إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-128-1
الصفحات: ٥٦٤

١. انّ بقاء الكلّي وإن كان مسبباً عن كون الحادث هو الفرد الطويل ، لكن ارتفاعه ليس من لوازم عدم حدوث الفرد الطويل ، لأنّ عدم حدوثه لايلازم ارتفاع الحيوان لوضوح أنّ نفي الخاص لايكون دليلاً على نفي العام ، بل ارتفاع الحيوان مسبب عن كون الحادث هو الفرد القصير ولكن ليس له حالة سابقة حتى يُستصحب كون الحادث هو الفرد القصير ويترتب عليه ارتفاع بقاء الحيوان.

٢. انّ الأصل السببي إنّما يكون حاكماً على الأصل المسببي إذا كان هناك تعدد واثنينية كطهارة الماء الحاكمة على نجاسة الثوب ، وأمّا المقام فنفي الفرد الطويل عين نفي الجامع ، لأنّ الجامع نفس الفرد وجوداً وعدماً ، فليس بين الجامع والفرد ـ وجوداً وعدماً ـ سببيّة ومسببيّة.

٣. انّ الأصل السببي إنّما يكون حاكماً على المسببي إذا كانت الملازمة بينهما شرعية كالمثال المذكور ، فانّ طهارة الماء المغسول به الثوب النجس ، يلازم طهارة الثوب ، لقولهم : « كلّ نجس غسل بماء طاهر فهو طاهر » وأمّا المقام فوجود الجامع ، وعدمه يترتب على وجود الفرد وعدمه ، عقلاً لاشرعاً ، لأنّ العقل يحكم بأنّ الطبيعي يُوجد وينعدم بوجود الفرد وعدمه.

تطبيقات

ثمّ إنّه يلزم طرح فروض لترويض الذهن وإيجاد ملكة الاجتهاد بغية وقوف الطالب على كيفية ردّ الفروع إلى الأُصول :

الأوّل : لو كان متطهراً وخرج منه بلل مردّد بين البول والمني ، ثمّ توضأ ، فلو كان الحدث هو الأصغر فهو قطعيّ الارتفاع بالوضوء ، ولو كان الحدث هو الأكبر فهو قطعي البقاء ، فما هو المرجع في هذا الفرض؟

١٢١

الجواب : انّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير ، وهذا الشرط موجود في المقام ، لأنّه لمّا كان متطهراً فلو كان البلل بولاً لأثّر في إيجاب الوضوء ، ولو كان منيّاً لأثّر في إيجاب الغسل ، ولأجل ترتب الأثر على كلّ واحد من طرفي العلم صار الأصلان في كلا الجانبين ، متعارضين فأصالة عدم حدوث الحدث الأصغر معارض بأصالة عدم حدوث الحدث الأكبر ، فيتساقطان ، ويكون المرجع بعد سقوطهما هو استصحاب الحدث المؤثِّر الذي تعلّق به العلم ، وعندئذ يستقل العقل بالجمع بين الطهورين : الوضوء والغسل ، لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية ، ولايحصل إلاّ بالجمع.

الثاني : لو كان محدثاً بالحدث الأصغر وخرج منه بلل مردّد بين البول والمني فما هو المرجع عندئذ؟

أقول : إنّ العلم الإجمالي بخروج أحد البللين في المقام غير مؤثِّر على كلّ تقدير ، لأنّه لو كان البلل هو البول لم يؤثّر قطعاً لافتراض كونه محدِثاً بالحدث الأصغر ، فلايجري فيه الأصل لعدم ترتب الأثر على وجوده ، حتى ينفى بالأصل ولو كان الحادث هو المنيّ لأثر ، فيجري الأصل في ناحية الحدث الأكبر بلا معارض لترتب الأثر على وجوده فينفى بالأصل.

هذا كلّه حول الأصل وعدم جريانه.

وأمّا عدم جريان استصحاب الجامع بين الحدثين فلأنّ العلم لم يتعلّق بالحدث المؤثِّر حتى يصحّ استصحابه لما عرفت من أنّ الحدث لو كان صغيراً فلايؤثِّر لكونه محدِثاً به من ذي قبل.

نعم لو كان حدثاً كبيراً لأثّر ، ولكنّه مشكوك مرفوع بالأصل ، ففي هذا المورد يقتصر على الوضوء ولايجب الجمع.

١٢٢

الثالث : إذا علم أنّه محدث بالحدث الأكبر ثمّ خرجت منه رطوبة مردّدة بين البول والمني فليس هذا العلم الإجمالي منجّزاً بل هو أسوأ حالاً من الصورة الثانية. لكون العلم فيها مؤثراً على تقدير دون تقدير ، بخلاف المقام فإنّه ليس مؤثراً على كلا التقديرين لعدم ترتّب الأثر على خروج البول ولاعلى خروج المني بعد كونه جُنباً.

الرابع : لو كانت الحالة السابقة مجهولة وخرج منه بلل مردّد بين البول والمني فتوضأ ، فهذه الصورة من قبيل الشبهة المصداقية للعلم الإجمالي ، لأنّه لو كان متطهراً كان العلم الإجمالي منجِّزاً فيجب عليه الجمع بين الوضوء والغسل.

ولو كان محدِثاً بالحدث الأصغر ، كان منجِّزاً على تقدير ، دون تقدير ، واستصحاب الجامع استصحاب لحدث غير مؤثر فيكفي الوضوء.

ولو كان محدثاً بالحدث الأكبر ، لم يكن العلم الإجمالي منجِّزاً أصلاً لتعلّقه بحدث غير مؤثر مطلقاً ، سواء أكان بولاً أم منيّاً.

وبما أنّه مردّد بين إحدى الصور السابقة فلامحيص من الاحتياط بالجمع بين الطهارتين ، إذ لاتحصل البراءة اليقينية إلاّ بها.

الخامس : إذا تردّدت نجاسة شيء بين الذاتية والعرضيّة ، كالصوف المردّد بين كونه صوف خنزير ، أو صوف غنم متنجس ، فلو غسله يتردّد الأمر بين كونه قطعيّ الارتفاع وقطعي البقاء ، فيرجع إلى استصحاب الجامع بين النجاستين للعلم بالجامع في زمان واحد.

السادس : لو شكّ في نجاسة صابون لاحتمال اتخاذه من دهن حيوان غير مذكّى ، فبما انّ الشبهة موضوعية يحكم بطهارته ، ثمّ إذاعرضت عليه النجاسة ، وأُزيلت ، فهل يجري استصحاب النجاسة بوجه كلّي ، لأنّه من قبيل تردّد الجامع

١٢٣

بين تحقّقه بين فرد مقطوع الارتفاع ( النجاسة العرضية ) ومقطوع البقاء ( النجاسة الذاتية ) أو لايجري؟ والتحقيق هو الثاني ، لأنّه إنّما يجري إذا كان علم بالجامع في زمان واحد ، كما في مسألة الصوف وإن كان مردّداً بين كونه نجساً ذاتياً أو عرضياً ، بخلاف المقام ففي طرف احتمال النجاسة الذاتية لم يكن أيّ احتمال للنجاسة العرضية فضلاً عن العلم بها ، وعند عروض النجاسة العرضية القطعية ، كان الصابون محكوماً بالطهارة من ناحية النجاسة الذاتية ، وإن كان محكوماً بالنجاسة العرضية ، فإذا زيلت ، أُزيل الفرد والجامع المتحقّق فيه.

فإن قلت : العلم بالنجاسة العرضية ، يلازم العلم بالجامع ، فما المانع من استصحاب الجامع.

قلت : نعم ولكن تعلّق العلم بالجامع من خلال العلم بالنجاسة العرضية فإذا زالت زال الجامع.

السابع : إذا علم بنجاسة أحد طرفي العباءة ثمّ غسل طرفه الأعلى ، ومسح بيده كلا الطرفين فيلزم على القول بجريان استصحاب النجاسة على الوجه الكلي ، الحكم بنجاسة الملاقي قطعاً ، مع أنّه لاقى مشكوك النجاسة ومقطوع الطهارة.

وأيضاً يلزم زيادة الفرع على الأصل ، حيث إنّ ملاقي أحد الطرفين في الشبهة المحصورة ، طاهر كما مرّ ، ولكن مقتضى استصحاب الجامع نجاسة الملاقي ، وهو كما ترى.

فهذه هي الشبهة العبائية التي طرحها السيد إسماعيل الصدر والد آية اللّه السيد صدر الدين أحد زعماء الحوزة العلمية بعد رحيل مؤسسها الحائري ـ قدّس اللّه أسرارهم ـ وهو بظاهره أحد الإشكالات على استصحاب الجامع في القسم الثاني.

١٢٤

وقد أُجيب عن الإشكال بوجوه نذكر اثنين منها :

الأوّل : نلتزم بنجاسة الملاقي ، لأنّ القول بطهارته فيما إذا لم يمكن هناك أصل حاكم على نجاسته كما في المقام حيث إنّ استصحاب الجامع يقتضي نجاسة ملاقيه.

نعم يلزم منه التفكيك بين الحكم بنجاسة الملاقي ونجاسة الملاقى وهو ليس بمحذور لإمكان التفكيك بين المتلازمين في مؤدّيات الأُصول فيحكم بنجاسة الملاقي دون الملاقى. (١)

يلاحظ عليه : أنّ جريان الاستصحاب في مثل هذا المورد الذي لايخضع له الوجدان ، قيد نصّ يفرض على الفقيه التعبّد به بالخصوص ولايمكن الاقتصار فيه بإطلاق « لاتنقض » الذي هو منصرف عن مثل هذا المورد الذي يزيد فيه الفرع على الأصل ، لأنّ نجاسة الملاقى إنّما هو من الملاقي فكيف يحكم بنجاسة الفرع دون الأصل؟

الثاني : أجاب السيد الشهيد الصدر انّ استصحاب الجامع وإن كانت أركانه تامّة لكن لايترتب على مؤدّاه نجاسة اليد الملاقية مع الطرفين إلاّ بالملازمة العقلية ، لأنّ نجاسة الجامع لو فرض محالاً وقوعها على الجامع وعدم سريانها إلى هذا الطرف أو ذاك ، لاتسري إلى الملاقي ، لأنّ نجاسة الملاقي موضوعها نجاسة هذا الطرف أو ذاك الطرف لا الجامع بما هو جامع ( فما هو محكوم بالنجاسة ، أعني الجامع ليس موضوعاً لنجاسة الملاقي ، وأمّا ما هو موضوع لنجاسة الملاقي فليس محكوماً بالنجاسة إلاّ بالملازمة العقلية ) فإثبات نجاسة أحد الطرفين بخصوصه بنجاسة الجامع يكون بالملازمة العقلية.

__________________

١. مصباح الأُصول : ٣ / ١١٢.

١٢٥

حاصله : انّ استصحاب الجامع وبقاءه يلازم عقلاً نجاسة الملاقى ، لأنّ المفروض تطهير الطرف الأسفل ، فلو كان الجامع باقياً فلابدّ أن يكون باقياً في الجانب الأعلى ( الملاقى ) وبعد ثبوت نجاسته بالملازمة ، يصحّ الحكم بنجاسة الملاقي ( أي اليد ) لما عرفت من أنّ نجاسة الملاقي من آثار نجاسة الملاقى.

يلاحظ عليه : أنّه ما الفرق بين استصحاب الجامع والمنع من الدخول في الصلاة به وبين نجاسة الملاقى ، فلماذا يترتب الأوّل دون الثاني؟

اللّهمّ إلاّ أن يقال : انّ منع الدخول من آثار استصحاب الجامع ، وأمّا نجاسة الملاقي فمن آثار نجاسة هذا الطرف وذاك فلم يثبت.

ما هوالمختار في الجواب؟

استصحاب الجامع غير جار هنا ، وذلك لأنّ من شرائط جريانه وحدة القضية المشكوكة مع القضية المتيقّنة ، وليس المقام كذلك ، لأنّ العلم بالجامع في الطرف السابق كان مقروناً بالعلم لوجود النجس في البين ، وانّه إمّا في هذا الطرف أو ذاك الطرف على نحو كان يصحّ لنا القول بأنّ هذا الثوب نجس إمّا أعلاه وإمّا أسفله ، وأمّا بعد غَسل الطرف الأسفل لايصحّ ترديد النجاسة بين الطرفين بل يكون الطرف الأسفل طاهراً قطعاً ، والطرف الآخر مشكوك النجاسة فأين الحالة الثانية من الحالة المتيقّنة؟ فكيف يستصحب حكم الحالة السابقة ويجرّ إلى الحالة الثانية مع اختلافهما؟

وهذا نظير العلم بنجاسة أحد الإناءين في زمان واحد مع إراقة واحد منهما فلايصحّ لنا استصحاب النجاسة ، لأنّ العلم بالجامع في السابق كان على نحو يصحّ لنا القول بأنّ النجس إمّا في هذا الإناء أو في ذاك وبعد الإراقة لايصحّ لنا

١٢٦

هذا التعبير.

نعم يجب الاجتناب عن الإناء الآخر ، وذلك لالاستصحاب الجامع ، بل لأجل أنّ الاجتناب أثر العلم الإجمالي السابق.

القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الكلي

ومورد هذا القسم هو الشكّ في بقاء الكلّي لأجل احتمال قيام فرد آخر مقام الفرد المعلوم الارتفاع ، وقد ذكروا انّ لهذا القسم صوراً ثلاث :

الأُولى : إذا كان الشكّ في بقاء الكلي لأجل احتمال معية فرد مع الفرد المعلوم الارتفاع ، كما إذا علمنا بوجود زيد في الدار ، ولكن احتملنا مصاحبة عمرو معه في ذلك الوقت ، ثمّ علمنا بخروج زيد فيستصحب بقاء الإنسان بعد الشكّ.

الثانية : تلك الصورة ، ولكن احتملنا قيام فرد مقامه عند خروجه ، كما إذا علمنا بخروج زيد واحتملنا دخوله إلى البيت عند خروجه.

الثالثة : إذا كان الشكّ في بقاء الكلّي لأجل احتمال حدوث مرتبة من مراتب وجودها بعد العلم بارتفاع مرتبة أُخرى ، كما إذا علمنا بارتفاع السواد الشديد واحتملنا حدوث مرتبة ضعيفة ، أو ارتفاع السواد بعامّة مراتبه ، وإليك دراسة الأقسام :

الصورة الأُولى

ربّما يقال بجريان الاستصحاب بأنّ العلم بوجود الفرد الخاص في الخارج يلازم العلم بحدوث الكلّي فيه ، وبارتفاع الفرد الخاص يشكّ في ارتفاع الكلّي ،

١٢٧

وذلك لاحتمال قيام فرد آخر مكانه لأجل مصاحبته معه ، فلم تختل أركان الاستصحاب من اليقين السابق والشكّ اللاحق.

وقد ذهب الشيخ إلى التفصيل بين هذه الصورة والصورة التالية فقال بحجية الاستصحاب في الأُولى دون الثانية ، قال : أو التفصيل بين القسمين فيجري في الأوّل ( دون الثاني ) لاحتمال كون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقاً فيتردّد الكلي المعلوم سابقاً ، بين أن يكون وجوده الخارجي على نحو لايرتفع بارتفاع الفرد المعلوم ارتفاعه ، وأن يكون على نحو يرتفع بارتفاع ذلك الفرد ، فالشكّ حقيقة إنّما هو في مقدار استعداد ذلك الكلي. (١)

يلاحظ عليه : أنّ المراد من الكلّي كما عرفت هو ذات الطبيعي ، والمفروض أنّه يتكثّر مع تكثّر الأفراد ، فليس الطبيعي موجوداً شخصيّاً قائماً بجميع الأفراد ، بل هو أمر واحد نوعي يتكثّر مع تكثّر الأفراد ، فنسبة الطبيعي إلى الأفراد كنسبة الآباء إلى الأولاد فعند ذلك فالمتيقّن هو الطبيعي الموجود في ضمن الفرد الأوّل ، والمحكوم بالبقاء هو الطبيعي الموجود في ضمن الفرد الثاني فكانت القضية المشكوكة غير القضية المتيقّنة.

ومنشأ الخلط هو خلط الوحدة المفهومية النوعية ، مع الوحدة المصداقية فالإنسان واحد بالنوع أي مفهوماً وليس هو المستصحب ، ومتعدد مصداقاً وخارجاً وهذا هو المستصحب.

وما أفاده من الفرق بين الصورتين ، غير فارق ، لأنّ احتمال كون الفرد مع الفرد الأوّل أو نائباً عنه لايوجب وحدة القضيتين ولاتغائرهما ، بعد كون الطبيعي الموجود في ضمن زيد ، غيره في ضمن عمرو.

__________________

١. الفرائد : ٣٧٢.

١٢٨

الصورة الثانية

إذا كان احتمال بقاء الكلي مستنداً إلى قيام فرد آخر مقامه ، عند زواله وبما أنّك عرفت عدم جريانه في الصورة الأُولى ، فعدم جريانه في هذه الصورة أوضح لما عرفت : أنّ بين زيد الخارج عن البيت وعمرو المحتمل دخوله وحدة مفهومية ولكنّها ليست موضوعاً للاستصحاب ، وإنّما الموضوع له هو الوحدة الخارجية. وهي غير متحقّقة ، لأنّ هناك إنسانين ، وإنسانية كلّ تغاير إنسانية الآخر ومعه كيف يصحّ استصحابه؟

نعم لو قلنا برأي الرجل الهمداني في الكلّي الطبيعي من أنّه واحد شخصي قائم بجميع الأفراد لكان لما ذكروه مجال ، لأنّ الإنسانية عندئذ واحد بالعدد ، لابالنوع ، أضف إليه أنّ جريان الاستصحاب في أمثال المورد ربّما ينتهي إلى أُمور لايلتزم بها الفقيه ، وإليك المثال :

١. لو قام من النوم واحتمل جنابته فيه وتوضّأ ، فعلى القول باستصحاب الحدث يلزم الاغتسال ، مع أنّه لايلتزم به فقيه.

٢. لو علم أنّه مدين لزيد ، بعشرة دنانير ، ولكن يحتمل أن يكون الدين هو ، لكن مع إضافة حُقَّة من الحنطة ، فلو أدّى العشرة فلازم بقاء الدين باستصحابه ، لزوم أداء حُقّة من الحنطة ، مع أنّه لايلتزم به فقيه.

الصورة الثالثة

إذا احتمل تبدّل الفرد المتيقّن ـ حدوثاً وارتفاعاً ـ إلى مرتبة أُخرى وعدم تبدّله كما مثلنا في السواد ، ومثله استصحاب كون الرجل كثير الشك حيث

١٢٩

احتملنا زوال هذا العنوان أو تبدّله إلى مرتبة خفية ، فهل يجوز استصحابه أو لا؟ ذهب الشيخ الأعظم والمحقّق النائيني إلى الجريان ، والمحقّق الخراساني إلى خلافه.

والحقّ أن يقال إنّه إذا عُدّت المرتبة المشكوكة غير مغايرة عرفاً للمرتبة السابقة بحيث تُعد استمراراً لوجود المرتبة السابقة يجري الاستصحاب وإلاّ فلالاختلال أركانه.

مثال الأوّل كالسواد الضعيف بالنسبة إلى السواد الشديد ، فإنّ الضعيف من مراتب الشديد وليس فرداً مغايراً ، بخلاف ما إذا عُدَّت المرتبة اللاحقة مغايرة للمرتبة السابقة ، كما إذا علمنا بوجوب الشيء ثمّ نسخ ولكن نحتمل تبدّله إلى الندب فلايجوز لنا استصحاب الطلب ، وذلك لأنّ العرف لايعد الندب مرتبة حقيقية من الوجوب بل يتلقّاها أمرين متباينين وإن كان العقل يعدّهما أمراً واحداً ذا مراتب.

الصورة الرابعة

وإذا علم بوجود إنسان في الدار وعلم أيضاً بوجود القرشي فيها أيضاً ولكن احتمل قيام العنوانين بوجود واحد أو بوجودين.

والفرق بين هذا القسم والقسم الثاني هو انّ الفرد الذي قام به الجامع فيه مردّد بين نوعين كالبق والفيل ، بخلاف المقام فانّ الفرد معيّن من حيث النوع وهو انّه إنسان.

كما يمتاز ، عن الصورة الثالثة أنّه ليس في الصورة الثالثة علمان ، بل علم

١٣٠

واحد متعلّق بوجود فرد معيّن ، نهاية الأمر يحتمل معيّة أو تقارن فرد آخر ، بخلاف هذا القسم فانّ فيه علمين : علم بوجود فرد معين ، وعلم بوجود ما يحتمل انطباقه على هذا الفرد ؛ ومثاله : إذا علمنا بالجنابة يوم الخميس وقد اغتسلنا منها ثمّ رأينا يوم الجمعة منيّاً في الثوب فعلم بكوننا جنباً لخروج هذا المني ، ولكن نحتمل أن يكون هذا المني من الجنابة التي اغتلسنا منها ، أو يكون من غيرها ، فيستصحب كلّي الجنابة مع إلغاء الخصوصية.

نعم هو معارض باستصحاب الطهارة الشخصية ، فانّ المغتسل يوم الخميس على يقين بالطهارة حينما اغتسل من الجنابة ولاعلم بارتفاعها لاحتمال كون المني المرئي من تلك الجنابة فيقع التعارض فيتساقطان ولابدّ من الرجوع إلى أصل آخر.

هذا كلّه فيما له معارض وأمّا ما لامعارض له ، كما إذا علمنا بوجود زيد وعلمنا بوجود قارئ يحتمل انطباقه عليه وعلى غيره فلا مانع من استصحاب الإنسان الكلي مع القطع بخروج زيد عنها إذا كان له أثر شرعي. (١)

يلاحظ عليه : موضوعاً وحكماً ، ومثالاً واستدلالاً.

أمّا الأوّل : فالظاهر انّه ليس قسماً مستقلاً ، بل هو داخل في القسم الثالث ، والتفاوت المذكور من وحدة العلم في القسم الثالث ، وتعدّده في المقام غير مؤثر ، لأنّ هنا علماً بالجنابة القائمة بفرد متيقّن الارتفاع والشكّ في بقائه ، لأجل احتمال بقائها بفرد آخر فلايرتفع الكلّي بارتفاع الفرد الأوّل. والعلم بوجود عنوان آخر وإن كان متحقّقاً في هذا القسم ، لكنّه غير مؤثر في الاستصحاب ، لأنّ

__________________

١. مصباح الأُصول : ٣ / ١١٨.

١٣١

المستصحب ليس عنوان القرشي بل ما ينطبق عليه ، أعني الإنسان الخارجي ، فعندئذ يشاركان في العلم بتحقّق الكلّي في ضمن فرد مرتفع والشكّ في بقائه في ضمن فرد آخر.

وأمّا الثاني : أعني : حكماً ، فلأنّ ما أوردناه على القسم الثالث من عدم وحدة القضيتين موجود في المقام ، لأنّ الطبيعي الموجود في النوم غير الطبيعي الباقي بالجنابة فإبقاؤه باحتمال نيابة هذا الفرد لايعد إبقاء للمتيقّن.

أمّا الثالث : فلأنّ الفارق بينه وبين القسم الثالث ، هو وجود علم بعنوان ثان غير العنوان الأوّل وإن كان يحتمل وحدة مصداقهما كما في الإنسان ، والمثال الفقهي الذي ذكره فاقد لهذا الميزة ، فليس فيه علم بعنوان مغائر لما علم به أوّلاً ، مثلاً إذا علم بالجنابة يوم الخميس فهنا علم بعنوان وهو العلم بالجنابة ولمّا اغتسل ورأى يوم الجمعة المني في ثوبه فهو وإن علم بالجنابة أثر خروجه لكن هذا ليس علماً بعنوان ثان بل تعلّق العلم بنفس العنوان الذي تعلّق به العلم الأوّل غاية الأمر يحتمل اتحادهما في المعنون كما يحتمل تغايرهما ، وهذا بخلاف العلم بوجود الإنسان والقرشي أو الإنسان والقارئ في البيت ، فهناك علمان مختلفان غير أنّه يحتمل وحدة مصداقهما.

أمّا الرابع : أي الإشكال على أساس الاستدلال ، فلأنّ التمسّك بعموم « لاتنقض » في هذا المقام من قبيل التمسّك بالدليل في الشبهة المصداقية ، لأنّه كما يحرم نقض اليقين بالشك يجب نقض اليقين باليقين ، وعلى ضوء هذا فالجنابة المرئية يوم الجمعة لاتخلو من حالتين.

الأُولى : أن تكون أثراً للجنابة الحاصلة ليلة الخميس ، فعندئذ يدخل في القضية الثانية لافتراض انّه اغتسل.

١٣٢

الثانية : أن تكون أثراً لجنابة جديدة تحقّقت ليلة الجمعة ، فعندئذ يدخل في القضية الأُولى ، ومع تردّده بين الأمرين يكون التمّسك بالقضية الأُولى للمورد ، من قبيل التمسّك بالشبهة المصداقية للدليل « لاتنقض » ، فتلخص انّ استصحاب الكلّي عقيم إلاّ في القسم الأوّل ، والصورة الثالثة من القسم الثاني.

١٣٣

التنبيهات

٥

استصحاب الزمان والزمانيات

والأُمور القارة المقيّدة بالزمان

هذا التنبيه منعقد لبيان الاستصحاب في الأُمور التدريجية ، ولها أقسام ثلاثة :

١. استصحاب نفس الزمان إذا كان معنوناً بعنوان وجوديّ ككونه ليلاً أو نهاراً.

٢. استصحاب الأمر غير القار بالذات كالحركة وجريان الماء وسيلان الدم ، وبقاء التكلّم والمشي ، فإنّ ذات الأفعال في هذه الأمثلة أُمور متدرجة بالذات ، متقضية بالطبع.

٣. استصحاب الأمر القار بالذات ، المقيّد بالزمان كالجلوس في المسجد إلى الظهر ، فيقع الكلام في مواضع ثلاثة :

الموضوع الأوّل : استصحاب نفس الزمان المعنون بعنوان وجودي

إذا كان الزمان المعنون بعنوان وجودي ، موضوعاً للحكم كالنهار والليل فشككنا في بقائه ، فهل يصحّ استصحاب نفس الزمان من خلال استصحاب

١٣٤

عنوانه كبقاء النهار ، وتترتب عليه إقامة الصلاة أداءً وحرمة الإفطار ، وهكذا من جانب الليل؟

فقد أورد عليه بوجوه ، وقبل أن نشير إليها نذكر كلمة في حقيقة الزمان.

اختلف المتكلّمون في حقيقة الزمان ، فمن قائل : إنّه بعد موهوم ليست له واقعية خارجيّة ؛ إلى قائل آخر بأنّه بعد حقيقي كالمكان ، وهو مخلوق مستقل ، وظرف لفعله سبحانه ، كان اللّه ولم يكن معه شيء فخلق العالم في زمان لم يكن فيه شيء.

ولكن البحوث الفلسفية أثبتت بطلان كلتا النظريتين ، وانّه مقدار الحركة ، وانّ كلّ حركة فهي بسيلانها وجريانها تُولّد زماناً ، فكلّ سيلان وجريان ، بما انّه يتضمن خروج ما بالقوة إلى الفعل كحركة اليد ، وانتقال القطار من نقطة إلى نقطة ، وغيرهما يسمّى حركة ، وبما انّه يستغرق مقداراً حتى ينتقل من المبدأ إلى المنتهى فهو زمان ، وعليه فليس الزمان إلاّ مقدار الحركة الذي ينتزع من نفسها ، لا من أمر آخر.

وبما انّ لكلّ حركة زماناً ، وكانت حركة الشمس أو الأرض من أعم الحركات وأوسعها اتّخذت العامة مقدار حركتهما مقياساً وزماناً لسائر الأفعال وإلاّ فالزمان وليد عامة الحركة من غير فرق بين متحرك ومتحرك ، ولكلّ حركة زمان خاص بها ، يتولّد منها ويتدرج مع تدرّجها.

إذا عرفت ذلك ، فلنذكر الإشكالات في استصحاب الزمان.

الأوّل : عدم تصوّر البقاء فيه

إنّ الزمان شيء غير قار الذات ولايتصوّر له البقاء ، لأنّ سنخ تحقّقه هو

١٣٥

الوجود بعد العدم ، وما هذا شأنه لايتصوّر فيه البقاء ، والليل والنهار من الأُمور ذات الأجزاء كلّ جزء ، يعد جزء من الكل والأجزاء سنخها الوجود بعد عدم الجز ءالمتقدم ، ومثل هذا لايتصور له البقاء.

وقد أجاب عنه شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري قدس‌سره : بأنّه يكفي في الاستصحاب ، اليقين بالشيء ، والشكّ فيه ، ولم يرد في الأدلة عنوان البقاء فعدم صدقه غير مخلّ بجريانه.

يلاحظ عليه : أنّه وإن لم يرد عنوان الشكّ في البقاء في لسان الأدلّة لكنّه لازم إمكان اجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد ، وذلك بتعلّق اليقين بالحدوث ، والشكّ بالبقاء ، ولولا هذا القيد لامتنع اجتماعهما فيه ضرورة انتقاض اليقين بالشكّ ، فهو مدلول التزامي لاجتماعهما وعدم انتقاض الأوّل بالثاني.

والتحقيق أن يقال : المراد من البقاء هو البقاء لدى العرف الذي هو المخاطب بهذه الخطابات لا البقاء العقلي ، ولو كان الميزان هو الثاني ، لما صدق إلاّ في مورد نادر ، وعلى ذلك ، فالليل والنهار موجود شخصي ، لهما حالات كأوّله ووسطه ونهايته ، كالإنسان الذي تطرأ عليه حالات مثل الصبا والشباب والكبر ، فكما أنّ لكلّ فرد من أفراد الإنسان بقاءً وإن كبر وشابَ أو شاخ ، فهكذا للنهار والليل بقاء ، وإن وصلا إلى القمة.

والذي يصحّح صدق البقاء ، هو اتصال الأجزاء وتلاصقها الذي يجعل الأجزاء المتلاحقة ، كشيء واحد ، ويشك الإنسان في طوله وقصره ، والقائل بعدم البقاء يصب النظر إلى كلّ جزء من الزمان مستقلاً عن الجزء الآخر ، ويغفل عن أنّ ملاك صدق البقاء هو تلاصق الأجزاء وتلاحمها على وجه يعد جميع البعد الزماني كالبعد المكاني شيئاً واحداً.

١٣٦

الثاني : عدم بقاء الموضوع

من شرائط جريان الاستصحاب بقاء الموضوع ، إذ لولاه لعاد الاستصحاب قياساً ويكون من قبيل إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر ، وبما انّ الزمان أمر غير قارّالذات ، متصرّم الحقيقة ، فالجزء الموصوف بالنهار المتيقّن غير الجزء المشكوك كونه نهاراً.

يلاحظ عليه : أنّه ليس إشكالاً جديداً بل تعبيراً ثانياً عن الإشكال الأوّل ، ويعلم جوابه ممّا ذكرناه حول الإشكال الأوّل.

وحاصله : انّ الموصوف بالنهارية ، ليس الجزء المنفك عن الجزء الأول بل الوجود الشخصي الذي يتحقّق بطلوع الفجر وأخذ يتحرّك فنشكّ في بقاء ذلك الموجود الشخصي ، وعلى ضوء ذلك يكون الموضوع باقياً.

الثالث : الاستصحاب مثبت

إنّ استصحاب بقاء الليل والنهار يتصوّر على وجهين :

الأوّل : استصحابه على نحو القضية التامة بأن يقال : كان الليل موجوداً ، والأصل بقاء الليل.

الثاني : استصحابه على نحو القضية الناقصة ، بأن يقال : هذا الجزء كان ليلاً ، والأصل بقاؤه.

فالأوّل منهما وإن كان له حالة سابقة ، لكنّه يلازم عقلاً كون الجزء المشكوك نهاراً ، ويترتب عليه أثره الشرعي وهو حرمة الأكل في اليوم وجواز إقامة الصلاة أداء.

١٣٧

وعلى ذلك فهناك أُمور ثلاثة :

أ : المستصحب : بقاء النهار أو الليل.

ب : الأثر العقلي : هذا الجزء من النهار أو من الليل.

ج : الأثر الشرعي : حرمة الأكل أو إقامة الصلاة أداء المترتب على كون هذا الجزء نهاراً أو ليلاً ، والهدف من الاستصحاب هو ترتّب الأثر الشرعي ، ولكنّه لايترتب على المستصحب إلاّ بواسطة عقلية ، وهذا هو الأصل المثبت.

وأمّا الثاني فهو وإن كان غيرَ مثبِت ولكنّه فاقد للحالة السابقة ، إذ لم يكن هذا الجزء موجوداً في السابق وموصوفاً بكونه من اللّيل أو من النهار حتى يُستصحب.

يلاحظ عليه : انّا نختار الشق الأوّل ، ولكنّ الأصلَ هنا حجّة وإن كان مثبتاً ، وذلك لخفاء الواسطة على وجه يرى العرفُ الأثرَ الشرعي مترتِّباً على المستصحب لا على الواسطة.

وإن شئت قلتَ : يرى العرفُ بقاء الليل على النحو الكليّ ، عين وصف الجزء المعيّن بالنهارية فيترتب عليه أثره.

ونختار الشقّ الثاني ، ونقول : إنّ الإشكال مبني على فصل الجزء المشكوك عن الجزء السابق ولحاظه مستقلاً ، وأمّا إذا قلنا انّ الجزء المشكوك بقاء للجزء السابق المحكوم بالنهارية أو الليلية فيصحّ لنا أن نقول : كان هذا الزمان موصوفاً بالنهارية ، والأصل بقاؤه ، لأنّ المفروض انّ الزمان أمر واحد متلاصق ، متلاحم. فالجزء الذي نشكّ في وصفه هو امتداد لنفس اليوم الطالع عند الفجر الصادق إلى الآن الذي نشكّ فيه.

١٣٨

وربما يتمسك باستصحابات أُخرى غير السابق :

١. ما ذكره المحقّق الخراساني ، وهو استصحاب المقيّد ( الإمساك ) فيقال : كان إمساكي قبل هذا الآن في النهار ، والآن كما كان ، ثمّ أمر بالتأمّل.

ولعلّ وجه التأمّل انّ التعلّق عقلي نظير قولك في الصلاة بأن يقال : لو كنت أُصلّي قبل هذا كانت صلاتي واقعة في النهار والآن كما كان ، والاستصحاب التعليقي حجّة فيما إذا كان التعليق شرعياً ، كما في قولنا : « العصير العنبي إذا غلى يحرم » لا في المقام ، فإنّه عقلي فانّ ترتّب قوله : « كانت صلاتي واقعة في النهار » على المقدّم عقلي.

٢. استصحاب عدم الغروب أو عدم الطلوع.

يلاحظ عليه : أنّه مثبت ، فلايُثبت كون الجزء المشكوك نهاراً أو ليلاً إلاّ بالملازمة العقلية ، ولو قيل بخفاء الواسطة فلاحاجة إليه بعد تصحيح استصحاب النهار أو الليل به. لو كان لهما أثر شرعي يترتب عليهما.

٣. استصحاب وجوب الإمساك أو جواز الأكل الذي هو استصحاب حكمي ، وهذا لا بأس به.

الموضع الثاني : جريان الاستصحاب في الأُمور التدريجية غير الزمان

إنّ التدريج تارة يكون أمراً ثابتاً بالبرهان وأُخرى بالحس ، والأوّل كمجموع عالم المادة فانّه بناء على القول بالحركة الجوهرية أمر غير ثابت متجدّد في كلّ آن ، والجوهر والعرض في الآن الأوّل غيرهما في الآن الثاني ، ومثله النور المتلألأ من المصابيح الكهربائيّة أو الدهنيّة ، وأُخرى يكون أمراً حسياً ، كنبع الماء وقذف الرحم

١٣٩

الدمَ ، والمشي والتكلم إلى غير ذلك ، والكلام إنّما هو في القسم الثاني ، وأمّا الأوّل فالبقاء فيه واضح وعدم تصوّر البقاء فيه عند العقل الخاضع لبرهان الحركة الجوهرية لاينافي صدق البقاء في نظر العرف الدقيق ، من غير فرق بين أن لايتخلّل العدم بين أجزائها المتلاحقة كسيلان الماء وقذف الدم ، أو يتخلّل بصورة لاتخل بوحدة الفعل كالقراءة والتكلّم.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ هنا صوراً :

الصورة الأُولى : إذا أحرز المتيقّن وشكّ في الرافع

إذا أُحرز انّه كان قاصداً للسفر إلى أربعة فراسخ ولكن يحتمل عروضَ مانع من برد أو حرّ ، ومثله ما إذا أحرز كون القناة قابلة لنبع الماء سنين ولكن يُشكّ في سيلانها ونبعها ، لأجل احتمال حدوث مانع يمنع عن جريانه ، كسقوط الصخرة على المجرى ، أو امتلاء الطريق بالطين ، أو غير ذلك من الموانع ، ومثله ما إذا علمنا وجود واع في نفس المتكلّم يدفعه إلى أن يتكلّم ساعة لكن يحتمل انصرافه عنه لأجل طروء رادع يصرفه عن الاستمرار في الكلام ففي هذه الصورة يجري الاستصحاب لما عرفت من وجود الوحدة العرفية وصدق الشكّ في البقاء.

وإن شئت قلت : إنّ لكلّ شيء بقاء واستمراراً ، فلو كان الشيء أمراً قارّاً فبقاؤه باجتماع جميع أجزاء وجوده في زمان واحد أو مكان واحد ، وأمّا إذا كان أمراً غير قار فبقاؤه استمراره وامتداده فهو باق بامتداده ووجوده التصرمي وثابت بوجوده التجدّدي ، ولولا ذلك بطلت هويّته وزالت شخصيته.

وبذلك يعلم النظر فيما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ الشكّ ليس في بقاء جريان شخص ما كان ، بل في حدوث جريان جزء آخر شكّ في جريانه من جهة

١٤٠