أشهد أنّ عليّاً ولي الله

السيد علي الشهرستاني

أشهد أنّ عليّاً ولي الله

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5331-19-6
الصفحات: ٥٩٤

كالصدوقين والكليني وغيرهم عليه ، واكثارهم الرواية عنه ، مضافا إلى كثرة رواياته في الأصول والفروع ، وسلامتها من وجوه الطعن والضعف ، خصوصا عمّا غُمِزَ به من الارتفاع والتخليط ، فإنّها خالية عنها ، وهي أعدل شاهد على براءته عمّا قيل فيه ، مع أنّ الأصل في تضعيفه ـ كما يظهر من كلام القوم ـ هو أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ، وحال القميّين ـ سيما ابن عيسى ـ في التسرّع إلى الطعن والقدح والإخراج من قمّ بالتهمة والريبة ، ظاهر لمن راجع الرجال ، ولو كان الأمر فيه على ما بالغوا به من الضعف والغلوّ والكذب ، لورد عن الأئمّة عليهم‌السلام ذمّه وقدحه والنهي عن الأخذ عنه والرجوع إليه كما ورد في غيره من الضعفاء المشهورين بالضعف ، فإنّه كان في عصر الجواد والهادي والعسكري عليهم‌السلام وروى عنهم ، ولم نجد له في الأخبار طعنا ، ولا نقل ذلك أحد من علماء الرجال ، ولولا أنّه بمكانٍ من العدالة والتوثيق ، لما سلم من ذلك (١).

وهكذا غيره ممّن اتّهم بالغلوّ كمحمد بن سنان. قال المحدث النوري في المسـتدرك : إنّ الذي يظهر من تتبع الأخبار ـ خصوصا ما ورد في تراجم الغلاة وما ذكروه في مقالات ارباب المذاهب ، وصريح التوقيع المتقدم ـ : أنّ الغلاة لا يرون تكليفا ، ولا يعتقدون عبادة ، بل ولا حلالاً ولا حراما ، وقد مرّ في ترجمة محمد بن سنان أنّه لما سألَ الحسينُ بن أحمدَ عن أحمد بن هليل الكرخيّ : أخبرني عما يقال في محمد بن سنان من أمر الغلوّ؟ قال : معاذ اللّه‏ ، هو واللّه‏ علّمني الطهور ، وحبس العيال ، وكان متقشّفا متعبّدا (٢).

قال السيّد بن طاووس في فلاح السائل عن الطعون التي وردت في محمد بن سنان : أقول : فمن جملة أخطار الطعون على الأخيار أن يقف الإنسان على طعن

__________________

(١) رجال السيّد بحر العلوم ٣ : ٢١ ـ ٣٠.

(٢) خاتمة المستدرك ٥ : ٢٤٥.

١٢١

ولم يستوفِ النظر في أخبار المطعون عليه كما ذكرناه عن محمد بن سنان رحمة اللّه‏ عليه ، فلا يعجل طاعن في شيء مما أشرنا إليه.

هذا وقد كان رحمه‌الله قد قال قبل ذلك : أقول : وسمعت من يذكر طعنا على محمد بن سنان لعله لم يقف على تزكيته والثناء عليه ، وكذلك يحتمل أكثر الطعون ... ثم أتى بخبر الشيخ المفيد في كتاب « كمال شهر رمضان » عن علي بن الحسين بن داود قال : سمعنا أبا جعفر عليه‌السلام يذكر محمد بن سنان ويقول : رضي‌الله‌عنه برضائي عنه ، فما خالفني ولا خالف أبي قطّ (١).

وعليه : فإنّ الغلوَّ المعنيَّ في كلام القميّين كان هو الثاني ، وأنّهم كانوا يخافون ممن يعتقد أنّ معرفة الإمام مسقطةٌ للفرائض ، فكانوا يتبرّؤون منهم ، ويمتحنونهم بالصلاة وأمثالها من الضروريات ، فإن ادوها تركوهم كما رأيتهم مع ابن أورمة ، وما قاله أحمد بن هليل الكرخي في محمد بن سنان « معاذ اللّه‏ ، هو واللّه‏ علمني الطهور » ، وما حكاه الغضائري عن الحسين بن شاذويه بأنّه رأى له كتاباً في الصلاة سديداً ، لان الغلو لا يجتمع مع العبادة وتعليمها ، وهذه المواقف جديرة بالتقدير ، لأنّ الاعتقاد بمثل هذه الأمور تستوجب القتل أو الطرد ، وذلك لإنكارهم ضروريّات الدين الحنيف وهذا لا غبار عليه ، لكنّ الاشكالية التي كانت تؤخذ عليهم هي أنّهم كانوا يتسرّعون في إطلاق الأحكام على الأفراد بمجرّد التهمة ، وهذا ما لا نرتضيه.

أمّا دعوى أنّ القميّين اعتقدوا منزلة خاصّة من الرفعة أو أنّهم كانوا مقصّرين في حقّ الأئمّة فهو غير صحيح ، لأنّ أغلب المعارف الولو ية ( الولائية ) قد جاءت بأسانيدهم وفي كتبهم ، وأنّ حدود ٧٠ % من رواتنا منهم ، فلو كان هؤلاء الرواة الاعاظم لا يدركون كلمات ومقامات الأئمّة فمن يدركها اذن؟ وكيف وصلت إلينا تلك المعارف عن الأئمة الم تكن بواسطتهم؟

__________________

(١) فلاح السائل : ١٢ ـ ١٣ طبعة النجف.

١٢٢

فالزيارة الجامعة الكبيرة التي فيها عمدة مقامات الأئمّة وصفاتهم وكمالاتهم لم يروها أحد غير القميون ، والشيخ رواها عن الصدوق رحمه‌الله ، والصدوق رواها معتقدا بجميع فصولها ودلالاتها في « الفقيه » الذي صرّح في مقدّمته : « قصدت إلى إيراد ما أُفتي به وأحكم بصحّته وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي ».

إذن معرفة القميّين بالأئمّة إن لم تكن أرسخ من معرفة البغداديين فهي ليست بأقل منها قطعا ، وإن ولائهم للأئمّة مما لا يمكن المزايدة عليه ، وهي حقيقة ثابتة ، نعم يمكن مؤاخذتهم في عدم التأنّي في صدور الأحكام والاستعجال برمي الآخرين بالوضع أو التفو يض ؛ إذ وقفت سابقا على كلام الصدوق رحمه‌الله تبعا لشيخه ابن الوليد بأن أصل زيد النرسي وضعه محمد بن موسى الهمداني في حين ثبت لك عكس ذلك.

أنّ ابن الغضائري رغم تجريحه لكثير من المحدّثين قد قوّى من ضعفه القميّون جميعا ؛ كأحمد بن الحسين بن سعيد ، والحسين بن شاذو يه ، وزيد الزّراد ، وزيد النرسي ، ومحمد بن أورمة ، لأ نّه رأى كتبهم وأحاديثهم صحيحة ، ويشهد على ذلك ما قاله في محمد ابن أُورمة وأنّه نظر في كتبه ورواياته كلّها فوجدها نقيّة لا فساد فيها ، إلاّ أوراقا في الباطن ظَنَّها مكذوبة عليه.

وهذا يشير إلى أنّ منهج ابن الغضائري رحمه‌الله كان يختلف عن منهج القميّين ؛ لأ نّه كان يلحظ أرجحيّة الرواية ، في حين كان القميّون ينظرون إلى وثاقة الراوي. وبذلك تكون توثيقات المتشدد من الرجاليين في أعلى مراتب الاعتبار ، وخصوصا من قِبَل ابن الغضائري لكونها قليلة ، والذي قال عنه المحقق الداماد : قلّ أن يسلم أحد من جرحه أو ينجو ثقةٌ من قدحه.

وكذا كلامه رحمه‌الله في اعتقاداته : من علائم التفو يض والغلوّ أنّهم يتّهمون علماء قمّ بالتقصير.

فإنّ هذين النصيّن وأمثالهما يؤكدان تَسرُّعَ القميين في إطلاق الأحكام على

١٢٣

الآخرين وعلى رواياتهم تبعا لذلك ، وبمقايسة بسيطة بين كلامي الشيخ الصدوق القمّي في « الفقيه » وبين الشيخ الطوسي البغدادي في « المبسوط » حول في الشهادة الثالثة تقف بوضوح على ما قلناه من افتراق هذين المنهجين.

فالصدوق رحمه‌الله يرمي القائلين بالشهادة بالولاية بالغلوّ والتفويض بمحض الادّعاء ؛ إذ ليس في كلامهم ما يدل على ذلك ، لان الصيغ الثلاث التي أتى بها الصدوق رحمه‌الله ليس فيها ما يدلّ على التفويض والغلوّ ، لأنّ المؤذّن يشهد بالولاية لعلي وهو حقّ عند الصدوق ، فلا تراه يقول : اشهد ان عليا محي الموتى ورازق العباد ، حتّى يُنتزَع منه الغلوّ والتفو يض.

وسيأتي في بحوث لاحقة أنّ القائل بالشهادة الثالثة قد يدفعه لذلك أمرٌ آخر غير الجزئية (١) ؛ فقد يكون القائل بها قالها لكي يبيّن للمفترين عليه أنّه لا يقول بِأُلوهيّة عليّ ، وكذا لا يقول بأنّ معرفته بالإمام تسقط عنه التكاليف الشرعية. لأ نّه يشهد للّه‏ بالوحدانية ، وللنبي بالنبوة ، ولعلي بالولاية والإمامة داعيا المؤمنين لادى الفرض الالهي.

وفَرضُ سماعِ الشيخ الصدوق ، أو أحد مشايخه القول بالشهادة الثالثة في الأذان من أحد القائلين بها ، لا يعني أنّهم وضعوها إذ قد يكونون قالوها من باب القربة المطلقة ، أو لرفع ذكر علي ، أو لدفع تهم المتهمين للشـيعة بأ نّهم غلاة ، أو لغير ذلك من الأسباب المحتملة في مثل هذا الأمر (٢).

وأمّا الشيخ الطوسي رحمه‌الله فلم يرمِ القائلين بالشهادة الثالثة بالوضع ، بل أخبرنا بوجود أخبار شاذة لا يُعمل بها عند الطائفة ، لكن لو فعلها انسان وعمل بها لم يأثم ، وهو منهج صحيح يقبله كل فقيه ـ أو متفقه ـ في بت الأحكام ، فهو قد

__________________

(١) انظر صفحة ١٤٨ ـ ١٥٠.

(٢) ذكرنا غالب هذه الامور حين مناقشتنا لكلام الشيخ الصدوق من ٢٤٥ إلى ٢٨٢ من هذا الكتاب.

١٢٤

اعتبرها أخبارا صحيحة وفي نفس الوقت لم ير العمل بها ، لعدم عمل الطائفة بها ، لكن لو أتى بها آتٍ بنيّة رجاء الورود أو لمجرّد إظهار الاعتراف والإذعان بما يعتقده في خليفة رسول اللّه‏ ، أو للعمومات وغيرها ، « فلا يأثم ».

ونحن بكلامنا هذا لا نريد أن نُخَطِّئَ شيخنا الصدوق رحمه‌الله ، بل نريد الإشارة إلى ان الاحكام الصادرة من قبله رحمه‌الله جاءت شديدة على الأفراد والمجاميع ، وكذا لا نريد أن نُبَرِّيءَ ذمّة الغلاة والمفوّضة الّذين دسوا أحاديث في الشريعة ، لكن في الوقت نفسه نقول أنّ الجزم بوضع المفوضة والغلاة لهذه الاخبار تطرف من الشيخ رحمه‌الله ، ولنا أن نقول كذلك : أنّ القائلين بالشهادة الثالثة إنّما قالوها دفاعا عمّا اتُّهموا به ، فقالوا بأنّ عليا ولي اللّه‏ وهو حجّته وليس بإله ولا نبي ، وهذا أبعد عن الغلوّ والتفو يض.

وعليه فإن ثبت تَسَرُّعُه في الحكم بالوضع فيما حكم عليه ـ كما في الأمور التي مضت علاوة على أخبار الشهادة الثالثة ـ فيجب ترك كلامه والأخذ بالأمر المعتدل ، وهو مخرج تمسّك به بعض الفقهاء.

وإن ثبت صحّة كلامه وأنّ المفوّضة قد وضعوا في الأذان وزادوا من عند أنفسهم على نحو الجزئية فنحن مع أئمّتنا ومع شيخنا الصدوق قدس‏سره نلعن من يضع الأحاديث على لسان الأئمّة ويُدخِل في الدين ما ليس منه ، وهذا مما يجب بحثه في الفصول الثلاثة القادمة إن شاء اللّه‏ تعالى.

١٢٥
١٢٦

٣ ـ الشهادة الثالثة شرع أم بدعة؟

البدعة في اللّغة : هو إحداث شيء لم يكن له من قَبْلُ خَلْقٌ ، ولا ذكرٌ ، ولا معرفة (١).

وفي الاصطلاح : إدخال ما ليس من الدين في الدين ، قاصدا التشريع.

والبدعة قد تأتي من ترك السنّة ، لقول علي بن أبي طالب : ما أُحدثت بدعة إلاّ ترك بها سنة ، فاتّقوا البدع ، والزموا المهيع ، إنّ عوازم الأُمور أفضلها ، وإنّ محدثاتها شرارها (٢).

ومثالها : هو ابتداع « الصلاة خير من النوم » في أذان الصبح وترك « حي على خير العمل » ، فجاء عن أبي الحسن الكاظم عليه‌السلام قوله : « الصلاة خير من النوم بدعة بني امية » (٣) ، وفي موطا مالك ان عمر هو الّذي قد شَرَّعها.

وقد سأل رجل الإمام عليّا عليه‌السلام عن السنة والبدعة ، والفرقة والجماعة ، فقال عليه‌السلام : أما السنة فسنة رسول اللّه‏ ، وأما البدعة فما خالفها ، وأمّا الفرقة : فأهل الباطل وإن كثروا ، وأما الجماعة : فأهل الحق وإن قلوا (٤).

وروي عن ابن مسعود أنّه قال : خطّ رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطا بيده ثم قال : هذا سبيل اللّه‏ مستقيما ، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : وهذه السبل ، ليس منها سبيل إلاّ عليه شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيما فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) (٥).

__________________

(١) العين ٢ : ٥٤ في مادة : بدعَ.

(٢) نهج البلاغة ٢ : ٢٨ ، من كلام له عليه‌السلام / الرقم ١٤٥ ، والمَهْيَع ، كالمقعد : الطريق الواضح.

(٣) الاصول الستة عشر : ٥٤ ، الاصل الرابع لزيد النرسي ، وعنه في مستدرك الوسائل ٤ : ٤٤ / ح ٤١٤٠ ، وبحار الانوار ٨١ : ١٧٢ / ح ٧٦.

(٤) تحف العقول : ٢١١ ، بحار الأنوار ٧٥ : ٤٩ / ح ٦٩.

(٥) مسند احمد ١ : ٤٣٥ / ح ٤٤٣٧ ، سنن الدارمي ١ : ٧٨ / ح ٢٠٢ ، الدر المنثور ٣ : ٣٨٥ ،

١٢٧

وقال الإمام علي : أيّها الناس إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع ، وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب اللّه‏ ، يقلّد فيها رجال رجالاً (١).

ولاجل كثرة هذه السبل لا يدري المسلم العادي هل أنّ رسول اللّه‏ قبض يده في الصلاة أم أرسلها؟ وهل أنّه شرّع المتعة أم منعها؟ وهل التكبير على الميت هو أربع تكبيرات أم خمس؟ وهل الطلاق ثلاثا يقع في تطليقة واحدة أم لا؟ وهل يصح القول حسبنا كتاب اللّه‏ ، مع أنّه سبحانه قد جعل تبيين الأحكام لرسوله الامين بقوله : ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ )؟

قال الشيخ المجلسي في بحار الأنوار : البدعة في الشرع ما حدث بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يرد فيه نصٌّ على الخصوص ، ولا يكون داخلاً في بعض العمومات ، أو ورد نهي عنه خصوصا أو عموما ... إلى أن يقول عن صلاة التراو يح :

ولما عيّن عمر ركعات مخصوصة على وجهٍ مخصوصٍ في وقتٍ معيّنٍ صارت بدعةً.

وكما إذا عيّن أحدٌ سبعينَ تهليلةً في وقت مخصوص على أنّها مطلوبةٌ للشارع في خصوص هذا الوقت بلا نصّ ورد فيها ، كانت بدعة.

وبالجملة : إحداث أمر في الشريعة لم يرد فيها نصٌّ بدعة ، سواء كانت أصلها مبتدعا أو خصوصيّتها مبتدعة (٢). كأن يقول بأن الشارع أمرنا ان نقول كذا.

وقال الشيخ يوسف البحراني في الحدائق الناضرة ـ عن صلاة التراويح ـ لا

__________________

والمتن منه.

(١) المحاسن ١ : ٢٠٨ ، ٢١٨ / ح ٧٤ ، ١١٤ ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، بحار الأنوار ٢ : ٣١٥/ح ٨٣ ، عنه ، ونهج البلاغة ١ : ٩٩ ، من كلام له عليه‌السلام / الرقم ٥٠.

(٢) بحار الانوار ٧١ : ٢٠٢ ذيل الحديث ٤١ ، من باب البدعة ومعناها.

١٢٨

ريب في أنَّ الصلاةَ خيرُ موضوعٍ ، إلاّ أنّه متى اعتقد المكلّف في ذلك أمرا زائدا على ما دلَّت عليه هذه الدلالة من عددٍ مخصوص ، وزمانٍ مخصوص ، أو كيفيّة خاصة ؛ ونحو ذلك ، ممّا لم يقم عليه دليل في الشريعة ، فإنَّه يكون محرَّما ، وتكون عبادته بدعة ، والبدعيّة ليست من حيث الصلاة ، وإنَّما هي من حيث هذا التوظيف الذي اعتقده في هذا الوقت ، والعدد ، والكيفية ، من غير أن يَرِدَ عليه دليل (١).

وهذان النصّان صـريحان في بدعية أي عمل يُؤتى به بقصد التشريع ولم يكن موظَّفا قبل ذلك في الشرع ، لأن الأُمور العبادية هي أُمور توقيفية لا يصحّ الأخذ بها إلاّ بنص من الشارع ، ولا يصحّ الزيادة والنقصان فيها بأيّ حال من الأحوال ، أمّا لو أتى بعملٍ طبق رواية غير معمول بها أو قل ضعيفة ، أو أتى بها بقصد القربة المطلقة ، أو للعمومات الواردة من قبل الشارع ، أو اتى بها على أنّها عمل مستحب ـ له دليله ـ ضمن عمل مستحب اخر لا على نحو الجزئية فلا يسمى هذا بابتداع ، لأنّ المكلّف كان في عمله هذا قد اتبّع دليلاً عامّا أو كنائيا (٢) أو مستحبا له دليله الخاص ضمن المستحب أي انه اتبع نصا ودليلاً أو اعتمد واجتهد طبق مبنى ، خصوصا لو صَرَّح الإنسان بأ نّه لا يأتي بالشهادة الثالثة مثلاً على أنّها من أصل الأذان ، بل للعمومات الواردة في الولاية ، لاقتران الشهادات الثلاث معا في جميع المشاهد وعلى لسان الرسول والأئمة ، ولوحدة الملاك بين النداء باسم علي في السماء مع النداء باسمه في الأرض ، ولرجاء المطلوبية ، ولكون ذكر علي عبادة وما يشابهها. إذ لكل هذه الامور ادلة من الشرع ، فالمؤمن لو اتى بالشهادة الثالثة طبقا لهذه الاخبار لم يكن مأثوما لان عمله جاء عن دليل لا راي ، فيجب ان يبحث عن

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٦ : ٨٠.

(٢) هذا ما سنبحثه بعد قليل تحت عنوان الدليل الكنائي : ١٥٧.

١٢٩

دليلته هذا الدليل لا ان يرمي بالبدعة وادخاله في الدين ما ليس من الدين ولنقرب المسألة بشكل آخر ، فنقول :

روى الكليني (١) والصدوق (٢) والبرقي (٣) عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبداللّه‏ ، عن آبائه عليهم‌السلام ، قال : قال أمير المؤمنين : السنّة سنّتان : سنّة في فريضة ، الأخذ بها هدى وتركها ضلالة ، وسنّة في غير فريضة ، الأخذ بها فضيلة ، وتركها إلى غير خطيئة.

وفي رواية المحاسن : وتركها إلى غيرها غير خطيئة.

وروت العامة هذا الخبر عن أبي هريرة ـ بتغيير في العبارة ـ قال : قال رسول اللّه‏ : السنة سنتان : سنة في فريضة ، وسنّة في غير فريضة ، السنة التي في الفر يضة أصلها في كتاب اللّه‏ ، أخذها هدى وتركها ضلالة ، والسنة التي ليس اصلها في كتاب اللّه‏ ، الأخذ بها فضيلة وتركها ليس بخطيئة (٤).

وحكى السرخسي عن مكحول أنّه قال : السنة سنتان سنة أخذها هدى وتركها ضلالة ، وسنة أخذها حسن وتركها لا بأس به.

فالأول : نحو صلاة العيد ، والأذان والإقامة ، والصلاة بالجماعة ، ولهذا لو تركها قوم استوجبوا اللوم والعتاب ، ولو تركها أهل بلدة وأصروا على ذلك قوتلوا عليها ليأتوا بها.

والثاني : نحو ما نقل من طريقة رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قيامه وقعوده ولباسه وركوبه.

وسننه في العبادات متبوعة أيضا ، فمنها ما يكره تركها ، ومنها ما يكون التارك مسيئا ، ومنها ما يكون المتّبع لها محسنا ولا يكون التارك لها مسيئا إلى اخر كلام

__________________

(١) الكافي ١ : ٧١ / ح ١٢ / باب الاخذ بالسنّة ، شرح اصول الكافي للمازندراني ٢ : ٣٥٤.

(٢) الخصال : ٤٨ / ح ٥٤ ، مستدرك سفينة البحار ٥ : ١٨٢.

(٣) المحاسن ١ : ٢٢٤ ، وفي تحف العقول : ٥٧ عن رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٤) المعجم الاوسط ٤ : ٢١٥ / ح ٤٠١١ ، وعنه في مجمع الزوائد ١ : ١٧٢.

١٣٠

السرخسي (١).

والآن لنقف هنيئة عند رواية مدرسة آل البيت عليهم‌السلام الآنفة عن علي ، لنرى مدى دلالتها ، وهل تحتاج إلى تعليق أم لا؟ إذ المعلوم بأنّ السنّة التي جاءت عن النبي هي على شاكلتين :

إحداهما : سنة في فريضة ، وهي واجبةُ الإتيانِ بها ، مثل السبع ركعات التي أضافها النبي إلى العشر المأمور بها سابقا في صلاة الفريضة من قبل ربّ العالمين والمصرّح بكون هذه الزيادة سنة ، كما في رواية زرارة.

والثانية : سنّة مستحبّة ، تركها إلى غيرها غير خطيئة ـ كما جاء في رواية المحاسن ـ وهي مثل اختلاف صيغ أذكار النبيّ في الصلوات وما شابهها ، فإنّ تركَ إحداها إلى الأُخرى ليس فيه خطيئة.

ومن هذا الباب لا يجوز إبدال « اللّه‏ أكبر » بـ « سبحان اللّه‏ » أو « اللّه‏ أعظم » لانها بدعة لا خلاف فيه ، لأنّ « اللّه‏ اكبر » هو ممّا اتّفق الجميع على جزئيته وكونه من الأذان ، فهو فصل لا يمكن تبديله والتغيير فيه ، فهو كالواجب فيه وإن كان الأمر تعلّق بما هو مستحبّ كالأذان ، لأنّ الذي يريد أن يقولها فهو قد اتّبع إجماع الأ مّة على جزئيّتها ، وبذلك يكون الأخذ بها هدى وتركها ضلالة.

أمّا اعتبار تربيع التكبير في الإقامة أو تثنيته كما ورد في روايات الصدوق والشيخ الطوسي رحمهما اللّه‏ وغيرهما ، ومثله في غيرها من الأحكام التخييرية ، فإنّ الإتيان بكلّ واحدة منها جائز ، لورود النصوص في كل واحدة منهما ، وإنّ العمل باحدى أقسامها لا يخدش في ترك الأُخرى منها ، لقوله عليه‌السلام : « وتركها غير خطيئة » وخصوصا إذا كانت الرواية المعمول بها صحيحة ، وبذلك يكون الاختلاف بين الأصحاب في سنيّة هذه السنة ، لا الاختلاف في الفريضة حتى يقال

__________________

(١) اصول السرخسي ١ : ١١٤ ، وانظر المبسوط له ١ : ١٣٣.

١٣١

أنّه مذموم.

وبمعنى آخر : إنّ الذي جاء عن رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو على نحو ين: إما هو في سنة ثابتة لا خلاف فيها ، فيكون بمنزلة الفريضة وتركها إلى غيرها خطيئة كما في ابدال كلمة « اللّه‏ أكبر ».

وإمّا أن لا تكون السنة محددة في فرد معيّن ، وذلك لتعدد النصوص عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها ، فيكون الأخذ بإحداها جائزا وترك الآخر منها ليس فيه خطيئة ، ومن هذا القبيل يكون الحديث الشاذ عند علماء الدراية ، فهو خبر يشبه الروايات التخييرية بفارق ان الثاني له الحجية الفعلية اما الأخبار الشاذة فحجيتها اقتضائية وذلك لعدم عمل الاصحاب بها.

ولنوضح هذا الامر بمثال في الأذان ، إذ ورد الاجتزاء بجملة واحدة منه في موارد ، منها : أذان المسافر (١) ، وعند العجلة (٢) ، وفي المرأة (٣) بل ورد في أذان المرأة الاكتفاء بالتكبير والشهادتين دون الحيعلات (٤) ، وفي بعض الروايات الاكتفاء بالشهادتين فقط (٥) ، وجاء عن ابن عباس أنّه كان يكتفي بالشهادتين عند

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٦٢ / ح ٢١٩ ، الاستبصار ١ : ٣٠٨ / ح ١١٤٣ عن بريد بن معاو ية عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : الأذان يقصر في السفر ، كما تقصر الصلاة ، والأذان واحدا واحدا والإقامة واحدة واحدة.

(٢) التهذيب ٢ : ٦٢ / ح ٢١٦ ، الاستبصار ١ : ٣٠٧ / ح ١١٤٠ عن أبي عبيدة الحذاء قال : كان ابا جعفر عليه‌السلام يكبر واحدة واحدة فقلت له : لم تكبر واحدة واحدة ، فقال : لا بأس به إذا كنت مستعجلاً في الأذان.

(٣) وسائل الشيعة ٥ : ٤٠٦ / ح ٦٩٣٩ ، عن جميل بن درّاج قال : سألت ابا عبداللّه‏ عليه‌السلام عن المرأة أعليها أذان وإقامة؟ فقال : لا.

(٤) تهذيب الاحكام ٢ : ٥٨ / ح ٢٠٢ ، وسائل الشيعة ٥ : ٤٠٥ / ح ٦٩٣٧ ، وفيه عن عبداللّه‏ بن سنان قال : سألت ابا عبداللّه‏ عليه‌السلام عن المرأة تؤذن للصلاة؟ فقال : حسن إن فعلت ، وإن لم تفعل أجزأها ان تكبر ، وأن تشهد أن لا إله إلاّ اللّه‏ ، وأن محمدا رسول اللّه‏ ، وانظر منتهى المطلب ١ : ٢٥٧.

(٥) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٩٨ / ح ٩٠٩ علل الشرائع ٢ : ٣٥٥ / ح ١ ، من الباب ٦٨ وفيه عن

١٣٢

المطر (١) ، وأجيز للمؤذن أن يقول « حي على الصلاة » أو « حي على الفلاح » أكثر من مرتين (٢) إذا كان إماما يريد به جماعة القوم ليجمعهم. وهذه هي الروايات التخييرية ومنها نفهم التوسعة في أمر الأذان ، أي انّ المكلّف لو أتى بواحدة من هذه الأُمور فأذانه صحيح وقد أخذ بالسنة ، وإن كان قد ترك بفعله سنة اخرى.

وعليه فلا يمكن تصوّر البدعة في امر موسع كالأذان ـ وحسب تعبير صاحب الجواهر : « والامر فيه سهل » ـ إلاّ بعد معرفة السنّة ، لأنّ البدعة أمر مركّب مؤلّف من عقدين : عقد إيجابي وعقد سلبي ، وكما قال الإمام علي « أما السنّة فسنة رسول اللّه‏ ، وأما البدعة فما خالفها » فبعد ثبوت السنّة يأتي دور ما يخالفها وهي البدعة.

وفي ما نحن فيه ، لابدّ لمدّعي نفي الشهادة الثالثة ـ من الأذان والإقامة مطلقا حتى بعنوان الاباحة ـ أن يثبت أنّها خلاف السنة على نحو التصادم والتعارض ، وان دعواهم عدم ذكرها في روايات المعصومين لا ينقضه ، لعدة جهات :

الأولى : أنّه لا ملازمة بين عدم الذكر وبين البدعية التي تستلزم الحرمة ، فالحكم بالاباحة والحلّيّة والطهارة والجواز فيما لا نص فيه ، ليس بدعةً باجماع المسلمين ، فركوب الطائرة مثلاً مباح بالإجماع لأصالة البراءة وليس ببدعة ، وقد يكون مسـتحبّا لتسريع المقصد وحفظ الوقت.

__________________

زرارة بن اعين ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قلت له : المرأة عليها أذان وإقامة؟ فقال : ان كانت تسمع اذان القبيلة فليس عليها شيء ، وإلاّ فليس عليها اكثر من الشهادتين ...

(١) سنن ابن ماجه ١ : ٣٠٢ / ح ٩٣٩ ، عن عبداللّه‏ بن لحارث بن نوفل قال : ان بن عباس امر المؤذن ان يؤذن يوم الجمعة وذلك يوم مطير ، فقال : اللّه‏ اكبر اللّه‏ اكبر ، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه‏ ، أشهد أن محمد رسول اللّه‏ ، ثم ناد في الناس فليصلوا في بيوتهم ، فقال له الناس ما هذا الذي صنعت ، قال : فعل هذا من هو خير مني ...

(٢) الكافي ٣ : ٣٠٨ ح ٣٤ ، وسائل الشيعة ٥ : ٤٢٨ / ح ٦٩٩٩ عن أبي بصير عن أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام قال : لو أن مؤذنا اعاد في الشهادة وفي حي على الصلاة أو حي على الفلاح المرتين والثلاث واكثر من ذلك إذا كان إنما يريد به جماعة القوم ليجمعهم لم يكن به بأس.

١٣٣

ومن هذا القبيل مسألة الشهادة الثالثة فعدم وجود نص على تشريعها لا يعني بدعيّتها بكلّ تقدير حتى بتقدير الإباحة والمحبوبية المطلقة ، وخصوصا مع معرفتنا بالظروف السياسية التي حكمت الشيعة في العصور الاولى وسيأتي في الفصل الاول أن هناك نصوصا قد حكاها الشيخ بهذا الشان (١).

الثانية : إنّ المطالع سيقف بعد قليل على أنّ الشهادة بالولاية في معناها العام الشامل ، وأنّها شرط الإيمان ، كانت على عهد رسول اللّه‏ ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة من ولده ، كالباقر ، والصادق ، والكاظم ، والرضا ، والهادي عليهم‌السلام قد أكدوا على هذه الحقيقة تصريحا وتلويحا وايماءً واشارةً ، وهذا يؤكّد على محبوبيّة الشهادة بالولاية مطلقا في كل حال. واقصى ما يمكن قوله في عدم ذكر الأئمة لها هو عدم جزئيتها لا عدم محبوبيتها.

الثالثة : صرّح الشيخ الطوسي ، والشهيد والعلاّمة ، ونقلاً عنهم المجلسي ، وصاحب الجواهر ، وغيرهم بوجود أخبار دالة على الشهادة الثالثة ، فقال المجلسي : لا يبعد كون الشهادة بالولاية من الأجزاء المستحبّة في الأذان ؛ لشهادة الشيخ ، والعلاّمة ، والشهيد ، وغيرهم بورود الأخبار بها (٢).

وقال صاحب الجواهر : لا بأس بذكر الشهادة بالولاية ، لا على سبيل الجزئية ، عملاً بالخبر المزبور (٣).

ووجود هذه الاخبار تخرج موضوع الشهادة الثالثة من البدعية.

الرابعة : يمكن التوسعة في معنى السنّة ـ وحسب تعبير الإمام عليّ ـ والقول ـ

__________________

(١) انظر صفحة ٣٠٩ من هذا الكتاب.

(٢) بحار الانوار ٨١ : ١١١.

(٣) جواهر الكلام ٩ : ٨٧ وهو خبر القاسم بن معاو ية المروي عن احتجاج الطبرسي عن الإمام الصادق عليه‌السلام : إذا قال احدكم لا إله إلاّ اللّه‏ محمد رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليقل : علي أمير المؤمنين. انظر احتجاج الطبرسي ١ : ٢٣١.

١٣٤

فيما نحن فيه ـ : بأنّ الروايات الناصّة على أن فصول الأذان هي اثنان واربعون فصلاً ، والتي رواها الصدوق في ( الهداية ) (١) وأشار إليها الطوسي في النهاية (٢) إنما هي ناظرة إلى ادخال الشهادة الثالثة في الأذان ، وإن كان الشيخ الطوسي ـ فيما رواه ـ قد صوّر ذلك بشكل يخرج الشهادة الثالثة عنها ؛ لظروف التقية التي كان يعيش فيها ، أو لأي شيء آخر ، فقال رحمه‌الله :

ومن روى اثنين وأربعين فصلاً ، فإنه يجعلُ في آخر الأذان التكبير أربع مرات ، وفي أوّل الإقامة أربع مرّات ، وفي آخرها أيضا مثل ذلك أربع مرات ، ويقول : ( لا إله إلاّ اللّه‏ ) مرّتين في آخر الإقامة ، فإن عمل عامل على إحدى هذه الروايات لم يكن مأثوما (٣).

فالشيخ رحمه‌الله وبقوله الآنف أراد بيان صورة الزيادة الفارقة بين الروايات المشهورة والمعمول بها عند الأذان والإقامة ، أعني ٣٥ فصلاً مع ما روي في كونها ٤٢ فصلاً بالتصوير التالي :

١ ـ زيادة مرتين « اللّه‏ اكبر » في آخر الأذان ، وبه يصير التكبير في آخرها أربعا.

٢ ـ زيادة مرتين « اللّه‏ اكبر » في أول الإقامة ، وبه يصير التكبير في أول الإقامة أربعا.

٣ ـ زيادة مرتين « اللّه‏ اكبر » في آخر الإقامة ، وبه يصير التكبير في آخر الإقامة اربعا.

٤ ـ زيادة مرة اخرى « لا إله إلاّ اللّه‏ » في آخر الإقامة.

وهذه الزيادات السبعة لو اضيفت إلى الفصول المشهورة والتي هي ٣٥ فصلاً لصارت ٤٢ فصلاً.

__________________

(١) الهداية : ١٤١ / الباب ٤٢ ، الأذان والإقامة.

(٢) النّهاية في مجرد الفقه الفتاوي : ٦٩.

(٣) النهاية : ٦٩ ، وانظر مصباح المتهجد : ٢٦ كذلك.

١٣٥

لكننا نحتمل الأمر بشكل آخر مصورين في ذلك الروايات الشاذة التي حكاها الشيخ الطوسي ويحيى بن سعيد الحلي والعلاّمة الحلي على نحو ين :

الأول : ما رواه الشيخ الطوسي وصوره آنفا قبل قليل.

الثاني : ان نجمع بين الروايات التي وصفها الشيخ الصدوق بالوضع والشيخ الطوسي بالشذوذ بالشكل الاتي :

نحن لو أخذنا برواية أبي بكر الحضرمي وكليب الأسدي ، والتي أكدّ الشيخ الصدوق على صحتها ، ولم يرتضي الزيادة والنقصان فيها ، والتي كانت فصولها ٣٦ فصلاً لقوله رحمه‌الله : « والإقامة كذلك » ، واضفنا إليها الشهادة بالولاية مرتين في الأذان ، ومرتين في الإقامة ، وقلنا بـ « قد قامت الصلاة » مرتين في الإقامة ؛ لان الشيخ الصدوق لم يذكرها فيما رواه عن أبي بكر الحضرمي وكليب ، وبهذا التصو ير صح إدّعاء وجود الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة في الروايات التي وصفها الشيخ الطوسي بالشاذّة ، والتي افتى بأنّ العامل بها غير مأثوم. إذ لا يمكن تصور شيء آخر في الاخبار الشاذة إلاّ كما قلناه ، لان فصول الأذان والإقامة لم تزد عند الشيخ الطوسي على ٤٢ فصلا ، وبذلك يكون أما ما صوره رحمه‌الله وإما ما تصورناه واحتملناه.

هذا وقد قال الشيخ محمد تقي المجلسي في روضة المتقين ، بأنّ الأخبار التي جاءت في عدد فصول الأذان هي أكثر مما قيلت فقال رحمه‌الله :

... مع أنّ الأخبار التي ذكرنا في الزيادة والنقصان وما لم نذكره كثيرة ، والظاهر أنّ الأخبار بزيادة هذه الكلمات أيضا كانت في الأُصول ، وكانت صحيحة أيضا ، كما يظهر من المحقّق والعلاّمة والشهيد رحمهم‌الله‏ ، فأ نّهم نسبوها إلى الشذوذ ، والشاذُّ ما يكونُ صحيحا غيرَ مشهور ... (١).

__________________

(١) هكذا جاء في روضة المتقين ٢ : ٢٤٥ والصحيح لزوم ابدال كلمة « المحقق » بالشيخ

١٣٦

وفي الجملة إنّ مجموع الجهات الأربع وخصوصا الأُوليين منها يوقفنا على خطأ دعوى بدعيّة الشهادة الثالثة ، بمجرّد عدم مجيئها في كلام الأئمة ، إذ قد تبيّن أنّ الأصل هو الإباحة ، والإباحة ، بضميمة عمومات كثيرة أُخرى ترتفع إلى مرتبة الاستحباب ، خاصّة مع ملاحظة الأخبار الصحيحة غير المشهورة في رجحان الإتيان بها كما جزم به المجلسيّ وغيره ، والّتي وُصِفَتْ بالشذوذ.

وقد يقال هنا بإمكان إثبات الجزئية الواجبة لها فضلاً عن الاستحبابية ، لأ نّه لو قيل بعدم تماميتها في الجزئية الواجبة ، فلا يمكن الخدش في دلالتها على الجزئية الاستحبابية ، لقاعدة التسامح في أدلة السنن أو بقصد القربة على اختلاف المبنيين ، وكذلك للعمومات الواردة في لزوم مقارنة الرسالة بالوصاية في كل شيء : « من قال محمد رسول اللّه‏ فليقل علي أمير المؤمنين » و « أينما ذُكرتُ ذُكرتَ معي » وغيرها من الأدلة العامّة التي سيأتي بحثها.

وعليه ، فإنّ التوقيفية في العبادات لا يمنع من الإتيان بالشهاة الثالثة حسب البيان الذي قلناه ، وبرجاء المطلوبية استنادا إلى الأخبار التي أشار إليها الصدوق والطوسي رحمهما اللّه‏ ومن تبعهما في ذلك كالعلاّمة ويحيى بن سعيد رحمهما اللّه‏ ، وطبقا للعمومات التي جاءت في الشريعة ، إلى غيرها من الأدلّة التي ذكرها فقهاؤنا الأقدمون.

والملاحظ أنّ غالب الشيعة الإمامية لا تأتي بالشهادة الثالثة على أنّها جزءٌ ، بل بقصد القربة المطلقة وأمثالها ، فانهم لو كانوا يقولون بالجزئية لما اختلفت الصيغ الدالّة على الشهادة الثالثة عندهم : « أشهد أن عليّا ولي اللّه‏ » ، ومنهم من روى « محمد وآله خير البريـة » ، و « محمد وعلي خير البشر ».

__________________

الطوسي.

١٣٧

فإن اختلاف هذه الصيغ في الأذان ، ومجيئها تارة بعد ( حي على خير العمل ) وأُخرى قبلها ، يؤكّد عدم قولهم بالجزئيّة ، ويشير إلى أنّهم يأتون بهذه النصوص في الأذان على أنّها تفسيرية لمعنى الولاية دون اعتبارها من أصل الأذان ، وبسبب القول بعدم الجزئيّة أكّد غالب الفقهاء في رسائلهم العملية على أن الشهادة الثالثة هي ليست من أصل الأذان ، ومن أراد أن يأتي بها فله أن يأتي بها من باب الحصول على المثوبة والتبرّك بذكر عليّ عليه‌السلام ، الذي هو عبادة ـ طبق النصوص الشرعية ـ لأن العبادات لا تقبل إلاّ بهم كما هو مفاد كثير من العمومات.

وبهذا ، فقد عرفنا أنّ الشيعة وبعملهم هذا قد استندوا في إتيانهم بالشهادة الثالثة على أدلّة شرعيّة كانت موجودة عندهم ، وأنّ ظروف التقيّة الّتي كانوا يعيشونها هي التي حدّت من انتشارها ، فإنّ تصريح فقهائهم بلزوم الإتيان بها لمحبوبيتها الذاتية ، أو بقصد القربة يؤكّد على أنّهم لا يقولون بأنّها من فصول الأذان ، حتى يقال بأ نّهم أدخلوا في الدين ما ليس منه ، قاصدين بعملهم التشريع المحرم.

١٣٨

الأقوال في المسألة

قبل الدخول في أصل الدراسة لابدّ من الإشارة إلى أمرين :

أحدهما : إنّ بعض الفقهاء وحين بحثهم عن الشهادة الثالثة قد خلطوا بين النصوص الأذانية والنصوص الإيمانية الواردة في علي بن أبي طالب في الإسراء والمعراج والأدعية وتقارن ذكر الولاية مع ذكر النبّوة في كلّ الشريعة.

فلو أراد الفقيه الاستدلال على الجزئية الواجبة لما أمكنه التمسك بهذه الأدلة الإيمانية وحدها ، بل عليه أن يأتي بنصّ خاص قد ورد في الأذان ، وأمّا الذي يريد الإشارة إلى محبوبيّتها والتأكيد على رجحانها النفسيّ فيمكنه الاستدلال بذلك من باب وحدة الملاك وبقصد القربة المطلقه.

وثانيهما : الإشارة إلى حقيقة الأمر المركّب وأنّه يتألف من أجزاء متعدّدة ، والجزء فيه لا يخلو من وجهين :

١ ـ إما أن يكون جزءا واجبا ، ويسمّى بـ « جزء الماهية ».

٢ ـ وإما أن يكون جزءا مستحبّا ، ويسمى بـ ( جزء الكمال أو الفرد ) وقد عبرنا عنها بالجزئية تسامحا.

والجزء الواجب هو ما يُقوّم ماهية المُركّب ولا يتحقّق المركَّبُ بدونه ، بمعنى أنّ أمر الشارع يتعلّق بالمركّب دون الأجزاء ، لأن الجزئية من الأحكام الوضعيّة لا التكليفية ، وهي من الأمور غير القابلة للجعل (١) ، فالنزاع فيها لم يكن لفظيّا حتّى يمكن تصحيحه ، وعليه فالأمر يتعلّق بالكلِّ بما هو كلٌّ ، فمثلاً الحجُّ مؤلّفٌ من

__________________

(١) بحث الأصوليون هذه المسألة في الاستصحاب ، انظر فوائد الأصول تقريرات المرحوم النائيني بقلم الشيخ محمد علي الكاظمي ٤ : ٣٨٠ ـ ٤٠٢ في بيان الأحكام الوضعية وتفصيل أقسامها حيث صرّحوا بأن الجزئية والشطريّة غير قابلتين للجعل وأنّ الأمر يتعلّق بالكلّ لا بجزئه.

١٣٩

الإحرام ، والطواف ، والسعي ، والوقوف بعرفات ، ورمي الجمار و ...

ولا يتحقّق الحجُّ إلاّ بإتيان جميع هذه الأجزاء ، ولا يمكن التخلّي عن بعضها ، فلو نقصَ واحدة من هذه الأجزاء عُدَّ حجّه باطلاً.

وأمّا الجزء المستحبّ فهو الجزء غير الضروري بل الكمالي فيه ، فلو فعله المكلّف لكان منه فضيلة ، ولو تركه فهذا لا يوجب الإخلال بأصل العمل.

مثاله : القنوت ، فهو مستحبُّ سواء في الصلاة أو في غيرها ، وكذا الاستغفار فهو مستحب سواء في الصلاة أو في غيرها ، وقد ورد استحبابه بعد التسبيحات في الركعتين الثالثة والرابعة ، فإنّ الإتيان به فضيلة ، لكن تركه لا يضرّ بالصلاة. بل كلُّ ما في الأمر هو عدم حصوله على الثواب الكامل المرجوّ من عبادته ، ومن هذا القبيل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد (١).

ولا تختلف الجزئية الواجبة بين أن تكون ضمن الصلاة الواجبة أو الصلاة المستحبة ، فمثلاً : الركوع هو جزء واجب في الصلاة سواء كانت الصلاة واجبة أو مستحبة ، أي أنّ المكلّف لو لم يأت بالركوع فصلاته باطلة ، سواء كانت الصلاة واجبة أم مستحبة ، وهكذا الحال بالنسبة إلى الطواف ، فهو جزء واجب في الحج سواء للعمرة المفردة أو لحجّة الإسلام.

والآن لنأتي إلى موضوع الشهادة الثالثة ، فالبعض يرى استحباب الإتيان بها لأ نّها شرط الايمان ، أو أنّه مستحب ضمن مستحب ، والآخر يرى جزئيَّتها ضمن الأذان والإقامة.

والذين يرون جزئيتها ، البعض منهم يرى جزئيتها الواجبة والاخر يرى جزئيتها المستحبّة ، بمعنى أنّ الذين يرون جزئيتها الواجبة يعتقدون بأنّ الشهادة بالولاية في الأذان والإقامة هي من الاجزاء المقوّمة للماهية وبدونه لا يتحقّق الأذان ، أي أنّ الدليل على شرعيّة الأذان حينما صدر عن الشارع كان متضمّنا

__________________

(١) سنن الدارقطني ١ : ٤١٩ / ح ١ / باب الحث لجار المسجد على الصلاة فيه ، و ١ : ٤٢٠ / ح ٢ ، مستدرك الحاكم ١ : ٣٧٣ / ح ٨٩٨ ، وانظر قرب الاسناد : ١٤٥ / ح ٥٢٢.

١٤٠