أشهد أنّ عليّاً ولي الله

السيد علي الشهرستاني

أشهد أنّ عليّاً ولي الله

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5331-19-6
الصفحات: ٥٩٤

معتمدة (١).

وقال في ترجمة إبراهيم بن إسحاق الأحمري : كان ضعيفا في حديثه ، متّهما في دينه ، وصنّف كتبا جملتها ، قريبة من السداد (٢).

وقال عن حفص بن غياث القاضي : عامّيّ المذهب ، له كتاب معتمد (٣).

وقال عن طلحة بن زيد : عاميّ المذهب إلاّ أنّ كتابه معتمد (٤).

علي بن الحسن الطاطري : كان واقفيا شديد العناد في مذهبه ، صعب العصبية على من خالفه من الإمامية ، وله كتب كثيرة في الفقه ، رواها عن الرجال الموثوق بهم وبرواياتهم (٥).

وقال النجاشي : الحسين بن عُبيداللّه‏ السعدي ، ممّن طعن عليه ورمي بالغلوّ ، له كتب صحيحة الحديث (٦).

قال الشيخ الحرّ العاملي في الفائدة السادسة من خاتمة كتابه « وسائل الشيعة » وعند كلامه عن صحّة أحاديث الكتب الأربعة وأمثالها والتي اعتمدها الاصحاب على ما فيها : ومثله يأتي في رواية الثقات الاجلاء ـ كأصحاب الإجماع ونحوهم ـ عن الضعفاء ، والكذابين ، والمجاهيل ، حيث يعلمون حالهم ، ويروون عنهم ، ويعملون بحديثهم ، ويشهدون بصحته ... (٧).

فانظر إلى عمل الطائفة فإنّهم يعملون بأخبار هؤلاء الاشخاص وامثالهم مع أنّهم ممّن ينتحلون المذاهب الفاسدة ، وأنّهم في غاية البعد عنّا ، وأنّا مأمورون

__________________

(١) الفهرست : ٣٢.

(٢) الفهرست : ٣٩ / ت ٩.

(٣) الفهرست : ١١٦ / ت ٢٤٢.

(٤) الفهرست : ١٤٩ / ت ٣٧٢.

(٥) الفهرست : ١٥٦ / ت ٣٩٠.

(٦) فهرست مصنفات اصحابنا المعروف برجال النجاشي : ٤٢ / ت ٨٦.

(٧) وسائل الشيعة ( الخاتمة ) ٣٠ : ٢٠٦.

١٠١

بالتنفرّ والتباعد عنهم ، قال الشيخ الحر العاملي في الخاتمة عن الواقفة :

وأمّا هؤلاء المخذولون فلم يكن لأصحابنا الإمامية ضـرورة داعية إلى أن يسلكوا معهم على ذلك المنوال وخصوصا الواقفة ، فإنّ الإماميّة كانوا في غاية الاجتناب لهم ، والتباعد عنهم ـ حتى أنّهم كانوا يسمونهم ( الممطورة ) أي الكلاب التي أصابها المطر ـ وائمتنا عليهم‌السلام كانوا ينهون شيعتهم عن مجالستهم ومخالطتهم ، ويأمرونهم بالدعاء عليهم في الصلاة ويقولون : إنّهم كفار ، مشركون ، زنادقة ، وإنّهم شرّ من النواصب ، وإن من خالطهم فهو منهم. وكتب أصحابنا مملوءة بذلك كما يظهر لمن تصفّح كتاب الكشّي وغيره (١).

وإنّك لو تأملت في تعليل القميّين لمن أقصوا من المحدّثين فلا تراهم يتّهمونهم لروايتهم الأحاديث الموضوعة ، بل للرواية عن الضعفاء فيما يقولون ، أو بسبب الرواية عن أهل المذاهب الفاسدة ، أو بسبب رواية المراسيل ، وهناك فرق بين الأمرين لا يخفى على العالم البصير.

قال ابن الغضائري في أحمد بن محمد بن خالد البرقي : طعن القمّيّون عليه ، وليس الطعن فيه إنّما الطعن فيمن يروي عنه ، فإنّه كان لا يبالي عمّن يأخذ على طريقة أهل الأخبار (٢) ، وكان أحمد بن محمد بن عيسى أبعده عن قمّ ثم أعاده إليها واعتذر إليه (٣).

وقال النجاشي عنه : أصله كوفي وكان جدّه محمد بن علي حبسه يوسف بن عمر ـ والي العراق ـ بعد قتل زيد عليه‌السلام ثم قتله ، وكان خالد صغير السن فهرب مع أبيه عبدالرحمن إلى برق روذ ، وكان ثقة في نفسه يروي عن الضعفاء واعتمد

__________________

(١) وسائل الشيعة ( الخاتمة ) ٣٠ : ٢٠٤.

(٢) أي أنّه لم يتبع منهج القميين في الاخذ بالاخبار.

(٣) رجال ابن الغضائري : ٣٩ / ت ١٠.

١٠٢

المراسيل (١) ، وقريب من هذا تراه في الفهرست للشيخ الطوسي (٢).

وقال ابن داود الحلي : أقول : وذكرته في الضعفاء لطعن ابن الغضائري فيه ، ويقوى عندي ثقته ، مشى أحمد بن محمد بن عيسى في جنازته حافيا حاسرا تنصّلاً ممّا قذفه به (٣).

وقال العلاّمة في الخلاصة : وجدت كتابا فيه وساطة بين أحمد بن محمد بن عيسى وأحمد بن خالد ، ولمّا توفّي مشى أحمد بن محمد بن عيسى في جنازته حافيا حاسرا ليبّرئ نفسه ممّا قذفه به ، وعندي أنّ روايته مقبولة (٤).

فابنُ الغضائري لم يطعن فيه ، بل ردَّ الطعن إلى طعن القمّيّين عليه ، ثم ردّ ذلك بأنّ الطعن ليس فيه بل في من يروي عنه ، وقد فعل مثل ذلك ابن داود ؛ إذ لم يذكره في الضعفاء إلاّ من أجل طعن ابن الغضائري ، ولم يعبأ به لأ نّه معلوم المستند عن القمّيّين.

هذا ، وقد وقع البرقي في طريق الصدوق إلى إسماعيل بن رباح (٥) ، والحارث بن المغيرة النصري (٦) ، وحفص بن غياث (٧) ، وحكم بن حكيم (٨) ، وليس لهذا معنى إلاّ افتراض اعتراف القمّيّين العملي ـ ومنهم الشيخ الصدوق قدس‏سره ـ بأنّ منهجهم كان بشكل عام شديدا ، وفي شأن البرقي بنحو خاص.

إذن الرواية عن الضعفاء واعتماد المراسيل ليسا قدحا في الراوي أو الرواية ؛ إذ

_________________

(١) فهرست مصنفات اصحابنا المعروف برجال النجاشي : ٧٦ / ت ١٨٢.

(٢) الفهرست : ٦٢ / ت ٦٥.

(٣) رجال ابن داود : ٤٣ / ت ١٢٢ ، وانظر رجال بحر العلوم ١ : ٣٤٥ ـ ٣٤٧.

(٤) خلاصة الاقوال : ٦٣ / ت ٧.

(٥) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٤٤٢ ( المشيخة ).

(٦) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٤٥٦ ( المشيخة ).

(٧) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٤٧٣ ( المشيخة ).

(٨) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٤٢٨ ( المشيخة ).

١٠٣

جرت سيرة المحدّثين من الفريقين في الأخذ بالحديث المرسل والضعيف ، وكذلك رواية أهل المذاهب الإسلامية الفاسدة بشرط الاعتماد.

وقد روى أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري نفسه عن عدّة من الضعفاء ، فقد روى محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن علي بن حديد (١).

وروى أيضا عن محمد بن يحيى ، عنه ، عن إسماعيل بن سهل ، عن حماد ، عن ربعي (٢).

وروى أيضا عن محمد بن يحيى ، عنه ، عن بكر بن صالح ، عن الجعفري (٣).

وهذا يعني عدول القميّين عن منهجهم المتشدّد ؛ وذلك لعلمهم ـ وهم العلماء الجهابذة ـ بأن الحديثَ الضعيفَ غيرُ متروكٍ لوجود احتمال تصحيحه بالشواهد والمتابعات والقرائن الأخرى ، وهذا معناه أنّ منهج القميين في مجال الأخبار كان شديدا في عصر من العصور ، وهو ما يجعلنا نتوقّف في أحكامهم على الرواية والرواة.

واني اثناء البحث لفت انتباهي شيء وهو خلاف ما اعرفه عن أحمد بن محمد البرقي وأنّه من أصحاب الجواد والهادي عليهما‌السلام كما هو المصرح عند الشيخ في رجاله (٤) ، لأنّ الصدوق روى في كتاب التوحيد : حدثنا أبي ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمهما اللّه‏ ، قالا : حدّثنا سعد بن عبداللّه‏ ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن عبداللّه‏ ، عن أحمد بن محمد البرقي ، عن أبي

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٩ / باب الرد إلى الكتاب والسنة / ح ١.

(٢) الكافي ٢ : ٤٢٧ ، باب الاعتراف بالذنوب / ح ٧.

(٣) الكافي ٦ : ٣٣٨ ، باب البان الابل / ح ١ ، وانظر ج ٦ : ٣٨٠ باب فضل الماء / ح ١.

(٤) رجال الشيخ : ٣٧٣ / الرقم ٥٥٢١ و ٣٨٢ / الرقم ٥٦٤٥.

١٠٤

عبداللّه‏ في قول اللّه‏ عزّوجلّ ( وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّه‏ِ لَوِ اسْتَطَعْنَا ... ) الخبر (١).

إذ أنّ رواية والده محمد بن خالد غير ثابتة عن الصادق (٢) فضلاً عن رواية ابنه أحمد ، مع أنّ أباه محمد بن خالد هو من أصحاب الكاظم والرضا والجواد (٣).

اذن أحمد بن محمد لا يمكنه أن يروي عن الصادق ( المتوفى ١٤٨ ) ، لأ نّه توفى ٢٧٣ ه‍ حسبما حكاه أحمد بن الحسين ، أو ٢٨٠ ه‍ حسبما قاله ماجيلويه ، فهو قطعا مات قبل أحمد بن عيسى الأشعري ؛ لأن الاشعري هذا مشى في جنازة أحمد البرقي ، وهو متوفي في أواخر القرن الثالث الهجري يقينا ، وهذا مما يوجب الوهنَ فيما رواه الصدوق ، والحكمَ بالارسال عليه ، إن كان هو ذلك البرقي المعروف ، وإلاّ فلا.

فالقمّيّون يجرحون من يروي عن المجاهيل ويعتمد المراسيل ، وهنا الشيخ الصدوق روى المراسيل ، حسبما يحتمل في اسناد كهذا.

إذن فالرواية عن الضـعفاء لا يمكن عدها طعنا ، بل إنّه المنهج المتّبع عند جميع المحدّثين قديما وحديثا ، إلاّ ما شاهدناه عند أهل قمّ في العصور الأُولى حيث كانوا يلزمون الآخرين بالاخذ بمعاييرهم وترك غيرها ، مع أنّ للمحدّث أن يروي الحديث الضعيف ـ لا الموضوع ـ وهو ما يمكن الاستفادة منه في الشواهد والمتابعات.

__________________

(١) التوحيد ، للصدوق : ٣٥١ / ح ١٦.

(٢) هناك رواية في الروضة من الكافي ٨ : ١٨٣ ح ٢٠٨ : علي بن إبراهيم عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن أبي عبداللّه‏ قوله تعالى ( وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ) ( بمحمد ) ، قال : هكذا واللّه‏ نزل بها جبرئيل على محمد.

(٣) رجال الشيخ : ٣٤٣ / الرقم ٥١٢١ ، ٣٦٣ / الرقم ٥٣٩١ ، ٣٧٧ / الرقم ٥٥٨٥ وانظر رجال البرقي في أصحاب الكاظم والرضا والجواد عليهم‌السلام.

١٠٥

منهج القمّيين الالتزام والتبرير

في الحقيقة يمكننا أن نبرّر للقميّين ما اتّخذوه من مواقف ضدّ بعض المحدّثين ، لأنّ الشيعة في الغيبة الصغرى وما بعدها كانوا يعيشون تحت هجومَين : الهجوم العسكري المتمثّل بالحكومة العباسية.

والهجوم العلمي بقسميه ، الداخلي والخارجي ، فالهجوم العلمي الداخلي هو الهجوم من داخل المجموعة الشيعية ، اعني من قبل الزيدية ، والإسماعيلية ، ومن انصار الشلمغاني ، والحلاج ، والقرامطة ، وما كانوا يطرحونه من أفكار.

والهجوم العلمي الخارجي هو الهجوم من خارج المجموعة كشبهات وافكار القدرية والمرجئة والزنادقة.

فالقميّون ولحساسية المرحلة التي كانوا يعيشون فيها أرادوا تحصين المعرفة الإسلامية الخالصة حتّى لا تكون عرضةً للتلويث ، وذلك بالضغط على المحدّثين ، ومما يمكن قوله بهذا الصدد هو : أنّ أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري قد يكون طرد البرقيَّ لا لروايته عن الضعفاء ولا لشيء آخر مما ذكر آنفا ، بل لِما كان يحيط به من أُمور سياسية والتي وضحنا بعضها سابقا ، وأنّه كان يريد غلق الأبواب التي يريدها أعداء الفكر الشيعي من مثل الشلمعاني وغيره ، حيث كان هؤلاء يريدون الطعن في الإسلام وتشو يه حقيقة التشيّع الصحيحة بواسطة الموضوعات والمكذوبات ، وقد لا نغالي إذا قلنا بأنّ الشيخ الطوسي قدس‏سره لو كان يعيش في قمّ تحت وطأة تلك الظروف التي رزح تحتها أحمد بن محمد بن عيسى أو الشيخ الصدوق رحمهما اللّه‏ لما وسعه إلاّ التشدد حفظا على أحاديث المعصومين عليهم‌السلام من التحريف والدّس.

وعليه ، فالرواية عن الضعفاء واعتماد المراسيل ليست طعنا في الراوي ولا في الرواية ؛ لجريان سيرة المحدثين بنقل تلك الروايات وإمكان تصحيحها بشواهد ومتابعات من روايات أُخرى ، وهذا مما لا يخفى على مثل أحمد بن محمد بن

١٠٦

عيسى الأشعري.

فما يقوله المحدث : حدثني فلان ، لا يعني تصديقه لمن أخبره فيما يقول ، أو أنّه ملتزمٌ بما رواه ، بل غاية الأمر هو نقل قوله دون القبول أو الجرح وهذا جانب آخر ، والبحث فيه له مجال ثان ، فهو من قبيل قول اللّه‏ سبحانه ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه‏ِ ).

وكذا الحال بالنسبة إلى اعتماد المراسيل ؛ فإن أُريد العمل بها فتلك وظيفة الفقيه لا المحدّث ، وان أُريد نقله للرواية دون إسناد فهذا قد فعله الكثير من المحدّثين في مجاميعهم الحديثية ، ولا يعتبر ذلك جرحا لهم حسب قواعد الصناعة المتعارفة عند المحدّثين.

وبذلك نخلص من مجموع ما قلناه : أنّ القميّين من جهة ابتعادهم عما يجري في العراق والحركة العقلية فيها رسموا لانفسهم معايير علمية للتعامل مع الرواية والراوي ، وقد تكون بعض تلك الضوابط شديدة لا يومن بها غيرهم ، كما فعلوه بالبرقي لمجرّد روايته عن الضعفاء ، وهذا الموقف مخالفٌ في المبدأ لطريقة كلّ علماء الحديث في أُمة الإسلام ؛ فالحديثُ الضعيف لا يسوغ تركه لمجرّد ضعفه عند علماء الأُمة ، لاحتمال اعتباره بشاهد مثله يرفعه إلى درجة الحجّية ، وهذه النقطة كسابقتها تشكّكنا بحكم القميّين على الرواية والراوي ، كما أنّهما ناهضتان للتشكيك بسلامة حكم الشيخ الصدوق رحمه‌الله على أخبار الشهادة الثالثة بالوضع ، وبهذا فقد يمكن أن يكون ذلك تسرعا أو تشددا منه. غير متناسـين ما قلناه عن تشدد القميين بأ نّه كان لغلق الابواب بوجه المغرضين.

وعليه فتشدد القميين أما لابتعادهم جغرافيا عن الحركة العقلية في العراق أو خوفا من استغلال الجاهلين لبعض الحقائق التي لا تدركها افهام عامة الناس.

١٠٧

٣ ـ الغلو عند القميين ، نقل الفضائل أم ترك الضروريات؟

هناك رؤيتان عند الفقهاء والرجاليين ، فالبعض منهم كالوحيد البهبهاني يعتقد بأنّ القمّيّين كانوا يرمون الآخرين بالغلوّ لنقلهم المعاجز والكرامات العالية للأئمّة بحيث ينتزع من بعضها رائحة الغلوّ ، في حين لم يكن الأمر كذلك عند السَّبْرِ والتحقيق.

وذهب فريق آخر منهم إلى أنّ معيار الغلوّ عند القميّين هو ترك الفرائض والضروريّات ، كالصلاة والزكاة ، لقول الغلاة أنّ معرفة الإمام تكفي عن العمل ولا داعي للإتيان بالواجبات لو عرفنا الإمام حقَّ معرفته ، ومثّلوا لذلك بما فعله أهل قمّ مع محمّد بن أورمة ، الّذي امتحنوه بالصلاة ، وكذا امتُحِنَ المفضّل بن عمر بالصلاة (١) ، وعنون الكشي جمعا من الغلاة كان من بينهم علي بن عبداللّه‏ بن مروان وقال أنّه سأَلَ العياشيَّ عنهم ، فقال : وأمّا علي بن عبداللّه‏ بن مروان ، فإنّ القوم [ يعني الغلاة ] تُمتَحَنُ في أوقات الصلوات ، ولم أحضره وقت صلاة (٢). وإليك الآن بعض النصوص عن الفريقين.

قال الوحيد البهبهاني في تعليقاته على منهج المقال :

اعلم أنّ الظاهر أنّ كثيرا من القدماء ـ سـيما القمّييّن منهم والغضائري ـ كانوا يعتقدون للأئمّة عليهم‌السلام منزلةً خاصة من الرفعة والجلالة ، ومرتبة معيّنة من العصمة والكمال بحسب اجتهادهم ورأيهم ، وما كانوا يجوّزون التعدّي عنها ، وكانوا يعدّون التعدّي عنها ارتفاعا وغلوّا على حسب معتقدهم ، حتّى أنّهم جعلوا مثل نفي السهو عنهم عليهم‌السلام غلوّا ، بل ربّما جعلوا مطلق التفويض إليهم ـ أو التفويض الذي اختُلف فيه ، أو المبالغة في معجزاتهم ، ونقل العجائب من خوارق العادات

__________________

(١) اكليل المنهج في تحقيق المطلب للكرباسي : ٣٨١ ، وانظر الكشي كذلك.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٨١٣ / الرقم ١٠١٤ ، وانظر قاموس الرجال ١ : ٥١ للتستري.

١٠٨

عنهم ، أو الإغراق في شأنهم وإجلالهم وتنز يههم عن كثير من النقائص ، وإظهار كثير قدرة لهم ، وذكر علمهم بمكنونات السماء والأرض ـ ارتفاعا أو مورثا للتهمة به ، سيّما من جهة أنّ الغلاة كانوا مختفين في الشيعة مخلوطين بهم مُدَلَّسين.

وبالجملة : الظاهر أنّ القدماء كانوا مختلفـين في المسائل الأُصولية أيضا ، فربّما كان شيء عند بعضهم فاسدا أو كفرا أو غلوّا أو تفويضا أو جبرا أو تشبيها أو غير ذلك ، وكان عند آخر ممّا يجب اعتقاده ، أو لا هذا ولا ذاك.

وربّما كان منشأُ جرحهم بالأُمور المذكورة وجدانَ الرواية الظاهرة فيها منهم ـ كما أشرنا آنفا ـ أو ادّعاء أرباب المذاهب كونه منهم ، أو روايتهم عنه. وربما كان المنشأ روايتهم المناكير عنه ، إلى غير ذلك.

فعلى هذا ربّما يحصل التأمّل في جرحهم بأمثال الأُمور المذكورة .. إلى أن يقول رحمه‌الله :

وللتفويض معان ، بعضها لا تأمّل للشيعة في فساده ، وبعضها لا تأمّل لهم في صحّته ، وبعضها ليس من قبيلهما ، والفساد كفرا كان أو لا ، ظاهر الكفر ية أو لا ... ثم ذكر الاقسام السبعة للتفويض (١).

وقال المامقاني في مقباس الهداية عند كلامه عن الفرق الضالّة من الغلاة :

ولكن لا يخفى عليك أنّه قد كثر رمي رجال بالغلو ، وليسوا من الغلاة عند التحقيق ، فينبغي التأمّل للاجتهاد في ذلك ، وعدم المبادرة إلى القدح بمجرّد ذلك ، ولقد أجاد المولى الوحيد حيث قال ـ ثم أتى بمقاطع من كلامه رحمه‌الله ـ ثمّ قال :

فظهر أنّ الرّمي بما يتضمّن عيبا فضلاً عن فساد العقيدة مما لا ينبغي الأخذ به بمجرّده ، بل لا يجوز لما في ذلك من المفاسد الكثيرة العظيمة ، إذ لعلّ الرّامي قد اشتبه في اجتهاده ، أو عوّل على من يراه أهلاً في ذلك ، وكان مخطئا في اعتقاده ،

__________________

(١) راجع تعليقة الوحيد ( منهج المقال ) ١ : ١٣٠ ـ ١٣٢ ، والفوائد الرجالية : ٣٨ ـ ٤٢.

١٠٩

أو وجد في كتابه أخبارا تدلّ على ذلك وهو بريء منه ولا يقول به ، أو ادّعى بعض أهل تلك المذاهب الفاسدة أنّه منهم وهو كاذب ، أو روى أخبارا ربّما تُوهِمُ ـ من كان قاصرا أو ناقصا في الإدراك والعلم ـ أنّ ذلك ارتفاع وغلوُّ وليس كذلك ، أو كان جملة من الاخبار يرو يها ويحدّث بها ويعترف بمضامينها ويصدّق بها من غير تحاش واتّقاء من غيره من أهل زمانه ، بل يتجاهر بها لا تتحمّلها أغلب العقول فلذا رمي (١). هذا خلاصة الرأي الأوّل.

أمّا الراي الثاني فهو القائل بأنّ الغلوَّ عند القميّين هو ترك الضروريّات أو الإفراط فيها ، ولأجله تراهم يهمّون بقتل محمد بن أورمة ، ويأمرون بعدم الأخذ عن سهل بن زياد الآدمي ، إلى غير ذلك ، إذ الهمّ بالقتل وطرد المؤمن ، والأمر بعدم الأخذ عنه ، كلّها من الاُمور الجارحة والّتي يجب أن يكون لها مستند شرعي ، والقمّيّون هم أهل الورع والتُّقى ، وخصوصا مشايخهم كأحمد بن محمد بن عيسى الأشعري رحمه‌الله ، فلا يمكن حمل عملهم إلاّ على عدم اعتقاد الآخر بالضروريات ، لأنّ الافراط في حبّ آل محمد كان متفشّيا عند الشيعة في قمّ وغيرها ، وخصوصا بعد مقتل الإمام الحسين عليه‌السلام حيث ادّعى البعض منهم أنّ الإمام الحسين لم يقتل بل شُبِّه لهم ذلك (٢) وغلت طائفة أُخرى في أخيه محمد ابن الحنفية وقالت فيه أنّه لم يمت بل غاب في جبل رضوى ، وأنّه سيظهر لاحقا (٣).

وقد أكد الإمام زين العابدين لشيعته لزوم رعاية الاعتدال في طرح أفكار كهذه

__________________

(١) مقباس الهداية ٢ : ٣٩٧ ـ ٤٠٢.

(٢) بحار الانوار ٤٤ : ٢٧٠/ ح ١ ، عن علل الشرائع ١ : ٢٢٧ / باب ١٦٢ / ح ١ ، وانظر الاحتجاج ٢ : ٢٨٣.

(٣) وهو قول « الكربية » أصحاب « أبو كرب الضرير » ، وهي فرقة من فرق الكيسانية ، ( الفرق بين الفرق : ٢٧ مقالات الاسلاميين : ١٩ ).

١١٠

فقال عليه‌السلام : يا معشر أهل العراق ، يا معشر أهل الكوفة ، أحبّونا حب الإسلام ولا ترفعونا فوق حقّنا (١).

وفي آخر عنه عليه‌السلام : إنّ قوما من شيعتنا سيحبّونا حتّى يقولوا فينا ما قالت اليهود في عزير ، وما قالت النصارى في عيسى بن مريم ، فلا هم منّا ولا نحن منهم (٢).

وقد تحقّق بالفعل ما تنبّأ به الإمام ، ففشت ظاهرة الغلوّ والكذب على الأئمّة بعد واقعة كربلاء ، فعن الإمام الرضا أنّه قال : كان بيان بن سمعان يكذب على علي بن الحسين ، والمغيرة بن سعيد يكذب على أبي جعفر [ الباقر ] ، ومحمد بن بشير يكذب على أبي الحسن موسى ، وأبو الخطّاب يكذب على أبي عبداللّه‏ [ الصادق ] ، فأذاقهم اللّه‏ حرَّ الحديد ، والذي يكذبُ عَلَيّ محمَّدُ بن فرات (٣).

وروى الكشي بسنده عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس بن عبدالرحمن أنّ بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر ، فقال له : يا أبا محمد ما أشدَّكَ في الحديث وأكثر إنكارك لما يرو يه أصحابنا ، فما الّذي يحملك على ردِّ الأحاديث؟

فقال : حدّثني هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبداللّه‏ عليه‌السلام يقول : لا تقبلوا علينا حديثا إلاّ ما وافق القرآن والسنة ، أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدِّمة ، فإنّ المغيرة بن سعيد لعنه اللّه‏ دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي ، فاتّقوا اللّه‏ ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّا إذا حدّثنا ، قلنا : قال اللّه‏ عزّ وجلّ ، وقال رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال يونس : وافيتُ العراقَ فوجدتُ بها قطعةً من أصحاب أبي جعفر عليه‌السلام ، ووجدتُ أصحابَ أبي عبداللّه‏ متوافر ين ، فسمعت منهم وأخذت كتبهم ،

__________________

(١) حلية الاولياء ٣ : ١٣٧ ، عن خلف بن حوشب ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٩٦ / ح ٤٨٢٥ ، عن يحيى بن سعيد باختلاف يسير.

(٢) رجال الكشي ١ : ٣٣٦ / الرقم ١٩١.

(٣) رجال الكشي ٢ : ٥٩١ / الرقم ٥٤٤ ، مسند الإمام الرضا عليه‌السلام ٢ : ٤٤٦ / ح ٤٢.

١١١

فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا ، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام ، وقال لي : إنّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبداللّه‏ ، لعن اللّه‏ أبا الخطاب ، وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسّون هذه الاحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبداللّه‏ ، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنّا إن تحدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة ، إنّا عن اللّه‏ ورسوله نحدِّث ، ولا نقول قال فلان وفلان فيتناقض كلامنا ، إنّ كلام آخرنا مثل كلام أوّلنا ، وكلام أوّلنا مصدِّقٌ لكلام آخرنا ، فإذا أتاكم من يحدّثكم بخلاف ذلك فردُّوه عليه ، وقولوا : أنت اعلم وما جئت به! فإنّ مع كلِّ قولٍ منّا حقيقة وعليه نورا ، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان (١).

بلى حقّ للقميّين أن يخافوا على الشريعة ، وأن يحتاطوا في الدين ، وأن لا يأخذوا إلاّ ممّن يثقون به ، لكنّ ما يتجاوز عن حدّه ينقلب إلى ضده ، فنحن لا ننكر بأنّ المغيرة بن سعيد ، وبيان بن سمعان ، وأبا الخطّاب ، وامثالهم ، قد دسّوا أخبارا في روايات الأئمّة ، والأئمّة كانوا لا يرتضون ما يرو يه هؤلاء وأمثالهم.

لكنّ هذا لا يجيز لهم طعنهم في يونس بن عبدالرحمن ـ راوي الخبر الآنف الذكر وأمثاله ـ والذي قال عنه الرضا عليه‌السلام : يونس في زمانه كسلمان الفارسي في زمانه (٢) ، وهو الذي ضمن له عليه‌السلام الجنة ثلاث مرات (٣).

قال أبو جعفر الجعفري : ادخلت كتاب يوم وليلة الذي ألّفه يونس بن عبدالرحمن على أبي الحسن العسكري فنظر فيه وتصفّحه كلّه ، ثم قال : هذا ديني ودين آبائي ، وهو الحقّ كله (٤) ، وعن أبي جعفر عليه‌السلام مثله (٥).

__________________

(١) رجال الكشي ٢ : ٤٨٩ / الرقم ٤٠١ ، وعنه في بحار الانوار ٢ : ٢٤٩ / الرقم ٦٢.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٧٨١ / الرقم ٩١٩ ، ٢ : ٧٨٢ / الرقم ٩٢٦.

(٣) رجال الكشي ٢ : ٧٧٩ / الرقم ٩١١.

(٤) رجال الكشي ٢ : ٧٨٠ / الرقم ٩١٥.

(٥) رجال الكشي ٢:٧٨٠ / الرقم ٩١٦ ، وانظر ٩١٣ ، عن أحمد بن أبي خلف قريبا منه.

١١٢

وقد عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الكاظم قائلاً : من أصحاب أبي الحسن موسى ، مولى علي بن يقطين ، طعن عليه القميّون ، وهو عندي ثقة (٦).

وعنون له في الفهرست قائلاً : مولى آل يقطين ـ إلى أن قال ـ وقال أبو جعفر بن بابويه [ محمد بن علي بن الحسين ] : سمعت محمد بن الحسن بن الوليد رحمه‌الله يقول : كُتب يونس بن عبدالرحمن التي هي بالروايات ، كلها صحيحة يعتمد عليها ، إلاّ ما يتفرّد به محمد بن عيسى بن عبيد (٧) عن يونس ولم يروه غيره ، فإنّه لا يُعتَمدُ عليه ولا يُفتَى به (٨).

قال أبو عمرو الكشي : فلينظر الناظر فيتعجب من هذه الأخبار التي رواها القميّون في يونس ، وليعلم أنّها لا تصحّ في العقل ، وذلك أنّ أحمد بن محمد بن عيسى ، وعلي بن حديد ، قد ذكر الفضل من رجوعهما عن الوقيعة في يونس ، ولعلّ هذه الروايات كانت من أحمد قبل رجوعه ، ومن علي مداراةً لأصحابه ، فأمّا يونس بن بهمن : فمِمَّن كان أخذ عن يونس بن عبدالرحمن أن يُظهر له مثلبة فيحكيها عنه ، والعقل ينفي مثل هذا ، إذ ليس في طباع النّاس إظهار مساو يهم بألسنتهم على نفوسهم ، وأمّا حديث الحجّال الذي رواه أحمد بن محمد فإنّ أبا الحسن عليه‌السلام أجلّ خطرا وأعظم قدرا من أن يسبّ أَحدا صراحا ، وكذلك آباؤه عليهم‌السلام من قبله وولده من بعده ، لأنّ الرواية عنهم بخلاف هذا ، إذ كانوا قد نهوا عن مثله ، وحثّوا على غيره ممّا فيه الزين للدين والدنيا (٩).

هذا ، وقد حدّث محمد بن عيسى بن عبيد عن أخيه جعفر بن عيسى ما كان

__________________

(٦) رجال الشيخ : ٣٦٨ / الرقم ٥٤٧٨.

(٧) تكلمنا سابقا بعض الشيء عن العبيدي ، وهو راوي الخبر الانف عن يونس فتأمل.

(٨) الفهرست : ٢٦٦ / الرقم ٨١٣.

(٩) رجال الكشي ٢ : ٧٨٨ / الرقم ٩٥٤.

١١٣

يلاقيه يونس من الناس آنذاك ، فقال جعفر بن عيسى : كُنا عند أبي الحسن الرضا عليه‌السلام وعنده يونس بن عبدالرحمن إذ استاذن عليه قوم من أهل البصرة ، فأومئ أبو الحسن [ الرضا ] إلى يونس : ادخل البيت ـ فإذا بيت مسبل عليه ستر ـ وإيّاك أن تتحرّك حتّى يؤذنَ لك ، فدخل البصريّون وأكثروا من الوقيعة والقول في يونس ، وأبو الحسن مطرق ، حتّى إذا اكثروا وقاموا فودّعوا وخرجوا : أذن ليونس بالخروج ، فخرج باكيا فقال : جعلني اللّه‏ فداك ، أنا أحامي عن هذه المقالة وهذه حالي عند أصحابي!! فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : يا يونس ، وما عليك ممّا يقولون إذا كان إمامك عنك راضيا ، يا يونس حدّث الناس بما يعرفون ، واتركهم ممّا لا يعرفون ، كأ نّك تريد أن تكذب على اللّه‏ في عرشه.

يا يونس وما عليك أن لو كان في يدك اليمنى درّة ثمّ قال الناس : بعرة ، أو بعرة فقال الناس : درة ، هل ينفعك ذلك شيئا؟

فقلت : لا.

فقال : هكذا أنت يا يونس ، إذا كنت على الصواب وكان إمامك عنك راضيا لم يضرك ما قال الناس (١).

وعن أبي جعفر البصري ـ وكان ثقةً فاضلاً صالحا ـ قال : دخلت مع يونس بن عبدالرحمن على الرضا فشكى إليه ما يلقي من أصحابه من الوقيعة؟

فقال الرضا عليه‌السلام : دارِهِمْ فإنّ عقولهم لا تبلغ (٢).

وعن الفضل بن شاذان ، قال : حدّثني عبدالعزيز بن المهتدي ـ وكان خيرَ قمّيٍّ رأيته ، وكان وكيل الرضا عليه‌السلام وخاصته ـ فقال : إنِّي سألته عليه‌السلام فقلت : إنِّي لا أقدر على لقائك في كلّ وقت ، فعن من آخذ معالم ديني؟ فقال : خذ من يونس بن

__________________

(١) رجال الكشي ٢ : ٧٨١ / الرقم ٩٢٤.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٧٨٣ / الرقم ٩٢٩.

١١٤

عبدالرحمن (١).

وهذه منزلةٌ عظيمة ليونس ، ونحوه عند الكشّيّ عن الحسن بن علي بن يقطين (٢).

فمن كان هذا حاله ، فهل من مُبَرِّر للتوقف فيما يرويه ، بدعوى ما يتفرد به محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس وأنّه غير صحيح؟! في حين عرفت حال محمد بن عيسى واعتباره عند الإمامين الهادي والعسكري ، وعرفت ما جاء من أخبار في يونس بن عبدالرحمن وأنّ ما عنده هو الحقِّ كلّه.

كان غرضنا من سرد هذه الأخبار التنبيه على حقيقة أنّ كثيرا من الشيعة قد لا تبلغ عقولهم مقاصد الأئمة عليهم‌السلام المطوية في أحاديثهم الشريفة ، ومن هنا يسهل للبعض رمي الآخرين بالغلوّ.

وقد يمكننا مرة أخرى تبرير تشدد علماء قم بالقول : إنهم كانوا يخافون على عقول بعض الشيعة من تلك الأخبار الصحيحة التي لا تدركها عقولهم ، وعلى سبيل المثال فإنّ بعض الطعون في محمد بن سنان قد قيلت في حقه من قبل القدماء ـ لا بسبب ضعفه ـ بل لأ نّه لم يلتزم بهذه القاعدة ؛ ويروي عن المعصومين أخبارا صحيحة صعبة ادراكها من بعض الشيعة وهذا منهي عنه في الشرع حسبما تقدم.

وبالجملة : فيمكن تبرير تشدد القميين هو خوفهم على عقول بعض الشيعة ، وان هذا كان أحد أسباب تشددهم علاوة على الأسباب الأخرى التي ذكرناها والظروف القاهرة التي كانوا يعيشون فيها ، وهذا التشدد قد أفرز افراطا سلبيا في الحكم على الرواية والرواة.

__________________

(١) رجال الكشي ٢ : ٧٧٩ / الرقم ٩١٠.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٧٨٤ / الرقم ٩٣٥ ، معجم رجال الحديث ٢١ : ٢٠٩.

١١٥

نماذج اخرى من تشدّد القمّيين :

والآن لنرجع تارة أُخرى إلى جروح القميّين وحال بعض من اتّهموا بالغلو ، لنرى هل حقّا أنَّ من اتُّهم بالغلوِّ هو غالٍ ، أم أنَّ ذلك قد ابتنى على مقدِّمات غير صحيحة.

قال ابن الغضائري : محمّد بن أورمة ، أبو جعفر القمّي ، اتَّهمه القميّون بالغلوّ وحديُثُه نقيُّ لا فساد فيه ، ولم أر شيئا ينسب إليه ، تضطرب في النفس إلاّ أوراقا في تفسير الباطن ، وما يليق بحديثه ، وأظنها موضوعة عليه ، ورأيت كتابا خرج من أبي الحسن علي بن محمد [ الهادي ] إلى القميين في براءته ممّا قذف به [ وحسن عقيدته ، وقرب ] منزلته ، وقد حدّثني الحسن بن محمد بن بندار القمّي ، قال : سمعت مشايخي يقولون : إنّ محمّد بن أورمة لمّا طعن عليه بالغلوّ [ اتّفقت [ الاشاعرة ليقتلوه ، فوجدوه يصلّي اللّيل من أوّله إلى آخره ليالي عديدة فتوقفوا عن اعتقادهم (١).

وقال النجاشي : محمد بن أورمة ، أبو جعفر القمي ، ذكره القميّون وغمزوا عليه ورموه بالغلوّ حتّى دُسَّ عليه من يفتك به ، فوجده يصلي من أوّل اللّيل إلى آخره ، فتوقفوا عنه ، وحكى جماعة من شيوخ القميّين عن ابن الوليد أنّه قال : محمد بن أورمة طعن عليه بالغلوّ ، وكلّ ما كان في كتبه مما وجد في كتب الحسين بن سعيد وغيره فَقُلْ بِهِ ، وما تفرّد به فلا تعتمده ، وقال بعض أصحابنا : أنّه رأى توقيعا من أبي الحسن الثالث إلى أهل قمّ في معنى محمد بن أورمة وبراءته ممّا قذف به ، وكتبه صحاح إلاّ كتابا ينسـب إليه ترجمته تفسير الباطن فإنّه مخلّط ... (٢).

وقال الشيخ في الفهرست : ... قال محمد بن علي بن الحسين [ بن بابويه ] : محمد بن أورمة طعن عليه بالغلوّ ، فكلّ ما كان في كتبه ممّا يوجد في كتب

__________________

(١) رجال ابن الغضائري : ٩٣ / ت ١٣٣ ، وانظر مجمع الرجال ٥ : ١٦٠.

(٢) فهرست مصنفات اصحابنا المعروف برجال النجاشي : ٣٢٩ / الترجمة ٨٩١.

١١٦

الحسين بن سعيد وغيره فإنّه يعتمد عليه ويُفتى به ، وكلّ ما تفرّد به لم يجز العمل عليه ولا يعتمد (١).

فتأمّل في كلام القميّين فإنّهم كانوا يخافون أن يكون ابن أورمة من الغلاة الباطنية الذين يعتقدون ان الصلاة والزكاة والحج وصوم رمضان ، كلُّ منها إنّما هو رجل ، بل كلّ فريضة فرضها اللّه‏ تبارك وتعالى على عباده هو رجل ، وقد أشار الإمام الصادق عليه‌السلام إلى تلك الأفكار الباطلة في جواب كتابٍ للمفضل بن عمر ، فقال معترضاً : « وأن من عرف ذلك الرجل فقد اكتفى بعلمه من غير عمل ... وأنّهم ذكروا أنّ من عرف هذابعينه وثبت في قلبه جاز له أن يتهاون ، فليس عليه أن يجتهد في العمل ، وزعموا أنّهم إذا عرفوا ذلك الرجل فقد قبلت منهم هذه الحدود لوقتها وإن هم لم يعملوا بها ... ، فأُخبرك أنّه من كان يدين اللّه‏ بهذه الصفة التي كَتَـبْتَ تسألُني عنها فهو عندي مشرك باللّه‏ بيّن الشرك ، لا شك فيه (٢).

بلى أنّ هناك روايات تشير إلى أنّ الأعمال متوقفة على الاعتقاد بإمامة الأئمة ، وأنّ الصلاة والصوم والحج لا تقبل إلاّ بولايتهم ، لكن هذا لا يعني أنّهم لو تولوا الأئمّة لسقطت عنهم الصلاة والصيام والحج ، فالولاية هو شرط قبول الأعمال لا سقوط الأحكام ، ومن خلاله يتضح الفرق بين الشيعي والمغالي.

فلو كان الغلوّ عندهم بهذا المعنى فلا اختلاف بين المسلمين في أنّه كفر ، قال المجلسي الأوّل : واعلم أنّ الظاهر أنّ ابن عيسى أخرج جماعة من قُمّ باعتبار روايتهم عن الضعفاء وإيراد المراسيل في كتبهم ، وكان اجتهادا منه في ذلك ، وكان الجماعة يروون للتأييد (٣) ، ولكنّها في الكتب المعتبرة ، والظاهر خطأ ابن

__________________

(١) الفهرست : ٢٠٢ / الترجمة ٦٢٠.

(٢) بصائر الدرجات : ٥٤٦ / ح ١. وانظر دعائم الإسلام ١ : ٤٥ ـ ٥٦ / باب ذكر منازل الأئمّة ، وعنه في مستدرك الوسائل ١ : ١٣٨.

(٣) أي من باب المتابعات والشواهد لما ورد أولاً ، وهي طريقة مشهورة لدى المحدثين ، واستخدمها المحمّدون الثلاثة كثيرا.

١١٧

عيسى في اجتهاده ، ولكن لمَا كان رئيسَ قمّ والناسُ مع المشهورين إلاّ من عصمه اللّه‏ ... إلى آخر كلامه رحمه‌الله (١).

وعليه : فابن أورمة ومن على شاكلته من المؤمنين كانوا من المتعبّدين المتهجّدين الّذين يصلّون صلاة الليل ، فكيف يمكن أن يتصوّر بأنّ هؤلاء كانوا تاركين للفرائض ، وليس لنا إلاّ ان نقول بأن الأمر قد يرجع إلى اختلافهم مع الاخرين في معنى الايمان إذ يعتقد بعض المسلمين بأن الاعمال العبادية هي من لوازم الايمان لا أنه الايمان بعينه وقال بعض آخر من محدثي ومتكلمي المسلمين أنّه الإيمان بعينه ، وهذا يرشدنا إلى وجود اختلاف بين المدارس الإسلامية في ان الايمان هل هو اعتقاد في الجنان ، واقرار باللسان وعمل بالاركان ، أم أن العمل بالاركان ، هو من لوازمه لا من ماهيته؟ ولهذا ترى اختلاف في ذلك بين الشيخ المفيد وبنو نوبخت في هذه المسألة (٢). وقد قال الصدوق رحمه‌الله ـ فيما املاه في دين الإمامية بالايجاز والاختصار ـ : بالقول الاول إذ قال : « والاقرار بالإسلام هو الاقرار بالشهادتين ، والإيمان هو اقرار باللسان وعقد بالقلب وعمل بالجوارح ولا يكون الإيمان إلاّ هكذا » (٣).

فقد يحتمل أن يكون أمثال ابن أورمة من المعتقدين بأن الاعمال ليست من أصل الإيمان بل من لوازمه ـ خلافا لامثال الصدوق ـ وبذلك يكون تاخير الصلاة عن وقت فضيلته ، أو عدم اتيانه بالصلاة لا يعني انكاره لضروري من ضروريات الدين ، بحيث يوجب قتله. وهذا يعني بأنّ القميّين ـ أو بعضهم ـ كانوا يتسرّعون في إطلاق الأحكام بمجرّد ورود التهمة على شخص ، بأنه لا يصلي ، هذا ولا يخفى عليك بأن ابن اورمة اتهم بالغلوّ لِما نسب إليه من أوراق في تفسير الباطن

__________________

(١) روضة المتقين ١٤ : ٢٦٢ ، باختلاف يسير.

(٢) انظر اوائل المقالات ، للشيخ المفيد المطبوع ضمن « مصنفات الشيخ المفيد ٤ : ٨٣ ـ ٨٤ ».

(٣) امالي الصدوق : ٥١٠ / المجلس الثالث والتسعون.

١١٨

والتي لا تليق بحديثه وحسب تعبير ابن الغضائري : ( واظنها موضوعة عليه )!!

ومثل هذا تراه في سهل بن زياد الآدمي ، فقد أخرجه أحمد بن محمد بن عيسى من قمّ ، وأظهر البراءة منه ، ونهى عن السماع منه والرواية عنه ؛ لأ نّه يروي المراسيل ويعتمد المجاهيل (١).

وقال النجاشي والشيخ في ترجمة محمد بن أحمد بن يحيى : واستثنى ابن الوليد من روايات محمد بن أحمد بن يحيى في جملة ما استثناه عن سهل بن زياد الآدمي ، وتبعه على ذلك الصدوق وابن نوح ، فلم يعتمدوا على رواية محمد بن أحمد بن يحيى عن سهل بن زياد (٢).

وهذا التجريح آتٍ إمّا من غلوّه أو من روايته المراسيل واعتماده المجاهيل.

فأمّا نسبة الغلوّ فلا تخرج من احتمالين ، أحدهما روايته أخبارا غالية في الأئمّة ، وهذا ما لم نقف عليه في المعاجم الحديثيّة التي بين أيدينا اليوم ، أو لروايته أخبارا تدعو إلى إنكار الفرائض ، وكلاهما منقوض بالسيرة العلمية والعملية القطعية لسهل بن زياد ، لأن سهلاً كان يعلّم الاحكام الشرعية للمؤمنين فضلاً عن العمل بها.

وإذا راجعت الكافي والتهذيب تجد لسهل من أوّل كتاب الطهارة إلى كتاب الديات في أكثر الأبواب خبرا أو أزيد فيما يتعلّق بأحكام الدين ، أكثرها سديدة مقبولة ، وأخذها المشايخ عنه وضبطوها في الجوامع مثل الكافي الذي ذكر في أوله ما ذكر [ أنّ الآثار التي فيه صحيحة عن الصادقين (٣)] ، ومع ذلك كله كيف يجوز نسبة الغلو إليه (٤).

__________________

(١) انظر ذلك في رجال العلاّمة : ٢٢٩.

(٢) فهرست مصنفات اصحابنا المعروف برجال النجاشي : ٣٤٨ / الترجمة ٩٣٩.

(٣) مقدمة الكافي ١ : ٧.

(٤) خاتمة مستدرك الوسائل ٥ : ٢٤٥.

١١٩

قال النجاشي عن سهل بن زياد : كان ضعيفا في الحديث غير معتمد فيه ، وكان أحمد بن محمد بن عيسى يشهد عليه بالغلوّ والكذب وأخرجه من قمّ إلى الريّ وكان يسكنها ، وقد كاتب أبا محمد العسكري على يد محمد بن عبدالحميد العطار للنصف من شهر ربيع الأوّل سنة خمس وخمسين ومائتين ، ذكر ذلك أحمد بن علي بن نوح وأحمد بن الحسن رحمهما اللّه‏ ، له كتاب التوحيد ، رواه أبو الحسن .... (١).

وروى الصدوق في كتاب التوحيد عن أحمد بن محمد بن يحيى العطار رحمه‌الله ، عن أبيه ، عن سهل بن زياد ، قال : كتبت إلى أبي محمد عليه‌السلام سنة خمس وخمسين ومائتين : قد اختلف يا سيدي أصحابنا في التوحيد ، فمنهم من يقول هو جسم ، ومنهم من يقول صورة ، فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه فعلت متطولاً على عبدك ، فوقع عليه‌السلام بخطّه : سألتَ عن التوحيد ، وهذا عنكم معزول ، اللّه‏ تعالى واحد ، صمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، خالق وليس بمخلوق ، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك ، ويصوَّر ما يشاء ، وليس بمصوَّرٍ ، جل ثناؤه وتقدّست أسماؤه وتعالى عن أن يكون له شبيه ، هو لا غيره ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (٢).

نحن لا نريد أن ندرس هذه الشخصيات بقدر ما نريد أن ندرس مواقف القميين منهم ، فقد ضعّف سهل بن زياد عند النجاشي وابن الغضائري ، وهو أحد قولي الشيخ والمفيد ، لكنّ الآخرين وثّقوه كالسيّد بحر العلوم ، حيث قال : والأصح توثيقه وفاقا لجماعة من المحقّقين ، لنص الشيخ على ذلك في كتاب الرجال [ في باب أصحاب الهادي عليه‌السلام ] ولاعتماد أجلاّء أصحاب الحديث

__________________

(١) فهرست مصنفات اصحابنا المعروف برجال النجاشي : ١٨٥ / الترجمة ٤٩٠.

(٢) التوحيد ، للصدوق : ١٠١ / ح ١٤.

١٢٠