القول الصّراح في البخاري وصحيحه الجامع

الميرزا فتح الله بن محمّد جواد الإصبهاني

القول الصّراح في البخاري وصحيحه الجامع

المؤلف:

الميرزا فتح الله بن محمّد جواد الإصبهاني


المحقق: الشيخ حسين الهرساوي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-024-X
الصفحات: ٢٦٢

وأولاده فبيّن تعالى أنه مع هذه العادة تبرّأ من أبيه وغلظ قلبه عليه لَما ظهر له اصراره على الكفر ، فانتم بهذا المعنى أولى.

ولذلك وصفه أيضاً بأنه حليم ، لان أحد أسباب الحكم رقة القلب وشدّة العطف لان المرء اذا كان حاله هكذا اشتدّ حلمه عند الغضب (١).

وانت خبير بان هذا الكلام انما يتم لو كان المراد التبري في الدنيا ، اذ لوكان تبريه منه في الآخرة مع استغفاره له في الدنيا حتى بعد موته لم يكن هذا ممّا يوجب امتناع المؤمنين عن الاستغفار لاقربائهم من المشركين بل كان مؤيداً لجوازه إلى غير ذلك من وجوه الفساد في هذا الكلام.

نسبة الخلاف إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ومنها : ما أورده في كتاب التفسير عن ابن عمر قال : لمّا توفي عبدالله بن أبي ، جاء ابنه عبدالله بن عبدالله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه ، فأعطاه ثم سئله أن يصلي عليه ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصلي عليه ، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصلي عليه؟! وقد نهاك ربك أن تصلي عليه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما خيّرني الله ، فقال : ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم ) ، وسأزيد على السبعين ، قال : انه منافق ، قال : فصلى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأنزل الله تعالى : ( ولاتصلّ على أحد منهم مات أبداً ولاتقم على قبره ) (١) (٢).

__________________

١. التفسير الكبير للرازي ١٦ : ٢١٢. ٢. التوبة : ٨٤.

٢. صحيح البخاري كتاب تفسير القران سورة التوبة رقم ٤٦٧٠ ، ٤٦٧٢ ، كتاب الجنائز باب الكفن في القميص رقم ١٢٦٩ ، كتاب اللباس باب لبس القميص رقم ٥٧٩٦.

١٠١

حكم الغزالي في المنخول (١) بان هذا الحديث كذب قطعاً.

قال بعد ذكر الاحتجاجات الشافعية على حجية المفهوم وردّها ، ما هذا لفظه : على أن ما نقل في آية الإستغفار ، كذب قطعاً ، اذ الغرض منه التناهي في تحقيق اليأس من المغفرة ، فلا يظن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذهول عنه.

وقال العسقلاني في شرح البخاري : وقد استشكل فهم التخيير من الآية على كثير ، وسبق جواب الزمخشري عن ذلك.

وقال صاحب الانصاف : مفهوم الآية ممّا زلّت فيه أقدام حتى أنكر القاضي أبوبكر الباقلاني صحة الحديث ، وقال : لا يجوز أن يقبل هذا ولا يصح أن رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاله.

وقال امام الحرمين في مختصره : هذا الحديث غير مخرج في الصحيح ، وقال في البرهان : لايصحّحه أهل الحديث.

وقال الغزالي في المستصفى : الاظهر أن هذا الخبر غير صحيح ، وقال الداوودي الشارح : هذا الحديث غير محفوظ ، وهذا عجيب.

وحكى ابن حجر في فتح الباري أيضاً هذه الاقوال فراجع (٢).

حديث : احراق بيت النملة

ومنها : رواه في كتاب بدء الخلق ، قال : حدّثنا اسماعيل بن أبي أويس ، قال حدّثني مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة ، فأمر بجهازه فاخرج من تحتها ، ثم أمر ببيتها فاحرق بالنّار ، فأوحى الله تعالى إليه : فهلاّ نملة واحدة؟ (٣)

__________________

١. أنظر تخريج المنخول : ٣٩.

٢. فتح الباري ١٠ : ٢١٨ و ٢١٩.

٣. صحيح البخاري كتاب بدء الخلق ، باب خمس من الدواب فواسق رقم ٣٣١٩.

١٠٢

ويكفي في بطلانه ما ذكره الفخر الرازي تشنيعاً على الشيعة من أنهم في طعنهم على الصحابة أقلّ ادراكاً وشعوراً من نملة سليمان حيث أنها علمت أن أصحاب سليمان بمجرّد ادراكهم صحبته النبي في مدّة قليلة لايعتمدون اهلاك النمل وحطمها ، واحتملت أن يقع منهم لا عن التفات ، فلذا قيّده بقولها : ( وهم لايشعرون ) (١).

واستحسن هذا الكلام بعض أعيان متأخري العامة ، وهو صاحب التحفة الاثني عشرية ، قال في مقام تسفيه من يطعن على الصحابة ما هذا لفظه : ... (٢).

__________________

١. النمل : ١٨.

٢. تحفه اثنى عشرية : ١٩٣ ، وقد ذكر عبارته باللغة الفارسية نأتي بتعريبها : وفي هذا المقام للإمام الفخر الرازي كلام في غاية المتانة ، وأوقع في النفوس والأذهان ، فإنه قال : أن الروافض عندي أقل قدراً من النملة التي كانت في قصة سليمان ، من جهة العقل وحسن الإعتقاد بنبيهم ، لأنها قالت عند رؤية الجنود : ( يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم لايحطمنكم سليمان وجنوده وهم لايشعرون ) أي أدخلوا في مساكنكم حتى لا تُقتلوا تحت أقدام جنود سليمان سهواً.

وقد علِمَت النملة أن جنود سليمان لايتعمّدون ولايظلمون أحداً ، لأنهم قد تهذبوا وتأدبوا بقليل صحبتهم النبي ، وبذلك لايظلمون متعمدين النملة الضعيفة ولايقتلونها.

وأما الروافض ، فإنّهم لايفهمون ذلك أبداً ، لأنهم يقولون : ان صحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تؤثر في نفوس أصحابه بمثل ما تؤثر صحبة سليمان في جنوده ، مع أنه كان أفضل الأنبياء فلابد أن تكون أكثر تأثيراً في نفوس أصحابه لاسيما في كبارهم الملازمون له ، حتى الذي كان معه في الغار ورفيقه في الشدائد ، ولا تؤثر صحبته فيهم حتى يذهب عنهم الشيطنة والشرارة ، بل أنهم مع ذلك كلّه قد ارتكبوا أكثر من غيرهم الفضائح ، حتى آذوا ابنته وصهره وبني ابنته الذين كانوا من بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتامى بلا ناصر ومعين ، فظُلموا وأُوذوا بأيدي خيار أصحابه ، أُحرقوا دارهم وهتكوا قدرهم ، أخذوا ما بأيديهم من الأراضي والضياع وما تكون بها وجوه معائشهم ، ولايزال في إيذائهم. معاذ الله من ذلك.

يلاحظ عليه : أن الفخر ومؤيده صاحب التحفة وغيرهما لايفهمون أن في الموارد الكثيرة من

١٠٣

فاذا كان حطم النمل التي تقع تحت الاقدام ممتنعاً من جنود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمداً فامتناع اهلاكها واحراقها من نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى ، فلينظر العاقل أن هؤلاء القوم المصحّحين لروايات البخاري الموجبة لاثبات أمثال هذا على الأنبياء عليهم‌السلام أولى بالتسفيه والتحميق أو من يطعن على جماعة من الصحابة بالنصوص الثابتة الصحيحة عند الفريقين المروية في اسفار الفريفين.

حديث : تفضيل الخلفاء وتكذيب رواته

ومنها : ما أورده في باب مناقب عثمان عن ابن عمر قال : كنا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نفاضل بينهم (١).

__________________

الكتاب والسنة ما ينافي ويناقض مدّعاهم ، لأن تمامية التأثير للمقتضي من دون نظر إلى فقد المانع غير معقول.

فإن التزم الفخر وغيره بتمامية التأثير للمقتضي دون فقد الموانع فقد التزموا في الواقع بأمور مستحيلة ، ومثلها ما في امرأة نوح وامرأة لوط اللتين ( كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما ) ، التحريم : ١٠ ـ وهكذا في الآية المباركة ( إنْ تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ) التحريم : ٤ ـ على ما في تفسير الآية عن عمر بن الخطاب أنهما عائشة وحفصة ، ولاتؤثر فيهما صحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهل ذلك لقصور المقتضي أعني وعظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاهما ; أم لوجود المانع للإتّعاظ فيهما؟

وهكذا قول أبي بكر : إن لي شيطاناً يعتريني ، فإن اعتراه الشيطان وارتكب متعمّداً جناية فالارتكاب معلول قصور المقتضي لوعظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لموانع في نفسه ، حيث قال في أواخر أيّامه : « وَدِدتُ أني لم أكن كشفت بيت فاطمة » المعجم الكبير للطبراني ١ : ٦٢ ، كتاب الأموال لأبي عبيد : ١٧٤ ، ميزان الإعتدال ٣ : ١٠٨ ، رقم ٥٧٦٣ ، لسان الميزان ٤ : ٧٠٦ رقم ٥٧٥٢.

وما ذكر في التفاسير المعتبرة من النفاق في جماعة أدركوا صحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلّوا خلفه ، ثم تركوه واشتغلوا باللهو والتجارة كما في سورة الجمعة : ( وتركوك قائماً ).

١. صحيح البخاري كتاب فضائل الصحابة باب فضائل عثمان رقم ٣٦٩٨ وفي فضائل أبي بكر رقم ٣٦٥٥.

١٠٤

والدلائل على الكذب والبطلان في هذا الهذيان والبهتان أكثر من أن تحصى وأوفر من أن تستقصى اذ قد ثبت بالادلة الساطعة والبراهين القاطعة ممّا صحت من طرقهم ورويت في صحاحهم أفضلية علي عليه‌السلام عن الشيخين فضلاً عن الثالث.

ثم ان هذا الخبر مخالف لاجماعهم حيث أنهم مجمعون على أفضليته عليه‌السلام عن غير الثلاثة من الصحابة ، ولذا بالغ علاّمتهم المحدّث ابن عبد البر في الاستيعاب في ابطال هذا الخبر ، قال :

أَخبرنا محمد بن زكريا ويحيى بن عبدالرحمن وعبدالرحمن بن يحيى قالوا حدثنا أَحمد بن سعيد بن حرم ثنا أَحمد بن خلد ثنا مروان بن عبدالملك ، قال سمعت هارون بن اسحاق يقول : سمعت يحيى بن معين يقول : من قال ابو بكر وعمر وعثمان وعلي وعرف لعلي سابقته وفضله فهو صاحب سنة.

فذكرت له هؤلاء والذين يقولون : أبوبكر ، وعمر ، وعثمان ثم يسكتون فتكلم فيهم بكلام غليظ.

وكان يحيى بن معين يقول : أَبو بكر وعمر وعلي وعثمان.

وقال ابو عمرو : من قال بحديث ابن عمر : كنا نقول على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ثم نسكت ، يعني فلا نفاضل وهو الذي أنكر ابن معين وتكلّم فيه بكلام غليظ ، لأن القائل بذلك قد قال بخلاف ما اجتمع عليه أَهل السنة من السلف والخلف من أَهل الفقه والأثر ، بأنّ علياً أفضل الناس بعد عثمان ، هذا مما لم يختلفوا فيه وإنّما اختلفوا في تفضيل عليّ وعثمان ، واختلف السلف أَيضاً في تفضيل عليّ وأَبي بكر.

١٠٥

وفي اجماع الجميع الذي وصفنا دليل على أن حديث ابن عمر وَهمٌ وغلط وأنه لا يصح معناه وان كان اسناده صحيحاً (١).

ويلزم من قال به أن يقول بحديث جابر وحديث ابن سعيد : كنّا نبيع أمّهات الاولاد على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم لايقولون بذلك ، فقد ناقضوا وبالله التوفيق.

حديث : ليلة الإسراء

ومنها : قصة الاسراء ، قال : حدّثنا عبدالعزيز بن عبدالله ، قال : حدّثني سليمان عن شريك بن عبدالله ، أنه قال : سمعت أنس بن مالك يقول : ليلة أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مسجد الكعبة ، « أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحي إليه وهو نائم في المسجد الحرام.

فقال : أولهم : أيهم هو؟ فقال أوسطهم : هو خيرهم ، فقال آخرهم : خذوا خيرهم.

فكانت تلك الليلة ، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه ، وتنام عينه ولاينام قلبه.

__________________

١. الاستيعاب ٣ : ١١١٦. وفي الطعن على عبدالله بن عمر لحديثه هذا ، قال القاضي أَبو يعلى في « طبقات الحنابلة » : قال أَبو يحيى أَيضاً : سمعت أَبا غسان الدوري يقول : كنت عند علي بن الجعد ، فذكروا عنده حديث ابن عمر « كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنقول : خير هذه الأَمة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أَبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، فيبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكر »! فقال علي : انظروا إِلى هذا الصبي ، هو لم يحسن يطلق امرأَته ، يقول : كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طبقات الحنابلة ١ : ١٥٨ رقم ٢١٣ ، سير أَعلام النبلاء ١٠ : ٤٦٣ ـ ٤٦٤ .. وقد صنّفت في ذلك رسالة مختصرة وسميته : « حديث التربيع ».

١٠٦

وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ، فلم يكلّموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاّه منهم جبرئيل ، فشقّ جبرئيل ما بين نحره إلى لبَّته حتى فرغ من صدره وجوفه ، فغسله من ماء زمزم بيده ، حتى أنقى جوفه ، ثم أتى بطست من ذهب فيه تورٌ من ذهب محشوّاً إيماناً وحكمة ، فحشا به صدره ولغاديده ـ يعني : عروق حلقه ـ ثم أطبقه ثم عرج به الى السماء الدنيا ، فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء : من هذا؟ فقال : جبرئيل ، فقالوا : ومن معك؟ قال : معي محمد ، قال : وقد بعث إليه؟ قال : نعم ، قالوا : فمرحباً به وأهلاً الى آخر ما ذكره (١).

وأورده مسلم أيضاً في صحيحه ، وقال النووي في شرح مسلم ، قوله ذلك : قبل أن يوحي إليه : وهو غلط لم يوافق عليه ، فإن الاسراء أقل ما قيل فيه ، أنه كان بعد مبعثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخمسة عشر شهراً.

وقال الحربي : كان ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة.

وقال الزهري : كان ذلك بعد مبعثه بخمس سنين ، وقال ابن اسحاق : أسري به وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل ، وأشبه هذه الاقوال قول الزهري ، وابن اسحاق ، اذ لم يختلفوا أن خديجة رضي الله عنها صلّت معه بعد فرض الصلاة عليه ، ولا خلاف في أنها توفيت قبل الهجرة بمدّة ثلاث سنين وقيل بخمس.

____________

١. صحيح البخاري كتاب التوحيد باب قوله تعالى ( وكلّم الله موسى تكليماً ) ـ النساء : ١٦٤ ـ رقم ٧٥١٧ ، وكتاب المناقب باب كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنام عينه ولاينام قلبه ، رقم ٣٥٧٠.

١٠٧

ومنها : أن العلماء مجمعون على أن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء فكيف يكون هذا قبل أن يوحى إليه؟!

وأما قوله : في رواية شريك ، وهو نائم ، وفي الرواية الأُخرى : بينا أنا عند البيت ، بين النائم واليقظان ، فقد يحتج به من يجعلها رؤية نوم ، ولاحجة فيه ، اذ قد يكون ذلك حالة أول وصول الملك إليه ، وليس في الحديث ما يدل على كونه نائماً في القصة كلّها.

هذا الكلام للقاضي رحمهم‌الله ، وهذا الذي قاله في رواية شريك ، وان أهل العلم أنكروها ، قد قاله غيره ، وذكر البخاري رواية شريك هذه عن أنس في كتاب التوحيد في صحيحه وأتى بالحديث مطولاً.

قال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين بعد ذكر هذه الرواية : هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك بن أبي نمر ، عن أنس وقد زاد فيه زيادة مجهولة ، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة ، وقد روى حديث الاسراء جماعة من الحفاظ المتقنين عن الائمة المشهورين ، كابن شهاب ، وثابت البناني ، وقتادة ، يعني عن أنس : فلم يات أحد منهم بما أتى به شريك وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث ، قال : والأحاديث التي تقدّمت قبل هذا هي المعول عليها (١).

وقال الكرماني في الكواكب الدراري : قال النووي : جاء في رواية شريك أوهام أنكرها العلماء ، في جملتها أنه قال : « ذلك قبل أن يوحي اليه » ، وهو غلط لم يوافق عليه.

__________________

١. صحيح مسلم بشرح النووي ٢ : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

١٠٨

وأيضاً العلماء أجمعوا على أن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء فكيف يكون قبل الوحي.

أقول : وقول جبرئيل في جواب بوّاب السماء ، اذ قال : أبَعَثَ؟ قال : نعم ، صريح في أنه كان بعده (١).

وقال ابن القيم في زاد المعاد : فصل قال الزهري : عرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيت المقدس والى السماء قبل خروجه إلى المدينة بسنة.

وقال ابن عبد البر وغيره : كان بين الاسراء والهجرة سنة وشهران ، وكان الاسراء مرة واحدة وقيل مرّتين ، مرّة يقظة ومرّة مناماً ، وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وقوله : ثم استيقظت ، وبين سائر الروايات.

ومنهم من قال : بل كان هذا مرّتين ، مرّة قبل الوحي بقوله : في حديث شريك : « وذلك قبل أن يوحى اليه » ومرّة بعد الوحي ، كما دلّت عليه سائر الاحاديث.

ومنهم من قال : بل ثلاث مرّات ، مرّة قبل الوحي ، ومرّتين بعده.

وكلّ هذا خبط ، وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين اذا رؤوا في قصة لفظ تخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرّة أخرى ، فكلّما اختلف عليهم الروايات عدّدوا الوقائع.

والصواب الذي عليه أئمة النقل أن الاسراء كان مرّة واحدة بمكة بعد البعثة ، ويا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه مراراً ، كيف ساغ لهم أن يظنّوا أنه في

__________________

١. الكواكب الدراري ٢٥ : ٢٠٤.

١٠٩

كلّ مرّة تفرض عليه الصلاة خمسين ، ثم يتردّد بين ربه وبين موسى ، حتى تسير خمساً ، ثم يقول : « امضيت فريضتي وخفّفت عن عبادي ، ثم يعيدها في المرّة الثانية إلى خمسين ، ثم يحطها عشراً عشراً ، وقد غلّط الحفاظ شريكاً في الفاظ من حديث الاسراء (١).

حديث : تفضيل زيد بن عمرو بن نفيل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ومنها : ما أورده في كتاب الذبائح : « حَدَّثَنا مُعَلى بنُ أَسَد ، حَدَّثَنا عَبدُالعَزيزِ ـ يَعني ابنَ المُختارِ : أَخبَرَنا مُوسى بنُ عُقبَةَ قالَ : أَخبَرَني سالِمُ أَنَّهُ سَمِعَ عَبدَاللهِ يُحَدِّثُ عَن رَسُولِ الله : أَنَّهُ لَقِيَ زَيدَ بنَ عَمروبنَ نُفَيل بِأسفَل بَلْدَح ـ وَذاكَ قَبلَ أَنْ يُنزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوَحيُ ـ فَقَدَّمَ إِلَيهِ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سُفرَةً فِيها لَحْمٌ ، فَأبى أَنْ يَأكُلَ مِنْها ، ثُمَّ قالَ : إِنّي لاآكُلُ مِما تَذْبَحونَ عَلَى أَنْصابِكُمْ ، وَلاآكُلُ إِلاّ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيهِ »!!. (٢)

وأورد هذا الحديث الامام أحمد بن حنبل وأبو يعلى والبزار وغيرهم من أكابر القوم مع التصريح بأكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما ذبح على النصب ، قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري شرح البخاري :

وقد وقع في حديث سعيد بن زيد الذي قهر منه وهو عند أحمد ، فكان زيد يقول : عذت بما عاذ به ابراهيم ثم يخرُّ ساجداً للكعبة ، قال : فمرّ بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزيد بن حارثة وهما يأكلان من سفرة لهما فدعياه.

__________________

١. زاد المعاد ٣ : ٤١ ـ ٤٢.

٢. صحيح البخاري ٦ : ٢٢٥ ، كتاب الذبائح ، باب : ما ذبح على النصب والأَصنام ط باموق ، فتح الباري ٩ : ٥١٨.

١١٠

قال : يابن أخي لا آكل مما ذبح على النصب ، قال : فما رأي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأكل مما ذبح على النصب من يومه وذلك.

وفي حديث زيد بن حارثة عند أبي يعلى والبزار وغيرهما ، قال : خرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً من مكة وهو مرد في مذبحنا شاة على بعض الأصنام فاذبحناها فلقينا زيد بن عمرو ، فذكر الحديث مطولاً ، فقال زيد : اني لا أكل مما لم يذكر اسم الله عليه (١).

وأورده البخاري أيضاً في موضع آخر من صحيحه ، لكن بتعبير وتبديل ، قال في كتاب المناقب ، باب حديث زيد بن عمرو ابن نفيل : حدّثني محمد بن أبي بكر ، قال : حدّثنا فضيل بن سليمان ، حدّثنا موسى ، حدثنا سالم بن عبدالله بن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقى زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوحي فقدمت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفرة فأبى أن يأكل منها.

ثم قال زيد : إني لست آكل مما تذبحون على انصابكم ، ولا آكل الاّ ما ذكر اسم الله عليه ، وان زيدبن عمرو كان يعيب على قريش ذبائهم ، ويقول : الشاة خلقها الله تعالى وانزل لها من السماء الماء وانبت لها من الارض ثم تذبحونها على غير اسم الله؟ انكاراً لذلك واعظاماً له (٢).

وأيّاً من هذه الروايات قلنا به يوجب اثبات طعن عظيم على سيد النبيين وأفضل المرسلين واثبات أعرفية زيد بالله وتعظيمه منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويدل على أن مثل هذا الامر الذي ارتكز قبحه في عقل زيد الغير المتدين

__________________

١. فتح الباري ٩ : ٥١٨.

٢. صحيح البخاري كتاب المناقب ، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل رقم ٣٨٢٦.

١١١

بدين وفي عقول المتقطنين وان لم يكونوا بالشرايع ملتزمين ، قد خفي على سيد البشر نعوذ بالله من هذه الهذيانات.

اذ لو قيل بموجب رواية أحمد وأبي يعلى والبزار من أكله مما ذبح على النصب بل مباشرته لهذا الذبح مع زيد بن حارثة فالامر واضح ، ولو قيل بموجب ما رواه البخاري في كتاب الذبائح فهو أيضاً لايخلو من رضائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الامر الشنيع وحفظ هذا اللحم في السفرة وعدم ابائه عن أكله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته لزيد في الاكل منه واباء زيد وأعرفيته بالله منه وأورعيته وأعقليّته.

ولو قيل بموجب ما رواه في كتاب المناقب فكذلك اتحاد الحديثين ، فلابد من ارجاع الضمير في قوله : فأبى ، إلى زيد كما هو سياق الكلام والمقام والحديث يفسّر بعضه بعضاً ، كما صرّح به أعيان العامة فيلزم جميع ما ذكرنا.

ولو تعسّف متعسّف فارجع الضمير إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا أقل دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيداً إلى هذا الامر القبيح الذي تقرّرت حرمته في الشرايع السابقة بل في شريعة ابراهيم على ما اعترف بعض أعيانهم وارتكز قبحه في العقول ولننقل بعض كلمات القوم مما يتعلق بالمقام.

فنقول من عجيب الأمر أن ابن روزبهان لابتلائه بضيق خناق الالزام والافحام من علامة العلماء الاعلام حيث ذكر هذا الحديث بعين الالفاظ التي أوردها البخاري في كتاب الذبائح ، من أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقى زيد بن عمرو فقدم اليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها ثم قال : اني لا آكل مما تذبحون على انصابكم! اضطرب واختلّ عقله وضاق عليه الامر فاختلق تتمة لهذا الحديث غير مرتبطة به لفظاً ولا معنى.

١١٢

فقال : من غرائب ما يستدل به على ترك امانة هذا الرجل وعدم الاعتماد والوثوق على نقله رواية هذا الحديث ، فقد روى بعض هذا الحديث ليستدل به على مطلوبه وهو الطعن في رواية الصحاح ، وما ذكر تمامه وتمام الحديث : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قال لزيد بن عمرو بن نفيل هذا الكلام ، قال : وأنا أيضاً لا آكل من ذبيحتهم ومما لم يذكر عليه اسم الله تعالى فاكلا معاً ».

وهذا الرجل لم يذكره التتمة ليتمكن من الطعن في الرواية ، نسأل الله العصمة من التعصب فانه بئس الضجيع.

أقول : فيه أولاً : ان هذه التتمة موضوعة مختلقة افتراها واخترعهاً هذا الناصب ، ونسخ صحيح البخاري موجودة منتشرة في شرق العالم وغربها ليس فيها من هذه التتمة عين ولا أثر فليراجع من أراده.

وثانياً : انه إمّا أن يكون الضمير في الحديث في قوله : « فأبى » و « ثم قال » راجعاً إلى الرسول أو إلى زيد ، فان كان راجعاً إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنفس العبارة المنقولة كافية في دفع الطعن ، ولايتمكن من الطعن فيه وان لم تكن هذه التتمة موجودة مع أن صريح كلامه ابتناء عدم التمكن من الطعن ودفعه على هذه التتمة وأيضاً على التقدير فالضمير في هذه التتمة في قوله : « قال وأنا أيضاً » ان كان راجعاً إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا معنى له أصلاً بل يصير من قبيل الهذيان ، اذ بعد قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث : أنا لا آكل ، فأي معنى لقوله ثانياً : وأنا أيضاً لا آكل؟

وان كان إلى زيد فلهذه التتمة مدخلية في دفع الطعن عن زيد؟ والكلام لم يكن فيه ، ولم يرده العلامة قدّس الله روحه حتى يحذف التتمة لاجله ،

١١٣

وان كان الضمير في الحديث في قوله : « فأبى ثم قال » راجعاً إلى زيد فلا معنى لقوله : لما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزيد هذا الكلام.

فان هذا الكلام على هذا التقدير لم يقله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل قاله زيد ولا شبهة في أن هذا الكلام إشارة إلى الكلام المنقول في عبارة العلامة رحمهم‌الله.

وبهذا التقرير يعلم خيانة ابن روزبهان في النقل وافترائه كما يعلم من سخافة عقله وقلّة ادراكه ، حيث أنه اختلق عبارة لا يمكن ارتباطها بالحديث وقد اقتصر العلامة التستري نوّر الله مرقده لتوضيح الفقرة الاولى أعني خيانته في النقل ، دون الثانية قبالاً لما تفوّه به في حقّ العلامة ، لامن جهة أنه خفي عليه ما قرّرناه.

فقال رحمة الله عليه : من بدايع حيل هذا الناصب العاجز الكاذب الخائن أنه لما أراد التفصي عن التشنيع المتوجه على أصحابه في هذه الرواية بضمّ بعض ما اخترعه من العبارات أرعد وأبرق أولاً تشدّد في اظهار التعجب والغرابة ونسبة المصنّف قدس الله روحه إلى الخيانة والتقصير ، وختم ذلك بسؤال العصمة عن التعصب ليسدّ بذلك باب رجوع الناظرين إلى مأخذ الرواية فلايظهر خيانته فيها بالزيادة عليها.

والحاصل إنّا قد راجعنا صحيح البخاري فكان الحديث كما نقله المصنّف تغمده الله بغفرانه ، ولم يكن من الاضافة التي ذكرها هذا الناصب الخائن الشقي عين ولا أثر ، فمن أبى لحسن ظنه في هذا الشقي السقيم فليراجع ذلك الصحيح ، ليتّضح له ما أتى به من الكذب الصريح.

ومن هاهنا أيضاً يظهر صدق ما أشرنا إليه في بعض المباحث ، من أن

١١٤

أصحاب الناصب يعدّ ما نبّههم الشيعة على شناعة بعض أحاديثهم ، يزيدون على ذلك أو ينقصون عنه على حسبما عرض لهم من ضيق الخناق فلايعتد بما يرويه أهل الشقاق انتهى كلامه رفع مقامه.

وليعلم أن جماعة من أعيانهم كالجرجاني والاسماعيلي وغيرهما نقلوا الفاظ الحديث المروي في كتاب المناقب أيضاً مطابقة لما في باب الذبائح.

قال في فتح الباري في شرح البخاري قوله : فَقُدِّمَت بضم القاف ، قوله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذا الأكثر ، وفي رواية الجرجاني ، وكذا أخرجه الزبير بن بكار والفاكهي وغيرهما (١).

ولننقل بعض كلماتهم الأُخر مما يتعلق بالمقام.

قال ابن حجر العسقلاني : قال الداودي : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعث يجانب المشركين في عباداتهم ولكن لم يكن يعلم ما يتعلق بأمر الذبائح ، وكان زيد قد علم ذلك من أهل الكتاب الذين لقيهم (٢) ، وسخافته ظاهرة.

وقال السهيلي في روض الانف بعد نقل الحديث : وفيه سؤال يقال : كيف وفّق الله زيد إلى ترك أكل ما ذبح على النصب وما لم يذكر اسم الله عليه! ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى بهذه الفضيلة في الجاهلية لما ثبت الله له من عصمته!؟

فالجواب من وجهين :

الاول : انه ليس في الحديث حين لقيه ببلدح ، فقدمت إليه السفرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكل منها ، وانما في الحديث أن زيداً قال حين قدمت السفرة لا اكل مما لم يذكر اسم الله عليه.

__________________

١. فتح الباري ٧ : ١١٢.

٢. فتح الباري ٧ : ١١٣ كتاب المناقب باب ، حديث زيد بن عمرو بن نفيل.

١١٥

الجواب الثاني : ان زيداً انما فعل ذلك برأي رآه لا بشرع متقدّم ، وإنّما تقدم شرع ابراهيم بتحريم الميتة لا بتحريم ما ذبح لغير الله ، وانّما نزل تحريم ذلك في الاسلام.

وبعض الأُصوليين يقولون : الأشياء قبل ورود الشرع على الاباحة ، فان قلنا بهذا وقلنا ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأكل مما ذبح على النصب ، فإنّما فعل مباحاً ، وان كان لا يأكل منها فلا اشكال ، وان قلنا أيضاً ، أنها ليست على الاباحة ولا على التحريم وهو الصحيح.

فالذبائح خاصة لها أصل في تحليل الشرع المتقدم ، فالشاة والبعير ونحو ذلك ممّا أحلّه الله تعالى في دين من قد كان قبلنا ، ولم يقدح في ذلك التحليل المتقدم ما ابتدعوه حتى جاء الاسلام وأنزل الله سبحانه : ( ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم الله عليه ) (١).

ألا ترى كيف بقيت ذبائح أهل الكتاب عندنا على أصل التحليل بالشرع المتقدم ولم يقدح في التحليل ما أحدثوه من الكفر وعبادة الصلبان ، فكذلك كان ما ذبحه أهل الاوثان محلّلاً بالشرع المتقدم حتى خصّه القرآن بالتحريم (٢).

وقال الزركشي ، وهو من أكابر القوم ، في كتاب التنقيح بعد نقل الحديث : ان قيل كان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى بهذه الفضيلة ، قلنا : ليس في الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكل من السفرة.

وأجاب السهيلي : بأن زيداً انما قال ذلك برأي منه لا شرع متقدم ، وفي

__________________

١. الانعام : ١٢١.

٢. روض الأُنف ٢ : ٣٦١ ـ ٣٦٣.

١١٦

شرع ابراهيم تحريم الميتة لا تحريم ما ذبح لغير الله وانّما نزل تحريم ذلك في الاسلام ، وهذا الذي قاله ضعيف ، بل كان في شريعة الخليل تحريم ما ذبح لغير الله ، وقد كان عدوّ الاصنام ، والله تعالى يقول : ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملّة ابراهيم حنيفاً ) (١).

وبالجملة فرواية نسبة أكل مما ذبح على النصب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما صرّح في رواية أحمد وأبو يعلى والبزار وغيرهم أو دعوته غيره إلى أكله مع أنه ممّا يجتنب عنه اليهود والنصارى ويختصّ بعابدي الأصنام مما لا تخفى.

حديث : « كَذِب ابراهيم ثلاث كذبات »

ومنها : ما يدل على صدور الكذب عن ابراهيم وهو مروي في الصحيحين والفاظه على ما في الجمع بين الصحيحين هكذا :

ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في صفة حال الخلق يوم القيامة : وانهم يأتون آدم ويسألونه الشفاعة فيعتذر اليهم ، فيأتون نوحاً فيعتذر اليهم ، فيأتون ابراهيم فيقولون : يا ابراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الارض ، اشفع لنا إلى ربك ، أما ترى ما نحن فيه ، فيقول لهم ان ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله ولن يغضب بعده مثله ، واني قد كذبت ثلاث كذبات نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري (٢).

__________________

١. النحل : ١٢٣.

٢. صحيح البخاري كتاب تفسير القران ، سورة بني اسرائيل رقم ٤٧١٢ ، وفي كتاب أحاديث الأنبياء باب ، ( يزفون ) النسلان في المشي ، رقم ٣٣٦١ ، وفي النسخة التي كانت بأيدينا : فقال ابراهيم : نفسي نفسي ، اذهبوا إلى موسى.

١١٧

وفيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لم يكذب ابراهيم النبي قط الاّ ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله وواحدة في شأن سارة (١).

وما ذكروا في توجيهه ، من أن المراد « صورة الكذب » ينافي امتناعه من الشفاعة لأجلها وينافي غضب الربّ لأجلها.

قال الفخر الرازي : واعلم ان بعض الحشوية روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ما كذب ابراهيم إلاّ ثلاث كذبات ، فقلت : الاولى أن لا يقبل مثل هذه الاخبار ، فقال على طريق الاستنكار : ان لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة ، فقلت له : يا مسكين ان قلناه لزمنا الحكم بتكذيب ابراهيم عليه‌السلام ، وان أردناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ولا شك أن صون ابراهيم عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب (٢).

حديث امتناع علي بن أبي طالب عن صلاة الليل

ومنها : ما أورده في غير موضع منه مما يدل على امتناع أمير المؤمنين علي عليه‌السلام عن صلاة الليل ، أعني التهجد ، واحتجاجه على تركها بشبهة الجبرية التي لا يسوغ لأحد التمسك بها وان كان قائلاً بالخبر كما ستعرف في كلامهم.

قال البخاري في باب تحريص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على صلاة الليل والنوافل :

عن الزهري أخبرني علي بن الحسين أن حسين بن علي أخبره أن علي بن أبي طالب أخبره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طرقه وفاطمة بنت النبي فقال : لا تصليان؟

__________________

١. نفس المصدر : كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله تعالى ( واتخذ ابراهيم خليلاً ) رقم ٣٣٥٧ ، كتاب النكاح باب اتخاذ السراري رقم ٥٠٨٤ ،

٢. التفسير الكبير ٢٢ : ١٨٥ و ٢٦ : ١٤٨ ، وفيه لايحكم بنسبة الكذب إليهم إلاّ الزنديق.

١١٨

فقلت يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنفسنا بيد الله لو شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قلت له ولم يرجع اليّ ، ثم سمعته وهو مولّ يضرب فخذه ويقول : كان الانسان أكثر شيء جدلاً (١) ، وأورده أيضاً في كتاب التفسير في باب « وكان الانسان أكثر شيء جدلاً » (٢).

وأورده أيضاً في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (٣).

وأورده أيضاً في كتاب ردّ الجهمية وغيرهم في باب المشيّة والارادة (٤).

وذكر جماعة من متأخري العامة هذا الخبر الموضوع في مقابل الرواية الصحيحة الثابتة بطرقهم وطرق الشيعة ، من أن عمر ردّ على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : ايتوني بدواة وقرطاس ونسبته إلى الهجر ، فقالوا : كما وقع من عمر هذا فقد وقع من علي عليه‌السلام ، فما هو الجواب هنا هو جوابنا ثمة!.

ولعمري أن هذه المعارضة والمقابلة غاية الحماقة ونهاية الخرافة ، اذ فيها مضافاً إلى وجوه الفرق بين القضيّتين أن هذا الخبر من موضوعات عهد بني أميّة ولم يرد في كتاب من كتب الشيعة.

والاستشهاد برواية البخاري كاستشهاد ابن آوى بذنبه ، بل هو مخالف لما ثبت وصحّ في كتب الفريقين من كثرة عبادته عليه‌السلام حتى قال جماعة من العامة ، منهم ابن أبي الحديد : أن الناس تعلموا منه المواظبة على صلاة الليل والعبادات.

__________________

١. صحيح البخاري باب ٥ ، تحريص النبي على صلاة الليل رقم ١١٢٧.

٢. نفس المصدر : سورة الكهف باب ١ ، رقم ٤٧٢٤.

٣. نفس المصدر : باب ١٧ ، رقم ٧٣٤٧.

٤. نفس المصدر : كتاب التوحيد باب ٣١ ، رقم ٧٤٦٥.

١١٩

بل بعد تسليم الخبر أيضاً لا معنى للمعارضة ، قال ابن حجر ردّاً على ابن بطّال ، ما لفظه : ومن اين له أن علياً لم يمتثل ما دعاه الله ، فليس في القصة تصريح بذلك وانّما أجاب علي بما ذكر اعتذاراً عن تركه القيام بغلبة النوم ولا يمتنع أنه صلّى عقيب هذا المراجعة وليس في الخبر ما ينفيه.

ولننقل بعض كلمات ابن تيمية في المنهاج مما يعلم منه غاية نصبه وشقاوته وضلالته وانهماكه في عداوته حيث أنه أطال الكلام في مواضع عديدة من كتابه في بطلان التمسك بشبهة القدر وأن بطلانها ضروري ثم نسب صريحاً التمسك بها إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام قال:

الاحتجاج بالقدر حجة باطلة داحضة باتّفاق كلّ ذي عقل ودين من جميع العالمين والمحتج به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجة ، اذا احتج بها في ظلم ظلمه ايّاه وترك ما يجب عليه من حقوقه ، بل يطلب منه ماله عليه ويعاقبه على عدوانه عليه ، وانما هو من جنس شبه السوفسطائية التي تعرض في العلوم ، فكما انّك تعلم فسادها بالضرورة وان كانت تعرض كثيراً لكثير من الناس حتى قد يشك في وجود نفسه ، وغير ذلك من المعارف الضرورية ، فكذلك هذا يعرض في الاعمال حتى يظن أنها شبهة في اسقاط الصدق والعدل الواجب وغير ذلك ، واباحة الكذب والظلم وغير ذلك.

ويعلم بالضرورة ان هذه شبهة باطلة ، ولهذا لا يقبلها أحد عند التحقيق ولا يحتج بها أحد الاّ مع عدم علمه بالحجة بما فعله ، فاذا كان معه علم بان ما فعله هو المصلحة وهو المأمور ، وهو الذي ينبغي فعله ، لم يحتج بالقدر وكذلك اذا كان معه علم بان الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله أو ليس بمصلحة أو ليس هو مأموراً به لم يحتج بالقدر ، بل اذاً كان متبعاً لهواه بغير علم احتج بالقدر ، ولهذا

١٢٠