جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ١٢

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢١

حرائر.

______________________________________________________

حرائر ).

أجمع الأصحاب على أنه لا يحل للرجل الحر من الإماء بالعقد الدائم أكثر من أمتين ، وهما من جملة الأربع ، فيحل له حرتان وأمتان ، ولا يحل له أربع إماء ، ولا ثلاث مع حرة وبدونها ، ولا أمتان مع ثلاث حرائر ، وهذا إنما هو على القول بجواز نكاح الأمة اختيارا.

أما عند من يعتبر الشرطين فلا يجوز نكاح الثانية ، لفقد الشرط. وقد سبق ذكره في كلام المصنف ، وذكرنا ما يرد عليه هناك ، وهنا مباحث :

أ : لا فرق في الأمة بين القنة والمدبرة والمكاتبة المشروطة والمستولدة والمطلقة التي لم تؤد شيئا ، وفيمن تحرر بعضها إشكال ينشأ : من عدم صدق اسم الحرة والأمة عليها. والأقرب التحريم نظرا إلى ما فيها من الرقية وتغليب جانب الحرية ، وسيأتي في كلام المصنف.

ب : يجوز للحر أن ينكح من الإماء والمتعة والتحليل ما شاء من غير حصر عدد ، وبه صرح المصنف في التحرير (١) ، والظاهر أنه لا خلاف في ذلك. ولو كان عنده حرة فهل يعتبر رضاها في ذلك؟ الظاهر نعم ، عملا بإطلاق الأخبار (٢).

ج : لا ريب أن الأمتين اللتين يجوز للحر نكاحهما دواما من جملة الأربع ، للإطباق على أنه لا يجوز نكاح ما زاد على أربع دواما. وقول المصنف : ( ولا يحل له نكاح ثلاث إماء ... ) قد يقال انه تكرار ، لأنه قد سبق في كلام المصنف قبل الفصل أنه لا خلاف في تحريم الثالثة.

ويمكن دفعه بأن الغرض هنا حصر جميع الصور ، فيكون تفصيلا بعد الإجمال.

__________________

(١) التحرير ٢ : ١٥.

(٢) الكافي ٥ : ٣٥٩ حديث ٤ ، التهذيب ٧ : ٣٤٤ و ٣٤٥ حديث ١٤١٠ و ١٤١١ و ١٤١٢.

٣٨١

وأما العبد فتحرم عليه بالدائم أكثر من حرتين ، وتحل له حرتان أو أربع إماء أو حرة وأمتان ، وله أن يعقد متعة ما شاء مع العدد وبدونه ، وكذا بملك اليمين.

ولو تجاوز العدد في عقد واحد ، ففي التخيير أو بطلان العقد اشكال كالحر ،

______________________________________________________

قوله : ( وأما العبد فتحرم عليه بالدائم أكثر من حرتين ، ويحل له حرتان أو أربع إماء أو حرة وأمتان ، وله أن يعقد متعة ما شاء مع العدد وبدونه ، وكذا بملك اليمين ).

أطبق علمائنا على أن العبد يجوز له أن ينكح بالدائم حرتين ، أو أربع إماء ، أو حرة وأمتين ، وليس له أن يعقد على حرتين وأمة ، ولا على ثلاث إماء وحرة ، لأن الحرة في حقه بمنزلة أمتين ، ولأن العبد أنقص من الحر فلا يليق مساواته له في العدد من الحرائر ، والأمة انقص من الحرة فلم يمتنع أن يكون له أربع إماء.

وقد روى محمد بن مسلم في الصحيح عن الباقر عليه‌السلام قال : سألته عن المملوك يتزوج أربع حرائر ، قال : « لا يتزوج إلاّ حرتين إن شاء أو أربع إماء » (١) ، وكذا في روايات أخر (٢). وله أن يعقد ما شاء متعة على الحرائر والإماء كالحر.

وكذا التحليل ، سواء كان عنده العدد الذي يجوز له دواما أم لا ، وكذا القول في ملك اليمين.

قوله : ( ولو تجاوز العدد في عقد واحد ففي التخيير أو بطلان العقد اشكال كالحر ).

منشأ الاشكال : النظر إلى دليل كل من القولين فيما إذا تجاوز العدد في عقد‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٧٦ حديث ١ ، التهذيب ٧ : ٣٩٦ حديث ١٢٤٢ ، الاستبصار ٣ : ٢١٣ حديث ٧٧٥.

(٢) الكافي ٥ : ٤٧٧ حديث ٢ ، التهذيب ٧ : ٢٩٦ حديث ١٢٣٩ ، الاستبصار ٣ : ٢١٤ حديث ٧٧٧.

٣٨٢

والمعتق بعضها كالأمة في حق الحر ، وكالحرة في حق العبد في عدد الموطوءات.

أما في عدد الطلاق فكالأمة معهما ، والمعتق بعضه كالحر في حق الإماء ، وكالعبد في حق الحرائر.

______________________________________________________

فإنه قائم هنا ، والعقدان إذا اقترنا كالعقد الواحد ، والأصح البطلان على ما سبق.

قوله : ( والمعتق بعضها كالأمة في حق الحر ، وكالحرة في حق العبد في عدد الموطوءات ، أما في عدد الطلاق فكالأمة معهما ).

لما كانت المعتق بعضها قد اشتملت على الرقية والحرية ، كانت بالإضافة إلى الحر كالأمة ، لما فيها من الرقية ، فإن التحريم على الوجه المعين دائر مع الرقية ، وبالإضافة إلى العبد كالحرة ، نظرا إلى ما فيها من الحرية. هذا في عدد الموطوآت تغليبا لجانب الاحتياط في حق كل منهما.

أما في عدد الطلاق فإنها كالأمة معهما تحرم بتطليقتين لما فيها من الرقية ، فيجب أن يوفر عليها حكمها.

قوله : ( والمعتق بعضها كالحر في حق الأمة ، وكالعبد في حق الحرائر ).

وتقريبه معلوم مما سبق ، لأنه قد جمع بين الحرية والرقية معا ، فوجب أن يوفر على كل حكمه ، وأن يغلب جانب الاحتياط. ويمكن أن يكون السر في توحيد المصنف الأمة وجمع الحرائر أن الحر قد اختلف في جواز الأمة الواحدة له اختيارا ، فالمنع على بعض الآراء متعلق بالواحدة في حقه.

وأما العبد فإنه لا يمنع من الحرة ولا من الحرتين ، إنما يمنع مما زاد.

* * *

٣٨٣

الفصل الثالث : في الكفر ، وفيه مطالب :

الأول : في أصناف الكفار ، وهم ثلاثة :

أ : من له كتاب ، وهم اليهود والنصارى.

أما السامرة فقيل : إنهم من اليهود ، والصابئون من النصارى والأصل أنهم إن كانوا يخالفون القبيلتين في فروع الدين فهم منهم ، وإن خالفوهم في أصله فهم ملحدة لهم حكم الحربيين.

ولا اعتبار بغير هذين كصحف إبراهيم وزبور داود عليهما‌السلام ، لأنها مواعظ لا أحكام فيها وليست معجزة.

______________________________________________________

قوله : ( الفصل الثالث : في الكفر ، وفيه مطالب :

الأول : في أصناف الكفار ، وهم ثلاثة :

الأول : من لهم كتاب وهم اليهود والنصارى ، أما السامرة فقيل : إنهم من اليهود ، والصابئون من النصارى. والأصل انهم إن كانوا يخالفون القبيلتين في فروع الدين فهم منهم ، وإن خالفوهم في أصله فهم ملحدة لهم حكم الحربيين ، ولا اعتبار بغير هذين كصحف إبراهيم وزبور داود ، لأنهما مواعظ لا أحكام فيها وليست معجزة ).

من جملة موانع النكاح الكفر ، وأصناف الكفار بالنسبة إلى جواز النكاح وعدمه ثلاثة أصناف :

الأول : أهل الكتاب حقيقة ، وهم اليهود والنصارى بغير خلاف بين أهل الإسلام. وقد اختلف في السامرة والصابئين ، فقيل : إن السامرة طائفة من اليهود ، والصابئين طائفة من النصارى. قال الشيخ رحمه‌الله : والصحيح في الصابئة أنهم غير‌

٣٨٤

______________________________________________________

النصارى ، لأنهم يعبدون الكواكب (١).

ويقال : إن الصابئين فرقتان فرقة توافق النصارى في أصول الدين ، وفرقة أخرى تخالفهم فتعبد الكواكب السبعة ، وتضيف الآثار إليها وتنفي الصانع المختار.

وكلام المفيد يقرب من هذا ، لأنه قال : إن جمهور الصابئين توحد الصانع في الأزل ، ومنهم من يجعل معه هيولى في العدم صنع منها العالم فكانت عندهم الأصل ، ويعتقدون في الفلك وما فيه الحياة والنطق ، وأنه المدبر لما في هذا العالم والدال عليه ، وعظموا الكواكب وعبدوها من دون الله تعالى ، وسماها بعضهم ملائكة ، وجعل بعضهم إلهه وبنوا لها بيوتا للعبادة ، قال : وهؤلاء على طريق القياس الى مشركي العرب وعباد الأوثان أقرب من المجوس (٢).

وتحرير المبحث ان المفهوم من كلام بعض المحققين أنه لا كلام في أن السامرة تعد من اليهود والصابئين تعد من النصارى ، وإنما الكلام والنزاع في أنهم منهم باعتبار حل المناكحة ، فإن ثبت حل مناكحتهم فهم منهم ، وإلاّ فهم ملحقون بغيرهم ممن لا يحل مناكحته وإن كانوا معدودين من القبيلتين.

وعبارة المصنف تعطي هذا المعنى ، لأن اللائح من قوله : والأصل أنهم إن كانوا يخالفون القبيلتين إلى أخره ، بيان تنزيل القولين في أن الطائفتين من القبيلتين المذكورتين أو لا ، فإنه يريد أن هاتين الطائفتين من اليهود والنصارى.

ومنشأ اختلاف القولين ـ في أنهم منهم أو لا ـ إنما هو في كونهم مبتدعة بالإضافة إليهم أو ملاحدة ، وذلك لأنهم إن كان مخالفتهم لهم إنما هي في الفروع ، فهم مبتدعة لا يخرجون بذلك عن كونهم منهم وتلحقهم أحكامهم. وإن كانت المخالفة في الأصول‌

__________________

(١) المبسوط ٤ : ٢١٠.

(٢) المقنعة : ٧٨.

٣٨٥

______________________________________________________

فهم ملاحدة خارجون منهم ، وإن عدوا منهم فلا تلحقهم أحكامهم.

فعلى هذا لا يكون المراد من قول المصنف : ( أما السامرة فقيل : إنهم من اليهود والصابئون من النصارى ) ظاهرة ، بل ما يدل عليه باقي كلامه وهو ما حققناه. وكلام المفيد والشيخ وإن كان المتبادر منه أنهم ليسوا منهم ، إلاّ أنه يحتمل أن يريدا به ما قلناه ، إذ ليس في كلامهما ما يدل على أنهم لا يعدون منهم ، فيحتمل أن يريد بكونهم غيرهم عدم لحوق أحكامهم لهم.

والحاصل من كلام المصنف التوقف في حل مناكحة كل من الطائفتين إلى أن تبين الحال في ذلك ، وأن الاختلاف إنما هو في حال السامرة والصابئين لا في حكمهم ، لأنهم على تقدير المخالفة في الأصول لا شك في تحريم نكاحهم ، وعلى تقدير المخالفة في الفروع لهم حكم أهل الكتاب.

إذا تقرر ذلك فبأي طريق يعلم حالهم في المخالفة؟ لا ريب أن التواتر وشهادة عدلين طريق إلى ذلك ، وكذا الشياع. وهل يكفي قولهم؟ يحتمل قويا ذلك ، لأن اعتقاد المكلّف انما يعلم من قبله.

واعلم أن المشار إليه بهذين في قول المصنف : ( ولا اعتبار بغير هذين ) التوراة والإنجيل ، المدلول عليهما بذكر اليهود والنصارى. والمراد أن ما عدا التوراة والإنجيل كصحف شيث وإدريس ، وصحف إبراهيم ، وزبور داود لا اعتبار بها في كون المنسوبين إليها أهل الكتاب.

واختلف في سبب ذلك ، فقيل : إنها لم تنزل عليهم بنظم تدرس وتتلى ، وإنما اوحى إليهم معانيها. وقيل : إنها حكم ومواعظ وآداب ، وليس فيها أحكام وشرائع. وقيل : انها كانت وحيا كما أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأشياء من الوحي.

وجملة القول أنه لم يثبت لغير اليهود والنصارى حرمة أهل الكتاب ، فيتمسك فيهم بعموم المنع من مناكحة الكفار ، ووجوب قتالهم الى أن يسلموا.

٣٨٦

ومن انتقل إلى دين أهل الكتاب بعد مبعث النبي عليه‌السلام لم يقبل منه ولم تثبت لأولادهم حرمة ولم يقروا عليه ، وإن كان قبله وقبل التبديل قبل وأقر أولادهم عليه ، وثبت لهم حرمة أهل الكتاب.

______________________________________________________

قوله : ( ومن انتقل إلى دين أهل الكتاب بعد مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تقبل منه ، ولم تثبت لأولادهم حرمة ، ولم يقروا عليه. وإن كان قبله وقبل التبديل قبل وأقر أولادهم عليه ، ويثبت لهم حرمة أهل الكتاب ).

أراد المصنف بهذا البحث تحقيق حال أهل الكتاب ، والأحوال أربعة ، لأن أول دخولهم في ذلك الدين : إما أن يكون قبل تطرق التحريف والنسخ إليه ، أو بعدهما ، أو بعد التحريف وقبل النسخ ، فهذه أحوال ثلاثة ، والرابع أن يشكل الأمر فلا يعلم شي‌ء من ذلك.

ففي الأول لا شك في قبول ذلك الدين منهم ، وثبوت حرمة أهل الكتاب لهم ولأولادهم ، وجواز مناكحتهم عند من يجوّز مناكحة أهل الكتاب.

وفي الثاني إن كان دخولهم بعد بعثة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم يقروا عليه ، ولم يثبت لهم حرمة أهل الكتاب ، لسقوط حرمة ذلك الدين بنسخة ، ووجوب دخولهم في دين الإسلام. نقل المقداد في التنقيح الإجماع على أن من دخل في دين أهل الكتاب بعد مبعث نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يقر عليه (١) ، وهذا مناف لما ادعاه الشارح فخر الدين في بحث الانتقال ، وهو المطلب الثالث في ثبوت الخلاف في ذلك (٢).

__________________

(١) التنقيح الرائع ٣ : ١٠١.

(٢) إيضاح الفوائد ٣ : ٩٧.

٣٨٧

وهل اليهود بعد مبعث عيسى عليه‌السلام كهم بعد مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ اشكال ، وإن كان بينهما فإن انتقل الى دين من بدل لم يقبل ، وإلاّ قبل.

______________________________________________________

وإن كان الدخول بعد مبعث عيسى عليه‌السلام ، وهو الذي أراده المصنف بقوله : ( وهل اليهود بعد مبعث عيسى عليه‌السلام كهو بعد مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فيه اشكال ، ومنشأ الاشكال أنه حينئذ قد دخل في دين الباطل في اعتقاده ، وفي نفس الأمر فلا يقبل منه ولا تقر أولاده عليه ، ولعموم قوله تعالى ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ) (١).

ومن عموم النص الدال على إقرار اليهود والنصارى ، خرج من ذلك من كان دخوله بعد مبعث نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيبقى ، الباقي على حكمه.

ولأنا لا نعلم كيفية نسخ شرع عيسى عليه‌السلام لشريعة موسى عليه‌السلام ، وهل نسخت بعضها أو كلها. وفي القبول قوة ، لعموم النص الدال على الإقرار ، ولم يثبت من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفرقة بين من كان قد تهود قبل مبعث عيسى عليه‌السلام وبعده ولا تفحص عن ذلك ، وكون ذلك الدين حينئذ باطلا لا يمنع من احترامه.

قوله : ( وإن كان بينهما ، فإن انتقل الى دين من بدل لم يقبل ، وإلاّ قبل ).

هذا هو الحال الثالث ، وهو أن يكون الدخول في دين أهل الكتاب والانتقال اليه بعد تبديله وتحريفه وقبل نسخه ، وحكمه انه تمسك بالحق الذي ليس بمحرف ، فلا شك في القبول ، وإن تمسك بالمحرف لم يقبل منه على أصح الوجهين ، لأن ذلك خارج عن ذلك الدين فهو كسائر الأديان الباطلة.

__________________

(١) آل عمران : ٨٥.

٣٨٨

ولو أشكل هل انتقلوا قبل التبديل أو بعده ، أو دخلوا في دين من بدل أو لا ، فالأقرب إجراؤهم بحكم المجوس.

ب : من له شبهة كتاب وهم المجوس.

______________________________________________________

ويحتمل ضعيفا القبول ، لعموم النص ، ولأن الصحابة تزوجوا منهم ولم يبحثوا عن أحوالهم. وليس بشي‌ء ، لأنهم بنوا على الظاهر من تمسكهم بالحق منه لإلزامهم به حيث لم يعلم خلافه ، أما بعد العلم فلا.

قوله : ( ولو أشكل هل انتقلوا قبل التبديل أو بعده ، أو دخلوا في دين من بدل أو لا ، فالأقرب إجراؤهم بحكم المجوس ).

هذا هو الحال الرابع ، وهو أن يشكل الأمر ولا يعلم الدخول والانتقال قبل التبديل والنسخ أو بعدهما أو بينهما وإن التمسك بالمبدل أو بغيره والأقرب عند المصنف في ذلك الأخذ بالاحتياط ، فيجري عليهم حكم المجوس ، فيقرون بالحرية تغليبا لحقن الدماء. ولأنهم أولى بذلك من المجوس ، لأنهم أهل كتاب حقيقة وإن لم يعلم حالتهم في تمسكهم فيه ، وليس للمجوس إلاّ شبهة كتاب.

وعلى هذا فعلى القول بالمنع من نكاح المجوس يمنع من نكاحهم ، ولذلك حكمت الصحابة في نصارى العرب وهم بهرا وبنوح وتغلب.

ويحتمل العدم ، لأن شرط الإقرار على التهود والتنصر الدخول قبل النسخ والتحريف ، ولم يعلم ، والجهل بالشرط يستلزم الجهل بالمشروط ، والمجوس خرجوا بالنص. وفيه نظر ، للمنع من كون ذلك شرطا للإقرار ، وإنما العلم بخلافه مانع منه ، والأقرب ما قربه المصنف.

قوله : ( الثاني : من لهم شبهة كتاب ، وهم المجوس ).

لما لم يكن المجوس أهل كتاب حقيقة ، ولم يبلغوا في الحرمة مبلغ أهل الكتاب ، أفردهم صنفا برأسه. وإنما كانوا أهل شبهة كتاب ، لما روي عن علي عليه‌السلام أنه‌

٣٨٩

ج : من عدا هؤلاء ، كالذين لا يعتقدون شيئا ، وعبّاد الأوثان والشمس والنيران وغيرهم.

أما الأول ففي تحريم نكاحهم على المسلم خلاف ، أقربه تحريم المؤبد دون المنقطع وملك اليمين ، وكذا الثاني.

وأما الثالث فإنه حرام بالإجماع في أصناف النكاح الثلاثة.

______________________________________________________

قال : « لهم كتاب فبدلوه فأصبحوا وقد اسرى به ورفع عنهم ».

وفي قول للشافعي أنهم لم يكونوا أهل كتاب البتة ، لقوله عليه‌السلام : « سنوا بهم سنة أهل الكتاب ». وهو يشعر بأنهم ليسوا بأهل كتاب. كذا قيل ، ولا ريب أنه لا يدل على أنه ليس لهم كتاب أصلا.

قوله : ( الثالث : من عدا هؤلاء الذين لا يعتقدون شيئا ، وعبّاد الأوثان والشمس والنيران ، وغيرهم ).

هذا هو الصنف الثالث من أصناف الكفار ، وهم من ، لا كتاب له ولا شبه كتاب ، وهم عبدة الأوثان والنيران والشمس والنجوم ، والصور التي يستحسنونها كالحجر والبقر والقمر والمعطلة والزنادقة ، وكل مذهب يكفر معتقده وهم المتمسكون بصحف شئت وإدريس وإبراهيم وزبور داود ، لأنهم ليسوا أهل كتاب كما سبق.

قوله : ( أما الأول ففي تحريم نكاحهم على المسلم خلاف ، أقربه تحريم المؤبد دون المنقطع وملك اليمين ، وكذا الثاني ، وأما الثالث فإنه حرام بالإجماع في أصناف النكاح الثلاثة ).

لما ذكر أصناف الكفار الثلاثة بالنسبة إلى جواز النكاح وعدمه ، أردف ذلك أحكامها ، وللأصحاب في ذلك اختلاف : فذهب بعضهم الى تحريم نكاح الكتابيات‌

٣٩٠

ولا تحل المسلمة إلى أحد من أصناف الكفار الثلاثة ، وإن سوغنا الدائم على الكتابية ثبت لها حقوق الزوجية كالمسلمة ، إلاّ الميراث والقسمة فلها نصف المسلمة الحرة ، والحد ففي قذفها التعزير.

______________________________________________________

مطلقا (١) ، وبعضهم جوّز الدائم والمنقطع وملك اليمين (٢) وبعضهم جوّز المنقطع وملك اليمين ومنع الدائم (٣) ، وهذا هو المختار ومقرب المصنف.

وأما المجوسيات فبعض من جوّز نكاح الكتابيات منع نكاحهن (٤) وبعض جوّز وطأهن بملك اليمين دون العقد (٥) ، وبعض جوّز المتعة وملك اليمين (٦) وهو الأصح ومختار المصنف.

وأما الصنف الثالث فلا خلاف بين أهل الإسلام في تحريم نكاح نسائهم دواما ومتعة وملك يمين ، وقد تقدّم البحث في ذلك وذكر دلائله مستوفى.

قوله : ( ولا تحل المسلمة على أحد من أصناف الكفار الثلاثة ).

لا خلاف بين أهل الإسلام في أنه لا يجوز للمسلمة نكاح الكافر ، أي الأصناف الثلاثة كان ، وقد ورد النص على ذلك في الكتاب (٧) والسنة (٨).

قوله : ( وإن سوغنا الدائم على الكتابية ثبت لها حقوق الزوجية كالمسلمة ، إلاّ الميراث والقسمة فلها نصف المسلمة الحرة ، والحد ففي قذفها التعزير ).

__________________

(١) ذهب اليه الشيخ الطوسي في التهذيب ٧ : ٢٩٦ والتبيان ٢ : ٢١٧.

(٢) نقله في التنقيح الرائع ٣ : ٩٦ عن ابن أبي عقيل.

(٣) ذهب اليه سلار في المراسم : ١٤٨.

(٤) منهم ابن إدريس في السرائر : ٢٩١.

(٥) نقله في التنقيح الرائع ٣ : ٩٩ عن ابن بابويه.

(٦) منهم الشيخ الطوسي في النهاية : ٤٥٧.

(٧) النساء : ١٤١.

(٨) الكافي ٥ ـ ٤٣٥ حديث ٢.

٣٩١

وعقد أهل الذمة إن كان صحيحا عندهم أقروا عليه ، وإلاّ فلا.

______________________________________________________

إذا جوزنا نكاح‌ الكتابية دواما كما هو مذهب بعض الأصحاب (١) ، أو أسلم زوج الكتابية عند الجميع فإنه يكون كالمسلمة في النفقة والمهر والطلاق والسكنى وأحكام الإيلاء ، فيطالب عند انتهاء المدة بالنفقة أو الطلاق والظهار واللعان.

بالجملة فعامة حقوق الزوجية ، لأن النكاح عقد معاوضة فاستوت فيه المسلمة والكافرة كالبيع والإجارة ، ولعموم دلائل تلك الحقوق الشاملة للكافرة كالمسلمة ، لكن يستثني من ذلك الميراث ، فإنها لا ترث الزوج بل يرثها هو ، لأن الكافر لا يرث المسلم ويرثه المسلم عندنا على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وإذا مات الزوج المسلم لم يكن للكافرة تغسيله عندنا ، لإطباق العلماء على أن المسلم لا يغسله إلاّ مسلم.

وكذا يستثني القسمة ، فإن الكافرة وإن استحقتها في الجملة إلاّ أنها إنما تستحق نصف المسلمة الحرة.

وكذا يستثني الحد ، فإن قذفها إنما يوجب التعزير خاصة ، وكذا القول في القصاص ، وهذان ليسا من حقوق الزوجية.

وكذا يستثني ماء الغسل إن أوجبناه للمسلمة ، فإنه لا يجب للكافرة إذ لا يصح غسلها ، وكذا الحضانة فإن الأب المسلم أولى من الأم الكافرة.

قوله : ( وعقد أهل الذمة إن كان صحيحا عندهم أقروا عليه ، وإلاّ فلا ).

أنكحة أهل الذمة صحيحة ، وكذا طلاقهم واقع عند عامة أهل الإسلام ، إلاّ مالكا فإنه قال : لا تصح انكحتهم ولا يقع طلاقهم ، وإنما يقرون عليها (٢) ، وليس‌

__________________

(١) انظر : المغني لابن قدامة ٧ : ٥٦٢ ، المجموع ١٦ : ٢٩٩.

(٢) نقله في إيضاح الفوائد ٣ : ٢٢ عن ابن أبي عقيل.

٣٩٢

وكذا أهل الحرب ، إلاّ في شي‌ء واحد وهو أن الحربي إذا قهر امرأة من الحربيات وأسلم أقر عليها إن كان يعتقد ذلك نكاحا.

ولو قهر الذمي ذمية لم يقر عليها بعد الإسلام ، لأن على الإمام الذب عنهم ودفع من‌ قهرهم.

______________________________________________________

بشي‌ء ، فإن قوله تعالى ( وَامْرَأَتُهُ حَمّالَةَ الْحَطَبِ ) (١) و ( قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ ) (٢) أطلق عليها سبحانه كونها امرأة ، وذلك دليل على صحة النكاح ، وعلى هذا فيترتب عليها أحكام النكاح الصحيح من الطلاق والظهار والإيلاء ووجوب المهر والقسم والإحصان ، وغير ذلك.

ومتى ظاهر من امرأته ثم أسلم فعلية كفارة الظهار ، لعموم قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) (٣) وإن آلى ثبت حكم الإيلاء ، وكذا اللعان ، وغير ذلك.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن المعتبر في صحة نكاح أهل الكفر كونه صحيحا عندهم ، ليلزمهم مقتضاه ويقرون عليه وإن كان فاسدا عندنا. أما لو كان فاسدا عندهم فإنهم لا يقرون عليه ، لاعتقادهم أنه ليس نكاحا ، لكن يجب أن يستثني من هذا ما إذا كان فاسدا عندهم صحيحا عندنا فإنهم يقرون عليه قطعا ، وسيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى استثناء ذلك في كلام المصنف وتحقيق الكلام في انكحتهم.

قوله : ( وكذا أهل الحرب إلاّ في شي‌ء واحد ، وهو أن الحربي إذا قهر امرأة من الحربيات وأسلم أقر عليها إن كان يعتقد ذلك نكاحا ، ولو قهر الذمي ذمية لم يقر عليها بعد الإسلام ، لأن على الامام الذب عنهم ودفع من‌

__________________

(١) المسد : ٤.

(٢) القصص : ٩.

(٣) المجادلة : ٣.

٣٩٣

______________________________________________________

قهرهم ).

أي : وكذا عقد أهل الحرب إن كان صحيحا عندهم أقروا عليه ، هكذا مقتضى التشبيه ، إلاّ أنه لا يحسن موقع الاستثناء حينئذ ، وقد كان الأحسن أن يبدأ بأهل الحرب ثم يشبه بهم أهل الذمة في ذلك ، ليصير الاستثناء محتاجا اليه.

والحاصل أن نكاح أهل الذمة وأهل الحرب سواء ، إن اعتقدوه صحيحا حكم بصحته عندنا وأقروا عليه ، وإن اعتقدوا فساده فهو فاسد لا يقرون عليه بعد الإسلام ، وكذا قبله إذا ترافعوا إلينا ، إلاّ إذا اعتقدوا فساده وكان صحيحا عندنا فإنهم يقرون عليه كما سيأتي.

ولا يستثني من هذه المساواة ، إلاّ مسألة واحدة وهي ما إذا اعتقد الكافر قهر المرأة نكاحا ، فإنه إذا قهرها على جهة النكاح ثم أسلم أو ترافعا إلينا ، فإن المرأة إن كانت حربية حكم بصحة ذلك النكاح كغيره من الأنكحة التي لا تطابق الوجوه المعتبرة في النكاح.

وإن كانت ذمية لم يحكم بصحته ولم يقر عليه ، لأن أهل الذمة يجب على الامام الذب عنهم ودفع القهر عنهم ، ومتى وجب في شرع الإسلام دفع هذا القهر امتنع الإقرار عليهم والحكم بصحته واستدامته ، وهنا مباحث :

الأول : قوله : ( الحربي إذا قهر امرأة من الحربيات ) ذكر الحربي غير محتاج إليه ، بل الأولى تركه ، فإن الذمي لو قهر الحربية معتقدا أن ذلك هو النكاح كان كما لو قهرها الحربي بغير فرق.

الثاني : لا بد من اعتقاد كون القهر نكاحا أن يكون الغرض به النكاح ، فلو قهرها على قصد الاسترقاق مثلا ثم أسلم ، أو ترافعا إلينا لم يحكم بالنكاح ، والعبارة خالية من ذلك.

الثالث : قوله : ( وإن قهر الذمي ذمية ) ذكر الذمي غير محتاج إليه أيضا ، فإن‌

٣٩٤

ولو نكح الكتابي وثنية وبالعكس لم يفسخ النكاح ، والأقرب إلحاق الولد بأشرفهما كالمسلم.

______________________________________________________

الحربي لو قهر ذمية ثم أسلم أو رفع الأمر إلينا ، كان الحكم واحدا في وجوب المنع. وقد يقال قوله : ( لم يقر عليها بعد الإسلام ) غير كاف في بيان حكم المسألة ، بل كان ينبغي أن يقول : لم يقر عليها بعد الإسلام وقبله.

ويمكن دفعه بأن التعليل بقوله : ( لأن على الامام الذب عنهم ) مشعر بذلك ، فأغني عن التصريح.

قوله : ( ولو نكح الكتابي وثنية وبالعكس لم يفسخ النكاح ، والأقرب إلحاق الولد بأشرفهما كالمسلمين ).

إذا نكح الكتابي وثنية أو نكح الوثني كتابية ، كان النكاح صحيحا كغيره من انكحة الكفار فإن الكفاءة حاصلة.

ونكاح الكفر محكوم بصحته كما سبق ، فلا مانع من الحكم بالصحة ، وعدول المصنف عن التعبير بصحة النكاح الى قوله : ( لم يفسخ النكاح ) ليس لأنه لا يرى صحته ، إذ لو لم يكن صحيحا لكان مفسوخا ، وإنما هو تفنن في العبارة.

فعلى هذا بأي الطرفين يلحق الولد بالكتابي أم بالوثني؟ فيه وجهان أقربهما عند المصنف الأول ، وذلك لأنه قد ثبت شرعا أن الولد يتبع أشرف الطرفين ، فإذا كان أحدهما حرا أو مسلما والآخر رقيقا أو كافرا ، يتبع الحر والمسلم دون الآخر ، فكذا هنا ، لأن الكتابي أشرف من الوثني فإنه يقر بالجزية ويجوز مناكحته ، بخلاف الوثني.

فإن قيل : أشرف أفعل التفضيل ، فيلزم أن يكون لكل من الذميين شرف ، لأنها يقتضي الاشتراك في المطلق وزيادة أحدهما على الآخر.

٣٩٥

______________________________________________________

قلنا : ليس بلازم ، كما في قوله تعالى ( أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا ) (١) ، وقوله تعالى ( أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٢) ويحتمل العدم ، وهو الوجه الثاني ، فلا تحل المناكحة تغليبا للتحريم كالمتولد بين المأكول وغيره.

وفرّق بعضهم بأن الإسلام يعلو ويغلب سائر الأديان ، وسائر الأديان تتقاوم ولا يغلب بعضها على بعض. ومن ثم قلنا : إن الكفر ملة واحدة ، فعلى هذا فهل يفرّق بين ما إذا كان الولد صغيرا ، وبين ما إذا بلغ وتدين بدين الكتابي من أبويه؟

ذهب بعض العامة إلى الفرق ، فجوّز المناكحة على التقدير الثاني ، وينبغي عدم الفرق ، لأن تديّن الولد لا اعتبار به من دون اللحاق ، وما قربه المصنف أقرب ، لأن الكفر وإن كان ملة واحدة إلاّ أنه لا ريب في ثبوت المزيد والشرف لبعض على بعض ، ولهذا تجوز مناكحة البعض ويقرون على دينهم دون البعض الآخر ، وهنا مباحث :

الأول : على الاحتمال الثاني ، وهو عدم الإلحاق بالأشرف ، لو بلغ واعتقد دين الكتابي من أبويه ، فهل يقر بالجزية؟ صرح المصنف في التذكرة بذلك (٣) ، وهو أصح وجهي الشافعية (٤) ، تغليبا لحقن الدماء والمنع في النكاح للاحتياط.

الثاني : لو تولّد بين يهودي ومجوسي ، وقلنا إن الولد يتبع الأشرف ، فإذا بلغ واختار التمجس فهل يمكن منه؟ يحتمل ذلك ، لانتفاء المانع ، ولم يصرّح المصنف في التذكرة بشي‌ء.

__________________

(١) الفرقان : ٢٤.

(٢) الملك : ٢٢.

(٣) التذكرة ٢ : ٦٤٨.

(٤) المجموع ١٦ : ٢٣٥ ، مغني المحتاج ٣ : ١٨٩.

٣٩٦

وإذا تحاكم أهل الذمة إلينا ، تخيّر الإمام بين الحكم بينهم وبين ردهم إلى أهل ملتهم إن اتفق الغريمان في الدين ، وكذا إن اختلفا على اشكال في الرد.

فإن قلنا بالرد احتمل إلى من يختاره المدعي أو الحاكم أو الناسخ ، لموافقة رأيه رأي الحاكم في بطلان المنسوخ ،

______________________________________________________

الثالث : بيّن الشارح الفاضل ولد المصنف الأقرب على أن الكفر ليس بملة واحدة (١) ، وليس بواضح ، لأن كونه ملة واحدة لا يمنع من أشرفية بعض الكفار على بعض باعتبار الاعتقاد.

قوله : ( وإذا تحاكم أهل الذمة إلينا ، تخيّر الإمام بين الحكم بينهم وبين ردهم إلى أهل ملتهم إن اتفق الغريمان في الدين ، وكذا إن اختلفا على اشكال. فإن قلنا بالرد احتمل إلى من يختاره المدعي أو الحاكم أو الناسخ ، لموافقة رأيه رأي الحاكم في بطلان المنسوخ ).

لما ذكر ضابطا في نكاح الكفار باعتبار تقريرهم عليه إذا أسلموا وتحاكموا إلينا ، أشار إلى بيان حكم تحاكمهم إلينا ، وجملة القول في ذلك : إن أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا في حقوق الآدميين فإما أن يتفق الغريمان في الدين ، أو يختلفا فيه.

فإن اتفقا تخيّر الإمام في الحكم بينهم وبين ردهم الى ملتهم عند الأكثر ، لقوله تعالى ( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) (٢) والمراد بالإعراض عنهم والله اعلم : ردهم إلى حكم ملتهم ، لأنه لا يجوز تركهم على النزاع المنجر إلى الفتنة.

وقيل بوجوب الحكم بينهم ، وإن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : ( وَأَنِ احْكُمْ

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٣ : ٩٨.

(٢) المائدة : ٤٢.

٣٩٧

______________________________________________________

بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) (١) وإن على الامام دفع الظلم عنهم ، وردهم إلى ملتهم يتضمن الظلم. والحق ان الآية محكمة ، والظلم الذي يجب دفعه عنهم هو ما عدا ظلم دينهم ، لأنهم يقرون عليه ويعتقدونه حقا.

وان اختلف الغريمان في الدين فكذلك يتخير الامام بين الحكم والاعراض على اشكال ينشأ : من عموم الآية الشامل للمتفقين في الدين والمختلفين ، ولا مخصص لهذا العموم في الكتاب والسنة. ومن أن الاعراض هنا يستلزم الرد إلى ملة أحد الخصمين ، ويلزم منه محذورات :

الأول : الظلم ، فإن الحكم على الآخر بغير حكم الإسلام ، وما التزمه من دينه الذي يقر عليه ظلم قطعا ، يجب على الإمام إزالته بمقتضى الذمة وبمقتضى قوله تعالى : ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ).

الثاني : الخروج عن مقتضى عقد الذمة ، لأن الذي تراضينا وإياهم عليه تقريرهم على دينهم وإجراء أحكام الإسلام لهم ، والرد إلى أحد الملتين خروج عن ذلك بالنسبة إلى الخصم الآخر.

الثالث : إن الاعراض لو جاز لزم أحد الأمور الثلاثة الآتية ، وهي : إما الرد الى من يختاره المدعي ، أو الحاكم ، أو الناسخ ، واللازم بأقسامه محذور باطل. بيان الملازمة انحصار الأمر على تقدير الرد في الأمور الثلاثة بالاستقراء.

ووجه الأول ان يعتبر الحاكم حق المدعي ، ووجه الثاني أن الحاكم هو المأمور بالحكم أو الرد فإليه التعيين.

ووجه الثالث ما ذكره المصنف من قوله : ( لموافقة رأيه رأي الحاكم في بطلان المنسوخ ).

__________________

(١) المائدة : ٤٩.

٣٩٨

ولو تحاكم المستأمنان فكذلك.

ولو ترافع. مسلم وذمي أو مستأمن وجب الحكم بينهما ، وكل موضع يجب الحكم لو استعدى الخصم أعداه.

______________________________________________________

وبيان بطلان اللازم أن تعيين المدعي لغير من يجوز عليه حكمه لا أثر له ، ولا يجوز للحاكم تعيين من حكمه ظلم لم يلتزمه الخصم ، والملتان باطلتان لنسخهما فهما سواء في ذلك ، والأصح وجوب الحكم هنا. وهذا كله في حقوق الآدميين ، أما حقوق الله تعالى فسيأتي حكمها في الحدود.

قوله : ( ولو تحاكم المستأمنان فكذلك ).

أي : تخيّر الحاكم بين الحكم والرد مع اتفاق الدين ومع الاختلاف الاشكال ، لكن قد يقال هنا : إن المستأمن لا يجب

دفع الظلم عنه إذا وقع من بعضهم ، فأما إذا ظلمهم المسلمون وجب على الإمام النهي عن المنكر ، فلا يجب الحكم بينهما بحال ، أما إذا ترافع ذمي ومستأمن فإن وجوب الحكم هنا متجه كالمسلم والمستأمن.

قوله : ( ولو ترافع مسلم وذمي أو مستأمن وجب الحكم بينهما ).

لأنه لا يجوز رد المسلم إلى غير ملة الإسلام ، ولا الاعراض عن الحكم بينه وبين خصمه لو كان مسلما ، فكيف إذا كان ذميا أو مستأمنا.

قوله : ( وكل موضع يجب الحكم لو استعدى الخصم أعداه ).

قال في القاموس : استعداه استغاثة واستنصره (١) ، ويقال أعدا زيد عليه نصره وأعانه وقواه ، والمراد أن كل موضع يجب على الحاكم الحكم على تقدير الترافع ، فإذا استعدى الخصم الحاكم على خصمه على تقدير عدم الترافع طالبا إحضاره قبل الحكم وجب على الحاكم اجابته.

__________________

(١) القاموس المحيط ٤ : ٣٦٠ « عدا ».

٣٩٩

وإذا أرادوا ابتداء العقد لم يزوجهم الحاكم إلاّ بشروط النكاح بين المسلمين ، فلا يصح على خمر أو خنزير. وإن تزوجا عليه ثم ترافعا : فإن كان قبل القبض لم يحكم بوجوبه وأوجب مهر المثل ، ويحتمل قويا قيمته عند مستحليه. وإن كان بعده برئ الزوج ،

______________________________________________________

قوله : ( وإذا أرادوا ابتداء العقد لم يزوجهم الحاكم إلاّ بشروط النكاح بين المسلمين ، فلا يصح على خمر أو خنزير ).

المراد ان أهل الذمة والمستأمنين إذا أرادوا إنشاء العقد عند الحاكم ، لم يجز له أن يزوجهم إلاّ بشروط النكاح بين المسلمين ، وإن كانوا لو عقدوا فيما بينهم لم يعترضوا في دينهم ، لأنه لا يجوز للحاكم العمل بغير حكم الإسلام ، فلا يعقد لهم على خمر أو خنزير.

ولا بد أن يأتي بصيغة العقد الصحيح عندنا ، ولا يعقد على الأختين لواحد ، وغير ذلك من الأمور التي يجب في شرع الإسلام رعايتها في النكاح ، وكذا سائر العقود والإيقاعات.

قوله : ( وإن تزوجا ثم ترافعا ، فإن كان قبل القبض لم يحكم بوجوبه وأوجب مهر المثل ، ويحتمل قويا قيمته عند مستحليه ، وإن كان بعده برئ الزوج ).

إذا عقد الكافران بينهما عقد النكاح على بعض المحرمات ، نفي عبارة المصنف حذف تقديره : وإن تزوجا على خمر أو خنزير ثم ترافعا إلينا في ذلك النكاح ، فإما أن يكون ذلك الترافع قبل قبض شي‌ء من المهر ، أو بعد قبض جميعه ، أو بعد قبض البعض دون البعض.

فإن كان بعد قبض الجميع برئ الزوج ، لوصول حق الزوجة إليها باعتقادهما ، وبمقتضى دينهما الذي اقرا عليه ، وهذا هو الذي أراده المصنف بقوله : ( وإن كان بعده‌

٤٠٠