نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٥

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ١٥

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٨

اعتنائه بعلم الأثر وضبطه دون أقرانه لأشياء ما عرفوها. أللهم إلاّ أن يتبيّن غلطه ووهمه في الشيء فيعرف ذلك ... ثمّ ما كلّ من فيه بدعة أو له هفوة ، أو ذنوب ، يقدح فيه بما يوهن حديثه ، ولا من شرط الثقة أن يكون معصوما من الخطايا والخطأ ... » (١).

وقال ابن القيّم : « إنّما يعرف تضعيف قيس عن يحيى ، وذكر سبب تضعيفه ، فقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم : سألت يحيى عن قيس بن الربيع فقال : ضعيف لا يكتب حديثه ، كان يحدّث بالحديث عن عبيدة ، وهو عنده عن منصور ، ومثل هذا لا يوجب ردّ حديث الراوي ، لأنّ غاية ذلك أن يكون غلط ووهم في ذكر عبيدة بدل منصور ، ومن الذي يسلم من هذا من المحدّثين؟ » (٢)

وقال ابن حجر : « فصل : قال ابن المبارك : من ذا يسلم من الوهم؟ وقال ابن معين : لست أعجب ممّن يحدّث فيخطئ ، إنّما أعجب ممّن يحدّث فيصيب. قلت : وهذا أيضا ممّا ينبغي أن يتوقّف فيه ، فإذا جرح الرّجل بكونه أخطأ في الحديث أو وهم أو تفرّد ، لا يكون ذلك جرحا مستقرّا ، ولا يردّ به حديثه ، ومثل هذا إذا ضعف الرّجل في سماعه في بعض شيوخه خاصة ، فلا ينبغي أن يردّ حديثه كلّه لكونه ضعيفا في ذلك الشيخ ... » (٣).

* وفي ( تهذيب التهذيب ) : « قال أحمد : أجلح ومجالد متقاربان في الحديث ، وقد روى الأجلح غير حديث منكر ».

لكنّ الأجلح من رجال ( مسند أحمد ) وروايته فيه عن رجل دليل على وثاقته عنده ، لما ذكر ابن المديني من أن أحمد لم يرو في المسند إلاّ عمّن ثبت عنده صدقه وديانته.

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٣ / ١٤٠ ـ ١٤١. ترجمة علي بن المديني.

(٢) زاد المعاد ١ / ٢٧٩.

(٣) لسان الميزان ١ / ١٧ ـ ١٨.

٣٠١

وأمّا قوله : « قد روى الأجلح غير حديث منكر » فلا يدلّ على قدح ، لأنّ العلماء إذا قالوا : « حديث منكر » أرادوا تفرّد راويه الثقة به ، قال النووي : « إنهم يطلقون المنكر على انفراد الثقة بحديث ، وهذا ليس بمنكر مردود » (١).

* وفيه : « قال أبو حاتم ليس بالقوي ، يكتب حديثه ، ولا يحتجّ به ».

لكن أبو حاتم لا يعبأ بكلامه في جرح الرّجال ... قال الذهبي : « إذا وثّق أبو حاتم رجلا فتمسّك بقوله فإنّه لا يوثّق إلاّ رجلا صحيح الحديث ، وإذا ليّن رجلا أو قال فيه : لا يحتج به ، فتوقف ، حتى ترى ما قال غيره ، فإن وثّقه أحد فلا تبن على تجريح أبي حاتم ، فإنّه متعنّت في الرجال ، قد قال في طائفة من رجال الصحاح : ليس بحجة ، ليس بقوي » (٢).

* وفيه : « قال النسائي : ضعيف ليس بذلك ، وكان له رأي سوء ».

لكنّ النسائي أخرج عن الأجلح في ( صحيحه ) كما عرفت سابقا ، وهذا دليل على وثاقته كما في ( المرقاة ) و ( مقدّمة فتح الباري ) وغيرهما.

على أنّ للنسائي شرطا في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم ... كما قال الزنجاني ... فتضعيفه ليس سببا للقدح والجرح ...

وأمّا « كان له رأي سوء » فإن أراد التشيّع فقد عرفت أن لا أساس له ، وإن أراد شيئا آخر فلا بدّ من تقريره حتى يقلع بحذافيره! * وفيه : « قال الجوزجاني : مفتر ».

ولكنّ الجوزجاني هو المفتري كما ذكروا بترجمته ...

قال الذهبي : « إبراهيم بن يعقوب ... وكان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في التحامل على علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ ...

قد كان النصب مذهبا لأهل دمشق في وقت ، كما كان الرفض مذهبا لهم في وقت وهو في دولة بني عبيد ، ثم عدم ـ والحمد لله ـ النصب وبقي الرفض خفيّا

__________________

(١) المنهاج ١ / ٣٤.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٣ / ٢٦٠ ترجمة أبي حاتم.

٣٠٢

خاملا » (١).

وروى عن ابن عدي قوله : « كان يتحامل على علي » وعن الدار قطني : « وفيه انحراف عن علي » (٢).

وأورد ابن حجر ذلك وأضاف عن الدارقطني : « اجتمع على بابه أصحاب الحديث ، فأخرجت جارية له فرّوجة ليذبحها فلم تجد من يذبحها فقال : سبحان الله فرّوجة لا يوجد من يذبحها وعلي يذبح في ضحوة نيفا وعشرين ألف مسلم! » ثم قال ابن حجر :

« قلت : وكتابه في الضعفاء يوضّح مقالته. ورأيت في نسخة من كتاب ابن حبان : حريزي المذهب ـ وهو بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وبعد الياء زاء ـ نسبة إلى حريز بن عثمان المعروف بالنصب. وكلام ابن عدي يؤيّد هذا. وقد صحّف ذلك أبو سعد ابن السمعاني في الأنساب فذكر في ترجمة الجريري بفتح الجيم : أن إبراهيم بن يعقوب هذا كان على مذهب محمد بن جرير الطبري. ثم نقل كلام ابن حبان المذكور ، وكأنه تصحّف عليه. والواقع أن ابن جرير يصلح أن يكون من تلامذة إبراهيم بن سعد لا بالعكس. وقد وجدت رواية ابن جرير عن الجوزجاني في عدّة مواضع من التفسير والتهذيب والتأريخ » (٣).

وقال ابن حجر أيضا : « فصل. وممّن ينبغي أن يتوقّف في قبول قوله في الجرح : من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الإعتقاد ، فإنّ الحاذق إذا تأمّل ثلب أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب ، وذلك لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع ، فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلق وعبارة طلق ، حتّى أنه أخذ يليّن مثل الأعمش وأبي نعيم وعبيد الله بن موسى ، وهم أساطين الحديث وأركان الرواية. فهذا إذا عارضه مثله

__________________

(١) ميزان الاعتدال ١ / ٧٦.

(٢) تذكرة الحفّاظ ٢ / ٥٤٩.

(٣) تهذيب التهذيب ١ / ١٥٩.

٣٠٣

أو أكبر منه فوثّق رجلا ضعّفه هو قبل التوثيق » (١).

* وفيه : « وقال أبو داود : ضعيف. وقال مرة : زكريا أرفع منه بمائة درجة ».

لكن الأجلح من رجال الصحيح أبي داود ، فكلامه فيه مردود بروايته عنه.

* وفيه : « وقال ابن سعد : كان ضعيفا جدّا ». (٢)

أقول : يا للعجب! كيف يركن من تحلّى بالإنصاف إلى تضعيف ابن سعد ، مع أنّ تنطّعه وتعنّته قد بلغ إلى غاية مردية يستعيذ منها كلّ من اعتزى إلى الإسلام والإيمان ، فإنه خذله الله تكلّم في الإمام جعفر الصادق بما لا يتفوّه به إلاّ معاند مارق ، ولا ينبس به إلاّ منابذ منافق! فبالغ في اللجاج والاعوجاج حيث أسقط عنه عليه‌السلام التمسّك والإحتجاج ...

قال ابن حجر بترجمة الصّادق عليه‌السلام : « قال ابن سعد : كان كثير الحديث ولا يحتج به ويستضعف! سئل مرة : سمعت هذه الأحاديث من أبيك؟ فقال : نعم. وسئل مرة فقال : إنّما وجدتها في كتبه » (٣).

* وفيه : « وقال العقيلي : روى عن الشعبي أحاديث مضطربة لا يتابع عليها ».

لكنك عرفت من كلماتهم أن الاضطراب في الحديث غير قادح ، ولا يسلم منه أحد من المحدثين!

على أنّ العقيلي ممّن يتّجرأ على القدح في الأكابر ، فقد ذكر علي بن المديني في ( كتاب الضعفاء ) قال الذهبي : « فبئس ما صنع »! ثم خاطبه بقوله :

« فما لك عقل يا عقيلي! أتدري فيمن تتكلّم؟ ... وأنا أشتهي أن تعرّفني من الثقة الثبت الذي ما غلط ... » إلى آخر ما سمعت ...

ومن طامّاته الموبقة وجساراته الفاحشة : ذكره الإمام موسى بن جعفر

__________________

(١) لسان الميزان ١ / ١٦.

(٢) طبقات ابن سعد ٦ / ٣٥٠.

(٣) تهذيب التهذيب ٢ / ٨٩. ترجمة الصادق عليه‌السلام.

٣٠٤

عليهما‌السلام في كتابه المذكور ... قال الذهبي : « موسى بن جعفر بن محمد ابن علي العلوي الملقب بالكاظم ، عن أبيه. قال ابن أبي حاتم : صدوق إمام. وقال أبوه أبو حاتم : ثقة إمام.

قلت : روى عنه بنوه : علي الرضا ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وحسين. وأخواه : علي ومحمد.

وإنّما أوردته لأنّ العقيلي ذكره في كتابه وقال : حديثه غير محفوظ ـ يعني في الإيمان ـ قال : الحمل فيه على أبي الصّلت الهروي.

قلت : فإذا كان الحمل فيه على أبي الصّلت فما ذنب موسى حتى تذكره؟ » (١).

أقول :

وإذا كان الحال كذلك ، فلما ذا ذكره الذهبي في كتابه المعدّ لذكر المجروحين ، وهو يتحاشى من ذكر الصحابة الذي قدح فيهم البخاري وابن عدي وأمثالهما ، بل لا يوردهم ولو بمحض النقل والحكاية ، ولو مع تعقيبه بالردّ والإنكار ، لمجرّد كونهم صحابة؟! بل لا يورد أئمة السنيّة في الفروع ... لمجرّد جلالة شأنهم وعظمتهم في النّفوس!!

* وفيه : « وقال ابن حبّان : كان لا يدري ما يقول ، جعل أبا سفيان أبا الزبير.

لكنّ غاية هذا هو الخطأ والسّهو ، وقد عرفت أنّه لم يسلم منه أحد من المحدّثين ...

ثم ابن حبّان هو الذي قال عن مولانا الإمام الرضا عليه‌السلام : « يروي عن أبيه عجائب ، يهمّ ويخطئ » (٢)! ... فإذا كان الرّجل في هذا الحدّ من النصب والعدوان والمجازفة والخسران ، لم يكن قوله في الأجلح : « لا يدري ... » جارحا وقادحا قطعا ...

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٤ / ٢٠١.

(٢) ميزان الاعتدال ٣ / ١٥٨.

٣٠٥

وجوه في ردّ قدح الأجلح مستفادة من كلمات العلماء

وإذا عرفت وثاقة الأجلح وبطلان القدح فيه ، فإنّ هناك كلمات للعلماء في الموارد المختلفة يستفاد منها وجوه أخرى في ردّ القدح في الأجلح :

الجرح المجمل غير مقبول مطلقا

قال أبو الخطاب عمر بن حسن المعروف بابن دحية الأندلسي :

« والشريف عبد الله بن محمد بن عقيل ، ترك أحاديثه بعض العلماء. قال الحافظ أبو عيسى الترمذي في باب ما جاء أنّ مفتاح الصّلاة الطهور : وعبد الله ابن محمد بن عقيل هو صدوق ، وقد تكلّم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه ، قال : وسمعت محمد بن إسماعيل يقول : كان أحمد بن حنبل وإسحاق والحميدي يحتجّون بحديث عبد الله بن عقيل ...

وكذلك وثّقه جماعة وقبلوا حديثه ...

ولا يقبل التجريح من أحد مطلقا حتى يثبت ذلك عليه ويبين الكذب في الأحاديث المنسوبة إليه ... » (١).

وقال السّيوطي في شرح النواوي :

« يقبل التعديل من غير ذكر سببه ، على الصحيح المشهور ... ولا يقبل الجرح إلاّ مبيّن السّبب ... قال ابن الصّلاح : وهذا ظاهر مقرّر في الفقه وأصوله. وذكر الخطيب : أنه مذهب الأئمّة من حفّاظ الحديث كالشيخين وغيرهما ... ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلاّ إذا فسّر سببه ...

ومقابل الصحيح أقوال ...

__________________

(١) شرح أسماء النبي ـ شرح « إمام النبيين » : ٦٩.

٣٠٦

واختار شيخ الإسلام تفصيلا حسنا : فإن كان من جرح مجملا قد وثّقه أحد من أئمّة هذا الشأن ، لم يقبل الجرح فيه من أحد كائنا من كان إلاّ مفسّرا ، لأنّه قد ثبت له رتبة الثقة ، فلا يزحزح عنها إلاّ بأمر جليّ ، فإنّ أئمّة هذا الشأن لا يوثّقون إلاّ من اعتبروا حاله في دينه ثمّ في حديثه وتفقّدوه كما ينبغي ، وهم أيقظ الناس ، لا ينقض حكم أحدهم إلاّ بأمر صريح ... » (١).

أقول : وعلى أساس تفصيل ابن حجر العسقلاني لا يصغى إلى قدح من قدح في الأجلح بعد توثيق يحيى بن معين والعجلي والفسوي وغيرهم ، ورواية أرباب الصحاح عنه في صحاحهم ، لأنّ القادحين منهم من لم يذكر السبب ، ومنهم من ذكر سببا غير جارح لا يلتفت إليه ، كدعوى الخطأ ونحوه.

التعديل مقدم على الجرح عند جمهور العلماء

وقال الشيخ عبد الوهّاب الشعراني ـ في كلام له في الدفاع عن مذهب أبي حنيفة ـ :

« وإنّما قدّم جمهورهم التعديل على الجرح وقالوا : الأصل العدالة والجرح طار ، لئلاّ يذهب غالب أحاديث الشريعة ، كما قالوا أيضا : إنّ إحسان النظر بجميع الرواة المستورين أولى ، وكما قالوا : إنّ مجرّد الكلام في شخص لا يسقط مرتبته ، فلا بدّ من الفحص عن حاله.

وقد خرّج الشيخان لخلق كثير عمّن تكلّم النّاس فيهم ، إيثارا لإثبات الأدلّة الشّرعية على نفيها ، ليحوز الناس فضل العمل بها ، فكان في ذلك فضل كثير للامة أفضل من تجريحهم ...

فقد بان لك أنه ليس لنا ترك حديث كلّ من تكلّم الناس فيه بمجرّد الكلام ، فربما يكون قد توبع عليه وظهرت شواهده ، وكان له أصل ، وإنّما لنا

__________________

(١) تدريب الراوي ١ / ٢٥٨.

٣٠٧

ترك ما انفرد به ، وخالف فيه الثقات ، ولم يظهر له شواهد.

ولو أننا فتحنا باب الترك لحديث كلّ راو تكلّم بعض الناس فيه لذهب معظم أحكام الشريعة كما مر ، وإذا أدّى الأمر إلى مثل ذلك فالواجب على جميع أتباع المجتهدين إحسان الظن برواة جميع أدلّة المذاهب المخالفة لمذهبهم ، فإنّ جميع ما رووه لم يخرج عن مرتبي الشريعة اللتين هما التخفيف والتشديد » (١).

لفظة « كذّاب » أيضا تحتاج إلى تفسير

ولابن الوزير الصّنعاني (٢) كلام يشتمل على فوائد منها : إنّ الجرح الذي لم يفسّر لا يقدّم على التعديل ، بل إنّما يوجب الرّيبة في غير المشاهير بالعدالة والثقة ... ثم قال : « ومن لطيف علم هذا الباب أن يعلم : أنّ لفظة « كذّاب » قد يطلقها كثير من المتعنتّين في الجرح على من يهمّ ويخطئ في حديثه ، وإن لم يتبيّن أنّه يتعمّد ذلك ، ولا يبين أن خطأه أكثر من صوابه ولا مثله. ومن طالع كتب التجريح والتعديل عرف ما ذكرته. وهذا يدل على أنّ هذا اللفظ من جملة الألفاظ المطلقة التي لم يفسّر سببها ، ولهذا أطلقه كثير من الثقات على جماعة من الرفعاء من أهل الصّدق والأمانة. فاحذر أن تغترّ بذلك في حق من قيل فيه من الثقات الرفعاء ، فالكذب في الحقيقة اللّغوية مطلق على الوهم والعمد معا ، ويحتاج إلى التّفسير إلاّ أن يدل على التعمّد قرينة » (٣).

__________________

(١) الميزان ـ فصل في تضعيف قول من قال أن أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة ضعيفة غالبا.

(٢) محمد بن إبراهيم ، المتوفى سنة ٨٤٠ ، محدّث ، أديب ، متكلّم له ترجمة في : الضوء اللامع ٦ / ٢٧٢ ، البدر الطالع ٢ / ٨١ وغيرهما.

(٣) الروض الباسم في الذب عن سنّة أبي القاسم ـ النوع الثاني ممّا قدح به على البخاري ومسلم.

٣٠٨

لا يقبل الجرح فيمن علم عدالته بالتواتر أو كانت أشهر من عدالة الجارح

وله كلام آخر اشتمل على فوائد في الباب ... كقوله :

« أن يكون عدالة الرّاوي معلومة بالتواتر مثل : مالك ، والشافعي ، ومسلم ، والبخاري ، وسائر الأئمة الحفّاظ ، فإنّه لا يقبل جرحهم بما يعلم نزاهتهم عنه. ولو كان ذلك مقبولا لكان الزنادقة يجدون السبيل إلى إبطال جميع السنن المأثورة ، بأن يتعبّد بعضهم ويظهر الصّلاح حتى يبلغ إلى حدّ يجب في ظاهر الشرع قبوله ، ثم يجرح الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ فيرمي عمار بن ياسر بإدمان شرب المسكر ، وسلمان الفارسي بالسّرقة لما فوق النصاب ، وأبا ذر بقطع الصلاة ... ».

« إن كانت عدالة الراوي أرجح من عدالة الجارح أو أشهر من عدالة الجارح لم يقبل الجرح ، لأنّا إنما نقبل الجرح من الثقة لرجحان صدقه على كذبه ، ولأجل حمله على السلامة ، وفي هذه الصورة كذبه أرجح من صدقه ، وفي حمله على السلامة إساءة الظن بمن هو خير منه وأوثق وأعدل وأصلح ... ».

فنقول : إنّ الأجلح في طبقة مالك بن أنس كما في ( تقريب التهذيب ) ، فليس شأنه بأقلّ ممّن جرحه ، بل هو مقدّم عليهم في العدالة ، للقوادح المذكورة لهم في تراجمهم ، فهو أوثق وأعدل منهم ، وعدالته أشهر من عدالتهم ... وعليه ، فلا يقبل تكلّمهم فيه.

قوله :

فلا يجوز الاحتجاج بحديثه.

٣٠٩

أقول :

قد عرفت أنّ الأجلح من رجال ( مسند أحمد ) و ( صحيح الترمذي ) و ( صحيح النسائي ) و ( صحيح أبي داود ) و ( صحيح ابن ماجة ) ... فهو عند هؤلاء ممّن يحتج بحديثه ...

على أنّه لو كان ضعيفا فلا يقتضي ضعفه بطلان هذا الحديث الشريف لدى مهرة الحديث ونقدة الأخبار ... لكن ( الدهلوي ) يجهل أو يتجاهل ... قال السبكي في ( طبقاته ) :

« وإذا ضعّف الرجل في السّند ضعّف الحديث من أجله ولم يكن في ذلك دلالة على بطلانه ، بل قد يصح من أخرى ، وقد يكون هذا الضعيف صادقا وأمينا في هذه الرواية ، فلا يدلّ مجرّد تضعيفه على بطلان ما جاء به ».

وهذه قاعدة مقرّرة عندهم يطبّقونها في كتبهم في معرفة الأحاديث :

قال المنّاوي بشرح حديث : « آدم في السماء ... » : « إسناده ضعيف لكن المتن صحيح ، فإنّه قطعة من حديث الإسراء الذي أخرجه الشيخان عن أنس لكن فيه خلف في الترتيب » (١).

فتراه يحكم على حديث ضعيف سندا بالصحّة متنا لكونه قطعة من حديث صحيح ، مع وجود الخلف في الترتيب ... فإذا صحّح هذا الحديث فلا ريب في صحّة حديث الولاية ، وان ضعّف سنده بالأجلح ـ لو سلّم ـ لا يضرّ بغيره المنصوص على صحّته ، ولا يوجب بطلان الحديث من أصله.

وقال المنّاوي بشرح حديث « آكل الرّبا ... » : « وفيه الحارث الأعور ، قال الهيثمي بعد عزوه لأبي يعلى وأحمد والطبراني : وفيه الحارث الأعور ضعيف وقد وثق. وعزاه المنذري لابن خزيمة وابن حبان وأحمد ثم قال : رواه

__________________

(١) فيض القدير ١ / ٤٩.

٣١٠

كلّهم عن الحارث الأعور عن ابن مسعود ، إلاّ ابن خزيمة فعن مسروق عن ابن مسعود ، واسناد ابن خزيمة صحيح. انتهى. فأهمل المصنف الطريق الصحيح وذكر الضعيف ورمز لصحّته فانعكس عليه. والحاصل أنّه روي بإسنادين أحدهما صحيح والآخر ضعيف ، فالمتن صحيح » (١).

وقال ابن الوزير بعد كلام نقله عن النووي : « وفيه ما يدلّ على أنّه لا يعترض على حفّاظ الحديث إذا رووا حديثا عن بعض الضعفاء وادّعوا صحته ، حتى يعلم أنّه لا جابر لذلك الضعف من الشواهد والمتابعات ، ومعرفة هذا عزيزة لا يحصل إلاّ للأئمّة الحفّاظ أهل الدراية التامّة بهذا الشأن » ثم ذكر موارد لذلك ، حيث حكم بعض العلماء على بعض الأحاديث بالضعف ، وحكم آخرون على صحة تلك الأحاديث لكونها واردة في طرق أخرى معتبرة ، أولها شواهد ومتابعات تدل على صحّتها.

قبول المراسيل مذهب مالك والشافعي وغيرهما وعموم التابعين

وذكر ابن الوزير في كلام له حول المراسيل ، فعزى قبولها إلى : « مذهب مالك والمعتزلة والزيديّة ، ونصّ عليه منهم أبو طالب في كتاب المجرى ، والمنصور في كتاب صفوة الأخيار. وروى أبو عمر ابن عبد البرّ في أوّل كتاب التمهيد عن العلاّمة محمد بن جرير الطبري إجماع التّابعين على ذلك. ومذهب الشّافعية قبول المراسيل على تفصيل مذكور في كتب علوم الحديث والأصول ، وهو المختار على تفصيل فيه ، وهو قبول ما انجبر ضعفه » ثم استدل لذلك بوجوه ... (٢).

فإذا كان المرسل مقبولا فمسند الأجلح مقبول بالأولوية القطعيّة ...

__________________

(١) فيض القدير ١ / ٥٥.

(٢) الروض الباسم ـ النوع الثاني ممّا قدح به على البخاري ومسلم.

٣١١

كلام ( الدهلوي ) حول الأجلح

وقد سلك ( الدهلوي ) تبعا للكابلي طريقا آخر في القدح في الأجلح كي يتمكن بزعمه من ردّ حديث الولاية ، فقال في باب المكايد من كتابه :

« ملازمة بعض الخدّاعين منهم ثقات المحدّثين ، وإظهاره البراءة من مذهبه والطعن في أسلافه ، وذكر مفاسد ذاك المذهب ، وإظهاره التوبة والتقوى والديانة وحسن السيرة ، وشدة الرغبة في أخذ الحديث عن الثقات ، لينخدع بذلك الطلبة وعلماء أهل السنّة فيوثّقونه ويعدّلونه ، ويحصل لهم الاطمينان التام بصدقه وعفافه ، ثم يدسّ في مرويات الثقات بعض الموضوعات المؤيّدة لمذهبه ، أو يحرّف بعض الكلمات لإغواء الناس.

وهذا من أعظم كيودهم.

منهم الأجلح ، فإنّه رجل قام بهذه المكيدة حتى وثّقه يحيى بن معين ، وهو أوثق علماء أهل السنّة في باب الجرح والتّعديل ، فلم يقف على حقيقة أمره لفرط تقيته ، فظنّ كونه من الصّادقين التائبين.

ولكن انكشف لغيره من أهل السنّة كون الرجل خدّاعا واحترزوا عمّا انفرد به من الرّوايات ، ومن ذلك ما رواه عن بريدة مرفوعا : إنّ عليّا وليّكم بعدي » (١).

هذا كلامه الّذي أورده تعبيرا عمّا صنعه في عالم الخيال! فجعله من مكايد أهل الحق الشيعة الإماميّة!

لقد كان عليه ـ وهو يريد إلزام الشيعة ـ أن يثبت من كتبهم كون الأجلح من الشّيعة الإمامية ، ثم إثبات ملازمته محدّثي أهل السنّة وأخذه الأخبار منهم ، وطعنه في مذهب الشّيعة أمام أهل السنّة ، ثم يثبت بعد ذلك كلّه كون الحديث

__________________

(١) التحفة الاثنا عشريّة : ٥٦.

٣١٢

الشّريف ـ عند أهل الحق ـ من متفرّدات الأجلح أو موضوعاته أو محرّفاته ... فما لم يثبت هذه الأمور لم يمكنه إلزام أهل الحق الشيعة ...

وجوه الجواب عنه

وبعد ، فإنّ ما ذكره مخدوش بوجوه :

أحدها : إنّه إنّه ليس في شيء من كتب الرجال أثر مما زعمه من كون الأجلح شيعيّا قد تبرأ في الظاهر من مذهبه ولازم بعض المحدّثين الثقات ... بل قد عرفت سابقا من إفادات العلماء الأعلام أن الأجلح كان يقول : « سمعنا أنّه ما سبّ أبا بكر وعمر أحد إلاّ مات أو افتقر » ... غاية ما هناك نسبة التشيّع إليه ، لكنك عرفت أنّ التشيع ـ في اصطلاح الرّجاليّين ـ لا ينافي التسنّن ، ولذا كان أكابر أهل السنّة شيعة ... سلّمنا ، لكن أين تظاهره بالتبرّي عن التشيّع؟

والثاني : إن انخداع يحيى بن معين به دعوى لا دليل عليها أبدا.

والثالث : إنّ يحيى بن معين موصوف عندهم الصّفات الجليلة الباهرة والمدائح العظيمة الفاخرة ، وإنّ احتجاج أهل الحق بتوثيقه الأجلح تام حسب قواعد المناظرة وآداب البحث ، فمحاولة إسقاط توثيقه إيّاه عن الاعتبار والسّعي وراء تخطئته خروج على تلك القواعد والآداب ، ولو كان ذلك مقبولا لكان سبيلا لأهل الكتاب بأن يخطّئوا علمائهم في كلّ مورد استدل أهل الإسلام بأقوالهم إلزاما لهم!

والرّابع : إنّ معارضة توثيق يحيى بن معين ـ الذي اعترف ( الدهلوي ) بكونه أوثق علماء أهل السنّة في الجرح والتعديل ـ بتضعيف غيره مردودة ، لأنّ الأوثق لا يعارض بغير الأوثق.

والخامس : إنّه ليس الموثّق للأجلح يحيى بن معين فقط ، فقد وثّقه جمع من كبار أساطين أهل السنّة غيره ، ومنهم من اعترف ( الدهلوي ) أيضا بتوثيقه

٣١٣

وهو العجلي.

والسّادس : إنّ جماعة من كبار أئمتهم : كالثوري ، ويحيى القطّان ، وابن المبارك ، وابن نمير ، وأمثالهم ، يروون عن الأجلح كما لا يخفى على من راجع تراجمه ... فكيف خفي على كلّ أولئك حال الأجلح وانخدعوا واعتمدوا عليه وأخذوا منه؟ إنّ هذا شيء يدّعيه ( الدهلوي ) لغرض إبطال حديث الولاية!!

والسابع : لقد ذكر ( الدهلوي ) في مواضع عديدة من كتابه ( التحفة ) وخاصة في باب المكايد منه : إنّ العالم بالسرائر ليس إلاّ الله سبحانه ، وأنّه ليس لأحد أن يدّعي العلم بما في القلوب وما تخفي الصّدور ... فكيف بلغ المتأخّرون عن يحيى بن معين رتبة الالوهيّة وتمكّنوا من الاطلاع على حال الأجلح؟ وما كان ذنب يحيى وأمثاله فلم يبلغوا تلك المرتبة؟

والثامن : دعوى تفرّد الأجلح بحديث الولاية كاذبة ... فإنّ للحديث طرقا عديدة في كتب أهل السنة ، نصّ كبار أئمتهم على صحتها واعتبارها ، كما رأيت ... فما أتعب ( الدهلوي ) نفسه فيه من القدح في الأجلح وإسقاط توثيق ابن معين عن الاعتبار ـ مع كونه أوثق العلماء في الجرح والتعديل ـ لا ينفعه.

والتاسع : لقد روى ولي الله الدهلوي ، والد ( الدهلوي ) حديث الولاية عن عمران بن حصين وابن عباس بطريقين لا وجود للأجلح في شيء منهما.

وأيضا : فقد ذكر ولي الله هذا الحديث في ضمن مآثر أمير المؤمنين عليه‌السلام ومناقبه ، فهو عنده من الأخبار المعتبرة وليس من مجعولات شيعيّ خدّاع ، وإلاّ لما أورده في تلك الأخبار.

فثبت ـ والحمد لله ـ كذب ( الدهلوي ) من كلام والده الذي وصفه بكون آية من الآيات الإلهية ومعجزة من المعاجز النبويّة!!

والعاشر : أنّه لو جاز أن يكون في الرّواة هكذا شخص ، بأن يكون من أهل مذهب آخر فيتظاهر بالتوبة منه ثم بالتقوى والصّلاح ، ويلازم أئمة الحديث

٣١٤

ويصاحبهم حيث يثقوا به ، فيتمكن من دسّ الموضوعات والأباطيل المؤيّدة لمذهبه في أحاديث الأئمة الثقات ... إذا جاز هذا وفتح هذا الباب جاز أن يقال بأنّ جميع الرّواة الموثقين وكبار الأئمة الأساطين من أهل السنّة ـ كأرباب الصّحاح وأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم ـ كانوا في الباطن يهود ونصارى وملاحدة ، فجاءوا وتظاهروا بالإسلام ودسّوا أنفسهم في صفوف المسلمين ، وجعلوا يتبرّءون في الظاهر من أديانهم ومذاهبهم كي يثق بهم المسلمون ، ثم دسّوا في أخبار المسلمين أساطيرهم ورواياتهم الموضوعات والأكاذيب المؤيّدة لمذاهبهم ... فيكون ( الدهلوي ) بما ذكره حول الأجلح مصداقا للمثل القائل : بنى قصرا وهدم مصرا!!

٣١٥
٣١٦

فهرس الكتاب

٣١٧
٣١٨

الإهداء...................................................................... ٥

من ألفاظ الحديث............................................................ ٧

كلمة المؤلف................................................................. ٩

كلمة السيد صاحب عبقات الأنوار........................................... ١٥

كلام الشيخ عبد العزيز الدهلوي صاحب التحفة الاثنا عشرية................... ١٦

مقدمة في بيان شناعة إنكار فضائل أمير المؤمنين

١٧ ـ ٤٧

كلام لأبي جعفر الإسكافي................................................... ١٨

ترجمة الإسكافي............................................................ ٢٢

كلام للسيد حيدر الآملي.................................................... ٢٣

رسالة لأبي بكر الخوارزمي................................................... ٢٨

ترجمة الخوارزمي........................................................... ٣٨

كلام للسيد علي بن معصوم المدني............................................ ٣٩

ذكر أن الدهلوي حذا حذو أسلافه في دفع مناقب أمير المؤمنين.................. ٤٤

سند حديث الولاية

٤٩ ـ ٢٦٨

أسماء جماعة من رواته في مختلف القرون....................................... ٥١

٣١٩

( ١ ) ـ رواية أبي داود الطيالسي وترجمته.................................... ٥٥

تنصيص ابن عبد البر على صحة سند رواية الطيالسي........................... ٥٦

ترجمة ابن عبد البر.......................................................... ٥٧

تنصيص المزي على صحة سند رواية الطيالسي................................. ٥٩

ترجمة المزي................................................................ ٥٩

الكلمات في وثاقة رجال سند الطيالسي....................................... ٦٣

١ ـ أبو عوانة اليشكري................................................... ٦٣

٢ ـ أبو بلج الواسطي...................................................... ٦٤

موجز تراجم الموثقين لأبي بلج................................................ ٦٦

٣ ـ عمرو بن ميمون...................................................... ٦٨

إخراج أبي داود الطيالسي في مسنده دليل ثبوت الحديث........................ ٦٩

تقديم ابن حزم مسند الطيالسي على موطأ مالك ، وترجمة ابن حزم............... ٧٠

مسند الطيالسي في كتب الأسانيد............................................ ٧١

عبارة ابن عبد البر كاملة.................................................... ٧٢

اعتبار كتاب الإستيعاب لابن عبد البر......................................... ٧٤

( ٢ ) ـ رواية أبي بكر ابن أبي شيبة مع تصحيحه الحديث..................... ٧٦

ترجمة ابن أبي شيبة.......................................................... ٧٧

نقل السيوطي تصحيحه وموافقته له........................................... ٨٠

حكم السيوطي بصحة الحديث بسند ابن أبي شيبة.............................. ٨٠

حكم المتقي بصحة الحديث بسند ابن أبي شيبة................................. ٨١

حكم البدخشي بصحة الحديث بسند ابن أبي شيبة............................. ٨١

حكم القاضي الهندي بصحة الحديث بسند ابن أبي شيبة......................... ٨١

الحديث في مصنف ابن أبي شيبة بألفاظ متعددة................................ ٨٢

( ٣ ) ـ رواية أحمد بن حنبل بأسانيد........................................ ٨٣

الكلمات في وثاقة رجال سند روايته عن عمران بن حصين...................... ٨٤

٣٢٠