القول الصّراح في البخاري وصحيحه الجامع

الميرزا فتح الله بن محمّد جواد الإصبهاني

القول الصّراح في البخاري وصحيحه الجامع

المؤلف:

الميرزا فتح الله بن محمّد جواد الإصبهاني


المحقق: الشيخ حسين الهرساوي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-024-X
الصفحات: ٢٦٢

وبلغ علياً قوله فكتب إليه : اعتزل عن عملنا مذموماً مدحوراً يابن الحائك فهذا أول يومنا منك.

قال : وذكر المسعودي في مروج الذهب أن علياً كتب إلى أبي موسى انعزل عن هذا الأمر مذموماً مدحوراً فان لم تفعل فقد أمرت من يقطعك ارباً ارباً يابن الحائك ما هذا أول هناتك وان لك لهنات وهنات ، ثم بعث علي الحسن وعمّاراً إلى الكوفة فالتقاهما أبو موسى ، فقال له الحسن لم ثبطّت القوم عنّا فوالله ما أردنا الاّ الاصلاح.

فقال : صدّقت ولكني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ستكون فتنة يكون القاعد فيها خيراً من القائم والماشي خيراً من الراكب فغضب عمّار وسبّه.

وروى البخاري في صحيحه بسنده إلى أبي وائل قال : دخل أبو موسى وأبو مسعود على عمّار حيث بعثه علي إلى أهل الكوفة يستنفرهم ، فقالا : ما رأيناك أتيت أمراً أكره عندنا من اسراعك في هذا الأمر منذ أسلمت.

فقال عمّار : ما رأيت منكما منذ أسلمتما أمراً أكره عندي من ابطائكما عن هذا الأمر ، وكساهما حلّة ، حلّة ، ثم راحوا إلى المسجد (١). وروى أيضاً بسند آخر عن شقيق ابن سلمة قال : كنت جالساً مع أبي مسعود وأبي موسى وعمّار ، فقال أبومسعود : ما من أصحابك أحد الاّ لو شئت لقلت فيه غيرك ، وما رأيت منك شيئاً منذ صحبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعيب عندي من استسراعك في هذا الأمر ، فقال عمّار : يا أبا مسعود! وما رأيت منك ولا من صاحبك هذا شيئاً منذ صحبتما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعيب عندي من أبطائكم في هذا الأمر ، فقال أبو مسعود : وكان

__________________

١. صحيح البخاري كتاب الفتن باب ١٨ ، رقم ٧١٠٢ و ٧١٠٣ و ٧١٠٤ و ٧١٠٥ و ٧١٠٦ و ٧١٠٧.

٢٠١

مؤسراً يا غلام هات حلّتين ، فاعطى إحداهما أبا موسى والأخرى عمّاراً ، وقال روحا فيه إلى الجمعة (١).

وبالجملة فقد تواتر عن أبي موسى انحرافه عن أميرالمؤمنين وبغضه له وتخذيل الناس عنه ، والحكم بان القتال معه دخول في الفتنة المنهية ، وذمّ أميرالمؤمنين عليه‌السلام له وبغض ماذكر كاف في الدلالة على شقاوته وضلالته عن النهج القويم وانحرافه عن الصراط المستقيم سيّما اذا لوحظت الأخبار الواردة من طرقهم في فضائله عليه‌السلام ، وأنه مع الحق والحق معه ، وان مواليه موالي الله ، ومبغضه مبغض لله ورسوله ، وما ورد في خصوص محارباته من الأحاديث النبوية.

ومن طريف الأمر ان أبا موسى كان يعلم ذلك كله ويشهد به ووقع منه ما وقع ، فقد روى ابن مردويه على ما في مفتاح النجاة عن أبي موسى أنه قال : أشهد أن الحق مع علي ، ولكن مالت الدنيا باهلها ولقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول له : « يا علي أنت مع الحق والحق بعدي معك ».

وروى الحاكم في المستدرك عن عتاب بن ثعلبة ، قال حدثني أبو أيوب الانصاري في خلافة عمر بن الخطاب قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي بن أبي طالب عليه‌السلام بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين ، بالطرافات والنهروانات وبالسعفات قلت : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع من نقاتل من هؤلاء الأقوام؟ قال : مع علي بن أبي طالب (٢).

__________________

١. نفس المصدر السابق.

٢. المستدرك ٣ : ١٥٠ رقم ٤٦٧٤.

٢٠٢

وفي كنز العمال عن ابن مسعود ، قال خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاتى منزل أم سلمة فجاء علي عليه‌السلام فقال رسول الله : صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا أم سلمة هذا والله قاتل القاسطين ، والناكثين ، والمارقين ، من بعدي (١).

وروى أيضاً ، عن زيد بن علي بن الحسين بن علي ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي قال : أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتال عساكر الناكثين ، والمارقين ، والقاسطين.

ثم ان حديث خاصف النعل من الأحاديث المستفيضة التي أوردها جماعة لا تحصى في كتبهم ، كالحاكم في المستدرك ، والنسائي في الخصائص وابن أبي شيبة في المصنّف ، وأحمد بن حنبل في المسند ، وأبويعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه ، وأبو نعيم في الحلية ، والضياء المقدسي في المختارة والذهبي في المعجم المختصر ، والمحب الطبري في الرياض النضرة ، وذخائر العقبى وابن مندة في كتاب الصحابة ، وابن الاثير في أسد الغابة ، والسيوطي في جمع الجوامع ، وعلي المتقي في كنز العمال ، وغيرهم في غيرها ، ولنكتف بعبارة بعضهم :

روى الحاكم في المستدرك عن أبي سعيد قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانقطعت نعله فتخلّف علي يصلحها فمشى قليلاً ثم قال : ان منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فاستشرف لها القوم وفيهم أبوبكر وعمر قال أبوبكر : أنا هو؟ قال : لا ، قال عمر : أنا هو؟ قال : لا ، ولكن خاصف

__________________

١. شرح السنة ٦ : ١٦٨ رقم ٢٥٥٩ ، تاريخ بغداد ٨ : ٣٤٠ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ : ٤٧٠ ، مطالب السؤول : ١١٧.

٢٠٣

النعل يعني علياً فاتياه فبشراه فلم يرفع رأسه كأنه قد سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (١).

وفي كنز العمال ومسند أبي يعلى : كنا جلوساً في المسجد فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجلس الينا وكأن على رؤوسنا الطير لا يتكلّم منّا أحد ، فقال : ان منكم رجلاً يقاتل على تأويل القرآن كما قوتلتم على تنزيله فقام أبوبكر فقال : أنا هو يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : لا ولكنه خاصف النعل في الحجرة ، فخرج علينا علي عليه‌السلام ومعه نعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلح منها ، ش ، حم ، ع ، حب ، ك ، حل ، ض (٢).

وبالجملة فالمطلب من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى اكثار الشواهد عليه.

واذا لم يعتد أبو موسى بمدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحروبه وغزواته عليه‌السلام بل أمره به فياليته اعتد واعتنى بما صدر عن شيخيه من التمني والشعف والغرام على أن يكون مصدرين لهذه الحروب.

ومن عجيب الامر أن رواية الفتنة التي قرئها على المنبر وخذل الناس بها عن النهوض انما وردت في حقه ، وقد صرف الكلام عن موضعه على مايظهر من كنز العمال ، حيث روى عن أبي مريم.

قال : سمعت عمّار بن ياسر يقول : يا أبا موسى أنشدك الله ألم تسمع

__________________

١. مسند أحمد ٣ : ٣١ و ٣٣ و ٨٢ ، المصنّف ١٢ : ٦٤ رقم ١٢١٣١ ، المستدرك ٣ : ١٢٢ ، مسند أبي يعلى ٢ : ٣٤١ رقم ١٠٨٦ ، دلائل النبوة ٦ : ٤٣٥ ، تاريخ بغداد ١ : ٢١٧ ، شرح السنة ٦ : ١٦٧ رقم ٢٥٥٧.

٢. ش ، ابن أبي شيبة ، حم ، أحمد بن حنبل ، ع ، مسند أبي يعلى ، حب ، صحيح ابن حبان ، ك ، المستدرك للحاكم ، وحل ، حلية الاولياء لابي نعيم ، وض ، الضياء المقدسي في المختارة.

٢٠٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « من كذّب عليَّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار » ، وأنا سائلك عن حديث فان صدقت والاّ بعثت عليك من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يقررك به! أنشدك الله أليس انما عناك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أنت نفسك؟

فقال أنها ستكون فتنة بين أمتي أنت يا أبا موسى فيها ، نائماً خير منك قاعداً وقاعداً خير منك ماشياً ، فخصّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يعم الناس ، فخرج أبو موسى ولم يرد فيها شيئاً (١).

ومن أعظم الشواهد وأقوى الدلائل على ضلاله ونفاقه وعناده وشقاقه ما صدر منه في قضية التحكيم حيث رأى عبدالله بن عمر بن الخطاب الذي مرّ شطر من فضائحه وقبائحه أهلاً للخلافة وخلع أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الامامة وبلغ الغاية القصوى من الضلالة والجهالة والخباثة والعداوة والشقاوة والخسارة والجسارة ، وتفصيل القضية مذكور في كثير من كتبهم ، منها كتاب سبط ابن الجوزي والفصول المهمة وروضة الاحباب وشرح النهج وغيرها فراجع.

ومن طريف الامر أن عمرو بن العاص الداعي إلى النار شبّه أبا موسى بالحمار الحامل للاسفار فاعقب الحمار بذلك العار والشنار.

وقال عبدالله بن قتيبة في كتاب الامامة والسياسة : ثم قام عمرو فقال : أيها الناس هذا أبو موسى شيخ المسلمين وحكم أهل العراق ، ومن لايبيع الدين بالدينار ، وقد خلع علياً وأثبت معاوية ، فقال أبو موسى : ما لك عليك لعنة الله ما أنت الاّ كمثل الكلب تلهث ، قال عمرو : لكنك مثل الحمار يحمل الاسفار واختلط الناس وهذه القضية بعينها مذكورة في الفصول المهمة وروضة

__________________

١. تاريخ مدينة دمشق ٣٢ : ٩٢.

٢٠٥

الاحباب وتذكرة سبط ابن الجوزي ، ورسالة رفع الإلتباس في ضرب المثل من القرآن ، والإقتباس للسيوطي فراجع.

ويظهر من هذه الترجمة شطر من فضائح عمرو بن العاص أيضاً ، وقد سبق في تضاعيف الكتاب بعضها ، ولذا أطوي عن التعرض له بترجمة مستقلة ، وان كان ببالي سابقاً.

وفي التذكرة لسبط ابن الجوزي أيضاً ، أنه كان علي اذا صلى الغداة ، قنت ودعى ولعن معاوية ، وعمرواً ، وأبا الاعور السلمي ، وحبيباً ، وعبد الرحمن بن الخالد ، والضحاك ابن قيس ، والوليد بن عقبة (١).

وفيها أيضاً : أن علياً عليه‌السلام قال له يا ابن النابغة : متى لم تكن للفاسقين ولياً وللمسلمين عدواً هل تشبه الا أمك التي دفعت بك؟

فقام عمرو وقال : لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد اليوم ، فقال علي : ان الله قد طهر مجلسي منك ومن أشباهك (٢).

وفيها أيضاً : ان ابن عباس قال لأبي موسى : قبحك الله يابن قيس ، لقد حذّرتك غدرة الفاسق الخبيث فابيت؟

فقال أبو موسى : ظننت انه ينصح الأُمة ، وما ظننت أنه يبيع الاخرة بالدنيا (٣) ، وقد ثبت ضلالته واضلاله بنص النبوي المتقدم انفاً حيث قال في وصف الحكمين أنهما ضلاّ وأضلاّ.

__________________

١. تذكرة الخواص : ١٠٢.

٢. المصدر السابق : ٩٧.

٣. المصدر السابق : ١٠٢.

٢٠٦

وروى امامهم الحافظ الثقة أبو يعلى الموصلي في الذي يعرف شطر من محامده ومحاسنه من الرجوع إلى كتاب الثقات لابن حبان ، وتاريخ الحاكم ، وأنساب السمعاني وتذكرة الذهبي ، و « مفتاح كنز الدراية » وغيرها في مسنده بسنده المتصل عن أبي برزة قال : كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمع صوت غناء فقال : انظروا ما هذا؟ فنظرت فاذا معاوية وعمرو بن العاص يتغنّيان ، فجئت فأخبرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : الّلهم اركسهم في الفتنة ركساً اللهم دعهما النار دعّاً (١).

وروى هذا الحديث امام مذهبهم أحمد بن حنبل أيضاً في مسنده الذي ستسمع شطراً مما أثنوا عليه ، وقالوا في صحته والاعتماد عليه وأنه الأصل في معرفة الصحيح من السقيم.

ورواه أيضاً امامهم العلامة بقية الحفاظ أبو القاسم الطبراني في معجم الكبير بسنده المتصل عن ابن عباس قال : سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صوت الرجلين يتغنّيان وهما يقولان :

ولايزال حواري يلوح حطامه

ذوى الحرب عنه ان يجن فيقبرا

فسأل عنهما فقيل له معاوية وعمرو بن العاص ، فقال : اللهم اركسهما في الفتنة ركساً ودعهما إلى النار دعّاً (٢).

وقبائح عمرو بن العاص لاتخفى على من له أدنى تتبع في الكتب ، ولا تفي هذه الرسالة باحصائها.

__________________

٣. مسند أحمد ٤ : ٤٢١ ، سير أعلام النبلاء ٣ : ١٣٢.

٢. مسند أحمد ٤ : ٤٢١ ، سير أعلام النبلاء ٣ : ١٣٢.

٢٠٧

والعجب ان القوم رووا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه صلّى عليه ، ففي الرياض النضرة لمحب الدين الطبري : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : اللهم صلّ على أبي بكر فانه يحبك ويحب رسولك ، اللهم صلّ على عمر فانه يحبك ويحب رسولك ، اللهم صلّ على عثمان فانه يحبك ويحب رسولك ، اللهم صلّ على أبي عبيدة ابن الجراح فانه يحبك ويحب رسولك اللهم صلّ على عمرو بن العاص فانه يحبك ويحب رسولك أخرجه الخلعي (١).

فلينظر العاقل إلى هؤلاء الضالين المعاندين كيف لا يصلون على أمير المؤمنين وآله الطاهرين مع اعترافهم بقضاء الأدلة على جوازها ، ورجحانها ، وكيف تركوا ذكر أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا الرواية؟! وان لم يتركوه إلاّ تعصباً ونصباً ، لكن نعم ما فعلوا ، حيث لم يقرنوا اسمه الشريف بهذه الأسامي الميشومة الملعونة ، وكيف يروون في حقّ مثل هذا الشقي الملحد ان النبي صلّى عليه؟

وشنع بعض متأخريهم غاية التشنيع ، على ما رواه الكشي ، وأورده القاضي في « مجالس المؤمنين » : من أنه ذُكر محمد بن أبي بكر عند الإمام الصادق صلوات الله عليه فقال عليه‌السلام : رحمه الله وصلّى عليه.

ومن الطريف ان المخاطب الظريف لما سمع رواية الصلوات على محمد بن أبي بكر الذي كان ذا سداد ، ورشاد ، وصاحب نسك وعبادة ، واجتهاد ، ولد في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأثنى عليه الوصي ، وحزنت بجليل رزئه أم المؤمنين ، ودعت على قاتله اللعين ، حاد عنها وشغب عليها ، فورم أنفه وشخب وجهه والتاع قلبه

__________________

١. الرياض النضرة ١ : ٣٧ ، سير أعلام النبلاء ٣ : ٦٥.

٢٠٨

وتحارزت عيونه ، وانتفخت أوداجه ، ونظر شزار ، واستشاط غيظاً ، وضاق ذرعاً ولم يعلم أن أئمته وشيوخه يردون الصلوة على من دعى عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وذكر عماد الدين أبو الفداء اسماعيل في كتابه المسمى بالمختصر من أخبار البشر : انه لما بلغ عائشة قتل أخيها محمد جزعت عليه وقنتت في دبر كلّ صلاة تدعو على معاوية وعمرو بن العاص (١).

وروى الحاكم في المستدرك حديثاً صحيحاً يتضمن لعن عائشة على عمرو بن العاص!

فاخرج بسنده عن مسروق أنه ذكر عند عائشة أن علياً قتل ذا الثدية فقالت لي : اذا أنت قدمت الكوفة فاكتب لي ناساً ممن شهد ذلك ممن تعرف من أهل البلد فلما قدمت وجدت الناس أشياعاً.

فكتبت لها من كلّ شيع عشرة ممن شهد ذلك ، قال : فأتيتها بشهادتهم ، فقالت : لعن الله عمرو بن العاص فانه زعم لي انه قتله بمصر ، قال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (٢).

وفي كثير من الكتب أنه يؤلّب على عثمان ويفسد الأمر عليه ، ذكر صاحب الاستيعاب في ترجمة عبداللّه بن أبي سرح انه لما ولاّه ايّاه يعني مصراً عثمان وعزل عنها عمرو بن العاص يطعن على عثمان ويؤلّب عليه ويسعى في فساد أمره ، فلما بلغه قتل عثمان وكان معتزلاً بفلسطين قال : اني اذا نكأت قرحة أدميتها أو نحو ذلك.

__________________

١. تاريخ أبي الفداء ١ : ٢٤٩.

٢. المستدرك ٤ : ١٤ رقم ٢٣٤٢ ـ ٦٧٤٤.

٢٠٩

وذكر ترجمة محمد بن أبي حذيفة ، أنه كان محمد بن أبي حذيفة أشدّ الناس تأليباً على عثمان وكذلك كان عمرو بن العاص منذ عزله عن مصر يعمل حيلته بالتاليب والطعن على عثمان.

وذكر في ترجمته أيضاً نحو ذلك ، وأورد نحوه السيوطي في « حسن المحاضرة » وابن ظهير في « الفضائل الباهرة ».

ومسألة خبث ولادته معروفة في كثير من الكتب ، منها : « انسان العيون في سيرة الامين والمأمون » ، ومنها : كتاب « المستطرف » ، ومنها : « تذكرة سبط ابن الجوزي » ومحصلها أن أمه كانت بغيّاً عند عبدالله ابن صدعان فوطئها في طهر واحد أبو لهب وأمية بن سلف وأبو سفيان بن حرب والعاص بن الوائل وادعي كلّهم عمرو ، فالحقته أمه بالعاص وقيل لها : لم اخترت العاص؟ فقالت : لانه كان ينفق على بناتي.

ويعجبني ما أورده عالمهم المحدث ابن الشحنة الجلبي في كتاب روض المناظر قال في سنة ستين مات معاوية ، وكان عمره خمساً وسبعين سنة ، وكان يغلب حلمه على ظلمه ، وكان داهية ، يحسن سياسة الملك.

دخلت عليه أروى بنت الحارث بن عبد المطلب فقال لها : مرحباً بك يا خالة كيف حالك؟ فقالت : بخير يابن أختي لقد كفرت النعمة وأسأت لابن عمك الصحبة وتسميت بغير اسمك ، وأخذت غير حقك ، وكنا أهل البيت أعظم الناس في هذا الدين بلاء ، حتى قبض الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشكوراً سعيه ، مرفوعاً منزلته ، فوثبت علينا بعده تميم وعدي وأمية ، فابتزونا حقّنا ، وليتم علينا ، فكنا فيكم بمنزلة بني اسرائيل في آل فرعون ، وكان

٢١٠

علـي بـن أبـي طالـب بعـد نـبينا بمنزلـة هارون من موسى.

فقال لها عمرو بن العاص : كفي أيتها العجوز الضالة ، واقصري عن قولك مع ذهاب عقلك ، فقالت : وأنت يا ابن النابغة (١) ، تتكلّم وأمك كانت أشهر بغي بمكة ، وأرخصهن أجرة ، فادعاك خمسة من قريش ، كلٌّ يقول هو لي ، فسُئلتْ أمك عن ذلك ، فقالت : كلّهم أتاني فانظروا أيهم أقرب شبهاً به وكان أقربهم شبهاً بك العاص بن وائل فألحقوك به.

فقال لها معاوية عفى الله عمّا سلف ، هاتي حاجتك ، فقالت : أريد ألفي دينار اشتري بها فوارة في أرض خوارة تكون لفقراء بني الحارث بن عبدالمطلب ، وألفي دينار أخرى أزوّج بها فقراء بني الحارث ، وألفي دينار أخرى ، أستعين بها على شدّة الزمان ، فأعطاه ستة آلاف دينار وانصرفت (٢) ، وذكر هذه الحكاية أيضاً بعينها أبو الفداء اسماعيل في المختصر (٣).

وبالجملة فمطاعن هذا الشقي كثيرة لا يمكن استيفاؤها ويكفيه ما وقع منه في مقاتلته لنفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن حربه حربه ، وسلمه سلمه ، وما تواتر منه من معاداته أولياء الله وموالاته أعداء الله ، وكونه من القاسطين ومن الفئة الباغية بنصّ النبوي المتواتر بين الفريقين في حق عمّار وغير ذلك.

ومما يقضي منه العجب أن جماعة من أساطينهم وأعيانهم رووا في حقّ هذا الملحد الكافر الملعون أحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما تدلّ على صلاحه

__________________

١. الباغية.

٢. روض المناظر : ١٢٠ ـ ١٢١.

٣. تاريخ أبي الفداء ١ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

٢١١

وفضله : كأحمد بن حنبل ، والترمذي ، وابن عساكر ، والطبراني ، وأبو يعلى ، والبيهقي ، والحاكم وابن سعد ، وغيرهم ، مضافاً إلى ما مرَّ من صلوة النبي عليه كما يعلم من المراجعة إلى « جمع الجوامع » ، و « كنز العمال » روى في الأخير : عمرو بن العاص من صالحي قريش (١).

والترمذي عن طلحة : أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص (٢).

وفي مسند أحمد والترمذي عن عقبة بن عامر الاكمال : نعم أهل البيت عبدالله وأبوعبدالله وأم عبدالله ابن عمرو بن العاص (٣).

وابن عساكر عن عمرو بن دينار عن جابر ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل على عمرو بن العاص فقال : أن عمرو بن العاص لرشيد الأمر (٤) وعن طلحة بن عبيدالله ان عمرو بن العاص لمن صالحي قريش ونعم أهل البيت عبدالله وأبو عبدالله : أحمد بن حنبل وابن عدي عن جابر يا عمرو انك لذي رأي رشيد في الاسلام.

أبو هريرة الدوسي

الذي ملأوا كتبهم وطواميرهم من رواياته وقد سبق نقلاً عن ابن أبي الحديد المعتزلي أن معاوية بذل له مالاً ليفتري على أمير المؤمنين صلوات الله عليه حديثاً يدل على ذمّه ففعل.

____________

١. مسند أحمد ١ : ١٦١ ، سير أعلام النبلاء ٣ : ٥٦.

٢. مسند أحمد ٤ : ١٥٥ ، سنن الترمذي رقم ٣٨٤٤ ، سير أعلام النبلاء ٣ : ٦٤.

٣. مسند أحمد ١ : ١٦١ ، سنن الترمذي رقم ٣٨٤٥ ، سير أعلام النبلاء ٣ : ٥٦.

٤. سير أعلام النبلاء ٣ : ٦٤.

٢١٢

ويعلم من كثير من كتب القوم أنه كان معروفاً بالتساهل في الرواية والوضع والاختلاق ، روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند عبدالله بن عمر في الحديث الرابع والعشرين بعد المائة : من المتفق عليه أي مما اتفق البخاري ومسلم على روايته ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقتل الكلاب الاّ كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية ، فقيل لابن عمر : أن أبا هريرة يقول : أو كلب زرع ، فقال ابن عمر : ان لأبي هريرة زرعاً (١).

وروى في الحديث السادس والستين بعد المائة ، في مسند أبي هريرة : من المتفق عليه أيضاً عن أبي رزين قال : خرج الينا أبوهريرة فضرب يده على جبهته وقال : ألا انكم تحدّثون عليَّ (٢) أنّي أكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتهتدوا وأضلّ ، الحديث. (٣)

وروى في الحديث الستين بعد المأة : من المتفق عليه في مسند أبي هريرة يروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من تبع جنازة فله قيراط من الأجر.

فقال ابن عمر : قد أكثر علينا أبو هريرة (٤).

وقال علي القاري من أجلاء علمائهم ونحارير محققيهم وفضلائهم في المرقاة شرح المشكاة : وعنه أي عن أبي هريرة قال : إنَّكم ـ أي معشر التابعين وقيل الخطاب مع الصحابة المتأخرين ـ تقولون أكثر أبو هريرة أي الرواية عن

__________________

١. الجمع بين الصحيحين للحميدي ٢ : ٢٣٧.

٢. ليست في النسخة المطبوعة لفظة « عليَّ ».

٣. المصدر السابق رقم ٢٣٣٣.

٤. المصدر السابق ، برقم ٢٣٢٧ ، صحيح البخاري٣ : ١٩٢ رقم ١٣٢٣ ـ ١٣٢٤ ، ومسلم ٢ : ٦٥٣.

٢١٣

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والله الموعد ، أي موعدنا فيظهر عنده صدق الصادق وكذب الكاذب لأن الاسرار تنكشف هنالك.

وقال الطيبي : أي لقاء الله الموعد ، أي موعدنا ، يعنى به يوم القيامة فهو يحاسبني على ما أزيد أو أنقص لاسيّما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ما ذكر.

وفي المفاتيح للخلخالي ، شرح المصابيح أيضاً مايقرب مما ذكر.

وقال عبدالله بن مسلم بن قتيبة في كتاب الردّ على من قال بتناقض الحديث : ما يدل على أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعمر وعثمان وعائشة كانوا يكذبون أبا هريرة واعتذر عنه بما لا يجدي ، قال : فأما طعنه على أبي هريرة بتكذيب عمر وعثمان وعلي وعائشة ، فإن أبا هريرة صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحواً من ثلاث سنين وأكثر الرواية عنه ، وعمر بعده نحواً من خمسين سنة ، وكانت وفاته تسع وخمسين ، وفيها توفيت أم سلمة زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتوفيت عائشة قبلها بسنة ، فلما أتى من الرواية عنه ، بما لم يأت بمثله من صحبه من أجلة أصحابه والسابقين الأولين إليه اتّهموه وأنكروا عليه وقالوا : كيف سمعت هذا وحدك ومن سمعه معك وكانت عائشة أشدّهم انكاراً عليه ، حتى تطاولت الأيّام بها وبه وكان عمر شديداً على من أكثر الرواية.

وروى الطبراني في المعجم الاوسط ان أبا هريرة روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من لم يوتر فلا صلاة له ، فقالت : ومن سمع هذا من أبي القاسم ما بعد العهد وما نسينا ، إنّما قال أبو القاسم : من جاء بالصلوات الخمس يوم القيامة ، حافظاً على وضوئها ومواقيتها ، وركوعها ، وسجودها ، لم ينتقص منه شيئاً كان

٢١٤

له عهد أن لا يعذبه ، ومن جاء وقد انتقص منهن شيئاً فليس له عهد عند الله ان شاء رحمه وان شاء عذّبه.

وروى شمس الأئمة في كتاب الاصول : أنه لما سمعت ـ أي عائشة ـ أبا هريرة يروى أن ولد الزنا شرّ الثلاثة ، قالت : كيف يصح هذا!؟ وقد قال الله تعالى : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى (١).

وفي كنز العمال عن ميمون بن مهران أنه شهد ابن عمر صلّى على ولد الزنا ، فقيل له : أن أبا هريرة لم يصل عليه ، وقال : هو شرّ الثلاثة ، فقال ابن عمر : هو خير الثلاثة.

وروى أيضاً بعد الرواية السابقة ، أن عائشة قالت : لابن أختها ألا تعجب من كثرة رواية هذا الرجل أي أبي هريرة؟ ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حدّث بأحاديث لو عدّها عاد لأحصاها.

وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي أن أبا هريرة روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لا يمش أحدكم في نعل واحدة لينعلهما جميعاً أو ليخلعهما جميعاً » (٢).

وروى الحافظ أبوزرعة العراقي في كتاب شرح الاحكام عن ابن أبي شيبة عن ابن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه ان عائشة كانت تمشي في خفّ واحد وتقول لاخيفنّ أبا هريرة قال واسناده صحيح.

__________________

١. الاسراء : ١٥.

٢. الجمع بين الصحيحين ٣ : ١٢٣ رقم ٢٣٣٣.

٢١٥

وروى أيضاً في كتاب المذكور أنه روى ابن عبد البر في « التمهيد » عن عائشة رضي الله عنها أنها أخبرت أبا هريرة يحدّث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال الشوم في الثلاث : الفرس ، والمرأة والدار ، فطارت شقة منها في السماء وشقة في الارض ، ثم قالت : كذب والذي أنزل الفرقان على أبي القاسم من حدث عنه بهذا؟ ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول : كان أهل الجاهلية يقولون الطيرة في المرأة والدار والدابة ، ثم قرأت عائشة : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها إنَّ ذلك على الله يسير ) (١) (٢).

وذكر ابن الاثير في النهاية : ومنه حديث عائشة : « فطارت شقة منها في السماء وشقة في الارض » هو مبالغة في الغضب والغيظ (٣). وأورد هذا الحديث بعينه وبتمامه عبدالله بن قتيبة في كتاب الردّ على من قال بتناقض الحديث أيضاً.

ورواه أيضاً أحمد بن حنبل وابن خزيمة والحاكم قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري : روى أحمد وابن خزيمة والحاكم من طريق قتادة عن أبي حسان ، أن رجلين من بني عامر دخلا على عائشة فقالا : أن أباهريرة قال : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الطيرة في الفرس ، والمرأة ، والدار ، فغضبت غضباً شديداً وقالت : ما قاله؟ وانما قال : ان أهل الجاهلية يتطيرون من ذلك (٤).

__________________

١. الحديد : ٢٢.

٢. التمهيد لما في الموطأ من المعاني ٩ : ٢٨٩.

٣. النهاية لابن الاثير ٣ : ١٥١ في « طير » وفيها : ومنه حديث عائشة : أنها سمعت ان الشوم في الدار والمرأة ، فطارت شقة منها في السماء وشقة في الارض » أي كأنها تفرّقت وتقطَّعت قطعاً ، من شدّة الغضب.

٤. فتح الباري ٦ : ٤٠١.

٢١٦

وفي كتاب الاصول للسرخسيّ أنه لما بلغ عمر أن أبا هريرة يروي بعض مالا يعرف ، قال : لتكفن عن هذا أو لالحقنك بجبال دوس (١).

وفي كنز العمال عن السائب بن يزيد ، قال سمعت عمر بن الخطاب ، يقول لابي هريرة : لتتركنّ الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لألحقنّك بأرض دوس وقال لكعب لتتركنّ الحديث أو لألحقنّك بأرض القردة (٢).

وذكر علاّمتهم الزمخشري في الفائق : أن أبا هريرة استعمله عمر على البحرين فلما قدّم عليه قال : يا عدوّ الله وعدوّ رسوله سرقت من مال الله فقال : لست بعدوّ الله ولا عدوّ رسوله ، ولكني عدوّ من عاداهما وما سرقت ، ولكنها سهام اجتمعت ونتاج خيل فأخذ منه عشرة آلاف درهم فألقاها في بيت المال ثم دعاه إلى العمل فابى.

فقال عمر : فان يوسف قد سئل العمل ، فقال : ان يوسف مني بريءٌ وأنا منه برآء وأخاف ثلثا واثنتين ، قال : أفلا تقول خمساً؟ قال : أخاف أن أقول بغير حكم واقضى بغير علم ، وأخاف أن يضرب ظهري ويشتم عرضي ويؤخذ مالي.

البراء : البري المراد بالبرائة بعده عنه في المقايسة لقوة يوسف على الاستقلال باعباء الولاية وضعفه عنه ، وأراد بالثلاث والاثنتين : الخلال المذكورة وانما جعلها قسمين لكون الثنتين وبالاً عليه في الآخرة والثلاث بلاء أو ضرراً في الدنيا.

ويظهر من رسالة الفخر الرازي في تفضيل الشافعي ، أن الحنفية كانوا

__________________

١. أصول السرخسي ١ : ٣٤١.

٢. تاريخ مدينة دمشق ٦٧ : ٣٤٣.

٢١٧

يطعنون في أبي هريرة ، قال : وأما أصحاب الرأي فان أمرهم في باب الخبر والقياس عجيب ، فتارة يرجحون القياس على الخبر ، وتارة بالعكس.

أما الأول : فهو أن مذهبنا ، أن التصرية سبب مثبت للرَّد ، وعندهم ليس كذلك ، ودليلنا : ما أخرج في الصحيحين عن أبي هريرة ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا تصرّوا الإبل والغنم ، فمن ابتاعها بعد ، فإنه يخيّر النظرين بعد أن يحلبها ثلاثاً ان رضيها أمسكها وان سخطها ردّها ، وردّ معها وصاعاً من تمر (١).

واعلم أن الخصوم لمّا لم يجدوا لهذا الخبر تأويلاً البتة بسبب ، أنه مفسر في محل الخلاف ، اضطروا إلى أن يطعنوا في أبي هريرة ، وقالوا : انه كان متساهلاً في الرواية ، وما كان فقيهاً ، والقياس على خلاف هذا الخبر ، لأنه يقتضي تقدير خيار العيب بالثلاث ، ويقتضي تقويم اللبن بصاع من تمر من غير زيادة ولا نقصان ، ويقتضي اثبات عوض في مقابلة لبن حادث بعد العقد ، فهذه الاحكام مخالفة للاصول فوجب ردّ ذلك الخبر لأجل القياس.

وذكر ابن حجر في فتح الباري في كتاب البيوع : أنه قال الحنابلة : واعتذر الحنفية عن الأخذ بحديث المصراة باعذار شتى ، فمنهم من طعن في الحديث لكونه من رواية أبي هريرة ، ولم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة ، فلا يؤخذ بما رواه مخالفاً للقياس الجليّ (٢).

__________________

١. صحيح البخاري كتاب البيوع ، باب النهي للبايع أن لا يحفل الإبل ... رقم ٢١٤٨ و ٢١٥٠.

٢. فتح الباري ، كتاب البيوع ٤ : ٢٩٠.

٢١٨

أبوحنيفة يطعن على أبي هريرة

وذكر الزندويستي (١) وهو من أجلّة علماء الحنفية وأعاظم مشايخهم وأثنى عليه الكفوي في « كتائب الاعلام الاخيار » في كتابه المسمى بـ « روضة العلماء » روى عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه سئل ، فقيل له : اذا قلت قولاً وكان كتاب الله يخالف قولك؟ قال : أترك قولي بكتاب الله ، فقيل : اذا كان خبر الرسول يخالف قولك؟ قال : أترك قولي بخبر الرسول ، فقيل : اذا كان قول الصحابي يخالف قولك؟ قال : أترك قولي بقول الصحابي ، فقيل له : اذا كان قول التابعين يخالف قولك؟ قال : اذا كان التابعي رجلاً فأنا رجل ، ثم قال : أترك قولي بجميع قول الصحابة الاّ ثلاثة منهم : أبوهريرة ، وأنس بن مالك ، وسمرة بن جندب.

قال : قال الفقيه أبو جعفر الهندواني : انما لم يترك قوله بقول هؤلاء الثلاثة لأنهم مطعونون الى آخر ما ذكره.

وحكى أيضاً عن عيسى بن أبان أنه قال : أقلّد أقاويل جميع الصحابة الاّ ثلاثة منهم : أبوهريرة ، ووابصة بن معبد (٢) ، وأبو سنابل بن بعكك.

والقضية السابقة أعني مطعونية أبي هريرة عند أبي حنفية مذكورة في « كتائب الأعلام الأخيار » أيضاً.

ويظهر من ابن حزم الاندلسي من أعيان محققي القوم الذي ذكروا أنه بلغ

__________________

١. الحسين بن يحيى البخاري الزَّنْدوِيستيّ له كتاب روضة العلماء ونظم الفقه وترجمته في الجواهر المضية ١ : ٦٢١ باسم « علي بن يحيى » والفوائد البهية : ٢٢٥ وتاج التراجم : ٩٤ رقم ١٠٣ وكشف الظنون ١ : ٩٢٨.

٢. أسد الغابة ٦ : ١٥٦ رقم ٥٩٧٩.

٢١٩

رتبة الاجتهاد فكان لا يقلّد أحداً من الأئمة الأربعة ، وذكر محيى الدين في الفتوحات أنه رآه صار متّحداً مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتاب « المحلى » في مسألة أحقيّة البايع بمتاع المبتاع اذا أفلس : ان محمد بن الحسن الشيباني مقلّد الحنفية وتلميذ إمامهم الأعظم ، والذي نقلوا في حقه من الشافعي : أن اليهود والنصارى لو نظروا في تصانيف محمد بن الحسن لآمنوا من غير اختيار ، كان يطعن في أبي هريرة ، ولايحتج بروايته.

قال ابن حزم : روينا من طرق أبي عبيدة ، أنه ناظر في هذه المسألة ، محمد بن الحسن ، فلم يجد عنده أكثر من أن قال : هذا من حديث أبي هريرة.

قال علي : نعم والله من حديث أبي هريرة البر الصادق ، لا من حديث مثل محمد بن الحسن الذي قيل لعبدالله بن المبارك : من أفقه أبو يوسف أو محمد بن الحسن؟ فقال : قل أيهما أكذب (١).

وليت شعري أن الحنفية لماذا يعتمدون على رواية أبي هريرة بعد ما صدر في حقه عن إمامهم الأعظم وتلميذه الأفخم ما صدر؟!

ومن مطاعنه : أنه كان يلعب بالشطرنج ، ذكر الدميري في حياة الحيوان في لغة العقرب ما لفظه : وروى الصعلوكي تجويزه ، أي الشطرنج عن عمر بن الخطاب ، وأبي هريرة ، والحسن البصري ، والقاسم بن محمد ، وأبي قلابة ، وأبي مجلز ، وعطاء ، والزهري وربيعة بن عبدالرحمن ، وأبي الزياد ، والمروي ، عن أبي هريرة من اللعب به مشهور في كتب القوم.

وذكر ابن الاثير في النهاية : وفي حديث بعضهم قال رأيت أبا هريرة

__________________

١. المحلى ، كتاب البيوع ، باب : أحكام التفليس ٨ : ١٧٨ ـ ١٧٩.

٢٢٠