أشهد أنّ عليّاً ولي الله

السيد علي الشهرستاني

أشهد أنّ عليّاً ولي الله

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5331-19-6
الصفحات: ٥٩٤

العامّة للسنة النبوية مخالفة لعلي ولنهجه :

عن سعيد بن جبير ، قال : كنت مع ابن عباس بعرفات فقال لي : مالي لا اسمع الناس يلبون؟

قلت : يخافون من معاوية.

فخرج ابن عباس من فسطاطه ، فقال : لبيك اللهم لبيك لبيك فإنهم تركوا السنة من بغض علي (١).

وقال الإمام الرازي في تفسيره : أن عليا كان يبالغ في الجهر بالتسمية في الصلاة ، فلما وصلت الدولة إلى بني امية بالغوا في المنع من الجهر ، سعيا في ابطال آثار علي (٢).

قال ابن أبي هريرة : أن الجهر بالتسمية [أي البسملة] إذا صار في موضع شعارا للشيعة فالمستحب هو الاسرار بها ، مخالفة لهم (٣).

قال المناوي ـ عند شرحه خطبة السيوطي في الجامع الصغير والتي فيها الصلاة على محمد وعلى آل محمد ـ : قلت : نعم ، وهي الإشارة إلى مخالفة الرافضة والشيعة ؛ فإنّهم مطبقون على كراهة الفصل بين النبي وآله بلفظ «على» وينقلون في ذلك حديثا ... (٤).

وقال ابن حجر في فتح الباري : وتكره الصلاة في غير الأنبياء لشخص مفرد بحيث يصير شعارا كما يفعله الرافضة ، فلو اتفق وقوع ذلك مفردا في بعض

__________________

(١) سنن النسائي ( المجتبى ) ٥ : ٢٥٣ / ح ٣٠٠٦ ، وهو في صحيح بن خزيمة ٤ : ٢٦٠ / ح ٢٨٣٠ ، وفي مستدرك الحاكم ١ : ٦٣٦ / ح ١٧٠٦ ، قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

(٢) تفسير الرازي ١ : ٢٠٦.

(٣) فتح العزير ٥ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

(٤) فيض القدير ١ : ٢٤.

٤٦١

الأحايين من غير أن يكون شعارا فلا بأس به (١).

وقال ابن أبي هريرة أيضا : الأفضل الآن العدول من التسطيح في القبور إلى التسنيم ؛ لأنّ التسطيح صار شعارا للروافض ، فالأولى مخالفتهم وصيانة الميت وأهله عن الاتهام بالبدعة (٢).

ونقل الميرداماد في تعليقاته على الكشي عن بعض شراح صحيح مسلم قوله : إنّما ترك القول بالتكبيرات الخمس في صلاة الميت إلى القول بالأربع ؛ لأنّه صار علما للتشيع (٣).

وقال ابن أبي هريرة : ويستحب ترك القنوت في صلاة الصبح ؛ لأنّه صار شعار قوم من المبتدعة ؛ إذ الاشتغال به تعريض النفس للتهمة (٤).

وفي شرح الزرقاني على المواهب اللدنية : لما صار إرخاء العذبة من الجانب الايمن شعارا للإمامية فينبغي تجنبه (٥).

وقال الغزالي : تسطيح القبور عند الشافعي أفضل من تسنيمها ، لكن التسنيم الآن أفضل مخالفة لشعار الروافض ، حتى ظن ظانون إن القنوت إن صار شعارا لهم كان الأولى تركه ، هذا بعيد في إبعاض الصلاة ، وإنما نخالفهم في هيئات مثل التختم في اليمين وأمثاله (٦).

وقال الحلواني عن صدر الإسلام : وجب التحرز عن التختم باليمين لأنه من شعار الروافض (٧).

__________________

(١) فتح الباري ١١ : ١٤٦.

(٢) فتح العزيز ٥ : ٢٣١ ـ ٢٣٢.

(٣) رجال الكشي ١ : ١٦٧.

(٤) فتح العزيز ٣ : ٤٣٥.

(٥) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ٥ : ١٣.

(٦) الوسيط ٢ : ٣٨٩.

(٧) كشف الاسرار ٤ : ٥٥.

٤٦٢

وقال الشربيني لبس الخاتم سنة سواء أكان في اليمين أم في اليسار ، لكن اليمين أفضل على الصحيح ، وقيل اليسار أفضل لان اليمين صار شعارا للروافض (١).

هذه بعض النماذج المميزة لنهج التعبد المحض عن نهج الاجتهاد والراي (٢) ذكرناها كي يعرف القارئ أن ما نقوله ليس إدعاءً طائفيا بل بيانا لحقيقة تاريخية ثابتة ، وهو الاخر توضيح لما قاله الأئمة من أهل البيت في لزوم ترك مرويات العامة ، لان الرشد في خلافهم (٣).

وعليه فشعائر الإيمان هو ما يعتبر شاخصا ومميزا للمؤمن عن غيره ، وهذا ما يطلبه كل مسلم خصوصا في المسائل الخلافية والحاكيه عن العقائد الحقة.

أمّا شعائر الإسلام فهي متعبدات اللّه‏ ، وهي كل ما نصبه اللّه‏ للعبادة كالصفا والمروة.

إذن بيان شعائر الإيمان يرتبط بنحو وآخر بعلم الكلام والعقائد ، وهو يبحث في الفقه الكلامي.

أمّا شعائر الإسلام فهو ما يبحث في الفقه الخاص بكل مذهب وتدور مدار الفروع وما يترتّب عليها من أحكام عبادية.

وقد خلط بعض الكتاب بين الأمرين ، فبحثوا ما هو أمر اعتقادي إيماني في أمر أذانيّ شرعيّ ، واتخذوه كدليل مستقل لاثبات جزئية الشهادة الثالثة في الأذان مثلاً ، وهذا غير صحيح. نعم ان تلك النصوص لها دلالة على المحبوبية والشعارية.

ومثال شعائر الإسلام : الفرائض والسنن الشرعيّة ، كالصّلاة ، والصّوم ، ودفع

__________________

(١) مغني المحتاج ١ : ٣٩٢.

(٢) وضحنا آفاق هذين النهجين في كتابنا (منع تدوين الحديث) فراجع.

(٣) انظر احاديث الباب ٩ من كتاب القضاء في وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٨.

٤٦٣

الزّكاة ، وأداء الحج ، وأمثال ذلك.

ومثال شعائر الإيمان : كأصول العقائد الأساس من قبيل ما يتعلّق بالاعتقاد بالإمامة ـ عندنا ـ وما يستتبعها من الطّاعة للمعصوم ، بل كلّ أمر حَبَّذَهُ الشارع ودعا إليه ، مثل : الجهر بالبسملة في الفرائض ، والصلاة إحدى وخمسين ، والتختّم باليمين ، وتعفير الجبين ، وزيارة الأربعين ، وهي الخمس اللاتي عُدَّت من علامات المؤمن (١) ، وكذا المسح على القدمين وعدم جواز غسلهما ، وعدم الاتّقاء في المسح على الخفين (٢) ، والقول بجواز المتعتين (٣) والقول بحرمة الفقّاع (٤) ، وجعل يوم الغدير ـ وهو الثامن عشر من ذي الحجة ـ عيدا (٥) ، وجعل يوم عاشوراء يوم حزن (٦) ، إلى غيرها من الأمور التي تختص بها الشيعة الإمامية.

وقد اعتبرت العامة صلاة التراو يح جماعة (٧) ، وتسنيم القبور (٨) ، والتختم باليسار (٩) ، من شعائر الإيمان والإسلام.

ولا يخفى عليك بأنّ الشعائر ممّا يجب الحفاظ عليها وإقامتها ، لقوله تعالى : ( لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ ) ومثله الحج ؛ لقوله تعالى : ( يَا أيُّهَا ألَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ ، وَلاَ الشَّهْرَ ألْحَرَامَ وَلاَ ألْهَدْيَ وَلاَ ألْقَلاَئِدَ وَلاَ ءَآ مِّينَ ألْبَيْتَ ألْحَرَامَ ) ،

__________________

(١) انظر : تهذيب الطوسي ٦ : ٥٢ / ح ١٢٢.

(٢) الكافي ٣ : ٣٢ / باب مسح الخفّ / ح ٢.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٤٥٩ / باب المتعة / ح ٤٥٨٣ ، وسائل الشيعة ١٦ : ٢١٦ / ح ٢١٣٩٦.

(٤) الكافي : ٤١٥ / باب من اضطر إلى الخمر للدواء أو للعطش أو للتقية / ح ١٢.

(٥) اقبال الاعمال ٢ : ٢٧٩ ، مستدرك الوسائل ٦ : ٢٧٦ / ح ٦٨٤١.

(٦) مسار الشيعة : ٤٣ ، الحدائق الناظرة ٧ : ١١٨ وارشاد العباد إلى استحباب لبس السواد : ٢٩.

(٧) انظر نيل الأوطار ٣ : ٦٠ / باب صلاة التراويح ، وانظر أيضا شرح النووي على مسلم ٦ : ٣٩ / ٧٥٠.

(٨) اقتضاء الصراط ، لابن تيمية : ١٣٦ ، ١٣٨ ، منهاج السنة النبوية ٤ : ١٣٦.

(٩) منهاج السنة النبوية ٤ : ١٣٧ ، الشمائل الشريفة : ٢٧٨.

٤٦٤

ولقوله تعالى : ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْ تُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأَتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) إلى قوله تعالى ( ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رّبِّهِ ) لأنّ الدين لا يزال قائما ما قامت الكعبة (١).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله : أَما إنَّ الناس لو تركوا حجّ هذا البيت لنزل بهم العذاب وما نوظِرُوا (٢).

وقد أفرد الحرُّ العامليُّ في وسائل الشيعة بابا تحت عنوان « وجوب إجبار الوالي الناس على الحجّ وزيارة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإقامة بالحرمين كفايةً ، ووجوب الإنفاق عليهم من بيت المال إن لم يكن لهم مال » (٣).

وقد قال الشيخ البهائي (٤) من الشيعة ، والعيني (٥) من العامة ، وغيرهما (٦) : إنّ أهل بلدة إذا اجتمعوا على ترك الأذان فإنّ الإمام يقاتلهم ، وجاء في صحيح مسلم والبخاري ان رسول اللّه‏ كان يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإذا سمع اذانا امسك وإلاّ أغار (٧) وكذلك كلّ شيء من شعائر الإسلام ، كلُّ ذلك لأ نّها شعائر يجب الحفاظ عليها.

والأذان والإقامة ـ حسب النصّ السابق ـ هما من شعائر اللّه‏ ، وممّا يجب

__________________

(١) الكافي ٤ : ٢٧١ / باب انه لو ترك الناس الحجّ لجاءهم العذاب / ح ٤ ، الفقيه ٢ : ٢٤٣ / ح ٢٣٠٧.

(٢) علل الشرائع ٢ : ٥٢٢ / الباب ٢٩٨ / ح ٤.

(٣) وسائل الشيعة ١١ : ٢٣ / الباب الخامس.

(٤) انظر الحبل المتين : ١٣٣.

(٥) عمدة القارئ ١ : ١٨٢.

(٦) الاستذكار ١ : ٣٧١ ، ٥ : ٢٧ ، التمهيد ١٣ : ٢٧٧ ، ٢٧٩ ، ٢٨٠.

(٧) صحيح البخاري ١ : ٢٢١ / باب ما يحقن بالأذان من الدماء ، صحيح مسلم ١ : ٢٨٨ ، شرح النووي على مسلم ٤ : ٨٤ ، فتح البارئ ٢ : ٩٠ ، مصنف ابن أبي شيبة ٦ : ٤٧٧ ، مسند أحمد ٣ : ٤٤٨ ، نيل الاوطار ٨ : ٦٩ ، تحفة الاحوذي ٥ : ٢٠٣.

٤٦٥

الحفاظ عليهما بأيّ شكل من الأشكال (١) ، لكنّ الكلام في مطلوبية الإتيان بالشهادة الثالثة أو جوازه فيها من باب الشعارية في هذه الأعصار ، هل يجوز ذلك أم لا؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال لابدّ من توضيح المرحلة الثالثة من مراحل البحث ، وهو كون ولاية الإمام علي من أهمّ الشعائر الدينية ، وأنّ القوم سعوا لطمس ذكره وذكر آله حقدا وحسدا وحاولوا محوه ، ولأجل ذلك ترحّم الإمام عليه‌السلام على من أَحْيا أمرهم ، وأنّ الحوراء زينب خاطبت يزيد بقولها « فواللّه‏ لا تمحو ذكرنا » موضحة أهداف القوم وأنّهم يريدون طمس ذكر محمدٍ وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعليه فإنّ كلّ ما يؤدِّي لطاعة اللّه‏ ويكون إعلاما لدينه فهو من شعائر اللّه‏ ، وإنّ الشهادة بالتوحيد للّه‏ وبالنبوة لرسوله في الأذان من أسمى أنواع الاظهار والإقرار بالعبودية للّه‏ والإقرار برسالة رسوله محمد ، فسؤالنا هو : هل يمكن ذكر ما هو أمرٌ إيمانيّ كالشهادة بالولاية لعلي في أمرٍ عباديّ كالأذان جنبا إلى جنبِ ذكرِ التوحيد والشهادة بالرسالة أم لا؟

نحن لا ننكر أنّ ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأولاده المعصومين أولى الشعائر الإيمانية لمذهب الحقّ وعصابة الصدق ؛ الإمامية الاثني عشرية ، وأنّ هذه الولاية الشريفة هي عنوان كامل لحقيقة مذهب الحق ؛ وشعار عظيم له ؛ وأنّ المذهب متوقّف عليها كتوقف الأربعة على الزوجية بنص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتواتر في حديث الثقلين وغيره.

ولا كلام في ذلك ؛ إذ الكلام في كيفية جعله شعارا عباديا للمذهب بعد الاعتقاد بكونه أمرا إيمانيّا له ؛ وهو ما نريد أن نبيّن وجه مشروعيته ، والمسوّغ الشرعيّ لذكره في الإذان.

__________________

(١) انظر في ذلك تحفة الاحوذي ٥ : ٢٠٣ ، النبوات ١ : ١٩٧.

٤٦٦

فهل تكفي الشّعارية الإيمانيّة للولاية للقول بأنّها شعار عباديّ يسوغ ذكره في الأذان شرعا؟ أم إننّا بحاجة لدليل شرعيّ يثبت هذه الشّعارية في الأذان على وجه الخصوص؟

بالطبع لا تكفي الأدلّة الإيمانية وحدها لإثبات الأحكام الشرعية العبادية ، لأنّ الشهادة الثالثة هي من لوازم الإيمان لا من أحكام الإسلام الظاهرية ، كما قال بعض الأعاظم.

نعم دلّت الأدلّة على رجحان الشهادة بالولاية ـ رجحانا ذاتيا في نفسه ـ وكذا محبوبية التعبّد بها مطلقا سواء في الأذان أو في غيره من دون اعتقاد الجزئية ، نظرا للأدلّة التي تقدمت.

وبعض الفقهاء لم يكتفوا في إثبات جواز الشهادة بالولاية في الأذان من خلال المحبوبيّة والعمومات ، بل أضافوا إليها دليلاً آخر أطلقوا عليه اسم «الشعار ية» ، وهو ما تمسك به السيّد الحكيم في المستمسك ، والسيّد الخوئي قدس اللّه‏ سِرَّيْهما في مستند العروة ، إذ قال السيّد الحكيم :

... بل ذلك في هذه الأعصار معدود من شعائر الإيمان ، ورمزٌ إلى التشيع ، فيكون من هذه الجهة راجحا ، بل قد يكون واجبا ، لكن لا بعنوان الجزئية من الأذان (١).

وقال السيّد الخوئي قدس‏سره : وممّا يهوّن الخطب أنّنا في غنىً عن ورود النص ؛ إذ لا شبهة في رجحان الشهادة الثالثة بعد أن كانت الولاية من متمِّمات الرسالة ومقوِّمات الإيمان ومن كمال الدين بمقتضى قوله تعالى : ( ألْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ٥ : ٥٤٥.

٤٦٧

عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ... ) (١) ، بل من الخَمْس التي بني عليها الإسلام لا سيّما وقد أصبحت في هذه الأعصار من أجلى أنحاء الشعائر ، وأبرز رُموز التشيع ، وشعار مذهب الفرقة الناجية ؛ فهي إذن أمرٌ مرغوب فيه شرعا وراجح قطعا في الأذان وفي غيره (٢).

لكن قد يقال ـ على سبيل التوهّم ـ بأنّ هذا الاستدلال من قبل فقهاء كبارٍ كالسيّد الحكيم والسيّد الخوئي قُدِّس سِرَّهما غريب ؛ إذ ما هو الدليل الشرعيّ الذي يسوّغ أن يقال أَنَّ الشهادةَ الثالثة أمرٌ مرغوبٌ فيه شرعا وراجحُ قطعا ، في الأذان وفي غيره كما جزم به السيّد الخوئي رحمه‌الله ، أو : « قد يكون واجبا » كما احتمله السيّد الحكيم رحمه‌الله ، انطلاقا من الشعارية؟

والأغرب من ذلك أنّ السيّد الخوئي قدس‏سره يقول : « نحن في غنىً عن ورود النص » ؛ إذ ما الذي سوّغ له الإفتاء بجواز الشهادة الثالثة في الأذان بلا نصّ ؛ انطلاقا من الشعارية فقط؟ بل ماذا تعني الشعارية عندهم بحيث تأخذ هذه القيمة الشرعية في هذه الأزمان؟

يبدو أنّ الامامين الحكيم والخوئي ، ومن قبلهما ومن بعدهما من فقهاء الطائفة ـ قدّس اللّه‏ أسرارهم ـ قد جعلوا من الشعارية دليلاً أقوى للفتوى بالجواز بل الاستحباب.

لكن من أين تأَ تَّت شرعية الشعارية عندهم حتى يجعل منها دليلاً أقوى من مرسلة الاحتجاج ، وحسنة ابن أبي عمير المتقدّمتين ، وسيرة المتشرعة؟

الحقيقة هي أنّ السيّد الخوئي قدس‏سره أجاب عن كلّ ذلك إجابة مجملة بما يلائم مقام بحثه ، في قوله : « لا شبهة في رجحان الشهادة الثالثة باعتبارها من متمِّمات

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) مستند العروة الوثقى ١٣ : ٢٥٩.

٤٦٨

الرسالة ... » ، وهذا هو ما نريد توضيحه ، لأنّ الاجابة الإجمالية لا تغني غير العلماء ولا تُشبِع إلاّ الفقهاء ، وهو الذي دعانا لتفصيل الكلام في هذا الإجمال ، لتعمّ الفائدة لكل القرّاء.

وكذا لوجود شبهة مفادها : أن الاستدلال بالشعار ية لإثبات الشهادة الثالثة في الأذان هو مصداق من مصاديق الرأي المذموم والظنّ الذي لا يغني من الحق شيئا ، وهو كإثبات عمر بن الخطاب لجملة « الصلاة خير من النوم » في الأذان ؛ إذ ما الفرق بين الإثباتين ، ولماذا تنكرون على عمر فعله وتعملون بعمله؟!

لكن يجاب عن هذا الإشكال والتوهّم بافتراق الأمر كليا بين الأمرين ، لانّ عمر بن الخطاب حينما أمر المؤذّن أن يضعها في الأذان (١) كان يعني بعمله التشريع في الدين وإدخاله كجزء لقوله : « اجعلها في الأذان » ، وهو الذي دعا ابن رشد أن يشكّ في كون « الصلاة خير من النوم » سنة رسول اللّه‏ ، لقوله في بداية المجتهد : وسبب اختلافهم : هل ذلك قيل في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إنّما قيل في زمان عمر (٢)؟

وهذا يختلف عما تأتي به الإمامية ، فإنّهم حينما يأتون بالشهادة الثالثة يؤكّدون على عدم جواز الاتيان بها على نحو الجزئيّة ، والفرق واضح بين الأمرين ، فذاك إدخال في الدين ما ليس فيه بلا دليل شرعي اتباعا للرأي (٣) ، وهذا بيان لوجه مشروعيّة جواز الإتيان بالشهادة الثالثة من منطلق القربة المطلقة والمحبوبية الذاتية وأدلّة الاقتران ، والعمومات ، والأخبار الشاذّة ، وأخيرا الشعارية مع التأكيد على عدم جزئيّتها وعدم كونها من أصل الأذان.

__________________

(١) موطأ مالك : ٧٢ / ح ١٥٤.

(٢) بداية المجتهد ١ : ٧٧ وانظر كلام الالباني في تمام المنة : ١٤٦ ـ ١٤٩ كذلك.

(٣) انظر ما كتبناه في الباب الثاني من هذه الدراسة ( الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة ) والذي أثبتنا فيه أنّها ليست بسنة رسول اللّه‏ بل أنّها بدعة محدثة حسب تصريح الأعلام وخصوصا الحنفية.

٤٦٩

وبما أنّا قد تكلّمنا بعض الشيء عما يدل على محبوبيّتها ، فالآن نريد أن نوضّحها من خلال كونها شعارا للإيمان ، وأنّ الشهادة بالولاية لعلي هي علامة للخطّ الصحيح ، والمنهج القويم ، وصراط اللّه‏ المستقيم ، بل لا توجد حقيقة في دين الإسلام ـ من بعد الشهادتين ـ ناهضة لتكون علامة للمنهج الصحيح أجلى من الشهادة الثالثة ، وهذا ما يجب أن يعتقد به المؤمن قلبا ، وأمّا الإتيان بها لسانا في الأذان فهو ما يجب أن يبحث عن دليله.

أمّا كونها من أصل الأذان وأنّها جزء منه ، فلا دليل عليه إلاّ الأخبار الشاذّة التي حكاها الشيخ الطوسي والعلاّمة ويحيى بن سعيد الحلي ، والتي لم يعمل بها الأصحاب ، ورمي الصدوق لها بأنّها من وضع المفوّضة.

وإمّا الإتيان بها من باب القربة المطلقة والمحبوبية الذاتية وأدلّة الاقتران ، فقد مرّ البحث فيها سابقا. والآن مع أدلّة جواز الإتيان بها من باب الشعارية ، والبحث فيه يقع في مقامين :

الأول : إثبات كونها شعارا من شعائر المذهب والدين الحنيف.

والثاني : التخريج الفقهي لجواز الإتيان بها في الأذان لا بقصد الجزئية.

وإليك أمّهات الأدلّة على كون الشهادة بالولاية لعلي هي من أسمى الشعائر الإسلامية الإيمانية :

ما أخرجه الكليني قدس‏سره عن علي بن إبراهيم ، عن يعقوب بن يزيد ، عن ابن أبي عمير ، عن أبي الربيع القزاز ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قلت له : لمَّ سمي أمير المؤمنين؟ قال : « اللّه‏ سمّاه وهكذا أنزل في كتابه ( وَإِذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيء ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّ يَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) وأنّ محمدا رسولي وأنّ عليا أمير المؤمنين » (١).

__________________

(١) الكافي ١ : ٤١٢ / باب نادر / ح ٤.

٤٧٠

والرواة ثقات إلاّ أبا ربيع القزاز فهو مجهول الحال ، لكنّ الرواية مع ذلك صحيحة عندنا من وجهين ؛ فهي أوّلاً من رواية ابن أبي عمير الذي لا يحكي إلاّ عن ثقة بالاتّفاق ، وثانيا أنّ ابن أبي عمير ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه ، والحاصل : لا ريب في صحّة هذه الرواية. ثمّ إنّ دلالتها واضحة على أنّ هناك غرضا عظيما لأَِنْ يُشهِدَ اللّه‏ُ سبحانه وتعالى عمومَ بني آدم ، ومنهم الأنبياء والمرسلين والأولياء والصدّيقين والملائكة أجمعين بأ نّه ـ جلّت قدرته ـ لا إله إلاّ هو ربّ العالمين ، وأنّ محمدا رسول اللّه‏ ، وأنّ عليا وليّ اللّه‏.

وقد كان هذا الإشهاد في عالم الذرّ ، وهو العالم الذي كان بعد عالم الأنوار الذي خلق فيه نور محمدٍ وعليٍ من نوره لمّا كان آدم بين الروح والجسد. وقد جاء هذا صريحا في قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خُلِقتُ أنا وعلي بن أبي طالب من نور واحد قبل أن يخلق اللّه‏ آدم ، فلما خلق اللّه‏ آدم أَسْكَنَ ذلك النور في صلبه إلى أن افترقنا في صلب عبدالمطلب ، فجزء في صلب عبداللّه‏ وجزء في صلب أبي طالب (١).

وعليه فنور رسول اللّه‏ خُلِقَ قبل خَلق آدم ، ولم يولد عليه‌السلام بشرا إلاّ بعد انقضاء ١٢٤ ألف نبي ، فإنّ مجيء رسول اللّه‏ خاتما للأنبياء وعلي خاتما للأوصياء وهما الأوّلان في عالم الأنوار يرشدنا إلى عظيم مكانتهما في المنظومة الإلهيّة والسنّة الربانية.

ولا ريب في أنّ الإشهاد لا معنى له إلاّ الجزم بأنّ جملة « أشهد أنّ عليا ولي اللّه‏ » هي الشعار للصراط الصحيح المطوي في جملة « أشهد ان لا إله إلاّ اللّه‏ » ، والتي لا يمكن الاهتداء إليها إلاّ بواسطة « أشهد أنّ محمدا رسول اللّه‏ » والشهادة الثانية ترشدنا إلى عظم مرتبة الإشهاد بالشهادة الثالثة.

__________________

(١) انظر فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل ٢ : ٦٦٢ / ح ١١٣٠ ، الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي ٢ : ١٩١ / ح ٢٩٥٢ ، ٣ : ٢٨٣ / ح ٤٨٥١.

٤٧١

وهذا الترتيب بين الشهادات الثلاث في ذلك اليوم ؛ يوم الميثاق العظيم ، بمحضر الأنبياء والمرسلين والأولياء والصدّيقين والملائكة والناس أجمعين ، يدلّ دلالة واضحة على أنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى جعل من الشهادة الثالثة شعارا ومفتاحا وعلامة لأخذ الميثاق من المخلوقات المكلّفة.

وان ما قاله الإمام الباقر في الحديث الانف هو نحو من انحاء التفسير السياقي الذي جوّز العمل به عند الصحابة والتابعين ، والذي ذكرنا نماذج عليه فيما سبق (١).

وإذا ثبت هذا فلا يمكن الارتياب في إمكانية اتّخاذه شعارا وعلامة في الأمور الدينية الأُخرى على مستوى العقيدة وعلى مستوى التشريع بسواء بل من باب أولى.

وعدم الارتياب هذا هو الذي دعا السيّد الخوئي قدس‏سره للجزم بأنّ شعار الشهادة بالولاية : « راجح قطعا في الأذان وفي غيره » ، لأن الشهادة بالولاية اعتقادا من الضروريّات عندنا ، وأنّها كالصلاة والحج ـ أو قل إنّها أَهم من تلك ـ لتوقف قبول الأعمال عليها ، وهذا المعنى يغنينا عن ورود نص جديد في ذلك.

وبعبارة أُخرى : إنّ القطع الذي جزم السيّد الخوئي قدس‏سره من خلاله برجحان الشهادة الثالثة في الأذان وفي غيره إنّما حصل عليه من مجموعة الأخبار المعبترة بل المتواترة التي ولّدت عنده وعند باقي الأصحاب القطع بالرجحان.

ومن تلك الأدلة المعتبرة موثّقة سنان بن طريف التي تقدم الحديث عنها في الدليل الكنائي ، فقد ورد فيها ..

أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « إنّا أوّل أهل بيت نَوَّه اللّه‏ بأسمائنا ، إنّه لما خلق السماوات والأرض أمر مناديا فنادى :

__________________

(١) انظر صفحة ١٠ ـ ١٢ و ١٩٤ ـ ١٩٦.

٤٧٢

أشهد أنّ لا إله إلاّ اللّه‏ ، ثلاثا.

أشهد أنّ محمدا رسول اللّه‏ ، ثلاثا.

أشهد أنّ عليا أمير المؤمنين حقّا ، ثلاثا» (١).

وتقريب الاستدلال من هذه الموثّقة يكون على نحو ما تقدّم في صحيحة أو مصححة ابن أبي عمير السابقة ، لأنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى ـ بعد أن فرغ من خلق السماوات والأرض ـ أمر مناديا ينادي بالشهادات الثلاث بمحضر كلّ من الملائكة ، ومَنْ خلق مِنْ خلقه ، وهذا النداء لا معنى له إلاّ أن يفترض منطقيا بأنّ الشهادة الثالثة تنطوي على ما يريده اللّه‏ ، وأنّها شعار وعلامة لدينه القويم ومنهجه الصحيح المنطوية في : « أشهد ان محمدا رسول اللّه‏ » ، وأنّ الشهادة الثانية لا تتحقق إلاّ من خلال الإتيان بالشهادة الثالثة ، كما أنّ الأُولى متوقّفة على الثانية ، وبعبارة أخرى : إنّ غرض اللّه‏ سبحانه وتعالى من خلق السماوات والأرض لا يتحقّق إلاّ بمثل هذا النداء الثلاثيّ ، كما في قوله تعالى ( أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاْءَمْرِ مِنكُمْ ) (٢) وقوله ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ ) (٣).

وإذا ثبت هذا فلا يمكن الشك في ضرورة اتّخاذه شعارا لما يريده اللّه‏ سبحانه وتعالى ـ فيما دون خلق السماوات والأرض ـ وبدون افتراض ذلك نقع في محذور اللَّغْوِ يّة من قبل رب العالمين ـ والعياذ باللّه‏ ـ وصدور الكلام الخالي من المعنى عنه جل شانه ؛ أي نقع في محذور لغو ية النداء بالشهادات الثلاث ، لأ نّه لا فائدة من هذا الإشهاد ، إذا لم يترتب عليه شيء في عالم الدُّنيا.

لا يقال : بأ نّه يكفي أن تترتّب عليه فائدة توكيد الولاية ، لأنّ ذلك يردّه : أنّه ما فائدة ذكر الشهادتين بالتوحيد وبالرسالة إذا كان المقصود توكيد الولاية فقط؟

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٧٠١ / ح ٩٥٦ ، الكافي ١ : ٤٤١ / باب مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ح ٨.

(٢) النساء : ٥٩.

(٣) المائدة : ٥٥.

٤٧٣

ولماذا لم ينتظر اللّه‏ سبحانه وتعالى عالم الدنيا فيؤكّده؟ ولماذا الإمام عليٌّ دون بقيّة البشر؟!!

ولا يتوهّم متوهِّمُ بأننا نريد اثبات جزئية الشهادة الثالثة في الأذان من خلال هذا الاستدلال!!! لوضوح أنّ ما نقدّمه لا يثبت أكثر من كونها شعارا شرعيّا عند المولى ، وهو لا ينهض لاثبات الجزئية.

بلى ، إنّ رجحان الإتيان بها في الأذان وفي غيره يمكن اعتباره من منطلق : « الندائية » أو قل « الإشهادية » وذلك لمّا امر اللّه‏ سبحانه المنادي أن يشهد بالولاية لعلي ؛ استنادا للموثّقة الآنفة ولغيرها من الأدلّة الصحيحة والمعتبرة ، وهذا ما ذهب إليه الأصحاب الذين جعلوا من الشعارية أو الندائية أو الاشهادية دليلاً لجواز الإتيان بها في الأذان ومنهم السيّد الخوئي قدس‏سره.

ومنه يمكننا الجواب عن شبهة قد ترد على بعض الأذهان مفادها : إذا ثبت أنّ الشهادة بالولاية عندكم غير واجبة ، فلماذا لا تخفتون التلفظ بها ، كي تُمَيَّزَ عن غيرها.

قلنا : إنّ أدلّة الشعارية ـ ومنها موثّقة سنان بن طريف الآنفة ـ قد ساوت بالجهر في كلّ من الشهادات الثلاث بسواء ؛ لقوله : « امر مناديا أن فنادى » ، والنداء معناه الجهر بلا خلاف ، على أنّ إطلاقات أدلّة الاقتران بين الشهادات الثلاث آبية عن التقييد بإخفات خصوص الشهادة الثالثة ؛ إذن نحن نجهر في أذاننا بالولاية لعليّ كما نجهر بالشهادة للّه‏ ولرسوله انطلاقا من موثقة سنان بن طريف ، لكن بفارق أنّ فقهاءنا يؤكّدون على جزئية الشهادتين وعدم جزئية الشهادة بالولاية في رسائلهم العملية ، وهو كافٍ لرفع تَوَهُّم من يتوهّم جزئيّتها.

ومن الجدير بالذكر هنا الإجابة عن إشكالين طرحهما البعض على ما تقوله الشيعة.

٤٧٤

اشكالان :

أورد بعض الكتّاب إشكالين على خبر الاحتجاج.

احدهما : إذا صحّ الالتزام بخبر الاحتجاج فعليكم التقيد بالنص الوارد فيه : « من قال : محمد رسول اللّه‏ ، فليقل : علي أمير المؤمنين » ، فلماذا تقولون : «أشهد أن عليّا ولي اللّه‏» وتضيفون إليه : «وأولاده المعصومين حجج اللّه‏» ، أليست هذه الإضافة وهذا التغيير عدم تَعَبُّدٍ بالنص؟!

ثانيهما : إذا اخذتم بخبر الاحتجاج فعليكم أن تقولوها مرّة واحدة ، لأنّ التكليف يسقط به ، فما السرّ في الإتيان بها مرّتين في الأذان.

أما الجواب عن الإشكال الأول ، فيكون من عدة وُجُوه :

الأوّل : قد يصحّ ما قلتموه إذا اعتبرنا ذلك من أجزاء الأذان ، لكنّنا أثبتنا في الصفحات السابقة أنّا لا نأتي بها على نحو الجزئية والأخذ بها من باب التوقيفيّة ، بل كُلّ ما في الأمر هو الإشارة إلى محبوبيّتها عند الشارع ورجحانها عنده.

الثاني : إنّ الصفة الغالبة في الروايات التي جاءت في عليّ تحمل كلمة « ولي اللّه‏ » ، فنحن نأتي بهذا القيد تعبدا بتلك النصوص.

الثالث : إنّ حسنة ابن أبي عمير ، عن الكاظم عليه‌السلام ، سمحت لنا بفتح جملة « حيّ علي خير العمل » بأيّ شكل كان مع حفظ المضمون ، وقد فتحت بصيغ مختلفة ، فأهل الموصل كانوا يقولون « محمد وعلي خير البشر » (١) ، وهو عمل الشيعة في مصر أيّام الدولة الفاطمية (٢) ، وأهل حلب أيّام الدولة الحمدانية (٣) ، أما أهل القطيعة في بغداد ـ كما حكاه التنوخي عن أبي الفرج الأصفهاني ـ فكانوا يقولون

__________________

(١) المسائل الميافارقيات للسيّد المرتضى المطبوع مع كتاب جواهر الفقه لابن البراج : ٢٥٧ المسألة ١٥.

(٢) اخبار بني عبيد : ٥٠.

(٣) زبدة الحلب في تاريخ حلب ١ : ١٥٩ ـ ٦٠.

٤٧٥

«أشهد ان عليّا ولي اللّه‏» ، و «محمد وعلي خير البشر» (١) وقد افتى ابن البراج لمن يقلده من أهل حلب باستحباب القول مرتين « آل محمد خير البرية » (٢).

الرابع : إنّ النصوص الصادرة عن المعصومين في معنى الحيعلة الثالثة وفي غيرها لم تختص بـ « أشهد أنّ عليّا أمير المؤمنين » حتى يلزمنا التعبّد بها ، بل جاءت الصـيغ الثلاث الآنفة في شواذّ الأخبار التي حكاها الشيخ الطوسي ويحيى بن سعيد ، وهي الموجودة في مرسلة الصـدوق كذلك.

وأمّا الجواب عن الإشكال الثاني : فإنّ العدد مرتبط بالإشهاد ، فإن شهد للرسول بالرسالة مرّة فعليه أن يشهد لعلي بالولاية مرة ، ومن شهد للّه‏ وللرسول مرتين فله أن يشهد لعلي بالولاية مرتين ، لقوله عليه‌السلام : « من قال : محمد رسول اللّه‏ ، فليقل : علي أمير المؤمنين » ، أي أنّ المثلية في العدد ملحوظة في النصّ ، ومن هذا الباب ترى الإشهاد للّه‏ ولرسوله ولعلي ثلاثا في موثقة سنان بن طريف الانفة.

إذن المثليّة ملحوظة بين فعل الشرط وجزائه ، كما هو ملحوظ في الترتيب بين الشهادات الثلاث ، فتكون الشهادة للّه‏ بالوحدانية أوّلاً ، ثم الشهادة للرسول بالنبوة ثم الشهادة لعلي بالولاية ، ومن هنا تعرف معنى ما جاء في تفسير القمي « إلى ها هنا التوحيد ».

وبهذا البيان ارتفع ما أشكله البعض بهذا الصدد.

ولنرجع إلى أصل الموضوع.

ومما يدلّ على الشعارية كذلك مرسلة الحسين بن سعيد ، عن حنان بن سدير ، عن سالم الحنّاط ، قال : قلت لأبي جعفر الباقر عليه‌السلام : أخبرني عن قول اللّه‏ سبحانه وتعالى : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ألْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ

__________________

(١) نشوار المحاضرة ، للتنوخي ٢ : ١٣٢.

(٢) المهذب لابن البراج ١ : ٩٠.

٤٧٦

عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) فقال عليه‌السلام : هي الولاية (١).

إذ من المعلوم أنّ ما نزل على قلب النبي هو القرآن وشريعة الإسلام ، فلا معنى للتفسير بالولاية إلاّ إذا اعتقدنا بأنّ الولاية هي اكمال للدين ، والعلامَةُ للتعريف بذلك المُنْزَل ، وهذا ما نعني به من الشعارية ، وهي تدعونا إلى النداء بها ، والدعوة إليها ، والإجهار بألفاظها ، حسبما يستفاد من موثقة سنان بن طريف ، وحسنة ابن أبي عمير ، وصحيحة أبي الربيع القزاز ..

لقد تقدّم الكلام فيما يخصّ حسنة ابن أبي عمير عن الكاظم عليه‌السلام في الدليل الكنائي (٢) ، وأنّ : « حيّ على خير العمل » تعني الولاية ، وأنّ عمر بن الخطاب حذفها من الأذان كي لا يكون حثٌّ عليها ودعاءٌ إليها ، وأنّ الإمام الكاظم عليه‌السلام لم يكن بصدد بيان الأمر المولوي بها في الأذان على نحو الوجوب والجزم ، بل أراد الإشارة إلى جذورها ومعناها الكامن فيها ، وأنّ هناك دورا تخريبيا من النهج الحاكم لها ، وهذا الكلام بلا شكّ ينطوي على رجحان الدعوة لشعاريّتها ، والدعاء إليها ، والحثّ عليها في الأذان خاصّة ، وفي غيره عامّة ، لكن لمّا لم يصلح هذا لإثبات الجزئية ، لعدم صدور النص عنه عليه‌السلام مولويا بل كان إخباريّا وإرشاديا لم يبق إلاّ الاعتقاد بأنّ الإمام يريد اتّخاذها شعارا على المستو يَيْن العقائدي الكلامي والفقهي العبادي.

أي يريد اعلامنا بامكان ذكرها في الأذان بحكمها الثانوي ، وخصوصا في هذه الازمان التي كثرت فيها الشبهات على الشيعة ، ووقوفنا على هم الاعداء في اماتة الحق لكن ( َاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (٣).

__________________

(١) الكافي ١ : ٤١٢ / باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية / ح ١. وقد رويت بعدة طرق.

(٢) في صفحة ١٩١.

(٣) الصف : ٨.

٤٧٧

ويؤيد ذلك ما أخرجه الكليني بسنده عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفا ) ، قال : هي الولاية (١).

إذ لا معنى لأن يفسّر إقامة الوجه للدين الحنيف بالولاية ؛ إذ القيام قيامٌ للّه‏ ، والولاية ولاية وإقرار لولي اللّه‏ ، ولا يصلح أحدهما أن يحلّ محل الاخر ، إلاّ بأن يقال : بأنّ الولاية امتداد للتوحيد والنبوّة ، وهو معنى آخر لحديث الثقلين ، وحبل اللّه‏ الذي أمرنا بالاعتصام به ، وهو الذي جاء عن المعصوم في تفسير قوله تعالى ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ ) : التوحيد والولاية (٢).

وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه‌السلام : آل محمد حبل اللّه‏ المتين (٣).

وعن الصادق عليه‌السلام : نحن الحبل (٤) ، وفي رواية أخرى في الكافي عنه عليه‌السلام : أثافي الإسلام ثلاثة : الصلاة والزكاة والولاية ، ولا تصحّ واحدة منهنّ إلاّ بصاحبتيها (٥).

وعن الكاظم عليه‌السلام : علي بن أبي طالب حبل اللّه‏ المتين (٦).

نعم ، إنّ انحصار السبيلية في الولاية لعلي وأهل بيته ، يعني كونها شعارا راجحا تعاطيه في كلّ مفردات الشريعة ، وهو الملاحظ في الاشهادات الثلاث في كتب الادعية وأنّ الأئمّة قد أكدوا عليها ، وأنّ ذكر الشهادة الثالثة في الأذان من باب الشعارية لا يستلزم تشريعها فيه وكونها جزء داخل في ماهيته كما نبّهنا عليه كثيرا.

كما ننبّه على أنّ الاستدلال بالشعارية لا يقتصر على الشهادة الثالثة في الأذان ، فقد استفاد منها الفقهاء لبيان أحكام أُخرى تتوقّف عليها العقيدة واصل الدين ،

__________________

(١) الكافي ١ : ٤١٩ / باب فيه نكت ونتف ... / ح ٣٥ ، وفي هذا المعنى أخرج الكليني وغيره روايات جمّة بطرق كثيرة كلها معتبرة ، وقد اغنانا هذا عن البحث في السند.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٠٨.

(٣) تفسير العياشي ١ : ١٩٤ / ح ١٢٣.

(٤) الامالي للشيخ : ٢٧٢ / المجلس ١٠ / ح ٥١٠.

(٥) الكافي ٢ : ١٨ / باب دعائم الإسلام / ح ٤.

(٦) تفسير العياشي ١ : ١٩٤ / ح ١٢٢.

٤٧٨

وذلك لورود الأخبار الصحيحة والمعتبرة فيها ، إذ لا معنى لهذه الأخبار ولا لصدورها غير ذلك.

وإليك خبر آخر في هذا السياق : أخرج علي بن إبراهيم القمي رضي‌الله‌عنه في تفسيره بسنده عن الرضا ، عن جده الباقر عليه‌السلام في قوله : ( فِطْرَتَ اللَّهِ ألَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) فقال : هو لا إله إلاّ اللّه‏ ، محمد رسول اللّه‏ ، علي أمير المؤمنين ، إلى ها هنا التوحيد (١).

هذه الرواية لها دلالة واضحة على أنّ إقامة الدين لا تتم إلاّ بهذه الاصول الثلاثة ، كما أنّ التوحيد لا يمكن تحقّقه أفعاليا في الخارج ـ كما أراده اللّه‏ ـ إلاّ من خلال هذه الشهادات الثلاث التي نصّت عليها الرواية.

لكن نتساءل : ما علاقة التوحيد بولاية علي؟ وكيف تكون ولاية عليّ هي نهاية التوحيد والمعنى المتمّم له ، مع أنّهما حقيقتان متغايرتان؟!

الجواب على ذلك : أنّهما حقيقتان دالّتان على أمرٍ واحد ، لأنّ ولاية الإمام علي والاقرار له بالولاية هو اقرار للّه‏ بالتوحيد وللرسول بالرسالة ، إذ أنّ طاعة علي من طاعة اللّه‏ ، ولا يوجد من تفسير وتوجيه للخبر الآنف إلاّ التزام الشعارية ، إذ المعني من الشعارية هنا هو الإقرار بعد الاعتقاد ، لأنّ المسلم وبعد أن اعتقد بوحدانية اللّه‏ ورسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وولاية علي ابن أبي طالب عليه‌السلام عليه أن يحمد اللّه‏ وأن يسبحه وأن يصلي على النبي وآله ، أي عليه أن يذكر اللّه‏ ذكر قلب واعتقاد لا لقلقة لسان ، فالاذكار والتسبيحات هي أقرار بالمعتقد الذي آمن به.

والرواية السابقة من هذا القبيل وهي تشير إلى ان فطرة اللّه‏ التي فطر الناس عليها ما هي إلاّ الشهادات الثلاث ، وما على المؤمن إلاّ ان يتوجه إليها من خلال الذكر والصلاة والتسبيح ، لأنّ الاقرار اليومي بتلك الاصول هي بمثابة تثبيت

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٥٥.

٤٧٩

العقيدة والهوية في النفس.

ولو تأملت في الاحاديث الواردة عن المعصومين لرايتها مفعمة بهذه الشهادات الثلاث وكذا الشهادة بغيرها من المعتقدات ، اذن الإقرار هو «الاشهاد» و «النداء» و «الشعار» ، وإليك فقرة من دعاء العشرات ، والذي يستحب أن يقرأه المؤمن في كل صباح ومساء نأتي به توضيحا لما نقوله ، وفيه :

اللّهُمَّ إنّي اُشهِدُكَ وَكَفَى بِكَ شَهيدا وَأشهِدُ مَلآئكَتَكَ وَاَنْبِيائَكَ وَرُسُلَكَ وَحَمَلَةَ عَرْشِكَ وَسُكّانَ سَماواتك وَأرضك وَجَميَع خَلْقِكَ بِآنَّكَ اَنْتَ اللّه‏ُ لا اِلهَ إلاّ اَنْتَ وَحْدَكَ لا شَرَيكَ لَكَ وَاَنَّ مُحمَّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ وَاَنَّكَ عَلى كُلِّ شَيء قَديرٌ تُحيْي وَتُميِتُ وَتُمِيتُ وَتُحيْي وَاَشْهَدُ اَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النّارَ حَقٌّ ، وَالنُّشُورَ حَقٌّ ، وَالسّاعَةَ اتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَاَنَّ اللّه‏ يَبْعَثُ مَنْ في القُبُورِ وَاَشْهَدُ اَنَّ عَلِيَّ بْنَ أبي طالب اَميرُ المُؤْمِنينَ حَقّا حَقّا وَاَنَّ الأَئِمَةَ مِنْ وُلْدِهِ هُمُ الأَئِمَّةُ الهُداةُ الْمَهْدِيّونَ غَيْرُ الضَّالينَ وَلاّ الْمُضِلِّيْنَ وَاَنَّهُمْ اَوْلِيائُكَ المُصْطفَوْنَ وَحِزْبُكَ الغالِبُونَ وَصِفْوَتُكَ وَخِيَرتُكَ مِنْ خَلْقِكَ وَنُجَبآئُكَ الّذَينَ اَنتَجَبْتَهُمْ لِدينِكَ وَاخْتَصَصْتَهُمْ مِنْ خَلْقِكَ واصْطَفَيْتَهُمْ عَلى عِبادِكَ وَجَعَلْتَهمْ حُجَّةً عَلَى العالَمينَ صَلَواتُكَ عَلَيَّهِمْ والسَّلامُ وَرَحْمَةُ اللّه‏ِ وَبَرَكاتُهُ اَللّهُمَّ اكْتُب لي هذِهِ الشَّهادَةَ عِنْدَكَ حَتّى تُلَقِّنيها يَوْمَ القيامَةِ وَاَنْتَ عَنّي راضٍ اِنَّكَ عَلى ما تَشآءُ قَديرٌ.

هذا هو الإقرار بالمعتقد والذي يسمى بالاشهاد كذلك وهو الذي يجدر بالمؤمن تكراره كل يوم لان فيه ترجمان عقائدنا وهويتنا ، وان التاكيد على الصلاة على آل محمد ، وعدم ارتضاء الرسول الصلاة البتراء عليهم هو معنى اخر للشعارية كل ذلك للحفاظ على الهوية في مسائل الفقه والعقيدة ، وبه تكون ولاية عليّ الشعار الذي يعرّفنا بالتوحيد الصحيح النقيّ من الشوائب ؛ ذلك التوحيد الذي عرَّفنا به سيد الأنبياء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنّ التوحيد الخالص يظهر جليا من خطب الإمام ورسائله وكلماته عليه‌السلام ، لأ نّه الوحيد ـ من أصحاب رسول اللّه‏ ـ الذي لم

٤٨٠