جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ١٢

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢١

______________________________________________________

والمكاتبة والمشتركة ، بخلاف المرهونة والمؤجرة والمستبراة والمعتدة عن وطء شبهة على الأقرب ، فيجوز النظر إليهن.

وأما المحارم ـ والمراد بهن : من حرم نكاحه مؤبدا ، بنسب أو رضاع أو مصاهرة ، بعقد أو ملك يمين ، واحترزنا بالقيد الأخير عن نحو أم المزني بها والموطوءة بالشبهة ، على القول بأن الشبهة والزنا ينشر حرمة المصاهرة ـ فإن نظرهن من الجانبين جائز إلى البدن كلّه ، مستورا وغير مستور ، إلاّ السوأة إذا لم تكن هناك ريبة ، لقوله تعالى ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ ) (١) ، ومع الضرورة المجوّزة للنظر إلى عورة الأجنبية وبالعكس يجوز هنا بطريق أولى ، ولا فرق فيما عدا العورة بين الوجه والكفين والثدي حال الإرضاع وسائر البدن.

ومنع بعض الشافعية من النظر إلى ما عدا الوجه والكفين من المحارم (٢).

واستثنى بعض النظر إلى الثدي حال الإرضاع لشدة الحاجة (٣) ، وفرّق بعضهم بين المحارم بالنسب وبين المحارم بالمصاهرة والرضاع (٤).

والكل ضعيف ، لأن الرضاع لحمة كلحمة النسب ، ولأن المحرمية معنى يوجب قطع المناكحة ، وتحريمها على التأبيد ، فكانا كالرجلين والمرأتين ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في كلام المصنف في المطلب الثالث في الرضاع من هذا الكتاب ، تحريم النظر إلى جسد المحارم وبيان ردّه.

د : نظر الأنثى إلى الذكر ، وهو كنظر الذكر إليها ، فكل موضع حكمنا بالتحريم ثمة حكمنا به في نظيره هنا ، وما لا فلا.

__________________

(١) النور : ٣١.

(٢) المجموع ١٦ : ١٤٠ ، مغني المحتاج ٣ : ١٢٩.

(٣) مغني المحتاج ٣ : ١٣٠.

(٤) المغني لابن قدامة ٧ : ٤٥٦ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٤٥.

٤١

______________________________________________________

وكما يحرم نظر الأجنبية الى البصير ، فكذا الأعمى ، لما روي أن أم سلمة قالت : كنت أنا وميمونة عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاقبل ابن أم مكتوم ، فقال : « احتجبا » فقلنا : إنه أعمى ، فقال عليه‌السلام « أفعمياوان أنتما؟ » (١).

فروع :

أ : قال المصنف في التذكرة (٢) : يجوز النظر الى شعر المجنونة المغلوبة وجسدها من غير تعمد لقول الصادق عليه‌السلام : « والمجنونة المغلوبة لا بأس بالنظر إلى شعرها وجسدها ما لم يتعمد ذلك » (٣).

وظاهر هذا أن النظر إليه (٤) من تحت الثياب ، والمراد بالتعمد المذكور : القصد إلى رؤيته ، فإنه مظنة الريبة (٥) ، بخلاف النظر إليه اتفاقا.

ب : الخنثى المشكل بالنسبة إلى الرجل والخنثى كالمرأة ، وبالنسبة إلى المرأة كالرجل ، لتوقف يقين امتثال الأمر بغض البصر والستر على ذلك.

وبعض العامة جوّز نظر الرجل والمرأة إليها وبالعكس ، استصحابا لما كان ثابتا في الصغر من حلّ النظر ، حتى يظهر خلافه (٦). وليس بشي‌ء ، لوجود الناقل عن ذلك ، والاشتباه غير مخلّ بتعلق الحكم ، لكن لو شكّت المرأة في كون الناظر رجلا‌

__________________

(١) مكارم الأخلاق : ٢٣٣ ، سنن البيهقي ٧ : ٩٢.

(٢) التذكرة ٢ : ٥٧٤.

(٣) الكافي ٥ : ٥٢٤ حديث ١ الفقيه ٣ : ٣٠٠ حديث ١٤٣٨ ، علل الشرائع : ٥٦٥.

(٤) أي : إلى شعر المجنونة.

(٥) في « ض » : القصد إلى ما به مظنة الفتنة.

(٦) مغني المحتاج ٣ : ١٣٢.

٤٢

______________________________________________________

أو شك الرجل في كون المنظور إليه امرأة يلزم القول بالتحريم ، وهو محل تأمل ، ويمكن الفرق بإمكان استعلام الحال هنا ، بخلاف الخنثى ، ومن ثم وجب الأخذ بالاحتياط في التكاليف المتعلقة به.

ج : كل موضع حكمنا فيه بتحريم النظر ، فتحريم المس فيه أولى ، ولو توقف العلاج على مس الأجنبية دون نظرها ، فتحريم النظر بحاله ، وجواز النظر إلى وجه الأجنبية وكفّيها لا يبيح مسهما ، لأن المس أدعى إلى الفتنة وأقوى في تحريك الشهوة ، ولهذا لا يبطل الصوم بالإنزال المستند إلى النظر ، ويبطل بالمستند إلى الملامسة.

ويحرم على الرجل ذلك سوأة الرجل ، وكذا المرأة ، ويجوز ذلك الفخذ من فوق الإزار ، إلاّ مع خوف الشهوة والفتنة.

ويجوز مسّ جسد المحارم من غير شهوة أو تلذذ ، خلافا لبعض العامة (١) ، لحصول النفرة طبعا ، وانتفاء المحرّم ، وبعد تحريم تغميز البنت والأخت رجل أبيها وأخيها ومن جرى مجراهما ، ولثبوت حلّ النظر في الصغر ولم يثبت الناقل شرعا ، وخوف الافتتان منتف.

د : صوت المرأة عورة يحرم استماعه مع خوف الفتنة لا بدونه ، صرح بذلك المصنف في التذكرة (٢) ، وينبغي لها أن تجيب المخاطب لها أو قارع الباب بصوت غليظ ولا ترخّم (٣) صوتها ، وقد روى الصدوق أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يسلّم على النساء ، وكان يكره أن يسلّم على الشابة منهن ، وقال : « أتخوّف أن يعجبني صوتها فيدخل من الإثم عليّ أكثر مما أطلب من الأجر » (٤).

__________________

(١) مغني المحتاج ٣ : ١٣٢ ـ ١٣٣.

(٢) تذكرة الفقهاء ٢ : ٥٧٣.

(٣) اي : ولا ترقق ، أنظر الصحاح ٥ : ١٩٣٠ رخم.

(٤) الفقيه ٣ : ٣٠٠ حديث ١٤٣٦.

٤٣

______________________________________________________

وفي الرواية إيماء إلى أن صوتها عورة ، وأن سماعة بدون خوف الفتنة لا يحرم.

قال الصدوق في الفقيه بعد أن أورد هذا الحديث : إنما قال عليه‌السلام ذلك لغيره وإن عبر عن نفسه ، وأراد بذلك التخوّف من أن يظن ظان أنه يعجبه صوتها فيكفر ، ولكلام الأئمة صلوات الله عليهم مخارج ووجوه لا يعقلها إلاّ العالمون (١).

وذهب بعض الشافعية إلى أن صوتها ليس بعورة ، لكن يحرم استماعه (٢).

واعلم : أنه كما يحرم استماع صوتها ، يحرم عليها إسماعه الأجانب ، كما يحرم عليها التكشّف.

هـ : يكره للرجلين أن يضطجعا في ثوب واحد ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ، ولا المرأة إلى المرأة في ثوب واحد » (٣) ومع الريبة يمنعان ويؤدبهما الحاكم ، ومع كون كل واحد منهما في جانب من الفراش فلا بأس.

وإذا بلغ الصبي والصبية عشر سنين فرّق بينه وبين امه وأبيه وأخته وأخيه في المضجع ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اضربوهم وهم أبناء عشر ، وفرّقوا بينهم في المضاجع » (٤) ولا يجب إلاّ مع خوف الفتنة.

و : يستحب مصافحة الرجل للرجل والمرأة للمرأة ، وأما مصافحة الرجل للمرأة ، فإن كانت أجنبية لم يجز إلاّ من وراء الثياب ، مع أمن الافتتان وعدم الشهوة ، روى أبو بصير أنه سأل الصادق عليه‌السلام هل يصافح الرجل المرأة ليست له بذي محرم؟

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٣٠٠.

(٢) اعانة الطالبين ٣ : ٢٦٠.

(٣) صحيح مسلم ١ : ٢٦٦ حديث ٣٣٨.

(٤) سنن أبي داود ١ : ١٣٣ حديث ٤٩٥ ، سنن البيهقي ٢ : ٢٢٩.

٤٤

والعضو المبان كالمتصل على اشكال ، واللمس في المحارم كالنظر.

______________________________________________________

قال : « لا إلاّ من وراء الثوب » (١).

وأما المعانقة والتقبيل بين الرجلين أو بين المرأتين فلا بأس ، مع عدم الشهوة وأمن الفتنة ، وروى الصدوق عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : « مباشرة المرأة ابنتها إذا بلغت ست سنين شعبة من الزنا » (٢) وسأل أحمد بن النعمان الصادق عليه‌السلام ، فقال له : جويرية ليس بيني وبينها رحم ولها ست سنين؟ قال : « لا تضعها في حجرك » (٣) وعنه عليه‌السلام قال : إذا بلغت الجارية ست سنين فلا يقبّلها [ الغلام ] (٤) ، والغلام لا يقبل المرأة إذا جاز سبع سنين » (٥).

قوله : ( والعضو المبان كالمتصل على إشكال ، واللمس في المحارم كالنظر ).

أي : العضو (٦) المنفصل ممن يحرم النظر إليه كالمتصل في تحريم النظر إليه على إشكال ، ينشأ : من أن مناط تحريم النظر إلى الأجنبية خوف الفتنة وحصول الشهوة ، وذلك منتف في المبان (٧) ، لأنه صار كالحجر ، ومن أن ثبوت تحريم النظر قبل الانفصال يجب استصحابه ، لعدم الناقل. وفي وجه للشافعية (٨) : أن المنفصل إن تميّز بصورته وشكله عما للرجل حرم ، لبقاء المحذور ، وإلاّ لم يحرم ، كقلامة الظفر والشعر والجلد‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ٥٢٥ حديث ٢ ، الفقيه ٣ : ٣٠٠ حديث ١٤٣٧.

(٢) الفقيه ٣ : ٢٧٥ حديث ١٣٠٦.

(٣) الفقيه ٣ : ٢٧٥ حديث ١٣٠٧ ، وفيه : سأل محمد بن النعمان أبا عبد الله عليه‌السلام فقال له : عندي جويرية.

(٤) زيادة من المصدر تقتضيها العبارة.

(٥) الفقيه ٣ : ٢٧٦ حديث ١٣١١.

(٦) في « ض » : الجزء.

(٧) في « ض » : وذلك منتف في الميل القلبي.

(٨) مغني المحتاج ٣ : ١٣٤ ، كفاية الأخيار ٢ : ٢٨.

٤٥

هـ : الخطبة مستحبة ، إما تعريضا كرب راغب فيك ، أو حريص عليك ، أو اني راغب فيك ، أو انك علي كريمة ، أو أن الله لسائق إليك خيرا أو رزقا.

ولو ذكر النكاح أبهم الخاطب ، كرب راغب في نكاحك.

______________________________________________________

المنكشطة.

والأصح التحريم مطلقا إذا كان مما يحرم النظر إليه متصلا ، وقوله : ( واللمس في المحارم كالنظر ) قد سبق بيانه في الفروع.

قوله : ( ه‍ : الخطبة مستحبة ، إما تعريضا كربّ راغب فيك ، أو حريص عليك ، أو إني راغب فيك ، أو إنك عليّ كريمة ، أو إن الله لسائق إليك خيرا أو رزقا ، ولو ذكر النكاح أبهم الخاطب ، كربّ راغب في نكاحك ).

الخطبة : ـ بالكسر ـ استدعاء نكاح المرأة ، ولا خلاف في جوازها في غير موضع النهي ، بل تستحب ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعل ذلك ، لأن النجاشي خطب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنت أبي سفيان عن أمره (١) ، وخطب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم سلمة ـ وقد توفي عنها ابن عمها ـ وهو متحامل على يده حتى أثّر الحصير في يده من شدة تحامله عليها (٢) ، وفعل الناس في الأزمنة المتعددة والبلاد المتباينة يدل عليه ، وليست شرطا للصحة قطعا.

ثم اعلم أن الخطبة أما تعريض أو تصريح ، والمخطوبة إما خليّة من زوج وعدة أو مشغولة بأحدهما ، والخاطب إما زوج أو أجنبي.

فالتصريح : الخطاب بما لا يحتمل إلاّ النكاح ، مثل : أريد أن أنكحك ، وإذا حللت فلا تفوّتي علي نفسك.

__________________

(١) في « ش » و « ض » : عن امرأة ، والمثبت من النسخة الحجرية ، وروى هذا الحديث الكليني في الكافي ٥ : ٣٦٧ حديث ١ ، والشيخ في التهذيب ٧ : ٤٠٩ حديث ١٦٣٣.

(٢) أي : متحامل على يده ، وروى هذا الحديث البيهقي في سننه ٧ : ١٧٨.

٤٦

ونهى الله تعالى عن المواعدة سرا إلاّ بالمعروف ، كأن يقول : عندي جماع يرضيك ، وكذا ان أخرجه مخرج التعريض كأن يقول : رب جماع يرضيك ، لأنه من الفحش.

______________________________________________________

والتعريض هو : الإتيان بلفظ يحتمل الرغبة في النكاح وغيرها ، مثل : ربّ راغب فيك ، أو حريص عليك.

والفرق بينه وبين الكناية : أن الكناية عبارة عن أن يذكر الشي‌ء بغير لفظ الموضوع له ، كقولك : طويل النجاد والحمائل لطويل القامة ، وكثير الرماد للمضياف ، والتعريض أن يذكر شيئا يدل به على شي‌ء لم يذكره (١) ، كقول المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلّم عليك ، ففي الأول المعنى المطلوب باللفظ غير موضوع له اللفظ ، وفي الثاني اللفظ المذكور يلوح منه ما يدل على المراد ، وهو اللفظ الدال على الطلب.

واعلم أيضا أن من ألفاظ التعريض قول القائل : إني راغب فيك ، أو إنك عليّ كريمة ، لأن ذلك يحتمل الرغبة في النكاح وغيره ، أما لو صرح بالنكاح فلا بد من إبهام الخاطب ، ليكون اللفظ محتملا لإرادة نكاحه ونكاح غيره ، وإلاّ لكان تصريحا.

والحاصل أنه إن صرح برغبة نفسه أبهم النكاح ، ليحتمل اللفظ النكاح وغيره ، وإن صرح بالنكاح أبهم الراغب ، ليكون اللفظ تعريضا بالنسبة إليه ، وفي الذي قبله تعريض بالنسبة إلى النكاح ، وقد روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لفاطمة بنت قيس : « إذا حللت فأذنيني ولا تفوتيني نفسك » (٢).

قوله : ( ونهى الله تعالى عن المواعدة سرا إلاّ بالمعروف ، كأن يقول : عندي جماع يرضيك ، وكذا إن أخرجه مخرج التعريض ، كأن يقول : ربّ جماع يرضيك ، لأنه من الفحش ).

__________________

(١) في « ض » : يدل على شي‌ء لم يذكر.

(٢) انظر : سنن أبي داود ٢ : ٢٨٥ و ٢٨٦ حديث ٢٢٨٤ و ٢٢٨٧ ، سنن البيهقي ٧ : ١٧٨.

٤٧

وإما تصريحا كأن يقول : إن انقضت عدتك تزوجت بك.

وكلاهما حرام لذات البعل ، وللمعتدة الرجعية وللمحرمة أبدا كالمطلقة تسعا للعدة ، وكالملاعنة ، وكالمرضعة ، وكبنت الزوجة ممن حرمت عليه. ويجوز التعريض لهؤلاء من غيره في العدة والتصريح بعدها.

______________________________________________________

قال الله تعالى‌ وتقدّس ( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً ) (١) وتقدير الكلام : علم الله أنكم ستذكرونهن ولا تواعدوهن سرا ، والسر : وقع كناية عن الوطء ، ومعناه : لا تواعدوهن جماعا إلاّ بالتعريض ، بحيث لا يكون في الكلام لفظ يدل على الجماع صريحا ، لأن ذلك من الفحش وليس من المعروف.

فعلى هذا لو أتى بلفظ يدل على الوطء صريحا وأبهم الفاعل ـ مثل : ربّ جماع يرضيك ـ كان منهيا عنه ، لأن التصريح بالجماع فحش ، ولا يزول الفحش بإبهام الفاعل ، وقد صرح المصنف في التحرير (٢) والتذكرة (٣) بأن هذا النهي للكراهة.

قوله : ( وإما تصريحا ، كأن يقول : إذا انقضت عدتك تزوجت بك ).

هذا معطوف على قوله : ( إما تعريضا كربّ راغب فيك ... ) ، وقوله : ( ونهى الله تعالى ... ) معترض.

وهنا سؤال ، وهو : أن قوله : ( الخطبة مستحبة إما تعريضا كربّ راغب فيك. وإما تصريحا ) يقتضي استحباب كلّ من القسمين ، فكيف ينتظم مع قوله : ( وكلاهما حرام لذات البعل ... )؟

وجوابه : أن المراد أن الخطبة مستحبة إما تعريضا وإما تصريحا في الجملة ، لا في‌

__________________

(١) البقرة : ٢٣٥.

(٢) تحرير الأحكام ٢ : ٥.

(٣) تذكرة الفقهاء ٢ : ٥٧٠.

٤٨

______________________________________________________

كل موضع ولا بالنسبة إلى كلّ امرأة ، بل في مواضع مخصوصة ، فربما حرمت مطلقا في بعض النساء ، وربما حرم التصريح دون التعريض.

وتنقيحه يحصل بقوله : ( وكلاهما حرام ـ لذات البعل ، وللمعتدة الرجعية ، والمحرّمة أبدا : كالمطلّقة تسعا للعدة ، وكالملاعنة ، وكالمرضعة ، وكبنت الزوجة ـ ممن حرمت عليه ، ويجوز التعريض لهؤلاء من غيره في العدة ، والتصريح بعدها ).

أراد بقوله : ( وكلاهما ) التعريض بالخطبة والتصريح بها.

ولا شبهة في تحريم خطبة ذات البعل تعريضا وتصريحا ، بواسطة وبغيرها ، ولا خلاف في ذلك بين العلماء ، ولما في ذلك من الفساد.

والمطلقة رجعيا زوجة ، فيحرم خطبتها.

والمحرّمة أبدا ـ كالمطلقة تسعا للعدة ، وكالملاعنة ، وكالمرضعة ، وكبنت الزوجة المدخول بها ، ومن جرى مجراهن ـ يحرم أيضا خطبتهن ممن حرمن عليه تصريحا وتعريضا ، لامتناع نكاحه لهنّ شرعا.

وأما غيره ، فإنه يجوز له التعريض لهنّ في العدة البائنة ، سواء كانت لمن حرمن عليه أم لغيره ، والتصريح مع الخلوّ عنها وعن الزوج ، لانتفاء المانع.

والمراد بالمرضعة في قوله : ( وكالمرضعة ) الأم من الرضاعة ، وهو المتبادر من سوق الكلام ، ويمكن تكلّف إدراج كلّ من حرمت بالرضاع على الشخص ، كمرضعة أبيه مثلا.

والجار في قوله : ( ممن حرمت عليه ) يتعلق بما دل عليه قوله : ( وكلاهما حرام ) أي : وصدور كليهما حرام ممن حرمت عليه إلى آخره.

والضمير المستتر في ( حرمت ) يعود إلى كل واحدة من المحرمات مؤبدا المذكورات ، وليس ببعيد عوده إلى جميع المذكورات ( ذات البعل ) ومن بعدها ، فان كل من حرم عليه المذكورات بشي‌ء من الأمور المذكورة يحرم عليه خطبتهن تعريضا‌

٤٩

والمطلقة ثلاثا يجوز التعريض لها من الزوج وغيره.

ويحرم التصريح منهما في العدة ، ويجوز من غيره بعدها ، والمعتدة بائنة كالمختلعة.

والمفسوخ نكاحها يجوز التعريض لها من الزوج وغيره ، والتصريح من الزوج خاصة

______________________________________________________

وتصريحا.

قوله : ( والمطلّقة ثلاثا يجوز التعريض لها من الزوج وغيره ، ويحرم التصريح منهما في العدة ، ويجوز من غيره بعدها ).

لما كانت المطلّقة ثلاثا حراما على المطلّق إلى أن تنكح زوجا غيره ، كان التصريح من الزوج لها بالخطبة حراما في العدة وبعدها ، لأنها إذا تحققت رغبة الزوج فيها بالتصريح بالخطبة ، لم يؤمن أن يكذب في دعوى انقضاء العدة وحصول التحليل إن اكتفينا بقوله فيه ، بخلاف التعريض ، فإنه لا يتحقق به ذلك ، ويجوز التعريض منه في الحالين ، فان تحريمها غير مؤبد ، والمحذور مندفع.

وأما بالنسبة إلى غير المطلّق ، فان التصريح لها حرام في العدة خاصة ، فيجوز التعريض لها في العدة والتصريح بعدها ، لانتفاء المحذور حينئذ ، بخلاف ما إذا كانت في العدة ، والظاهر أنه لا خلاف في ذلك.

قوله : ( والمعتدة بائنا ـ كالمختلعة ، والمفسوخ نكاحها ـ يجوز التعريض لها من الزوج وغيره والتصريح من الزوج خاصة ).

أما الزوج فإن العدة له ، ويجوز إنشاء النكاح حينئذ ورجوعها في عوض الخلع ليرجع ، فلا محذور في التصريح بالخطبة ، سواء كان الفسخ من قبله أم من قبلها.

وأما غيره ، فان المحذور بتصريحه بالخطبة لها قائم في العدة منتف بعدها ، فيمنع من التصريح فيها لا بعدها ، ويندرج في المعتدة بائنا المتوفى عنها زوجها ، ولا فرق في هذه المسائل بين أن تكون المخطوبة حاملا أم لا.

٥٠

والإجابة تابعة.

ولو صرح في موضع المنع أو عرض في موضعه ، ثم انقضت العدة ، لم يحرم نكاحها. ولو أجابت خطبة زيد ففي تحريم خطبة غيره نظر ، إلاّ المسلم على الذمي في الذمية ، ولو عقد الغير صح.

______________________________________________________

قوله : ( والإجابة تابعة ).

أي : إجابة المرأة خطبة الخاطب تابعة للخطبة في الجواز والتحريم ، فيحرم التصريح في الجواب في كلّ موضع يحرم التصريح بالخطبة ، ويجوز في موضع جوازه ، وكذا التعريض.

قوله : ( ولو صرح في موضع المنع أو عرض في موضعه ، ثم انقضت العدة لم يحرم نكاحها ).

أي لو صرح بالخطبة في موضع المنع من التصريح ، أو عرض بها في موضع المنع من التعريض ، ثم زال المانع ـ وهو : العدة حيث يكون المانع العدة فقط ـ لم يحرم نكاحها ، لأن المعصية السابقة لا تؤثر في النكاح اللاحق ، كما لو نظر إليها في وقت يحرم النظر ، ثم أراد نكاحها.

قوله : ( ولو أجابت خطبة زيد ، ففي تحريم خطبة غيره نظر ، إلاّ المسلم على الذمي في الذمية ، ولو عقد الغير صح ).

إجابة خطبة الخاطب تتحقق بتصريحها بالإجابة ، مثل أن تقول : قد أجبتك إلى ذلك ، أو تأذن لوليّها أن يزوجها منه إن كانت ثيبا ، أو تسكت إذا استأذنها وليّها فيه إن كانت بكرا ، فان ذلك يجري مجرى الأذن ، أو تكون ممن تجبر فلا يجيزها وليّها ، فيصرح الولي بالإجابة.

ومنشأ النظر : من أن الأصل الإباحة ، وبالإجابة لا تصير زوجة ، وإنما أمرها بيدها أو بيد وليّها فيجوز.

٥١

و : خص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأشياء في النكاح وغيره ، وهي إيجاب السواك عليه ، والوتر ، والأضحية ، وإنكار المنكر وإظهاره ، ووجوب‌

______________________________________________________

ومن ظاهر قوله عليه‌السلام : « لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه » (١) فإن النهي ظاهر في التحريم ، ولما في ذلك من إيذاء المؤمن وكسر خاطره وإثارة الشحناء والبغضاء ، وفي النهي عن الدخول في سوم المؤمن إيماء إلى ذلك وتنبيه عليه ، ولا يضرّ عدم ثبوت الحديث ، لأن الاجتناب طريق الاحتياط.

ولو لم يصرح بالإجابة ، بل أتى بما يشعر بالرضا ، مثل : لا رغبة عنك ، فوجهان :

أحدهما : ـ وهو مقرّب التذكرة ـ (٢) عدم التحريم ، لأن خطبة الثاني لم تبطل شيئا.

والثاني : التحريم ، لظاهر الحديث.

ولو لم توجد إجابة ولا رد أمكن طرد الوجهين ، نظرا إلى ظاهر الحديث ، وعدم التحريم في الموضعين قويّ ، تمسكا بالأصل ، إذ لا معارض يعتد به.

ويجوز الاقدام على خطبة من لا يعلم أخطبت أم لا ، أو لم يعلم أن الخاطب أجيب أم لا.

وهذا كلّه في الخاطب المسلم ، أما الذمي إذا خطب الذمية ، فإن الأصح أن إجابته لا تمنع جواز خطبة المسلم ، للأصل ، ولظاهر قوله عليه‌السلام : « على خطبة أخيه ».

ولو أقدم الغير على الخطبة في موضع التحريم وعقد صح النكاح ، إذ لا منافاة بين تحريم الخطبة وصحة العقد.

قوله : ( وخصّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأشياء في النكاح وغيره ، وهي : إيجاب السواك عليه ، والوتر ، والأضحية ، وإنكار المنكر وإظهاره ،

__________________

(١) سنن الترمذي ٢ : ١٣٥ ، سنن ابي داود ٢ : ٢٢٨ حديث ٢٠٨١ ، سنن النسائي ٦ : ٧٣ ، سنن البيهقي ٧ : ١٧٩.

(٢) التذكرة ٢ : ٥٧٠.

٥٢

التخيير لنسائه بين إرادته ومفارقته بقوله ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) الآية ، وهذا التخيير كناية عن الطلاق إن اخترن الحياة الدنيا. وقيام الليل ، وتحريم الصدقة الواجبة والمندوبة على خلاف ، وخائنة الأعين وهو الغمز بها ، ونكاح الإماء بالعقد والكتابيات ، والاستبدال بنسائه ، والزيادة عليهن حتى نسخ بقوله تعالى ( إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ) الآية ، والكتابة ، وقول الشعر ، ونزع لأمته إذا لبسها قبل لقاء العدو.

______________________________________________________

ووجوب التخيير لنسائه بين إرادته ومفارقته ـ لقوله تعالى ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ) (١) الآية ، وهذا التخيير كناية عن الطلاق إن اخترن الحياة الدنيا ـ وقيام الليل ، وتحريم الصدقة الواجبة والمندوبة على خلاف ، وخائنة الأعين وهو : الغمز بها ، ونكاح الإماء بالعقد ، والكتابيات ، والاستبدال بنسائه والزيادة عليهن حتى نسخ بقوله تعالى ( إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ) (٢) الآية ، والكتابة وقول الشعر ، ونزع لأمته إذا لبسها قبل لقاء العدوّ ).

قد جرت عادة الفقهاء بذكر خصائص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هنا ، لأنهم ذكروا خصائصه في النكاح ، ثم سحبوا البحث إلى خصائصه في غيره ، وقد كان المناسب الابتداء بذكر خصائصه في النكاح ، لأن غيرها مذكور هنا استطرادا.

ولا يخفى أن خصائصه التي شرفه الله تعالى بها وميّزه عن سائر خلقه ، تنقسم إلى تغليظات وتخفيفات وكرامات ، وكلّ منها إما في النكاح أو في غيره ، والتغليظات إما واجبات أو محرمات ، وقد بدأ المصنف بها ، وذكر ثلاثة عشر أمرا :

أ : إيجاب السواك عليه.

__________________

(١) الأحزاب : ٢٨.

(٢) الأحزاب : ٥٠.

٥٣

______________________________________________________

ب : الوتر.

ج : الأضحية ، روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « كتب عليّ ولم يكتب عليكم السواك والوتر والأضحية » (١) وفي حديث آخر : « كتب عليّ الوتر ولم يكتب عليكم ، وكتب عليّ السواك ولم يكتب عليكم ، وكتب عليّ الأضحية ولم يكتب عليكم » (٢).

د : إنكار المنكر إذا رآه وإظهار الإنكار ليعلم ، لأن إقراره عليه‌السلام على فعل يقتضي جوازه ، وقد وعده الله تعالى بالعصمة من الناس وتكفّل له بالنصر ، فقال سبحانه ( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (٣).

هـ : وجوب التخيير لنسائه بين مفارقته ومصاحبته ، لقوله تعالى ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ) إلى قوله ( أَجْراً عَظِيماً ) (٤).

والأصل في ذلك : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آثر لنفسه الفقر وصبر عليه ، فأمر بتخيير نسائه بين مفارقته واختيار زينة الحياة الدنيا ، وبين مصاحبته والصبر على مرارة الفقر ، لئلاّ يكون مكرها لهنّ على صبر الفقر (٥).

ثم إنهنّ لمّا اخترنه والدار الآخرة ، حرّم الله سبحانه عليه التزويج عليهنّ والتبدّل بهن ، ـ مكافأة لهنّ على حسن صنعهنّ ـ بقوله تعالى ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ) (٦).

__________________

(١) المجموع ١٦ : ١٤٢ ، سنن البيهقي ٧ : ٣٩.

(٢) مسند أحمد ١ : ٣١٧ ، سنن الدار قطني ٤ : ٤٠ حديث ٤٢ ، سنن البيهقي ٩ : ٢٦٤.

(٣) المائدة : ٦٧.

(٤) الأحزاب : ٢٨.

(٥) في « ض » : على ضر الفقر.

(٦) الأحزاب : ٥٢.

٥٤

______________________________________________________

ثم نسخ ذلك ـ لتكون المنّة له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بترك التزوّج عليهنّ ـ بقوله تعالى ( إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاّتِي آتَيْتَ ) (١) الآية.

وروي أن بعض نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلبت منه حلقة من ذهب ، فصاغ لها حلقة من فضة وطلاها بالزعفران ، فقالت : لا أريد إلاّ من ذهب ، فاغتمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك ، فنزلت آية التخيير (٢).

وقيل : إنما خيرهن لأنه لم يمكنه التوسعة عليهن ، وربما يكون فيهنّ من تكره المقام معه على ذلك ، فنزّهه الله تعالى عن ذلك بالأمر بالتخير (٣).

إذا عرفت ذلك ، فهذا التخيير عند العامة كناية عن الطلاق ، يقع إذا اختارت نفسها ونويا معا ، فان لم ينويا أو لم ينو أحدهما لم يقع به شي‌ء (٤).

قال قوم : إنه صريح فيه ، وقال آخرون : إنه لا يكون طلاقا أصلا ، بل الطلاق اختيارها نفسها ، لقوله تعالى ( فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ) (٥) ولو كان ذلك طلاقا لم يكن للتسريح بعده معنى ، وهذا الأخير هو الجاري على أصولنا ، فإن الطلاق لا يقع بالكنايات ، وليس في الآية ما يقتضي مخالفة حكمه لحكمنا في ذلك ، وقد نبّه المصنف على ذلك في التذكرة (٦) ، ومن هذا يعلم أن قوله هنا : ( وهذا التخير كناية عن الطلاق ) ليس بجيد.

و : قيام الليل ، لقوله تعالى ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ) (٧) وإن أشعر‌

__________________

(١) الأحزاب : ٥٠.

(٢) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١٤ : ١٦٢.

(٣) المصدر السابق.

(٤) انظر : أحكام القران للكيا الهراسي ٤ : ٣٤٥.

(٥) الأحزاب : ٢٨.

(٦) التذكرة ٢ : ٥٦٦.

(٧) الإسراء : ٧٩.

٥٥

______________________________________________________

لفظ النافلة بالسنّة ، لكنها في اللغة الزيادة ، فلا ضرورة إلى التجوّز بلفظ الأمر.

ولقائل أن يقول : إيجاب قيام الليل يغني عن التعرّض لإيجاب الوتر ، لأن قيام الليل يتأدّى به.

ويمكن الجواب : بأن إيجاب قيام الليل لا يقتضي إيجاب الوتر بخصوصه ، فحيث كان واجبا بخصوصه تعيّن ذكره.

ز : تحريم الصدقة الواجبة ، صيانة لمنصبه العليّ عن أموال الناس التي تعطى على سبيل الترحم ، وينبئ ذلك عن ذلّ الآخذ ، وأبدل بالفي‌ء الذي يؤخذ على سبيل القهر والغلبة ، وينبئ عن عز الآخذ وذلّ المأخوذ منه.

ومشاركة أولي القربى إياه في تحريمها لا تقدح في كون ذلك من خصوصياته ، لأن التحريم عليهم بسببه ، فالخاصة عائدة إليه ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّا أهل بيت لا تحلّ لنا الصدقة ) (١).

واما المندوبة ، فان في تحريمها عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلاف ، والتحريم قويّ ، وقد بيّنا دليله في باب الصدقة.

ح : خائنة الأعين ، وهو : الغمز بها ، والمراد به : الإيماء إلى مباح ـ من نحو ضرب أو قتل ـ على خلاف ما يظهر ويشعر به الحال ، وإنما قيل له خائنة الأعين ، من حيث لأنه يشبه الخيانة من حيث انه يخفى ، ولا يحرم ذلك على غيره إلاّ في محظور.

قال في التذكرة : أن يظهر خلاف ما يضمر ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما كان لنبي أن يكون له خائنة الأعين » (٢) وطرد بعض ذلك في الحروب ، فمنع من الخدع فيها ، ورد بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد صح عنه أنه كان إذا أراد سفرا ورّى بغيره ، وبأن ذلك‌

__________________

(١) انظر : عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٩ حديث ٣٢ ، مسند أحمد ٢ : ٤٠٩ و ٣ : ٤٩٠.

(٢) سنن البيهقي ٧ : ٤٠ ، الخصائص الكبرى ٢ : ٢٣٨ ، وفيهما : لا ينبغي ان تكون لنبي خائنة الأعين.

٥٦

______________________________________________________

من الحزم المطلوب (١).

ط : نكاح الإماء بالعقد ، لأن ذلك لا يليق بمنصبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فان كون الزوجة مملوكة للغير محكوما عليها لغير الزوج مرذول ، ولأن نكاحها على الأصح مشروط بالخوف من العنت ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم من أدناس البشر ، وبفقدان طول الحرة ، ونكاحه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستغن عن المهر ابتداء وانتهاء.

أما وطؤها بملك اليمن فلا مانع منه.

ي : نكاح الكتابيات بالعقد ، لأن ذلك لا يليق بمنصبه العلي ، ولأن نساءه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمهات المؤمنين ، والكتابية بعيدة عن ذلك ، وهذا إن جوّزنا لغيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نكاحهنّ ، وإلاّ فالتحريم مشترك بينه وبين الأمة.

يا : الاستبدال بنسائه والزيادة عليهنّ ـ حتى نسخ بقوله تعالى ( إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ) (٢) الآية مكافأة على حسن صنعهنّ ، كما نبّهنا عليه فيما سبق.

يب : الكتابة وقول الشعر ، تأكيدا لحجته وإظهارا لمعجزته ، قال سبحانه ( وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) (٣) ( الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ) (٤) وقال تعالى ( وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ ) (٥) وفي ذلك دلالة على أنه ما كان يحسنهما.

والمصنف في التذكرة بعد أن حكى اختلاف قولي الشافعي (٦) ـ في أنه هل كان يحسنهما أم لا ـ قال : إنما يتّجه التحريم على الأول (٧) ، أي : على القول بأنه كان‌

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٢ : ٥٦٦ ، باختلاف وتقديم وتأخير.

(٢) الأحزاب : ٥٠.

(٣) العنكبوت : ٤٨.

(٤) الأعراف : ١٥٧.

(٥) يس : ٦٩.

(٦) المجموع ١٦ : ١٤٣.

(٧) تذكرة الفقهاء ٢ : ٥٦٦.

٥٧

وأبيح له أن يتزوج بغير عدد ، وأن يتزوج ويطأ بغير مهر وبلفظ الهبة ، وترك القسم بين زوجاته ، والاصطفاء ، والوصال ، وأخذ الماء من العطشان ، والحمى لنفسه.

وأبيح لنا وله الغنائم ، وجعل الأرض مسجدا وترابها طهورا.

وأبيح له دخول مكة بغير إحرام ، وإذا وقع بصره على امرأة ورغب فيها وجب على الزوج طلاقها.

______________________________________________________

يحسنهما ، وفيه بحث ، لأن تحريمهما إذا كان لا يحسنهما صحيح ، لأن فعلهما ممكن بالتعلّم ، فيحرم فعلهما والوسيلة إليه.

يج : نزع لأمته إذا لبسها قبل لقاء العدوّ ومقابلته ، قال عليه‌السلام : « ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن ينزعها حتى يلقى العدو » (١) واللامة : ـ مهموزة ـ الدرع ، وقيل : السلاح ، ولأمة الحرب أداته ، وقد يترك الهمز تخفيفا ، ذكره ابن الأثير في النهاية (٢).

قوله : ( وأبيح له أن يتزوّج بغير عدد ، وأن يتزوج ويطأ بغير مهر وبلفظ الهبة ، وترك القسم بين زوجاته ، والاصطفاء ، والوصال ، وأخذ الماء من العطشان ، والحمى لنفسه ، وأبيح لنا وله الغنائم ، وجعل الأرض مسجدا وترابها طهورا ).

وذكر في آخر المبحث أنه : ( أبيح له دخول مكة بغير إحرام ، وإذا وقع بصره على امرأة ورغب فيها وجب على الزوج طلاقها ).

قد ذكر المصنف من التخفيفات في النكاح وغيره أحد عشر نوعا :

أ : أبيح له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتزوج بغير عدد على أصح الوجهين ، لامتناع الجور عليه ، ولظاهر قوله تعالى ( إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاّتِي ) (٣) الآية.

__________________

(١) صحيح البخاري ٩ : ١٣٨ ، سنن الدارمي ٢ : ١٣٠ ، مسند أحمد ٣ : ٣٥١.

(٢) النهاية ٤ : ٢٢٠ لأم.

(٣) الأحزاب : ٥٠.

٥٨

______________________________________________________

وما روي عن عائشة قالت : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يمت حتى أحل له النساء (١) ، يعني : اللاتي حظرن عليه ، ومن ذلك الزيادة على نسائه.

وقد مات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تسع : عائشة ، وحفصة ، وأم سلمة بنت أبي أمية المخزومي ، وأم حبيبة رملة (٢) بنت أبي سفيان ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وجويرية بنت الحارث الخزاعية ، وسودة بنت زمعة ، وصفية بنت حييّ بن أخطب الخيبرية ، وزينب بنت جحش.

أما طلاقه فكطلاق غيره ينحصر في الثلاث ، لعموم النص (٣) ، خلافا لبعض الشافعية (٤).

ب : أبيح له أن يتزوج ويطأ بغير مهر وبلفظ الهبة ، لقوله تعالى ( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ ) (٥) فعلى هذا لا يجب بالعقد مهر ولا بالدخول قضية للهبة ، ويجوز أن يعقد هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلفظ الهبة ، كما لا يشترط لفظ النكاح من الواهبة ، فإن الإيجاب والقبول يجب أن يكون مورداهما واحدا ، وأن يتطابقا.

وقال بعض الشافعية (٦) : إنه يشترط في جهته لفظ النكاح ، وإن كان من جهة المرأة الهبة ، لظاهر قوله تعالى ( أَنْ يَسْتَنْكِحَها ) (٧).

ولا دلالة له على اشتراط لفظ النكاح ، إنما يدل على النكاح ، وهو ثابت في حقّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهبة.

__________________

(١) الخصائص الكبرى ٢ : ٢٣٢.

(٢) في « ش » و « ض » والنسخة الحجرية : وأم حبيبة ورملة ، وهو خطأ واضح ، لأن عدد نسائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكون عشرة ، ولأن اسم أم حبيبة رملة كما في السيرة النبوية لابن هشام ٤ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

(٣) انظر : الوسائل ١٥ : ٣٥٠ باب ٣ من أبواب أقسام الطلاق وأحكامه.

(٤) الخصائص الكبرى ٢ : ٢٤٨.

(٥) الأحزاب : ٥٠.

(٦) الخصائص الكبرى ٢ : ٢٤٧.

(٧) الأحزاب : ٥٠.

٥٩

______________________________________________________

ولو جرد نكاحه عن ذكر المهر ، فهل يجب مهر بالدخول كغيره أم لا؟ ـ إذ ليس من لوازم نكاحه ـ فيه وجهان.

ج : أبيح له ترك القسم بين زوجاته ، فإذا كانت عند واحدة ليلة لم يلزمه أن يبيت عند كل واحدة مثلها ، لقوله تعالى ( تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ) (١) اي تؤخر من تشاء وتترك مضاجعته ، وتضم إليك من تشاء وتضاجعه.

وأحد الوجهين للشافعية : أنه كغيره في وجوب القسم (٢) ، وبناؤهما على أن النكاح في حقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل هو كالتسري في حقنا ، فان قلنا : نعم ، لم ينحصر عدد منكوحاته ولإطلاقه ، وانعقد نكاحه بلفظ الهبة ومعناها ، وبغير وليّ وشهود ، وفي الإحرام ، ولم يجب عليه القسم ، وإلاّ انعكس الحكم.

وليس بشي‌ء ، بل المتّبع في ذلك النصوص الواردة (٣) ، والآية تنفي وجوب القسم فينتفي.

د : أبيح له اصطفاء ما يختاره من الغنيمة قبل القسمة ، كجارية حسناء ، وثوب مرتفع ، وفرس جواد وغير ذلك ، ويقال لما اختاره : الصفي والصفية والجمع الصفايا ومن صفاياه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صفية بنت حييّ بن أخطب ـ اصطفاها وأعتقها وتزوجها ـ وذو الفقار ، وعندنا أن الامام عليه‌السلام كالنبي في ذلك.

هـ : أبيح له الوصال ، وهو حرام على غيره ، قال في التذكرة : ومعناه أن يطوي الليل بلا أكل ولا شرب مع صيام النهار ، لا أن يكون صائما ، لأن الصوم في الليل لا ينعقد ، بل إذا دخل الليل صار الصائم مفطرا إجماعا ، فلما نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمته عن الوصال ، قيل له : إنك تواصل؟ فقال : إني لست كأحدكم ، إني أظل عند‌

__________________

(١) الأحزاب : ٥١.

(٢) كفاية الأخيار ٢ : ٤٧ ، الخصائص الكبرى ٢ : ٢٤٧.

(٣) انظر : التهذيب ٧ : ٤١٩ حديث ٦٧٩ ، الاستبصار ٣ : ٢٤٢ حديث ٨٦٦.

٦٠