إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-128-1
الصفحات: ٥٦٤

مثله ، لايجري الأصل للتنافي بين طلب الشيء مطلقاً والترخيص في تركه في بعض الأحايين.

٢. ما يكون العلم بالتكليف حصيلة إطلاق الدليل ، مثل قوله : « اجتنب عن النجس » ، حيث إنّه يشمل المعلوم بالتفصيل والمعلوم بالإجمال ، ففيه يقع الكلام في إمكان الترخيص في مقامين ثبوتاً وإثباتاً.

أمّا الثبوت فهل يمكن تقييد الدليل الاجتهادي ، بدليل اجتهادي مثله ، وتخصيصه بصورة تعلّق العلم التفصيلي بالمكلّف به أو لا؟ والظاهر هو الإمكان بل الوقوع ، وورد في غير واحد من أبواب دوران الحكم الشرعي على وجود العلم التفصيلي ، وقد قدّمنا بيانها عند البحث عن أدلة البراءة كما هو الحال في الربا والمظالم حيث إنّ المنجز هو العلم التفصيلي لا الإجمالي.

وأمّا الإثبات ، فهل هناك دليل على ذلك التقييد ، أو لا؟ الظاهر لا ، بل الدليل على خلافه ، لما ورد في الإناءين المشتبهين من أنّه « يهريقهما ويتيمّم ». (١) وما ورد في الصحيحة الثانية لزرارة انّي قد علمت انّه قد أصابه الدم ولم أدر أين هو فاغسله؟ قال : « تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك ». (٢)

وما ورد في الثوبين المشتبهين من تكرار الصلاة في كلّ منهما على الانفراد. (٣)

وهذا ونظائره يدل على عدم ورود الترخيص في أطراف العلم الإجمالي إلاّ

__________________

١. الوسائل : الجزء ١ ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٨٢.

٢. التهذيب : ١ / ٤٢١ ، الحديث ١٣٥.

٣. الوسائل : الجزء ٢ ، الباب ٦٤ من أبواب النجاسات ، الحديث ١.

٣٠١

القليل النادر. وبذلك يمكن أن يقال بعدم جريان الأُصول أيضاً في أطراف العلم الإجمالي لوجهين :

١. انصرافه عن أطراف العلم الإجمالي.

٢. وعلى فرض عدم انصرافه حصول الغايات المحددة وتخصيص الغاية بالعلم التفصيلي خلاف إطلاق الدليل ، وقد عرفت عدم تمامية ما يستظهر من لزوم وحدة متعلّقها التي لاتتحقّق إلاّ بالعلم التفصيلي.

٣٠٢

القواعد الأربع

٣٠٣
٣٠٤

بسم الله الراحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين الهداة المهديّين.

أمّا بعد ؛ فقد ذيّلنا مبحث الاستصحاب بالبحث عن نسبته إلى الأُصول العقلية والشرعية وكيفية علاج تعارض الاستصحابين ، لكن بقي هناك بحث يبيّن نسبة الاستصحاب مع القواعد الأربع ، أعني :

١. قاعدة اليد.

٢. قاعدة التجاوز والفراغ.

٣. قاعدة أصالة الصحّة في فعل الغير.

٤. قاعدة القرعة.

فقد أفاض شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ القول في حقيقة هذه القواعد ، ودلائل حجّيتها ، وما يترتّب عليها من الفروع ، وناقش جملة من الآراء ، ولمّا كان ما أفاده طويل الذيل ، مترامي الأطراف ، أفردناه بالتأليف على أمل أن يكون نافعاً للفضلاء الكرام ولم آلُ جهداً في تحرير ما أفاده ، وتبيين ما قرّره ، والمرجو من اللّه تعالى أن يجعله ذخراً في الدارين ، انّه بذلك قدير وبالإجابة جدير.

محمد حسين الحاج العاملي

قم ـ عشّ آل محمّد

رجب المرجب ١٤٢٠ هـ

٣٠٥

القواعد الأربع

١

قاعدة اليد

إنّ الحافز لطرح هذه القاعدة وما يليها من القواعد إنّما هو لبيان النسبة بينها وبين الاستصحاب ، وانّه في مورد التعارض هل تقدّم تلك القواعد عليه أو يقدّم الاستصحاب عليها؟ فصار ذلك سبباً لطرح هذه القواعد الأربع في ذيل

الاستصحاب في الكتب الأُصولية استطراداً.

والقواعد الأربع عبارة عن :

١. قاعدة اليد ، ٢. قاعدة أصالة الصحة في فعل الغير ، ٣. قاعدة أصالة الصحة في فعل النفس ، ٤. قاعدة القرعة.

وهذه القواعد أدوات بيد الفقيه في أبواب مختلفة ، فلنشرح القاعدة الأُولى ، أعني : « قاعدة اليد » ، وهي غير قاعدة « على اليد » ؛ فالأُولى آية الملكية ، والثانية سبب الضمان. فقاعدة اليد تشير إلى أنّ الاستيلاء سبب أو دليل الملكية ، وعليه سيرة العقلاء ؛ كما أنّ القاعدة الثانية تشير إلى أنّ الاستيلاء على مال الغير موجب للضمان ، ويدلّ عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّي ». وكلتا القاعدتين من أدوات القضاء.

فبالأُولى يُعرف المدّعي عن المنكر ، وبالثانية يحكم على ضمان من أتلف العين أو المنافع المستوفاة بل غيرها أيضاً.

٣٠٦

ثمّ إنّ قاعدة اليد قاعدة فقهية وليست مسألة أُصولية ، وتتميّز المسألة الأُصولية عن القاعدة الفقهية بأمرين :

أ : انّ محمول المسألة الأُصولية لايكون حكماً شرعياً عمليّاً ولامنتزعاً عن أحكام شرعية ، مثل قولنا : الأمر يدلّ على الوجوب ، أو النهي يدلّ على التحريم ، أو وجود الملازمة بين المقدّمة وذيها في الحكم ، فالمحمول في هذه المسائل الثلاث ليس حكماً شرعياً ، بخلاف القاعدة الفقهية فالمحمول فيها إمّا حكم شرعي مثل الصلح جائز بين المسلمين ؛ أو منتزع من أحكام شرعية عملية ، مثل قولنا : كلّ ما يضمن بصحيحه ـ كالبيع والإجارة ـ يضمن بفاسده.

« وأمّا المقام » فالمحمول في قولنا : « اليد سبب الملكية » أو آيتها ، حكم شرعي إمضائي. والأوّل كما في الحيازة فإنّه سبب الملكية فتحدث رابطة اعتبارية عقلائية بين المحيز والمحاز ولاتنتفي إلاّ بالإعراض أو بالنقل بأحد الوجوه الناقلة أو الانتقال القهري كالإرث ، والثاني كما في مورد الاستيلاء الحاصل عن سبب شرعي كالإرث والنقل فهو عند الشكّ آية الملكية ودليل عقلائي عليها.

ب : انّ المجتهد والمقلّد أمام القاعدة الفقهية سواء ، بخلاف المسألة الأُصولية فانّ إجراءها بيد المجتهد دون المقلّد ، لأنّ الفحص عن المعارض وتشخيص موارد الأمارات والأُصول من وظائف المجتهد ، بخلاف القاعدة الفقهية فانّ العمل بها يعمّ كلا الفريقين.

وهذا الميزان أمر غالبي لادائمي ، إذ ليس كلّ قاعدة فقهية رمية لكلّ رام ، وربّما يتوقف العمل بها على مؤهّلات لاتتوفر إلاّ في المجتهد كما هو غير خفيّ على أهله.

إذا عرفت هذه المقدّمة ، فلندخل في صلب الموضوع ضمنَ مقامات :

٣٠٧

المقام الأوّل

ما هو المقصود من اليد في القاعدة؟

اليد في اللغة هي الجارحة ، ولكنّها استعيرت في المقام للاستيلاء ، وما ذلك إلاّ لأنّ الاستيلاء يتحقّق غالباً باليد دون سائر الأعضاء ، ولذلك نرى أنّه سبحانه ينسب المعاصي إلى اليد مع أنّها تتحقّق بغيرها أيضاً ، يقول سبحانه : ( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيديكُمْ وَانَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّم لِلْعَبيد ). (١)

ويوضح ذلك انّ اليد كانت هي الوسيلة الوحيدة لحيازة الأشياء للإنسان البدائي ، فكان يصيد باليد ويحوز بها ، وبها يجتني الثمرة من الشجرة ويعدّ نفسه أولى ، ولذلك نرى أنّ الإمام عليّاً عليه‌السلام يعبر عن استيلاء المجاهدين على الغنائم بالاجتناء باليد ويقول لعبد اللّه بن زمعة : « إنّ هذا المال ليس لي ولالك ، فإن شركتَهم في حربهم كان لك مثل حظهم ، وإلاّ فجَناةُ أيديهم لايكون لغير أفواههم ». (٢)

وعلى ذلك صار العقلاء وجعلوا اليد آية الملكية ، ويراد منها مطلق الاستيلاء سواء تحقّق باليد الجارحة أو غيرها ، مع العلم بأنّ استيلاء كلّ شيء بحسبه ، فالاستيلاء على الفرس بالركوب عليه لا بوضع اليد ، والاستيلاء على البيت بالإسكان فيه ، والاستيلاء على الحديقة والمعدن والسيارة بحسبها ، وكلّ ما

__________________

١. آل عمران : ١٨٢. ولاحظ الروم : ٤١ ؛ البقرة : ١٩٥ وغيرها.

٢. نهج البلاغة ، الخطبة ٢٣٢.

٣٠٨

تطورت الحضارة اختلفت أساليب الاستيلاء ، وربما لايُصدَّق قول المستولي إلاّ بتسجيل العقار في دائرة ثبت الأملاك.

وعلى كلّ تقدير فالملاك هو صدق الاستيلاء العرفي حتى يكون مصداقاً لليد المتسلّطة.

المقام الثاني

في اعتبار اليد

اتّفق العقلاء على حجّية اليد وعليها دعامة الحياة ونظام المعاملات ولو أُلغيت لانهار نظام حياتهم التجاريّ ، إذ من المتعذّر أن يقيم كلّ إنسان شاهداً على ملكية ما تحت يده أو أن يسجِّل كل ما يستولي عليه في دائرة رسمية.

ثمّ من المحتمل أن تكون الفلسفة الاجتماعية لاعتبار اليد دليلاً على الملكية وأمارة بها ، هي انّ الطابع الغالب للاستيلاء في القرون الغابرة كان هو الاستيلاء بأساليب قانونية معترفاً بها عرفياً ، وأمّا الاستيلاء ظلماً وعدواناً فلم يكن بتلك الدرجة من الكثرة ، فصار ذلك سبباً لإمضاء العقلاء مطلق الاستيلاء وجعله كاشفاً عن الملكية طيلة قرون كما أمضاه الشارع قولاً وتقريراً. وتبعه المتشرّعة والفقهاء عبْر القرون ، فالدليل المهم لكونه كاشفاً عن الملكية هو السيرة.

نعم ليس للسيرة لسان ، فاستصحاب كونه أمارة أو أصلاً محرزاً أو أصلاً تعبّدياً يتوقف على لحاظ الروايات الممضية لها.

٣٠٩

المقام الثالث

في أنّ اليد أمارة

قد عرفت أنّ الطابَع الغالب للاستيلاء هو الاستيلاء المشروع ، فصار ذلك سبباً لكاشفيته عن الملكية ، إلاّ إذا كان الغالب عليه عدم الملكية ، كما في يد السارقين واللصوص والغاصبين والسماسرة فلايتعامل معهم معاملة اليد المالكة.

هذا هو حال السيرة ، وأمّا الأخبار فهي على طوائف :

١. ما يدلّ على اعتبارها من دون دلالة على كونها أمارة أو أصلاً.

٢. ما يدلّ على أنّها أمارة للملكية.

٣. ما يستظهر منها انّها أصل.

وإليك دراسة هذه الطوائف :

الطائفة الأُولى : ما هي ظاهرة في اعتبارها فقط

وهي ثلاث روايات :

١. ما رواه العيص بن القاسم ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : سألته عن مملوك ادّعى أنّه حر ولم يأت ببيّنة على ذلك أشتريه؟ قال : « نعم ». (١) وما ذلك إلاّ لأنّ استيلاء المالك عليه ، آية كونه مالكاً له ، ولايُسمع قول مدّعي الحرّية إلاّ ببيّنة.

٢. ما رواه حمزة بن حمران ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام : أدخل السوق

__________________

١. الوسائل : ١٣ / ٣٠ ، الباب ٥ من أبواب بيع الحيوان ، الحديث ١.

٣١٠

وأُريد اشتري جارية ، فتقول : إنّي حرّة؟ فقال : « اشترها إلاّ أن يكون لها بيّنة ». (١) والاستدلال بها مثله في الرواية السابقة.

٣. مكاتبة محمد بن الحسين قال : كتبت إلى أبي محمّد عليه‌السلام : رجل كانت له رحى على نهر قرية ، والقرية لرجل ، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويعطِّل هذه الرحى ، أله ذلك أم لا؟ فوقّع عليه‌السلام : « يتّقي اللّه ، ويعمل في ذلك بالمعروف ولايضرّ أخاه المؤمن ». (٢) فإنّ وجود الرحى دليل على استيلائه على أنّ له حقّ الانتفاع بالماء.

الطائفة الثانية : ما يدلّ على كونها أمارة للملكية

٤. روى محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن الدار يوجد فيها الورق؟ فقال : « إن كانت معمورة فيها أهلها فهي لهم ، وإن كانت خربة قد جلا عنها أهلها فالذي وجد المال أحقّ به ». (٣)

٥. وفي رواية أُخرى له عن أحدهما عليهما‌السلام في حديث قال : وسألته عن الورق يوجد في دار؟ فقال : « إن كانت الدار معمورة فهي لأهلها ، وإن كانت خربة فأنت أحقّ بما وجدت ». (٤) ولعلّها نفس الرواية السابقة غير انّ المسؤول في الأُولى مشخص وهو أبو جعفر عليه‌السلام دون الأُخرى.

٦. صحيحة جميل ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام رجل وجد في منزله ديناراً؟ قال : « يَدْخل منزلَه غيرُه؟ » قلت : نعم ، كثير ، قال : « هذا لقطة ».

__________________

١. الوسائل : ١٣ / ٣١ ، الباب ٥ من أبواب بيع الحيوان ، الحديث ٢.

٢. الوسائل : ١٧ / ٣٤٣ ، الباب ١٥ من كتاب إحياء الموات ، الحديث ١.

٣. الوسائل : ١٧ / ٣٥٤ ، الباب ٥ من أبواب اللقطة ، الحديث ١.

٤. الوسائل : ١٧ / ٣٥٥ ، الباب ٥ من أبواب اللقطة ، الحديث ٢.

٣١١

قلت : فرجل وجد في صندوقه ديناراً » قال : « يُدخِل أحد يدَه في صندوقه غيره ، أو يضع فيه شيئاً؟ »

قلت : لا ، قال : « فهو له ». (١)

ترى أنّ الإمام فرّق بين الدار غير المختصة لأهلها ، فجعل الورق الذي يوجد فيها لقطة ، لعدم دلالة اليد في ذلك المكان على المالكية ، لكثرة تردّد الأفراد واختلافهم إليها ، كالديوانية للعلماء ، وبين الصندوق الذي لايُدْخل غيرُ المالك يدَه فيه فجعله له ، فقوله : « فهو له » ظاهر في الملكية.

٧. عن يونس بن يعقوب ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام في امرأة تموت قبل الرجل ، أو رجل قبل المرأة؟ قال : « ما كان من متاع النساء فهو للمرأة ، وما كان من متاع الرجال والنساء فهو بينهما ، ومن استولى على شيء منه فهو له ». (٢)

ترى أنّ الإمام جعل الاستيلاء دليلاً على الملكية ، فالضمير المجرور ، أعني : « منه » ، في قوله : « فمن استولى على شيء منه فهو له » يرجع إلى مطلق المتاع حتى وإن كان من مختصّات النساء ، واللام في قوله : « له » للملكية ، فالاستيلاء دليل

__________________

١. الوسائل : ١٧ / ٣٥٣ ، الباب ٣ من أبواب اللقطة ، الحديث ١. ولاحظ مستدرك الوسائل : ١٧ / ١٢٨ ، الباب ٤ من أبواب اللقطة ، الحديث ١ ، رواية القاضي نعمان المصري عن أمير المؤمنين ؛ ولاحظ المقنع : ١٢٧ ، حيث أفتى بنص الحديث الخامس.

٢. الوسائل : ١٧ / ٥٢٥ ، الباب ٨ من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث ٣. ولم يرد فيه الصنف المختص بالرجال كالسيف والقلنسوة والميزان وكأنّه مفهوم من قرينة التقابل ، ولكن وردت في الرواية الناقلة لفتوى إبراهيم النخعي لاحظ الحديث ١ من ذلك الباب.

ولاحظ أيضاً الوسائل : ١٧ / ٥٢٣ ، الباب ٨ من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث ١. فقد اعتمد الإمام فيه على أنّ متاع البيت للمرأة على الشهود الذين رأوا انّ المتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت الزوج لا على اليد.

٣١٢

الملكية مطلقاً حتى في مختصّات النساء.

وإنّما يستدل بالخصوصية إذا لم يكن لأحدهما استيلاء ، وعليه فما يختصّ بالرجل فهو له وما يختصّ بالمرأة فهو لها إلاّ إذا استولى أحدهما عليه.

ويحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى خصوص متاع البيت المشترك الذي حكم فيه الإمام بالتقسيم بالمناصفة وأنّ الاشتراك دليل على ملكيتهما لولا استيلاء واحد منهما على شيء منه وإلاّ فهو للمستولي ، وعلى ذلك فيستدل بالاستيلاء بعد إخراج ما يختصّ بأحدهما على نفي الاشتراك.

والعجب ممّن يفسر قوله « فهو له » على ترتيب آثار الملكية على ما استولى عليه وانّ هذا المعنى يجتمع مع الأمارية والأصلية.

يلاحظ عليه : أنّ المتبادر منه انّه ملك له واقعاً لأجل الطريق لا انّه يُبنى على كونه مالكاً ويؤخذ بأحد طرفي الشكّ على أنّه الواقع كما هو حال الأصل المحرز.

هذا بعض ما وقفنا عليه من الروايات الدالة على الملكية ، وفي الحوار الذي دار بين الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وأبي بكر عندما سأل الإمام عن بيّنته على ملكية « فدك » الّتي كانت تحت يد الإمام ، ما يدلّ على أنّ اليد أمارة الملكية. (١)

الطائفة الثالثة : ما يستشم منه كونها أصلاً

٨. ما رواه حفص بن غياث ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : قال له رجل : إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال : « نعم ».

قال الرجل : أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له ، فلعلّه لغيره؟

__________________

١. الوسائل : ١٨ / ٢١٥ ، الباب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ٣ وسيوافيك الكلام فيه.

٣١٣

فقال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « أفيحلّ الشراء منه؟ » قال : نعم ، فقال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « فلعله لغيره فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك ، ثمّ تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه. ولايجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟ ».

ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق ». (١)

وجه الاستدلال : انّ الإمام عليه‌السلام علّل تنفيذ اليد بأنّه لولاه يلزم العسر والحرج فأنفذها الشارع لرفع الحرج وهذا يناسب كونها أصلاً.

ولكن الإمعان في صدر الرواية يعرب عن كونها أمارة عند الإمام ، لأنّ شبهة السائل كانت ناشئة عن كون الشهادة مأخوذة من الشهود وهو المعاينة ، والذي يعاينه الإنسان كونه في يده لا أنّه ملْكُه. فأجاب الإمام بأنّه إذا اشتريت منه هل يصحّ لك أن تقول ملكتُ وهل يصحّ أن تحلف على أنّك مالك؟! فإذا جازت الشهادة على ملكية المشتري وجاز الحلف عليها فلِمَ لاتجوز الشهادة على الأصل وهو ملكية البائع مع أنّ ملكية المشتري فرع ثبوتها للبائع ، فهل يصح أن يشهد على الفرع دون الأصل؟

ولما كان شبهة الراوي في جواز الشهادة على الملكية ، لأجل تصوّر انّ الشهادة لاتجوز إلاّ على الأمر الواقعي وهو بعد لم يثبت أوضح الإمام بأنّ الشهادة تجوز بأحد أمرين :

أ : العلم الجزمي وهو منتف في المقام.

ب : باليد والاستيلاء بشهادة انّ الرجل بعد الشراء يعرف نفسه مالكاً ويحلف عليه ، وليس هذا إلاّ كون اليد أمارة عليها في كلا الموردين.

__________________

١. الوسائل : ١٨ / ٢١٥ ، الباب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ٢.

٣١٤

وأمّا تعليل الشهادة على الملكية باختلال أمر الحياة عند عدم التنفيذ ، فهو من قبيل الحِكَم لا العلّة ، لأنّ الحكمة في اعتبار أكثر الأمارات هو انّ عدم تنفيذها موجب لاختلال النظام ، كحجية الظواهر وحجّية قول الثقة وحجّية قول أهل الخبرة والتخصّص.

٩. ما رواه مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك ، قد اشتريته وهو سرَقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خُدِعَ فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك وهي أُختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة ». (١)

إنّ الصدر ، أعني قوله : « هو لك » ، يمكن أن يكون ناظراً إلى قاعدة اليد كما يمكن أن يكون ناظراً إلى أصل البراءة ، فلو جعلنا قوله : « هو لك » وصفاً لقوله « كلّ شيء » ، وقولَه « حلال » خبراً للمبتدأ يكون دليلاً على قاعدة اليد فيكون المعنى : كلّ شيء مفروض انّه لك ( مفروض انّه باختيارك كالثوب والعبد والزوجة ) حلال حتى تعلم أنّه حرام ، وعلى هذا جعل الاستيلاء في ظرف الشك حجة على الملكية وهذا يناسب كونه أصلاً.

نعم لو جعلنا قوله : « هو » ضميرَ فصل ومبتدأً ثانياً ، وجعلنا قوله : « حلال » خبراً له ، والجار والمجرور ، أعني قوله : « لك » من متعلّقات الخبر ، ينطبق على قاعدة البراءة ، فيكون المعنى : « كلّ شيء ـ هو ـ حلال لك حتى تعلم أنّه حرام بعينه » فعندئذ ينطبق على أصل البراءة لا على قاعدة اليد.

__________________

١. الوسائل : ١٢ / ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة ، الحديث ٤. وفي السند هارون بن مسلم بن سعدان ، وهو ثقة. ولم يوثق مسعدة بن صدقة بالخصوص.

٣١٥

فلو قلنا بالتفسير الأوّل يكون الاستيلاء في ظرف الشكّ موضوعاً للحكم بحلّية التصرّف فيكون أصلاً لا أمارة ، إذ لو كان أمارة لكان طارداً للشكّ لا حافظاً له.

إنّما الكلام في تعيّن التفسير الأوّل فإنّه على خلاف الظاهر ، والظاهر هو التفسير الثاني ، كما عليه المشهور في تفسير الرواية.

المقام الرابع

في الاستيلاء على الحقوق

قد عرفت أنّ الاستيلاء على العين أمارة الملكية وربّما لاتكون العين ملكاً للمستولي ولكن يكون له حقّ فيها ، كحقّ الاختصاص بالخلّ المتبدَّل إلى الخمر ، ومثله الميتة ، فيقال : إنّ مالك الخل والحيوان الذي مات حتف أنفه ذو حقّ بالنسبة إلى الخمر وميتة الحيوان ، فيكون الاستيلاء على العين دليلاً على الاستيلاء على الحقوق ، نظير ذلك ، ما رواه محمد بن الحسين قال : كتبت إلى أبي محمّد عليه‌السلام : رجل كانت له رحى على نهر قرية ، والقرية لرجل ، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويُعَطّل هذه الرحى ، أله ذلك أم لا؟ فوقّع عليه‌السلام : « يتّقي اللّه ، ويعمل في ذلك بالمعروف ، ولايضرّ أخاه المؤمن ». (١)

فإنّ استيلاء صاحب الرحى على الانتفاع بالماء عرفاً حيث إنّه كان يمرّ عن طريق رحاه يعدّ دليلاً على كونه ذا حق.

وبذلك يتبيّن جريان الاستيلاء وقاعدة اليد في النسب والأعراض ، فلو

__________________

١. الوسائل : ١٧ / ٣٤٣ ، الباب ١٥ من أبواب إحياء الموات ، الحديث ١.

٣١٦

تنازع شخص مع آخر في زوجة تحت يدهما ، أو ولد في بيته ، فيحكم على الزوجة والولد بأنّها زوجة من هي تحت يده ، ومثله الولد.

وقد عرفت أنّ فلسفة اعتبار اليد هو أنّ مناشئ الاستيلاء في العصور السابقة كانت مناشئ صحيحة ، خصوصاً بالنسبة إلى الأعراض والأولاد ، فإنّ الاستيلاء على عرض الغير وولده أمر نادر ، فاعتبر الاستيلاء على الحقوق وصار دليلاً عليها كما هو الحال في الأعيان.

المقام الخامس

الاستيلاء على المنافع

إنّ العين رمز المنافع ووجود إجمالي لها ولولا اشتمالها على المنافع لم يرغب أحد في الاستيلاء عليها.

إنّما الكلام في صحّة الاستيلاء على المنافع ، فهل الاستيلاء على المنافع في طول الاستيلاء على العين أو في عرضها أو لا استيلاء عليها؟

فالحقّ هو الأوّل بمعنى أنّ الاستيلاء على العين عند التحليل يُعد استيلاء للمنافع ، فمالك العين في ضمن الاستيلاء عليها ، مستول عند التحليل على منافعها.

وبعبارة أُخرى : انّ العين لمّا كانت رمزاً للمنافع يعدُّ التسلّط عليها تسلّطاً على المنافع في ضمنها ، وهذا هو المراد من أنّ الاستيلاء على المنافع في طول الاستيلاء على العين ، لا بمعنى أنّ هنا استيلاءين مستقلّين أحدهما بعد الآخر ، بل

٣١٧

استيلاء واحد على العين ظاهراً وعلى المنافع عند التحليل ، فالاستيلاء الثاني هو الوجود التفصيلي للاستيلاء الأوّل.

وربما يقال بعدم إمكان الاستيلاء على المنافع وذلك لأنّ المنفعة من الأُمور التدريجية غير قارّة الذات لايوجد جزء منها إلاّ بعد انعدام جزء آخر ، ومثل ذلك لايمكن أن يقع طرفاً للإضافة بينها وبين الإنسان ، لامتناع تحقّق الإضافة بين الموجود والمعدوم.

يلاحظ عليه : أنّه إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ المنافع تقع تحت الاستيلاء في عرض الاستيلاء على العين ، وأمّا إذا كان الاستيلاء عليها من خلال الاستيلاء على العين فلايرد الإشكال ، لأنّ مصحّح الاستيلاء على المنافع هو وجود الاستيلاء على العين وكونها رمزاً لوجود المنافع وتحقّقها ، وكأنّ العين في نظر العقلاء هو المنافع المتجسّدة في الخارج.

وبما ذكرنا يعلم أنّ الإجارة عبارة عن تسليط الغير على العين لغاية الانتفاع وليس تسليطاً على المنافع مجرّدة عن تسليطه على العين ، فصاحب العين يسلّط المستأجر على العين بما هي رمز للمنافع ، وبما انّها وجود جمعي لها حتى فيما لو كانت المنفعة من الأعيان كالثمرة على الشجرة والزرع على الأرض فالاستيلاء عليها في ضمن الاستيلاء على العين.

ثمّ إنّ الاستيلاء على المنافع إنّما ينفع في مقابل الأجنبي الذي يدّعي ملكية المنافع فيكون المستولي على المنافع منكراً والآخر مدّعياً لا في مقابل المالك فانّ اعتراف المستولي على المنافع بكونه مالكاً يوجب انقلاب الدعوى فيكون المستولي مدّعياً والمالك منكراً.

٣١٨

المقام السادس

إذا شكّ ذو اليد في مالكيته

إنّ اليد حجّة لغير ذي اليد في حال الشكّ ، إنّما الكلام في اعتبارها بالنسبة إلى نفس صاحب اليد إذا شكّ في كون ما استولى عليه ، ملكاً له أو أمانة.

ذهب المحقّق النراقي في « عوائده » إلى عدم اعتبارها عند شكّ المستولي واستدلّ على ذلك بوجوه :

الأوّل : انصراف العمومات عن هذه الصورة وقصورها عن الشمول لها ، وإلى ذلك أشار بقوله : إنّ السابق من اقتضاء اليد الملكية غير ذلك المورد.

الثاني : ما رواه جميل بن صالح في الصحيح قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام رجل وجد في بيته ديناراً؟ قال : « يدخل منزله غيره؟ » قلت : نعم كثير ، قال : « هذا لقطة ».

قلت : فرجل وجد في صندوقه ديناراً؟ ، قال : « يُدخل أحد يدَه في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئاً؟ » قلت : لا ، قال : « فهو له ». (١)

وجه الدلالة من وجهين :

١. انّه حكم فيما هو في داره الذي لايعلمه انّه له ، مع كونه في يده ومستولياً عليه ، انّه ليس له.

٢. علّل كون ما وجد في الصندوق له ، بما يفيد العلم بأنّه ليس لغيره ،

__________________

١. الوسائل : ١٧ / ٣٥٣ ، الباب ٣ من أبواب اللقطة ، الحديث ١.

٣١٩

وذلك من خلال عدم إدخال غيره يده فيه ولم يعلِّله باليد.

الثالث : ما رواه إسحاق بن عمـّار ، قال : سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن رجل نزل في بعض بيوت مكة فوجد فيه نحواً من سبعين درهماً مدفونة فلم تزل معه ولم يذكرها حتى قدم الكوفة ، كيف يصنع؟ قال : « يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها ».

قلت : فإن لم يعرفونها ، قال : « يتصدّق بها ». (١)

وجه الدلالة : انّه لا شكّ أنّ الدراهم كانت في تصرّف أهل المنزل على ما عرفت ، ولو انّهم قالوا انّا لانعلم أنّها لنا أو لغيرنا ، فيصدق انّهم لايعرفونها فلايحكم بملكيتها لهم.

ومن ذلك يعلم أنّ اليد لاتكفي في حكم ذي اليد لأجلها لنفسه إن لم تعلم ملكيته. (٢)

يلاحظ على الأوّل : أنّه لاقصور في قوله : « من استولى على شيء منه فهو له » ، فهو يعم صورة الشكّ ، وعلى ذلك فالإطلاق محكم.

وأمّا الاستشهاد برواية جميل بن صالح بكلا شقّيها فضعيف.

أمّا الشقّ الأول ، أعني : « جعل الإمام ما وجد في منزله بحكم اللقطة » ، لا لأجل عدم اعتبار اليد عند الشك ، بل لأجل خصوصية في المنزل حيث إنّه فرض انّه يدخله غيره ، وانّه كان كديوانية العلماء أو كالفنادق المؤجّرة والمنازل المعدّة لنزول الزائر ، ففي هذه المجالات لايحكم بالملكية لالأنّ القاعدة ليست حجّة في

__________________

١. الوسائل : ١٧ / ٣٥٥ ، الباب ٥ من أبواب اللقطة ، الحديث ٣.

٢. عوائد الأيام : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ، ط عام ١٣٢١ هـ.

٣٢٠