٦٠٨ ، الوسائل ١٩ : ١٩٩ أبواب أحكام الوقوف والصدقات ب ١٠ ح ٣.

(٨) الكافي ٢ : ٨٤ الايمان والكفر ب ٤٢ ح ٥ ، الوسائل ١ : ٦٢ أبواب مقدمة العبادات ب ٩ ح ١.

٥٠

فإنّ قضية التفضيل أنّ للأولين أيضا فضلا ، بل قوله : « عبادة العبيد » و « عبادة الأجراء » دال على الصحة ، إذ لولاها لما كانت عبادة.

والأخبار المصرحة بأنّ « من بلغه ثواب على عمل فعمله التماس ذلك الثواب أوتيه » (١).

ولو لم يكن العمل صحيحا لم يترتب عليه ثواب ، ولا شك أنّ كلّ ما أمر به الشارع ومنه الوضوء موعود به الثواب خصوصا أو عموما ، صريحا أو التزاما.

وما ورد من وعد الثواب والتحذير عن العقاب ، والوعد والوعيد في مقابلة الطاعات وترك الواجبات ، مثل ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) (٢) و : ( ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ) (٣) و ( مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) (٤) و ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ ) (٥).

وما ورد : أنّ صلاة الليل تزيد في الرزق (٦) ، والزكاة تحفظ المال (٧) ، والصدقة تردّ البلاء (٨) إلى غير ذلك عموما ، وخصوصا كل فعل فعل من أفعال الوضوء ، فإنّها ظاهرة في التشويق في العمل ، وليس ذلك إلاّ بفعله لأجله ، فلو كان مفسدا لكان الوعد والوعيد بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبثا ، بل مخلا ، حيث إنّ الوعد على فعل بما هو من عظيم المقصود للعقلاء ثمَّ إرادة فعله لا لأجله كأنّه تكليف بما لا يطاق.

وعدم دلالة بعض ما مرّ على صحة كل ما فعل بقصد الثواب أو رفع العقاب غير ضائر ، لعدم القول بالفصل.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٨٠ أبواب مقدمة العبادات ب ١٨.

(٢) البقرة : ٢٤٤.

(٣) البقرة : ١١٠.

(٤) الزلزلة : ٦.

(٥) إبراهيم : ٦.

(٦) راجع الوسائل ٨ : ١٤٥ أبواب بقية الصلوات المندوبة ب ٣٩.

(٧) راجع الوسائل ٩ : ٩ أبواب ما تجب فيه الزكاة ب ١.

(٨) الوسائل ٩ : ٣٨٣ ، ٣٨٦ أبواب الصدقة ب ٨ ، ٩.

٥١

هذا كله ، مضافا إلى تعذر فهم ما هو من ذلك لأكثر الناس فضلا عن تعاطيه ، فإنّ تخليص القصد من الثواب والعقاب وقصر النظر إلى جناب الحق ليس شريعة لكل وارد ، فتكليف عامة الناس به كأنّه تكليف بما لا يطاق.

خلافا فيهما لجماعة منهم السيّد الجليل علي بن طاوس (١) ، فقالوا بوجوب قصد مجرد الامتثال وما بمعناه ، وبطلان العبادة بقصد نيل الثواب أو الخلاص من العقاب.

ونسبه غير واحد (٢) إلى المشهور ، والشهيد في قواعده (٣) أسنده إلى الأصحاب مؤذنا بدعوى الوفاق عليه ، ونقل الرازي في تفسيره (٤) اتفاق المتكلمين عليه.

استنادا إلى الخبرين الأوّلين ، وما يؤدي مؤداهما من وجوب كون العمل لله أو خالصا له.

وهو بعد دلالة بعض ما مر على أنّ العمل بالقصدين أيضا عمل خالص له لا وقع له ، سيما مع معارضته مع سائر ما تقدم ، مع أنّه لا معنى محصّل للعمل لله إلاّ بتقدير مثل الطاعة أو الرضا أو الأمر أو غير ذلك ، ولا يتعين المقدّر ، فيمكن أن يكون ما يشمل الوصول إلى ثوابه أو الخلاص من عقابه أيضا ، فلا يعلم منافاة الخبرين لما ذكرنا.

والمراد من الثواب هو ما قرره الله أجرا للعمل دنيويا كان أم أخرويا ، لعموم كثير مما تقدم ، بل ورود خصوص الدنيوي أيضا كما مر ، فلا يبطل بقصد طلب الأغراض الدنيوية التي وعدها الله سبحانه منه إذا كانت من المباحات. وأمّا إذا‌

__________________

(١) اشتهرت في كلماتهم نسبة هذا القول اليه ، ويمكن ان يستفاد من مواضع من كتابه « فلاح السائل » ص ٥٦ ، ٨١ ، ٨٨ ، ١٣١ ، ويستفاد أيضا من العلامة في أجوبة المسائل المهنائية : ٨٩.

(١) كصاحب الحدائق ٢ : ٧٧.

(٢) القواعد والفوائد ١ : ٧٧.

(٣) التفسير الكبير ١٤ : ١٣٤ في ذيل قوله تعالى : وادعوه خوفا وطمعا ( الأعراف : ٥٦ ).

٥٢

كانت من غيرها كقتل عدوّ لم يستحقه ، أو التوصّل إلى محرّم آخر فيصلي صلاة الحاجة مثلا له فيبطل العمل وإن لم يعلم قطعا ترتّب المحرّم عليه ، لأنّ هذا العمل يعدّ عصيانا عرفا ، فيكون منهيا عنه ، وأيضا هو اتّباع للهوى ومتابعة للشيطان ، وهما منهيان.

ثمَّ المراد بالقربة اللازم قصدها هو ما يؤدّي ذلك المؤدي ، كالطاعة وموافقة الإرادة ونحوها ، ولا يلزمه ملاحظة لفظ القربة ، فإنّ العبرة بالحقائق دون الألفاظ.

فائدة : قد استشكل جماعة (١) في وجه اشتراط النية في الطهارة عن الحدث دون الخبث ، وسبب التفرقة بينهما ، حتى ارتكبوا في التوجيه تمحلات وتكلّفات ، ومع ذلك لم يذكروا شيئا تاما.

ولا يخفى أنّ المراد بالطهارة عن الخبث إن كان ترتّب الثواب عليها أو امتثال الشارع ( لنيل الثواب ) (٢) ونحوه فلا نسلّم عدم توقفها على النية بل توقفها عليها إجماعي ، مع أنّ الامتثال لا يتحقق عرفا إلاّ بفعل صادر عن الممتثل بقصده الامتثال ، وأيضا الامتثال لا يتحقق إلاّ بعمل منه ولا عمل إلاّ بنية.

وإن كان المراد حصول الطهارة وزوال الخبث فعدم توقفها على النية مسلّم.

والاستشكال فيه إن كان في تفرقة الشارع بينهما ، وسبب فرقه بإيجابه النية في الأوّل دون الثاني ، فهو كالاستشكال في السؤال من فرقه بين صلاة الصبح والظهر بجعل الأولى ركعتين والثانية أربع ، ومثله لا يصدر عن فقيه.

وإن كان في تفرقة الفقهاء وإجماعهم على ذلك وكان السؤال عن مستندهم فيه ، فمع أنّه إجماعي ، ولا يتعارف الاستشكال والسؤال عن مأخذ الإجماع بل هو بنفسه كاف في وجه الفرق ، مستنده واضح ، وذلك لدلالة الإجماع والأخبار على‌

__________________

(١) راجع المدارك ١ : ١٨٤ ، وحاشيته للوحيد البهبهاني : ٤٢ ، والحدائق ٢ : ٢١٩.

(٢) في « ح » : كغسل الثوب.

٥٣

كون الوضوء والغسل عبادة ، وقد عرفت أنّ العبادة متوقفة على النية.

وأيضا : ما ورد في الطهارة عن الحدث كله أوامر يطلبها من المكلف ، فلا يتحقق إلاّ بعمل منه ولا عمل إلاّ بنية ، ويجب امتثالها ولا امتثال إلاّ بقصد ، وليس هناك دليل شرعي دال على حصول الطهارة الحدثية من غير استناد إلى فعل المكلف.

بخلاف الطهارة عن الخبث فإنّه وإن ورد فيها الأمر بالغسل وأمثاله ، ولكن الأدلة متوافرة على حصولها من غير ذلك أيضا ، كقولهم عليهم‌السلام : « كل شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر » (١).

وصحيحة هشام : عن السطح يبال عليه فيصيبه السماء فكيف فيصيب الثوب ، قال : « لا بأس به ما أصابه من الماء أكثر منه » (٢).

والمستفيضة الواردة في « أنّ الأرض يطهّر بعضها بعضا » (٣). وفي أنّ من وطئ العذرة ومشى في الأرض تطهر رجله (٤) وإن لم يشعر بالقذارة والطهارة و : « إنّ كل ما أشرقت الشمس عليه فقد طهر » (٥) إلى غير ذلك.

وبعد وجود مثل تلك الأدلة في الطهارة من الخبث ـ مضافة إلى عدم القول بالفصل ـ وعدمها في الحدث لا وجه للاستشكال.

فإن قيل : قد ورد الأمر بغسل الثوب وأمثاله ، وقد ذكرت عدم حصول الامتثال إلاّ بالنية ، ولازمه ترتّب العقاب على عدم الغسل وإن طهر بغيره.

قلنا : الأمر بالغسل أمر مقيد مشروط ببقاء النجاسة ، فبعد زوالها بأمر آخر يسقط الوجوب فلا ثواب ولا عقاب.

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٣ الطهارة ب ٩ ح ٣ ، الوسائل ١ : ١٤٦ أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٥.

(٢) الفقيه ١ : ٧ ـ ٤ ، الوسائل ١ : ١٤٤ أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ١.

(٣) راجع الوسائل ٣ : ٤٥٧ أبواب النجاسات ب ٣٢.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٥٧ أبواب النجاسات ب ٣٢.

(٥) الوسائل ٣ : ٤٥١ أبواب النجاسات ب ٢٩.

٥٤

المسألة الثالثة : ويجب اشتمالها أيضا على قصد ما لا يتحقق من أجزاء المأمور به إلاّ بالقصد ، يعني إذا كان المأمور به مركبا من أجزاء لا وجود لبعضها إلاّ بقصده يجب قصده ، كما إذا قال : أعط درهما لأجل الكفارة ، بأن يكون التعليل قيدا للمأمور به وجزءا له ، لا مجرد أن يكون سببا ، أو يقول : افعل كذا تطوعا أو وجوبا ، مع كون الوصفين قيدين.

ومنه مثل قوله : تصدّق وكفّر وآت الزكاة ، وتوضأ واغتسل ، فلا بدّ من قصد الصدقة والكفارة والزكاة عند الإعطاء ، والتوضؤ والاغتسال عند الغسل ( لتحقق الوصف المأمور به ) (١).

والوجه في اشتراطه ظاهر ، فإنّ الإتيان بتمام المأمور به ، وإيجاده واجب ، والامتثال عليه متوقف ، والمفروض عدم وجود هذا الجزء إلاّ بالقصد ، فلو لم يقصده لم يأت بتمام المأمور به ، فلا يوافقه فلا يكون صحيحا.

وأيضا : إذا كان القيد مما لا وجود له إلاّ بالقصد ، فأمر الشارع بالفعل مقيدا أمر به مع قصد القيد.

ويكفي في قصده العلم بأنّه هو ، ولا يجب الإخطار.

ولا فرق في ذلك بين اتحاد المأمور به كما مر ، أو تعدده واشتراكه بين أمرين ، كأن يقول مع ما مر : أعط درهما تصدقا.

ويستفاد من كلامهم أنّ اعتبار قصده إنّما هو في الثاني خاصة ، ولا يعتبر في الأوّل.

فإن كان نظرهم إلى أنّ فيه لوحدة المأمور به يكون مقصوده هو لا محالة ، ويستلزم الاتحاد لكونه مقصودا ، فهو تصريح باعتبار القصد أيضا ، ويرجع النزاع لفظيا ، مع أنّ اللزوم كليا ممنوع.

وإن كان نظرهم الى غير ذلك فلا وجه له.

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « ق » و « ه‍ ».

٥٥

فإن قلت : اعتباره إنّما هو للتميز وهو إنّما يحتاج إليه مع الاشتراك.

قلنا : لا نسلّم أنّه لذلك ، بل لأجل أنّه جزء المأمور به ، فلا يتحقق تمامه بدونه.

نعم ، لو ثبت التداخل في الفعل ( وكفاية ) (١) فعل واحد لهما بمعنى إسقاطه لهما لا انطباقه عليهما لامتناعه ، يسقط قصد الجزء المذكور ، لأنّ مرجعه إلى أنّ الفعل بدون القصدين مسقط له مع كلّ منهما ، وأمّا التداخل بمعنى إجزاء واحد منهما عن الآخر وإسقاطه إيّاه ، فلا يسقط وجوب قصد القيد ، إذ لا يتحقق واحد منهما بدون قصد القيد.

المسألة الرابعة : قالوا : يجب اشتمالها على المميز أيضا إذا اشترك الفعل بين فعلين أمر بهما ولم يتميزا إلاّ بالقصد. وزاد بعضهم : إن لم يتداخلا أيضا.

واستدلّوا عليه : بأنّه لا يتحقق الامتثال عرفا إلاّ به.

وبمثل قوله : « ولكل امرئ ما نوى » (٢).

وبأن الصحة عبارة عن موافقة الأمر ، وهذا الفعل الواحد الواقع بدون قصد المميز لو صح لكان إما موافقا للأمر بهذا الفعل ، أو لمشاركة ، أو لهما معا ، والأوّلان مستلزمان للترجيح بلا مرجّح ، مع أنّ المفروض عدم تميزه لأحدهما إلاّ بالقصد ، والثالث محال ، لعدم انطباق الواحد على المتعدد ، وزيد إلاّ مع التداخل المفروض انتفاؤه ، فلا يكون موافقا لأمر وهو معنى البطلان.

ويرد على الأوّل : منع توقف الامتثال عليه ، فإنّه لو قال المولى لعبده : امسح وجهك ، ثمَّ قال أيضا كذلك ، وأراد بكلّ مسحا على حدة ، ومسح العبد وجهه مرتين لأجل إطاعة مولاه ولم يقصد في شي‌ء منهما أنّه للأمر الأوّل أو الثاني يعدّ ممتثلا عرفا ، ويستحق ما وعد له من الأجر ، ولو مسح مرة من غير قصد أحد‌

__________________

(١) في « ح » : بمعنى كفاية.

(٢) أمالي الطوسي : ٦٢٩ ، الوسائل ١ : ٤٨ أبواب مقدمة العبادات ب ٥ ح ١٠.

٥٦

الأمرين يعدّ ممتثلا لأحدهما ، وهذا مما لا يرتاب فيه أصلا.

وعلى الثاني : بظهوره في نية التقرب ونحوه. سلّمنا ولكن إذا قصد الفعل يكون ذلك له وهو كاف ، إذ (١) لم يجب عليه غيره.

وعلى الثالث : أنّه لا يخلو إمّا لا تكون بين الفعلين جهة مغايرة أصلا أو تكون ، فإن لم تكن ـ كمثال المسح المذكور ـ نختار شقا غير الشقوق المتقدمة ونقول : إنّ الفعل الواقع موافق لكل واحد منهما منفردا ، كما إذا قال من عنده ذراع من خشب وذراع آخر منه لعبده : ايتني بمساو لهذا وبمساو لذلك من النحاس ، فأتى بذراع من نحاس ، فهو مطابق لكلّ منهما منفردا دون المجموع ، وتلزمه البراءة من أحدهما لا بعينه ، ولا ضير فيه أصلا ، فلو قال للمكلف : صم يوما من رجب ، ثمَّ قال : صم يوما منه أيضا ، وعلم أنّ المطلوب يومان ، فلو صام يوما واحدا بقصد طاعته امتثل أحد الأمرين ، وانطبق الفعل على كل واحد منهما منفردا ، لتساويهما من جميع الوجوه الداخلة في ذات المأمور به. وتقدّم أحدهما على الآخر غير مؤثر في تغاير المأمور به.

وإن كانت بينهما جهة تغاير يتوقف تحققها على قصدها ، فإن كانت من الحيثيات التقييدية للمأمور به ، أي يكون قيدا له وجزءا منه كما مر في المسألة السابقة ، فلا شك في اشتراط قصده ، ولكن لا لأجل توقف حصول التميز عليه ، بل لعدم تحقق تمام المأمور به بدونه كما مر ، ولا يختص ذلك بصورة الاشتراك والتعدد ، بل يعتبر مع الوحدة أيضا ضرورة كما سبق.

وإن لم تكن من الحيثيات التقييدية له ، فنختار الموافقة لكل منفردا ، وتلزمه البراءة من أحدهما لا بعينه أيضا ، سواء كانت جهة المغايرة من أسباب الأمر بأن يكون سبب أحد الأمرين هذا وسبب الآخر ذاك ، أو من غاياته بأن تكون غاية أحدهما شيئا وغاية الآخر آخر ، أو من كيفيات الأمر دون المأمور به كأن يكون أحد‌

__________________

(١) في « ق » : إذا.

٥٧

الأمرين على سبيل الوجوب والآخر على الندب ، أو من آثار المأمور به وتوابعه ، كأن يكون لأحدهما أثر غير ما للآخر ، بشرط أن لا يكون شي‌ء من تلك الجهات قيدا ( للمأمور به ) (١) فإنّ ذاتي المأمور بهما تكون مساوية حينئذ غير مغايرة ، فلا وجه لعدم موافقة المأتي لشي‌ء منهما.

فإذا قال : صم يوما ، ثمَّ قال : صم يوما أيضا ، فليس المأمور به سوى الصوم ، وإن كان سبب أحد الأمرين شيئا وسبب الآخر آخر ، أو كان أحد الطلبين حتميا والآخر ندبا ، فلو صام يوما فلم لا ينطبق على أحدهما؟ مع أنّه لا ينقص من المأمور به شي‌ء.

نعم ، لا ينطبق عليهما معا ، لعدم انطباق الواحد على الاثنين ، ولعدم حصول التكرر الذي هو أيضا مأمور به.

فإن قلت : إذا كانت المغايرة حينئذ باعتبار الآثار والتوابع ، فأيّ أثر يترتب على الفعل الواحد الذي أتى به؟ كما إذا كان أحدهما وجوبيا والآخر ندبيا ، فأتى بواحد من غير تميز بين الوجوب والندب ، فكيف يمكن القول بالبراءة من أحدهما لا بعينه؟ مع أنّ أحدهما أقلّ ثوابا ، وتركه مستلزم للعقاب دون الآخر ، فإن أثبتّ له العقاب والثواب الأقل فقد أطبقته على الوجوب ، وإن قلت : إنّه غير معاقب ، وله الثواب الأكثر ، فقد أطبقته على الندب ، وكلاهما ترجيح بلا مرجّح ، وإن أطبقته عليهما فقد أطبقت الواحد على الاثنين وإن لم تطبقه على شي‌ء منهما اعترفت بالبطلان ، فما فائدة الانطباق على كلّ منفردا؟

وكذا لو نذر من عليه غسل واجب ـ كالجنابة ـ أن يرتمس في الماء زائدا على الغسل فارتمس مرة ، فإن قلت : إنّه برئ من النذر ، أو طهر من الجنابة ، ارتكبت الترجيح بلا مرجّح ، وإن قلت : حصل الأمران ، أطبقت الواحد على الاثنين ،

__________________

(١) لا توجد في « ق ».

٥٨

وإن قلت : لم يحصل شي‌ء منهما ، حكمت بالبطلان.

قلنا : لا نسلّم أنّ عدم الحكم بحصول شي‌ء من الأمرين حكم بالبطلان ، فإنّ الصحة في العبادات هي موافقة المأمور به ، وهي حاصلة قطعا ، ولا يلزم من عدم تعيّن ما يستتبعه خروجه عن موافقة المأمور به ، أو خروج الصحة عن كونه موافقة المأمور به ، فإنّ الصحة أمر وتعيّن ما يستتبعه ( أو نفس الاستتباع ) (١) أمر آخر ، والأوّل يتحقق بالموافقة ، والثاني إمّا بقصد المستتبع أوّلا نظرا إلى مثل قوله عليه‌السلام : « لكل امرئ ما نوى » و : « إنّما الأعمال بالنيات » أو بالإتيان بالفعلين معا ، ولا يلزم من عدم قصد المعيّن أوّلا البطلان وإن لزم عدم ترتب التوابع.

وتظهر الثمرة فيما لو فعل الآخر أيضا بلا قصد ، فعلى البطلان لا يترتب عليهما شي‌ء من التوابع ، وعلى ما ذكرنا يترتب التابعان ، وذلك كما إذا استسلف زيد من كل من عمرو وبكر غنما ، ورهن كل منهما متاعا عنده لما استسلف ، فوكّلا خالدا في إعطاء الغنم بعد حلول الأجل ، فأعطى غنما بلا قصد تعيين أنّه من عمرو أو بكر ، فإنّه لا يترتب عليه فك رهانة أحدهما ولا يستتبع أثرا ، بل هو موقوف إمّا على القصد أوّلا ، أو إعطاء الغنم الآخر أيضا. وكذا إذا فعل المأمور أحد الفعلين مع قصد المعيّن ونسيه ، فإنّه لا يحكم بالبطلان ولا يترتب شي‌ء من آثار أحدهما ، كمن عليه صوم نذر وكفارة فصام يوما بقصد معيّن ونسيه ، فيحكم بمقتضى الأصل بعدم سقوط شي‌ء منهما ، مع أن صومه صحيح.

والقول بأنّه سقط أحدهما واقعا ، ولكن لم يسقط ظاهرا ، للأصل ، كلام خال عن التحقيق ، إذ لا واقع في حقّ المكلّف إلاّ حكمه الظاهري كما بيّنا في الأصول.

__________________

(١) لا توجد في « ه‍ ».

٥٩

نعم ، لو كان عدم استتباع الفعل للتوابع مستندا إلى عدم موافقة المأمور به ، لكان مستلزما للبطلان ، وأمّا مطلقا ولو لمانع فلا.

هذا ، مع أنّه يمكن أن يقال : إنّه كما تحصل البراءة عن أحدهما لا بعينه ، كذلك يستتبع توابع أحدهما لا بعينه بمعنى التخيير ، فإن كان التابع مما يستند إلى المكلّف الآمر كإعطاء الثواب ونحوه فالتخيير له ، وإن كان مما يستند إلى المأمور كحصول التطهر له ، أو الوفاء بالنذر ونحوه ، فالتخيير له ، بمعنى أنّ له أن يجعله من أيّهما شاء ، فإنّ الفعل إذا انصرف إلى أحدهما بتعيينه المقارن للفعل يمكن الانصراف إليه بتعيينه المتأخّر ، فإنّ مثل قوله : « لكل امرئ ما نوى » يشمل ظاهرا مثل ذلك أيضا وإن كان الظاهر منه النية المقارنة ، فتأمّل.

وظهر من ذلك عدم وجوب قصد المميز في تحقق صحة الفعل للأصل ، إلاّ إذا كان المميز قيدا للمأمور به وجزءا له فيجب ، لما مر ، إلاّ مع ثبوت التداخل بالمعنى المذكور.

ولكن ها هنا أمرا آخر وهو أن كما أنه يجب الإتيان بالفعل الصحيح يجب تحصيل البراءة والإجزاء عن المأمور به أيضا ، ولا يمكن حصول البراءة والإجزاء عن واحد لا بعينه مع تعدد المأمور به واختلاف آثارهما أو غايتهما ، إذ لا معنى للبراءة والإجزاء عن شي‌ء له آثار وتوابع إلاّ حصولها وترتّبها ، ولا يتأتّى ذلك في واحد لا بعينه من الأمرين المختلفين في الآثار ، فيجب تعيين كلّ منهما تحصيلا للبراءة عنه والإجزاء ، ولكن لثبوت التداخل بالمعنى المذكور في الوضوء بل الأغسال لا يجري ذلك فيهما ، مع عدم التعدد في الوضوء المأمور به في حالة أبدا ، لأنّه إنما كان لو وقع الأمر بإحداث الوضوء لهذا ولذاك وهكذا ، وليس كذلك ، بل لم يثبت إلاّ مطلوبية كونه متطهرا عند هذا وذاك ندبا أو وجوبا ، وإنّما يجري في الصلاة ونحوها ، وسيأتي تحقيق ذلك في بحث نية الصلاة.

المسألة الخامسة : لا يشترط في نية الوضوء قصد الوجه ، وفاقا لكلّ من لم‌

٦٠