إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي شرّف العلماء ، وعظّم الفضلاء ، وفضّل مدادهم على دماء الشهداء ، فمن علم وعمل فقد ارتقى إلى منازل السعداء ، ومن جهل أو علم ولم يعمل فقد هبط إلى درك الأشقياء.

ثمّ الصلاة والسلام على سيّد الأنبياء وخير الأصفياء محمّد وآله مصابيح الهدى وأعلام الورى.

أمّا بعد ;

يعدّ علم الفقه من أهمّ المعارف وأسناها حيث يتكفل بيان الحلال والحرام ، والمنجيات والمهلكات ، ثم يليه في الأهمية أُصول الفقه ، كالنظرية إلى التطبيق.

وممن ساهم في هذا المضمار العلاّمة الحجّة الثبت الشيخ محمد حسين الحاج العاملي ( حفظه الله ) ، حيث حضر بحوثنا الفقهية والأُصولية وانبرى لكتابتها ومذاكرتها ، وقد أودع جلَّ ما ألقيناه من دروس ومحاضرات حول الحجج الشرعية في هذا الكتاب الّذي يزف الطبع الجزء الأوّل منه لطلاب الفقه وبغاة الاجتهاد وهو بحمد الله بما أُوتي من مواهب وقابليات سبق أقرانه بسبق غير منكور وسعي مشكور وعقدت عليه آمال الخير والسعادة في مستقبله المشرق.

نسأل الله أن يوفقه لصالح العلم وينير أمامه درب الخير والصلاح.

جعفر السبحاني

قم. مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام

٢٢ من شهر صفر المظفر ١٤٢٠

٥
٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على خاتم أنبيائه محمّد وآله الطاهرين.

أمّا بعد : فهذه درر وفوائد ، وغرر وفرائد ، التقطتها من دروس شيخنا العلاّمة الحجّة ، الباحثِ الكبيرِ ، والمحقِّق الخبير ، أُسوة المشتغلين ، وأُستاذ المتأخرين ، آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني ـ دامت أيّام إفاداته ـ ، في الحجج العقلية والأمارات الشرعية.

قمتُ بنشر ما أفاده في هذه الدورة ـ الدورة الرابعة الأُصولية ـ لما رأيت أنّ بينها وبين ما تقدّمها من الدورات ، اختلافاً في التقرير ، وتفاوتاً في العرض والاستنتاج ، وأرجو أن يكون الكتاب مرجعاً لطلاّب الفضيلة وبغاة الاجتهاد بإذنه سبحانه.

ويأتي جميع ما حرّرته من بحوث شيخنا الأُستاذ ـ مُدّ ظلّه ـ في المباحث العقلية في جزءين :

الأوّل : في مباحث القطع والظن والبراءة والاشتغال.

الثاني : في مباحث الاستصحاب والتعادل والترجيح والاجتهاد والتقليد.

فها أنا أقدم الجزء الأوّل للقرّاء بفضل من اللّه سبحانه ، وأرجو أن يوفقني لنشر الجزء الثاني انّه قريب مجيب.

محمد حسين الحـاج العاملي

قم المشرقة ـ الجامعة العلمية

١٠ شوال المكرّم / ١٤١٩ هـ

٧
٨

قال شيخنا الأُستاذ :

المقصد السادس : في الحجج الشرعية

خصّص المحقّق الخراساني هذا المقصد ببيان الحجج الشرعية ، وطرح فيها : حجّية ظواهر الكتاب ، وقول اللغوي ، والإجماع المنقول ، والشهرة الفتوائية ، وخبر الواحد ، فانتهى إلى حجية أكثرها.

ولكنّه قدّم على البحث في هذه الأُمور ، أُموراً ترتبط بالقطع وجعلها مقدمة للبحث عن الحجج الشرعية.

وبما انّ الحجّة في الفقه عند الشيعة تنحصر بالكتاب والسنّة والعقل والإجماع كان الأولى عقد فصول أربعة لهذه الحجج كي يقف المتعلّم على كلّ واحد من هذه الحجج وأدلّة حجّيتها. وما صنعه المحقّق الخراساني ومن بعده من الأعلام تبعاً للشيخ الأنصاري صار سبباً لعدم وضوح معالم الأدلّة الأربعة.

ومع ذلك كلّه ، ما فاتهم الإلماعُ إلى هذه الحجج الأربع ، فأدخلوا البحث عن حجّية الكتاب في باب حجّية الظواهر على الإطلاق ، كما أدخلوا البحث عن السنّة في البحث عن حجّية خبر الواحد ، والبحث عن الإجماع في البحث عن حجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد ، والبحث عن العقل في ثنايا البحث عن حجّية القطع.

ولولا انّ المخالفة لنهج الأعلام يوجب صعوبة في دراسة المسائل الأُصولية للأذهان المألوفة بكتابي الفرائد والكفاية وما أُلِّف بعدهما من التقريرات ، لتركت

٩

السير على نهجهم ، وعقدت فصولاً أربعة لكلّ واحد من هذه الحجج ، وبعد الفراغ منها ، استعرضت البحث فيما لا نصّ فيه وطرحت فيه الأُصول العملية لعلّ اللّه سبحانه يوفقنا على استعراض جديد لهذه المسائل.

في تقسيم حالات المكلّف أو المجتهد

التقسيم الثلاثي في كلام الأنصاري

قال الشيخ الأعظم : اعلم أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي ، فإمّا أن يحصل له القطع أو الظنّ أو الشكّ ، فإن حصل له الشكّ فالمرجع هي القواعد الشرعية ، الثابتة للشاكّ في مقام العمل ، وتسمّى بالأُصول العملية.

وقد نوقش كلامه بوجوه نذكر منها ما يلي :

١. قد أُخذ المكلف موضوعاً لطروء الحالات الثلاث مع أنّها من خصائص المجتهد دون مطلق المكلّف.

٢. أُطلق لفظ الحكم وهو يشمل الإنشائي والفعلي ، مع أنّ الأحكام المترتّبة على القطع والظن والشكّ إنّما تترتّب على ما إذا تعلّق القطع وغيره ، بالحكم الفعلي دون الإنشائي ، والمراد من الحكم الإنشائي ما تمّ تشريعه ولم يبيّن أو لم يصل إلى يد الأُمّة بتاتاً لوجود موانع في طريق إبلاغه وبيانه للناس.

فإن قلت : المراد من الحكم الإنشائي هو الحكم الفاقد للموضوع ، كوجوب الحجّ بالنسبة إلى فاقد الاستطاعة ، فيقال وجوب الحج في حقّه إنشائي ، ومعلوم انّ أحكام القطع وغيره مترتبة أيضاً على هذا النوع من الحكم الإنشائي.

قلت : إنّ في الحكم الإنشائي اصطلاحين : أحدهما ما ذكرت ، والثاني ما ذكره المورد كما مرّ ، والإشكال مبنيّ على الاصطلاح الأوّل.

١٠

٣. وجود التداخل في تقسيمه الثلاثي ، لأنّ الظنّ إذا قام الدليل على حجّيته ، يدخل تحت القطع بالحكم وإن كان ظاهريّاً ، وكان الطريق ظنّياً ، وإلايدخل تحت الشكّ.

فالإشكال الأوّل متوجه إلى أخذ المكلّف موضوعاً ، والثاني إلى إطلاق لفظ الحكم ، والثالث إلى التقسيم الثلاثي ، مع أنّه ثنائي.

نعم من حاول أن يتحفظ بالتقسيم الثلاثي ـ بأن لا يدخل القسم الثاني تحت القسم الأوّل ـ فعليه تبديل الظن بالدليل المعتبر وتقريره بالنحو التالي : إمّا أن يحصل له القطع أو لا ، وعلى الثاني إمّا أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا. (١)

ولا يذهب عليك انّ مجرّد جعل الدليل المعتبر مكان الظن لا يكفي في رفع التداخل إلا إذا فسر الحكم في قوله : « إذا التفت إلى حكم » بالحكم الواقعي ويقال : انّ الدليل المعتبر بما انّه لا يفيد القطع بالحكم الواقعي لا يدخل تحت القطع ، وبما أنّه معتبر لا يدخل تحت الشك ، فالصيانة على التثليث فرع تخصيص الحكم ، بالواقعي ، وإلايدخل الدليل المعتبر تحت القطع ، وينتفي التثليث أيضاً.

التقسيم الثنائي في كلام المحقّق الخراساني

ثمّ إنّه لما لم تكن أحكام القطع وقسيميه مختصة بالحكم الواقعي بل يعمّه والظاهري ، عدل المحقّق الخراساني من التقسيم الثلاثي إلى الثنائي ودفع الإشكالات الثلاثة فقال : إنّ البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري متعلّق به أو بمقلّديه ، فإمّا أن يحصل له القطع به أو لا.

وعلى الثاني لابدّمن انتهائه إلى ما استقلّ به العقل من اتباع الظن لو حصل له وقد تمت مقدمات الانسداد على تقدير الحكومة وإلا فالرجوع إلى

__________________

١. تقرير لما في الكفاية بتوضيح منّا.

١١

الأُصول العقلية من البراءة والاشتغال والتخيير.

إنّ كلامه قدس‌سره مركّب من شقين قد تخلص في أوّلهما عن الإشكال الأوّل ، باتخاذ المجتهد هو الموضوع بقرينة قوله : « أو بمقلّديه » ، وفي الوقت نفسه لم يخص حجّية ما استنبطه لنفسه ، بل عمّمه لنفسه ولغيره من مقلديه ، بل ربما يكون المورد ممّا لا يبتلي به المجتهد كأحكام الحائض وغيرها. كما تخلص عن الثاني بتخصيص الحكم بالفعلي. وعن الثالث بالتقسيم الثنائي.

وعلى ضوء تعريفه يدخل في القسم الأوّل القطع بالحكم ، بقيام الأمارات وجريان الأُصول العملية الشرعية كالبراءة الشرعية والتخيير الشرعي والاستصحاب ، لكون الجميع من قبيل القطع بالحكم الظاهري والمفروض فيهاجعل المؤدّى وانّ للشارع فيها حكماً مماثلاً لما تؤدّيه الأمارة والأُصول الشرعية ، هذا هو الشقّ الأوّل.

وأمّا الشقّ الثاني ، فأشار به إلى دور المعذّرات العقلية التي ليس في موردها جعل حكم شرعي على الترتيب التالي :

١. الظن عند انسداد باب العلم ، إذا قلنا بأنّ العقل يستقل عند انسداده بلزوم الإطاعة الظنية ، وتقديمها على الإطاعة الشكية والوهمية من دون أن يكون للشارع أيُّ تدخّل في المقام ، فعندئذ لا يكون المظنون حكماً شرعياً مجعولاً ، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ العقل يستكشف في حال الانسداد أنّ الشارع جعله حجّة في هذه الحالة ، فيكون للشرع في مورده حكم شرعي مجعول.

٢. الأُصول العقلية من البراءة والاشتغال والتخيير ، فانّ مبنى الأوّل قبح العقاب بلا بيان ، والثاني لزوم الخروج عن عهدة التكليف على وجه القطع ، والثالث لزوم الخروج بالمقدار الممكن. وكلّها أحكام عقلية للتخلص من المأزق.

١٢

القضاء بين العلمين

لا يخفى انّ التقسيم الثلاثي لا يخلو من محسِّنات :

١. انّه تقسيم طبيعي في كلّ موضوع يقع في أُفق الفكر من غير اختصاص بالحكم الشرعي.

٢. انّه كديباجة للمباحث الثلاثة التي ألّف الشيخ حولها الرسائل الثلاث : القطع ، الظن ، والأُصول العملية. والمحقّق الخراساني مع أنّه اختار التقسيم الثنائي ، لكنّه تبع الشيخ في مقام العمل فعقد بحثاً للقطع ، وبحثاً آخر للأمارات والطرق ، وأدرج الأُصول العملية في المقصد السابع فلاحظ.

٣. التثليث هو المناسب لحال المبتدئ ، لأنّ إدخال الظن تحت القطع ، بحجّة انّ المضمون حكم قطعي ظاهري من شأن المنتهى.

وأمّا التقسيم الثنائي فإنّما يصحّ إذا قلنا بأنّ المجعول في مورد الأمارات هو الحكم الشرعي وهو غير واضح ، وإنّما المجعول فيها إمضاء لما في يد العقلاء وليس للأمارة عندهم في الأُمور المولوية دور إلا أنّه إذا أصاب الواقع نجّز وإن أخطأ عذّر ، فليس لنا حكم باسم الحكم الشرعي الظاهري ومثلها الأُصول العملية العامة إذ ليس فيها أيّ جعل للشارع كالبراءة الشرعية والتخيير الشرعي والاستصحاب.

نعم لا يبعد في الأُصول العملية الخاصة كقوله : « كلّ شيء طاهر » أو « كلّ شيء حلال » كون المجعول هو الحكم الظاهري وسيوافيك بيانها.

هذا كلّه حول الإشكال الثالث المتوجّه إلى الشيخ.

وأمّا الإشكال الأوّل فيمكن الذبّ عنه بأنّ المراد من المكلّف هو المكلّف الفعلي الذي لا ينفك عن الالتفات الإجمالي ، وقوله : « إذا التفت » إشارة إلى

١٣

الالتفات التفصيلي الذي لا ينطبق إلا على المجتهد.

وأمّا الإشكال الثاني ، فلعلّ انصراف الحكم إلى الفعلي ، أغناه عن تقييده به.

انحصار الأُصول العملية في الأربعة ، استقرائيّ

المعروف انّ انحصار الأُصول العملية العامة في الأربعة استقرائي لإمكان أن يكون هنا أصل عملي خامس ، وأمّا أصالة الطهارة والحلية فانّ كلاً منهما وإن كان أصلاً عملياً لكنّهما تختصان بأبواب معينة ، والمقصود من الأُصول العملية في المقام ، ما يجري في جميع الأبواب. نعم لو قطع النظر عن الاستصحاب يمكن أن يقال انّ الحصر عقلي ، لأنّ الأصل إمّا لا يراعى فيه التكليف المحتمل فهو البراءة ، أو يراعى بوجه وهو التخيير ، أو يراعى بكلّ وجه وهو الاحتياط.

حصر مجاري الأُصول في أربعة حصر عقلي

قد تعرفت على أنّ حصر الأُصول العملية في الأربعة استقرائي لكن حصر مجاريها في الأربعة حصر عقلي دائر بين النفي والإثبات ، فقد ذكر مجاري الأُصول في رسالة القطع للشيخ الأعظم ببيانين ، وقد اختلفت طبعات الفرائد ، فجاء في بعضها كلا التعبيرين في المتن كما عليه طبعة رحمة اللّه ، كما جاء ـ في بعضها الآخر ـ أحدهما في المتن والآخر في الهامش ، وأردفه في رسالة البراءة ببيان ثالث ، وإليك دراسة الجميع.

البيان الأوّل

انّ الشكّ إمّا أن تلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا ، وعلى الثاني إمّا أن يمكن الاحتياط ـ إمكان الموافقة القطعية ـ أو لا ، وعلى الأوّل إمّا أن يكون الشكّ في

١٤

التكليف أو في المكلّف به ، فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى التخيير ، والثالث مجرى البراءة ، والرابع مجرى قاعدة الاحتياط. (١)

فقد جعل مجرى التخيير قسيماً لمجرى الاحتياط والبراءة.

البيان الثاني

الشكّ إمّا أن تلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا ، فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني إمّا أن يكون الشكّ فيه في التكليف أو لا ، والأوّل مجرى البراءة ، والثاني إمّا أن يمكن الاحتياط فيه أو لا ، والأوّل مجرى قاعدة الاحتياط والثاني مجرى قاعدة التخيير. (٢)

فقد جعل مجرى التخيير قسماً من مجرى الشكّ في المكلّف به ، فالشكّ في المكلّف به على قسمين : فإمّا لا يمكن الاحتياط وإمّا يمكن. فالأوّل مجرى التخيير والثاني الاحتياط.

يلاحظ عليه : أنّ المراد من العلم بالتكليف أو الشكّ فيه ـ كما صرّح به الشيخ هو العلم بنوع التكليف كخصوص الوجوب أو خصوص الحرمة ، أو الشكّ فيه ، فلو علم النوع فهو من قبيل الشكّ في المكلّف به ، ولو جهل النوع أو شكّ فيه فهو من قبيل الشكّ في التكليف ، وهذا ما يستفاد من كلام الشيخ قال في أوّل رسالة البراءة : « لأنّ الشكّ إمّا في نفس التكليف وهو النوع الخاص من الإلزام وإن علم جنسه كالتكليف المردّد بين الوجوب والحرمة ... ». (٣)

__________________

١. الفرائد : رسالة القطع : ١ ، طبعة رحمة اللّه.

٢. نفس المصدر.

٣. الفرائد : رسالة البراءة : ١٩٢ ، طبعة رحمة اللّه.

١٥

وعلى هذا يرد على التقريرين أمران :

الأمر الأوّل : انّ الشكّ في التكليف ليس ملاكاً للبراءة ، ولا الشكّ في المكلف به ملاكاً للاحتياط بل ربّ شك في التكليف يجب فيه الاحتياط ، كما أنّ ربّ شك في المكلّف به لا يجب فيه الاحتياط.

أمّا الأوّل ، فكالشكّ قبل الفحص ، أو كون الشكّ متعلقاً بالدماء والأعراض والأموال أو إذا دار الأمر بين وجوب شيء ، وحرمة شيء آخر ، حيث إنّ المعلوم جنس التكليف لا نوعه ، فالجميع من قبيل الشكّ في التكليف مع أنّه يجب فيه الاحتياط مثلاً يجب في الأخير فعل الأوّل وترك الثاني.

ويمكن دفع الأوّلين ، بأنّ الفحص من شرائط جريان البراءة لا من شرائط العمل ، فلا موضوع لها قبله ، كما أنّ وجوب الاحتياط لدليل ثانوي من الإجماع وغيره ولولاه لكانت البراءة جارية.

نعم يبقى المورد الثالث باقياً بحاله والاحتيال بجعله من قبيل العلم بالنوع بأنّ مرجعه إلى الشكّ إلى العلم بوجوب فعل هذا ، أو وجوب ترك ذاك ، تكلّف جدّاً.

وأمّا الثاني فكما إذا كان أطراف الشبهة غير محصورة ، فلا يجب الاحتياط مع كون الشكّ من قبيل الشكّ في المكلّف به.

الأمر الثاني : انّ نوع التكليف في مجرى التخيير ، أعني : دوران الأمر بين المحذورين ، مجهول ، وعلى هذا فهو من قبيل الشكّ في التكليف ، لكنّه جعله قسيماً لكلا الأمرين في البيان الأوّل ، وقسماً من الشكّ في المكلّف به في البيان الثاني ، في غير محله.

هذا ما يرجع إلى البيانين الموجودين في أوّل رسالة القطع.

١٦

البيان الثالث

وهناك بيان ثالث للشيخ ربما يكون أمتن منهما ولا يرد عليه واحد من الإشكالين ، وقد جعل فيه ملاك البراءة والاشتغال عدم نهوض دليل على ثبوت العقاب أو نهوضه من غير نظر إلى كون الشكّ في التكليف أو كون الشكّ في المكلّف به ، نعم الغالب على الأوّل عدم نهوض الدليل على العقاب وعلى الثاني نهوضه عليه ، وإليك نصّه :

إنّ حكم الشكّ إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه وإمّا أن لا يكون ، سواء لم يكن يقين سابق عليه أو كان ولم يلحظ ، والأوّل مورد الاستصحاب ، والثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكناً أم لا ، والثاني مورد التخيير ، والأوّل إمّا أن يدل دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول أو لا ، والأوّل مورد الاحتياط والثاني مورد البراءة. (١)

وقد تبع المحقّق الخراساني كلام الشيخ في تعليقته وقيد مجرى البراءة بما إذا لم يكن هناك حجّة ناهضة على التكليف في البين عقلاً ونقلاً. (٢)

أمّا عدم ورود الإشكالين فواضح :

أمّا الأوّل : فلأنّ عدم جريان البراءة في الموارد الثلاثة لنهوض الدليل على العقاب ، وأمّا الثاني : فلنهوض الدليل على عدم العقاب من حيث استلزامه العسر والحرج المنفيين في الشرع.

وعلى هذا فيكون مجرى كلّ واحد مشخصاً من دون أن يتداخل أحدهما في الأمر بالنحو التالي :

__________________

١. الفرائد : رسالة البراءة : ١٩٢ ، طبعة رحمة اللّه.

٢. تعليقة المحقق الخراساني على الفرائد : ٣.

١٧

١. مجرى الاستصحاب : أن تكون الحالة السابقة ملحوظة.

٢. مجرى التخيير أن لا تكون ملحوظة إمّا لعدمها أو لعدم حجّيتها ولكن كان الاحتياط غير ممكن ، سواء كان الشكّ من سنخ الشك في التكليف ، كما إذا تردد حكم شيء معين في وقت محدد بين الوجوب والحرمة ؛ أو كان من قبيل الشكّ في المكلّف به ، كما لو علم بوجوب البيتوتة إمّا في هذا البلد أو في بلد آخر ، فأصالة التخيير تجري في كلا الموردين بملاك عدم إمكان الاحتياط.

٣. مجرى البراءة بعد امتناع الاحتياط عبارة عمّا إذا لم ينهض دليل على العقاب بل على عدمه من العقل : كقبح العقاب بلا بيان أو الشرع كحديث الرفع.

٤. مجرى الاشتغال بعد إمكان الاحتياط ، إذا نهض دليل على العقاب لو خالف.

وهذا هو المختار ، وعليه لا يكون هناك أيّ تداخل.

وأمّا المحقّق النائيني فقد تخلص عن التداخل بوجه آخر حيث جعل مجرى البراءة ، هو الشكّ في التكليف وفسّـره بالجهل بنوع التكليف وجنسه وجعل العلم بالجنس مع الجهل بالنوع من أقسام الشكّ في المكلّف به ، غاية الأمر إذا لم يمكن الاحتياط ، يجري التخيير كدوران الأمر بين وجوب الشيء وحرمته ، وإذا أمكن يكون مجرى للاحتياط كما إذا علم وجوب شيء ، أو حرمة شيء آخر فالمعلوم هو الجنس لكن يختلفان بعدم امكان الاحتياط في الأوّل دون الثاني.

نعم يتوجه عليه النقض بما إذا جهل بالتكليف نوعاً وجنساً فهو عنده من قبيل الشكّ في التكليف ومع ذلك إذا حاز المحتمَل أهميّة خاصة دعت الشارع إلى جعل الاحتياط كالدماء والأعراض والأموال فأمرها وإن كان دائراً بين الحلية والحرمة وكان جنس التكليف مجهولاً لكن يجب الاحتياط. كما يتوجه إليه النقض

١٨

بعدم لزوم الاحتياط في غير المحصورة مع أنّه من قبيل العلم بالتكليف والشكّ في المكلّف به.

إلا أن يقال انّه بصدد بيان حكم الشبهة بما هي هي مع قطع النظر عن قيام الدليل الخارجي على حكمها.

١٩

الأمر الأوّل :

في أحكام القطع

ونذكر من أحكامها ما يلي :

١. في وجوب متابعة القطع

قال الشيخ الأعظم : لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه مادام موجوداً ، لأنّه بنفسه طريق إلى الواقع.

وقال المحقّق الخراساني : لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً ولزوم الحركة على طبقه جزماً.

يلاحظ عليه : أنّه إن أُريد من متابعة القطع ، متابعة نفس القطع ، فهو فرع كونه ملتفتاً إليه مع أنّه أمر مغفول عنه ، لأنّ البحث في القطع الطريقي الذي ليس فيه أيّ التفات إلى القطع ، وإن أُريد المقطوع كالوجوب والحرمة وغيرهما من الأحكام الصادرة من المولى ، فالموضوع لوجوب الاتباع عند نظر العقل هو نفس الأحكام بما هي هي حيث يستقل العقل بلزوم إطاعة أوامر المولى ونواهيه ، نعم ذات الأحكام بما هي هي وإن كانت موضوعة لوجوب الإطاعة لكن لا يمكن امتثالها إلا إذا وقف عليه المكلّف بالحجّة العقلية أو الشرعية كالأمارات ، فالوقوف عليها من شرائط تنجز الطاعة من غير اختصاص بالقطع.

٢٠