مستمسك العروة الوثقى - ج ١٠

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٨٦

القاعدة : الصحة ، وإن كان عاصياً في ترك ما وجب عليه ، كما في مسألة الصلاة مع فورية وجوب إزالة النجاسة عن المسجد إذ لا وجه للبطلان الا دعوى : أن الأمر بالشي‌ء نهي عن ضده [١]. وهي محل منع. وعلى تقديره لا يقتضي البطلان ، لأنه نهى تبعي [٢]. ودعوى : أنه يكفي في عدم الصحة عدم الأمر [٣]. مدفوعة : بكفاية المحبوبية في حد نفسه في الصحة [٤] ،

______________________________________________________

[١] هذه الدعوى اعتمد عليها في كشف اللثام.

[٢] كأن المراد بالتبعي في المقام الغيري. لكن التحقيق : أن النهي الغيري موجب للثواب والعقاب كالنهي النفسي ، وإنما يختلفان في أن النهي النفسي يقتضيهما من حيث هو ، والنهي الغيري يقتضيهما من حيث كونه من رشحات النهي النفسي وشراشره. ففعل مقدمة الواجب انقياد وتركها تجرؤ ، وفعل مقدمة الحرام تجرؤ ، تركها انقياد. فالسفر لقتل المؤمن معصية ، والسفر للحج طاعة ، والأول موجب لاستحقاق العقاب ، والثاني موجب لاستحقاق الثواب. وإذا كان موجباً لاستحقاق العقاب كان مبعداً ، فيمتنع أن يكون مقرباً ، فلا يصح إذا كان عبادة.

[٣] هذه الدعوى محكية عن الشيخ البهائي (ره) ، وحاصلها : أن الأمر بالشي‌ء وإن لم يقتض النهي عن ضده ، لكن يمنع عن الأمر بضده لامتناع الأمر بالضدين. لان اجتماع الضدين إذا كان محالا كان الأمر بهما أمراً بالمحال ، وهو محال ، وإذا امتنع الأمر بالضد الآخر امتنع التقرب به لأن التقرب إنما يكون بالفعل بداعي الأمر ، فمع عدم الأمر يمتنع التقرب.

[٤] يعني : يكفي في التقرب الفعل بداعي المحبوبية. بل التحقيق : جواز تعلق الأمر بالضدين إذا كان على نحو الترتب ، كما تعرضنا لذلك في مبحث أحكام النجاسات ، من كتاب الطهارة من هذا الشرح. فراجع.

٢٨١

كما في مسألة ترك الأهم والإتيان بغير الأهم من الواجبين المتزاحمين. أو دعوى : أن الزمان مختص بحجته عن نفسه ، فلا يقبل لغيره [١]. وهي ـ أيضاً ـ مدفوعة بالمنع ، إذ مجرد الفورية لا يوجب الاختصاص ، فليس المقام من قبيل شهر رمضان حيث أنه غير قابل لصوم آخر. وربما يتمسك للبطلان في المقام‌ بخبر سعد بن أبي خلف عن أبي الحسن موسى (ع) : « عن الرجل الصرورة يحج عن الميت؟ قال (ع) : نعم ،

______________________________________________________

وفي حاشية بعض الأعاظم (ره) على المقام قال : « لا سبيل إلى هذه الدعوى فيما اعتبرت القدرة فيه شرطاً شرعياً ، كالحج ونحوه ». وكأنه يريد : أن القدرة إذا كانت شرطاً للوجوب فانتفاؤها ـ كما يوجب انتفاء الوجوب ـ يوجب انتفاء المحبوبية. ولا يخلو ما ذكره من غموض ، لأن القدرة إنما اعتبرت شرطاً شرعياً في حج الإسلام لا في التطوع لمن عليه حج الإسلام ، فإن التطوع منه لا تعتبر في مشروعيته القدرة. وكذا في الحج عن غيره وإن كان حج الإسلام ، لأن حج الإسلام الثابت للمنوب عنه إنما يعتبر في مشروعيته قدرته لا قدرة النائب ، لأن النائب يتقرب بأمر المنوب عنه لا بأمر نفسه. ومن ذلك تعرف أن هذه الدعوى ـ المحكية عن البهائي ـ لا مجال لها في المقام بالنسبة إلى الحج عن الغير ـ تبرعاً أو بالإجارة ـ لأن النائب إنما يتقرب بأمر المنوب عنه ، وهو لا ينافي الأمر المتوجه إلى النائب بحج الإسلام.

[١] هذه الدعوى لم أقف على من ادعاها ، ولكن ذكرها في الجواهر وجهاً للمشهور ، وأنكرها بقوله : « فان التحقيق عدم اقتضاء الفورية أصل التوقيت ، فضلا عن التوقيت على هذا الوجه ».

٢٨٢

إذا لم يجد الصرورة ما يحج به عن نفسه. فان كان له ما يحج به عن نفسه فليس يجزي عنه حتى يحج من ماله ، وهي تجزي عن الميت إن كان للصرورة مال وإن لم يكن له مال » [١]. وقريب منه : صحيح سعيد الأعرج عن أبي عبد الله (ع) [٢]. وهما ـ كما ترى ـ بالدلالة على الصحة أولى [٣] ،

______________________________________________________

[١] هذا الخبر صحيح رواه الكليني عن عدة من أصحابنا. عن أحمد ابن محمد ، عن سعد‌ (١).

[٢] رواه الصدوق بإسناده عن سعيد بن عبد الله الأعرج : « أنه سأل أبا عبد الله (ع) عن الصرورة أيحج عن الميت؟ فقال (ع) : نعم ، إذا لم يجد الصرورة ما يحج به. فان كان له مال فليس له ذلك حتى يحج من ماله ، وهو يجزي عن الميت كان له مال أو لم يكن له مال » (٢).

[٣] لأن الظاهر من‌ قوله (ع) في الصحيح الأول : « فليس يجزي عنه » ‌أنه لو حج عن الميت لم يجز عن نفسه ، لا أنه لا يجزي عن الميت. فالضمير في : « عنه » ‌راجع إلى الرجل لا إلى الميت ، ولا سيما بقرينة ذكر الميت ظاهراً بعد ذلك. وحينئذ فظهور‌ قوله (ع) : « وهي تجزي عن الميت » ‌في أن حجته عن الميت تجزي عن الميت محكم. مع أنه لو حمل ضمير : « عنه » ‌على الميت كان منافياً‌ لقوله (ع) : « وهي تجزي عن الميت ». إلا أن يحمل الثاني على صورة ما إذا حج عن الميت بعد أن حج من ماله ، فيكون المراد أنه ليس يجزي عن الميت حتى يحج من ماله ، فاذا حج من ماله ثمَّ حج عن الميت تجزي عن الميت ، سواء أكان له حينئذ مال أم لم يكن. لكن هذا المعنى بعيد عن العبارة المذكورة.

__________________

(١) الوسائل باب : ٥ من أبواب النيابة في الحج حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٥ من أبواب النيابة في الحج حديث : ٣.

٢٨٣

______________________________________________________

وبالجملة : هيئة التركيب تقتضي أن تكون الضمائر في قوله (ع) : « عن نفسه » ‌ـ في الموضعين ـ وقوله : « له » ‌، وقوله (ع) : « يجزي عنه » ‌، وقوله : « من ماله » ‌كلها راجعة إلى مرجع واحد ، وهو الصرورة ، والتفكيك ـ بإرجاع بعضها إلى الصرورة وبعضها إلى الميت ـ بعيد عن السياق.كما أن هيئة التركيب أيضاً تقتضي أن يكون الضمير في قوله (ع) : « وهي » ‌راجعاً الى حجة الصرورة عن الميت المذكور في السؤال.

هذا ما يرجع الى صحيح سعد‌. وأما صحيح سعيد‌ ، فالظاهر من قوله (ع) فيه : « فليس له ذلك » ‌: أنه ليس له أن يحج عن غيره تكليفاً ، لا أنه باطل ، بقرينة : « وهو يجزي عن الميت .. ». وحمله على الوضع ـ يعني : أنه لا يصح الحج عن الميت حتى يحج من ماله ، وبعد ذلك إذا حج عن الميت يجزي عن الميت ، سواء أكان له مال أم لم يكن ـ بعيد جداً. بل هو أبعد من حمل الصحيح السابق على هذا المعنى ، فالاستدلال به على المشهور أولى بالإشكال من الاستدلال بالصحيح السابق. ومن العجيب ما ذكره في الجواهر في رد المدارك ـ في حمل : « وهو يجزي » ‌على إرادة بيان إجزاء حج الصرورة عن غيره مطلقاً ـ بقوله : « وفيه : أنه خلاف ظاهر قوله (ع) : « لا يجزي عنه » ‌، وخلاف قاعدة اقتضاء النهي الفساد. بل هو عند التأمل تفكيك في الخبر يقطع بعدم إرادته .. ».

وربما يستدل للمشهور : بأن اللام في قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ .. ) (١). لما كانت ظاهرة في الملك ، كانت الآية دالة على كون الحج مملوكا لله تعالى ، وحينئذ لا يجوز التصرف فيه بنحو لا يكون مأذوناً فيه من قبل الله تعالى ، فاذا حج عن غيره أو عن نفسه تطوعاً كان تصرفاً فيه بغير إذنه تعالى ، فيكون باطلا. فان قلت : إذا كانت الآية‌

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

٢٨٤

______________________________________________________

الشريفة دالة على الملكية لم تدل على الوجوب ، وحينئذ لا يكون واجباً ، فلا وجه للإتيان به بقصد الوجوب. قلت : يمكن استفادة وجوبه من دليل آخر غير الآية ، مثل : ما دل على أنه إحدى دعائم الإسلام الخمس‌ (١) فيتعين الإتيان به بقصد الوجوب. فان قلت : يلزم حينئذ الإتيان بقصد أداء المملوك ، كما في وفاء الدين. قلت : إنما يلزم الإتيان بقصد وفاء الدين ـ في صدق أداء الدين ـ من جهة أن أداء المملوك يمكن أن يكون على وجه آخر ، وهذا المعنى لا يتأتى في الحج. لأن حج الإسلام لا يكون إلا مملوكاً ، فقصد حج الإسلام كاف في كونه أداء للمملوك.

نعم يمكن الخدش في هذا الاستدلال : بأنه إنما يترتب عليه حرمة التصرف بالإتيان به على غير الوجه الخاص لو كان الملك للمنفعة الخاصة كما في الأجير الخاص. أما لو كان المملوك ما في الذمة ـ كما لو استأجره على عمل في ذمته ـ لم يكن مانع من الفعل لغير المستأجر ، لأن الفعل الخارجي لا ينطبق عليه ما في الذمة إلا بالقصد ، فاذا لم يقصده لم ينطبق ما في الذمة عليه ولا يتحد معه كي يحرم التصرف فيه. نظير : ما لو استأجره على صوم يوم بعينه عن زيد فصام ذلك اليوم عن عمرو ، لم يكن مانع من صحة الصوم. وكذا لو نذر أن يصوم يوماً معيناً ، فان النذر وإن كان يستوجب كون المنذور مملوكاً لله تعالى لكن لما كان المملوك في الذمة لا في الخارج لم يكن مانع من صحة صوم ذلك اليوم إذا جاء به على غير وجه النذر.

وأما ما ورد في صحيح الحلبي وغيره ، الواردين فيمن عجز عن الحج وهو مستطيع ، المتضمنين الأمر باستنابة الصرورة الذي لا مال له ، الدالين على عدم جواز استنابة الصرورة إذا كان له ماله (٢) ـ وهو محل الكلام ـ

__________________

(١) تقدم في الصفحة الاولى من الكتاب الإشارة إلى مصدره.

(٢) راجع أول مسألة : ٧٢ من هذا الفصل.

٢٨٥

فإن غاية ما يدلان عليه : أنه لا يجوز له ترك حج نفسه وإتيانه عن غيره ، وأما عدم الصحة فلا. نعم يستفاد منهما عدم إجزائه عن نفسه ، فتردد صاحب المدارك في محله. بل لا يبعد الفتوى بالصحة ، لكن لا يترك الاحتياط. هذا كله لو تمكن من حج نفسه ، وأما إذا لم يتمكن فلا إشكال في الجواز والصحة عن غيره [١]. بل لا ينبغي الإشكال في الصحة إذا كان لا يعلم بوجوب الحج عليه [٢] ، لعدم علمه باستطاعته مالاً.

______________________________________________________

فقد عرفت سابقاً عدم العمل بهما ، وتعين طرحهما ، أو حملهما على الاستحباب. فراجع المسألة الثانية والسبعين.

[١] قال في الدروس : « ويشترط الخلو من حج واجب على النائب إلا أن يعجز عن الوصلة اليه .. ». وفي المدارك : « فلو تعذر جازت الاستنابة ، لجواز تأخير ذلك الواجب الفوري بالعجز عنه ، ومتى جاز التأخير انتفى المانع من الاستنابة ، كما هو ظاهر .. ». ويظهر ـ من الجواهر وغيرها ـ المفروغية عن ذلك. لكن في المستند : « أنه خالف فيه بعضهم ، ولا وجه له ». وفي كشف اللثام : عن ابن إدريس بطلان النيابة وإن لم يتمكن ، إذا كان قد استقر الحج في ذمته. قال (ره) : « ولعله لإطلاق الأكثر .. ». لكن إطلاقهم ليس حجة. والعمدة : دليل المنع. والوجوه ـ المتقدمة في تقريب المنع ـ تختص بصورة التمكن حتى النصوص على تقدير تماميتها ، لأن المورد يدخل تحت إطلاق‌ قوله (ع) : « إذا لم يجد الصرورة ما يحج به عن نفسه » ‌المذكور في الصحيحين. نعم مقتضى الآية ـ لو تمت دلالتها ـ عدم الفرق ، كما ذكر الحلي.

[٢] العلم والجهل لما لم يوجبا تبدلا في الحكم الواقعي فالأدلة المتقدمة‌

٢٨٦

أو لا يعلم بفورية وجوب الحج عن نفسه ، فحج عن غيره أو تطوعاً [١]. ثمَّ على فرض صحة الحج عن الغير ـ ولو مع التمكن والعلم بوجوب الفورية ـ لو أجر نفسه لذلك ، فهل الإجارة أيضا صحيحة ، أو باطلة مع كون حجه صحيحاً عن الغير؟ الظاهر بطلانها. وذلك لعدم قدرته شرعاً على العمل المستأجر عليه [٢] ، لأن المفروض وجوبه عن نفسه فوراً. وكونه صحيحاً على تقدير المخالفة لا ينفع في صحة الإجارة.

______________________________________________________

على البطلان ـ على تقدير تماميتها ـ شاملة لغير العالم كالعالم ، فالنهي عن الضد ، أو عدم الأمر بالضد ـ وكذلك النصوص ـ شاملة له. نعم الجهل مانع عن مبعدية المنهي عنه ، فلا مانع من التقرب به ، فاذا كان الموجب للبطلان هو النهي عن الضد فهو لا يقتضي البطلان مع الجهل للشبهة الموضوعية. أما إذا كان المقتضي النصوص فلا فرق فيها بين العالم والجاهل.

[١] هذا إذا كان قاصراً. أما إذا كان مقصراً فالجهل لا يمنع عن مبعدية النهي الواقعي.

[٢] والقدرة على العمل شرط في صحة الإجارة ، لأن مالا يكون مقدوراً لا يكون موضوعاً للمعاوضة ، وأكل المال بإزائه أكل للمال بالباطل. وعدم القدرة في المقام وإن كان شرعياً لكنه مثل عدم القدرة عقلا.

وفي حاشية بعض الأعاظم : « هذا تسليم منه بموجب البطلان ولو تبرعاً عن الغير أو تطوعاً لنفسه ». ويشير بذلك إلى ما سبق منه في الحاشية : من أن القدرة شرط في مشروعية الحج ، فمع عدمها تنتفي المشروعية. وفيه : ما عرفت : من أن القدرة شرط في مشروعية حج الإسلام ، لا في حج التطوع ولا في التبرع عن غيره به. فلاحظ.

٢٨٧

خصوصاً على القول بأن الأمر بالشي‌ء نهي عن ضده ، لان الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه [١] ، وإن كانت الحرمة تبعية. فإن قلت : ما الفرق بين المقام وبين المخالفة للشرط في ضمن العقد [٢] ، مع قولكم بالصحة هناك؟ كما إذا باعه عبداً وشرط عليه أن يعتقه فباعه ، حيث تقولون بصحة البيع ويكون للبائع خيار تخلف الشرط [٣].

______________________________________________________

[١] وحينئذ يكون مانع آخر من صحة الإجارة غير عدم القدرة ، وهو المعاوضة على الحرام ، فان في حاق الإجارة المعاوضة بين الأجرة والمنفعة فإذا كانت حراماً لم تصلح للمعاوضة عليها.

[٢] لم يظهر توجه هذا الاشكال على ما ذكره ، من بطلان الإجارة على الضد إذا وجب ضده ، وإنما يحسن توجهه لو كان الحكم هو صحة الإجارة على البيع إذا شرط العتق في المثال المذكور. فإنه إذا شرط العتق فقد وجب بالشرط ، فاذا استؤجر المشروط عليه على البيع ، وقلنا بصحة الإجارة كان الفرق بينهما غير ظاهر ، فيحتاج إلى السؤال عن إبداء الفرق. وأما الحكم بصحة البيع لو اشترط الضد فقد تقدم منه مثله ، وهو صحة التطوع بالحج عن نفسه إذا وجب عليه حج الإسلام.

وبالجملة : تقدم منه حكمان. أحدهما : أنه إذا وجب حج الإسلام فوجوبه لا يقتضي بطلان ضده. وثانيهما : أنه إذا وجب حج الإسلام لم تصح الإجارة على ضده. ومثال شرط العتق وصحة البيع يناسب الأول ، ولا فرق بينهما في الحكم ، ولا يناسب الثاني كي يحتاج إلى إبداء الفرق بينهما في الحكم.

[٣] قد تكرر في هذا الشرح : التعرض لأن الشرط في ضمن العقد يقتضي إثبات حق المشروط له على المشروط عليه ، فاذا اشترط عليه أن يعتقه فقد صار له عليه أن يعتقه وملك عليه ذلك. ثمَّ نقول : لما كان العتق المملوك‌

٢٨٨

______________________________________________________

متعلقاً بالعبد وكان العبد موضوعاً له ، فتارة : يؤخذ وجود العبد في ملكه بنحو شرط الواجب الذي يجب عليه تحصيله ، وأخرى : يؤخذ بنحو شرط الوجوب الذي لا يجب عليه تحصيله. فإن أخذ على النحو الأول لم يصح البيع ، لأن القيد المذكور إذا أخذ قيداً في المملوك فقد ملك الشارط على المشروط بقاء العبد على ملكية المشروط عليه إلى أن يتحقق العتق منه وإذا ملك عليه بقاءه على ملكيته اقتضى ذلك قصور سلطنته على بيعه ، لأنه تصرف في حق غيره. وإذا أخذ قيداً في الملك ـ يعني : يملك عليه العتق إذا كان العبد باقياً في ملكه ـ فهذا الملك لا يقتضي بقاء العبد في ملكه ، وإذا لم يقتض بقاءه في ملكه جاز للمشروط عليه إخراجه من ملكه بالبيع وغيره ، لعدم منافاته لحق الشارط. وحينئذ يصح البيع ، ولا يكون من قبيل تخلف الشرط ، لأن الشرط المنوط بشي‌ء إنما يكون تخلفه بعدم حصوله مع تحقق المنوط به ، ولا يتحقق التخلف بعدم حصوله مع انتفاء المنوط به ، فالجمع بين صحة البيع وخيار تخلف الشرط غير ممكن. وقد تقدم التعرض لنظير المسألة فيما لو نذر قراءة سورة فقرأ غيرها ، أو نذر الصلاة جماعة فصلاها فرادى. وكذا لو نذر أن يصلي في المسجد فصلى في غيره ، فان النذر ـ كما أشرنا إليه سابقاً ـ يقتضي ملكية المنذور ، فيجري فيه الاحتمالان المذكوران.

ثمَّ إن الظاهر أن القيد المذكور أخذ على النحو الأول في المقام وفي الأمثلة المذكورة ، ومقتضاه في المقام بطلان البيع ، وفي الأمثلة المذكورة ـ إذا وقع عمداً ـ بطلان السورة ، فتبطل الصلاة بالزيادة العمدية. وكذا بطلان الصلاة فرادى ، أو في غير المسجد ، لحرمة التصرف في ملك الغير وحقه ، فإن الملكية ـ كما تقتضي قصور سلطنة غير المالك فيبطل تصرفه إذا كان موقوفاً على السلطنة ، كالبيع ونحوه من التصرفات الاعتبارية ـ تقتضي‌

٢٨٩

قلت : الفرق أن في ذلك المقام المعاملة ـ على تقدير صحتها ـ مفوتة لوجوب العمل بالشرط [١] ، فلا يكون العتق واجباً بعد البيع [٢] لعدم كونه مملوكاً له بخلاف المقام حيث أنا لو قلنا بصحة الإجارة لا يسقط وجوب الحج عن نفسه فوراً ، فيلزم اجتماع أمرين متنافيين فعلاً ، فلا يمكن أن تكون الإجارة صحيحة وإن قلنا أن النهي التبعي لا يوجب البطلان.

______________________________________________________

حرمة التصرف تكليفاً إذا كان التصرف عينياً ، فيبطل إذا كان عبادة. نعم إذا وقع سهواً لا يبطل ، لكونه مصداقاً للمأمور به ، وإنما بطل في صورة العمد لفوات العبادية ، وهو غير حاصل في صورة السهو ، فلا مانع من صحته. بخلاف التصرف الاعتباري فإنه يبطل وإن كان عن سهو ، لصدوره عن غير السلطان. وبذلك اختلف المقام عن الأمثلة المذكورة ، فلو نذر أن يعتق عبده لم يصح له بيعه ولو كان سهواً ، فالقول بصحة البيع في المقام في غير محله. وكأن المصنف لا يرى أن الشرط يقتضي ملك المشروط له للمشروط. وقد تقدم في موارد من هذا الشرح : أن التحقيق أنه يقتضي ذلك ، وكذلك النذر.

[١] لو فرض أنها غير مفوتة أيضاً لا مانع من صحتها إذا لم تكن القدرة شرطاً فيها ، فمن كان مديوناً وطالبه الدائن ، وكان لا يملك أكثر من مقدار الدين ، جاز له أن يبيع أو يشتري بالذمة ثمَّ يفي وإن فاته وفاء الدين. يظهر ذلك من مراجعة كلماتهم في أحكام المفلس قبل الحكم عليه بالحجر.

[٢] يحتمل أن يكون مراده أنه غير واجب لانتفاء ملاكه بأخذ بقاء العبد على نحو شرط الوجوب. ويحتمل أن يكون مراده السقوط بعد الثبوت من جهة العجز. لكن الثاني إنما يتم لو صح البيع. لكنه لا يصح لفقد السلطنة عليه ، فلا عجز عن الواجب ، فلا يسقط وجوبه.

٢٩٠

فالبطلان من جهة عدم القدرة على العمل [١] ، لا لأجل النهي عن الإجارة. نعم لو لم يكن متمكناً من الحج عن نفسه يجوز له أن يؤجر نفسه للحج عن غيره [٢]. وإن تمكن بعد الإجارة‌

______________________________________________________

[١] وقد عرفت أن بطلان البيع من جهة عدم السلطنة ، لأن الظاهر أن القيد مأخوذ على نحو شرط الواجب لا على نحو شرط الوجوب.

والذي يتحصل مما ذكرنا أمور : الأول : أن النذر والشرط يقتضيان ملك المنذور والمشروط. الثاني : أن التصرف المنافي يكون عينياً ـ تارة ـ واعتبارياً أخرى. الثالث : أن الملكية لها أثر وضعي ـ وهو قصور سلطنة غير المالك ـ وتكليفي ، وهو حرمة تصرف غير المالك. الرابع : أن الموضوع ـ الذي يؤخذ قيداً للمنذور والمشروط ـ تارة : يؤخذ بنحو شرط الوجوب ، وأخرى : بنحو شرط الواجب. الخامس : أنه إذا أخذ على النحو الأول لا مانع من التصرف المنافي مهما كان. السادس : أنه إذا أخذ على النحو الثاني منع من التصرف الاعتباري ، فيبطل مطلقاً ، وحرم التصرف العيني. فيبطل إذا كان عبادة وكان عمداً ، ولا يبطل إذا كان سهواً ، لكونه لا خلل في ذاته لمطابقته للمأمور به ، ولا في عباديته لأنه جي‌ء به على وجه العبادة من دون ما يقتضي خلاف ذلك. السابع : أن الظاهر أن القيد مأخوذ ـ في المثال المذكور في المتن ، والأمثلة التي ذكرناها في النذر ـ من قبيل شرط الواجب لا شرط الوجوب ، فلا يصح ما ينافيه إذا كان اعتبارياً كالبيع ، ويحرم إذا كان عينياً ، فيبطل إذا كان عبادة وقد وقع عمداً.

[٢] لانتفاء المانع ـ وهو عدم القدرة ـ لانتفاء مقتضية ـ وهو الأمر بحج الإسلام ـ بالعجز عنه.

٢٩١

عن الحج عن نفسه لا تبطل إجارته [١]. بل لا يبعد صحتها لو لم يعلم باستطاعته [٢] ، أو لم يعلم بفورية الحج عن نفسه [٣] فأجر نفسه للنيابة ولم يتذكر الى أن فات محل استدراك الحج عن نفسه ، كما بعد الفراغ ، أو في أثناء الأعمال.

ثمَّ لا إشكال في أن حجه عن الغير لا يكفيه عن نفسه بل إما باطل ـ كما عن المشهور ـ أو صحيح عمن نوى عنه ، كما قويناه. وكذا لو حج تطوعاً لا يجزيه عن حجة الإسلام في الصورة المفروضة ، بل إما باطل ، أو صحيح ويبقى عليه حجة الإسلام. فما عن الشيخ : من أنه يقع عن حجة الإسلام [٤] لا وجه له ، إذ الانقلاب القهري لا دليل عليه. ودعوى : أن حقيقة الحج واحدة ، والمفروض إتيانه بقصد القربة ، فهو منطبق على ما عليه من حجة الإسلام. مدفوعة : بأن وحدة الحقيقة لا تجدي بعد كون المطلوب هو الإتيان بقصد ما عليه [٥].

______________________________________________________

[١] كما في الدروس. قال : « ولا يقدح في صحتها تجدد القدرة ». ويشكل : بأن تجدد القدرة يكشف عن عدم القدرة من أول الأمر ، فيكشف عن بطلان الإجارة. نعم إذا كان تجدد القدرة بمال الإجارة لم يقدح الإجارة ، إذ لا يكون الشي‌ء علة لعدمه.

[٢] لأن الرخصة الحاصلة له بالجهل كافية في حصول القدرة على العمل.

[٣] إلا إذا كان مقصراً ، فإنه لا رخصة له حينئذ.

[٤] تقدمت حكايته عن المبسوط. وفي الخلاف وافق المشهور.

[٥] يظهر منه : أن القصد دخيل في المطلوب. وهو غير ظاهر ، فان المطلوب بالأمر الوجوبي غير المطلوب بالأمر الاستحبابي ، ولو كان‌

٢٩٢

وليس المقام من باب التداخل بالإجماع ، كيف والا لزم كفاية الحج عن الغير أيضا عن حجة الإسلام؟ [١] بل لا بد من تعدد الامتثال مع تعدد الأمر وجوباً وندباً ، أو مع تعدد الواجبين. وكذا ليس المراد من حجة الإسلام الحج الأول ـ بأي عنوان كان ـ [٢] كما في صلاة التحية [٣] ، وصوم الاعتكاف. فلا وجه لما قال الشيخ ( قده ) أصلاً. نعم لو نوى الأمر المتوجه إليه فعلاً ، وتخيل أنه أمر ندبي غفلة عن كونه مستطيعاً ، أمكن القول بكفايته عن حجة الإسلام. لكنه خارج عما قاله الشيخ. ثمَّ إذا كان الواجب عليه حجاً‌

______________________________________________________

واحداً لانطبق أحدهما على الآخر ، فيكون المأتي به مصداقاً لهما وكافياً في حصول الامتثال لأمرهما ـ سواء نوى به حج الإسلام أم نوى به التطوع ـ ولا يلتزم به الشيخ. كما أن لازمه : أن من لم يكن مستطيعاً فتطوع لم يجب عليه الحج بعد ذلك إذا استطاع. إلا أن يقال : مقتضى إطلاق الآية وجوبه ثانياً إذا استطاع ، ولا ينافي ذلك وحدة الحقيقة ووحدة الخصوصيات. فتأمل.

[١] هذا اللزوم غير ظاهر ، لإمكان التفكيك بين الموردين ـ في التداخل وعدمه ـ بعد أن كان على خلاف الأصل. ولا سيما مع الاختلاف بالأصالة والنيابة.

[٢] كما تقدم ذلك في المسألة السادسة والخمسين ، وتقدم منه خلاف ذلك.

[٣] فإنها تنطبق على كل صلاة صلاها من دخل المسجد ولو كانت فريضة أو نافلة بعنوان خاص. وكذلك الصوم اللازم في الاعتكاف ، فإنه يصح ولو كان الصوم لرمضان أو قضائه أو غير ذلك.

٢٩٣

نذريا أو غيره ، وكان وجوبه فورياً ، فحاله ما ذكرنا في حجة الإسلام [١] من عدم جواز حج غيره ، وأنه لو حج صح أو لا ، وغير ذلك من التفاصيل المذكورة بحسب القاعدة.

فصل

في الحج الواجب بالنذر والعهد واليمين

ويشترط في انعقادها : البلوغ ، والعقل ، والقصد ،

______________________________________________________

[١] كما نص على ذلك غير واحد. وهو إنما يتم لو كان عدم صحة غير حج الإسلام في المسألة السابقة من جهة أن الأمر بحج الإسلام يمنع من مشروعية غيره ، أو من إمكان التعبد بغيره. أما إذا كان من جهة النصوص فالتعدي عن موردها ـ وهو حج الإسلام ـ غير ظاهر. فأدلة المنع ليست كلها مطرودة في المقامين.

فصل

في الحج الواجب بالنذر والعهد واليمين‌

الكلام إما خبر ـ وهو ما يقصد به الحكاية عن واقع يطابقه فيكون صدقاً ، أولا يطابقه فيكون كذباً ـ وإما إنشاء ، وهو مالا يقصد به الحكاية ، والثاني إما إيقاع ، أو عقد ، أو غيرهما. فان قصد به إنشاء‌

٢٩٤

والاختيار. فلا تنعقد من الصبي وإن بلغ عشراً وقلنا بصحة عباداته وشرعيتها ، لرفع قلم الوجوب عنه [١]. وكذا لا تصح‌

______________________________________________________

أمر اعتباري ـ مثل الزوجية والبيعية ونحوهما ـ فهو عقد أو إيقاع ، وإن لم يقصد به ذلك فهو غيرهما. فالنذر لما كان المقصود به تمليك الله سبحانه ـ كما عرفت ذلك مراراً ـ ولا يحتاج إلى القبول فهو من الإيقاع. ومثله العهد ، فإنه يقصد به إيجاد المعاهدة. وأما اليمين فهو وعد وليس من الخبر في شي‌ء ، إذ لم يقصد به الحكاية ، وإنما قصد به إيقاع مضمونه في المستقبل ادعاء ، فاذا لم يقع كان خلفاً في الوعد ، وهو قبيح ، لا أنه كذب. وكذلك الوعيد فاذا لم يقع كان خلفاً ، وهو حسن ، لا أنه كذب. ويظهر من ذلك أن اليمين ليس من سنخ النذر والعهد ، فإنهما من الإيقاع وهو من الوعد. هذا ولا إشكال في وجوب العمل بالجميع ، وأن مخالفتها تستوجب الكفارة ، كما هو موضح في أبوابها. فلاحظ.

[١] يشير بهذا إلى‌ حديث : « رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ » (١). وقد اشتهر الاستدلال به على نفي سببية الأسباب إذا كانت صادرة من الصبي ، عقداً ، أو إيقاعاً ـ كالنذر والعهد ـ أو غيرهما ، كاليمين. والاشكال فيه ظاهر ، فان نفي الوجوب في العقد والإيقاع أعم من ترتب المضمون ، ولذا يصح من الولي ويترتب مضمونه وإن لم يجب على الصبي الوفاء به. كما أن نفي الوجوب في حال الصبا ـ في غير الإيقاع والعقد ـ لا يقتضي نفي الوجوب بعد البلوغ. فالعمدة في نفي السببية : هو الإجماع.

ومن ذلك يظهر لك الإشكال في الاستدلال به في المجنون ، وبحديث :

__________________

(١) المعتبر : المقدمة الاولى من كتاب الحج صفحة : ٣٣٧ وقد تقدم في أول فصل شرائط وجوب حجة الإسلام.

٢٩٥

من المجنون ، والغافل ، والساهي ، والسكران ، والمكره. والأقوى صحتها من الكافر. وفاقاً للمشهور في اليمين [١] خلافاً لبعض [٢] ، وخلافاً للمشهور في النذر [٣] ، وفاقاً لبعض ، وذكروا في وجه الفرق : عدم اعتبار قصد القربة في اليمين واعتباره في النذر [٤] ، ولا تتحقق القربة في الكافر.

______________________________________________________

رفع التسعة في الغافل والساهي‌ (١). نعم انتفاء القصد فيها يقتضي عدم ترتب الأثر ، لخروجها عن موضوع الأدلة. وأما الإكراه فيدل على عدم ترتب الأثر فيه ما ورد في طلاق المكره ، حيث تضمن عدم صحته ، مستدلا بحديث رفع الإكراه‌ (٢).

[١] حكاه في الجواهر عن الشيخ وأتباعه وأكثر المتأخرين.

[٢] حكاه في الشرائع عن الشيخ في الخلاف ، وحكي أيضاً عن ابن إدريس.

[٣] بل في الجواهر : « لا أجد خلافاً في عدم صحته ـ يعني : النذر من الكافر ـ بين أساطين الأصحاب ، كما اعترف به في الرياض. وحكي عن سيد المدارك التأمل فيه ـ وكذا عن الكفاية ـ وحكي عن الرياض : أنه لا يخلو من قوة ، إن لم يكن الإجماع على خلافه ـ كما هو الظاهر ـ إذ لم أر مخالفاً سواهما ( يعني : سيد المدارك وصاحب الكفاية ) من الأصحاب ».

[٤] قال في الشرائع في مبحث النذر : « يشترط مع الصيغة نية القربة ، فلو قصد منع نفسه بالنذر ـ لا لله ـ لم ينعقد .. ثمَّ قال بعد ذلك : وأما متعلق النذر فضابطه : أن يكون طاعة لله تعالى مقدوراً .. ». وقد ادعى في الجواهر : الإجماع بقسميه على الحكم المذكور. وكذلك‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٥٦ من أبواب جهاد النفس حديث : ١ ، ٣.

(٢) الوسائل باب : ١٢ من أبواب اليمين حديث : ١٢.

٢٩٦

وفيه أولاً : أن القربة لا تعتبر في النذر ، بل هو مكروه [١] ،

______________________________________________________

غيره ، ولكن اختلفوا في المراد منه ، فاستظهر في المسالك : أن المراد جعل شي‌ء لله تعالى في مقابل جعل شي‌ء لغيره ، أو جعل شي‌ء من دون ذكر أنه له تعالى أو لغيره ، وجعله أصح الوجهين. وربما يستفاد من عبارة الدروس ، حيث قال : « وهل يشترط فيه القربة للصيغة ، أو يكفي التقرب في الصيغة؟ الأقرب الثاني ». وفي الجواهر جعل المراد منه رجحان المنذور ، وكونه عبادة في مقابل نذر المباح. ويحتمل : أن يكون المراد في مقابل النذر شكراً على المعصية أو زجراً عن الطاعة. وصريح الشرائع خلاف ذلك كله ، بل هو ـ بمعنى كون الإيقاع النذري واقعاً على وجه العبادة ـ مما لم يقم عليه دليل ، ويقتضي بطلان النذر إذا كان المقصود منه الزجر عما هو مبغوض الناذر ، وهو خلاف إطلاق الأدلة. وأما الاحتمالات الأخر فكلها صحيحة في نفسها ، غير أنها خلاف ظاهر عبارة الشرائع ونحوها ، فلا ينبغي حملها عليها.

هذا وفي الدروس : « ويصح ( يعني : اليمين ) من الكافر وإن لم يصح نذره ، لأن القربة مرادة هناك دون هذا. ولو قلنا بانعقاد نذر المباح أشكل الفرق .. ». وظاهر العبارة : اعتبار القربة بالمعنى الذي ذكره في الجواهر ، لا بالمعنى الذي احتمل من عبارته السابقة.

[١] قال في الجواهر : « لا إشكال في اعتبار نية القربة فيه. لكن لا على معنى قصد الامتثال بإيقاعه ـ كغيره من العبادات التي تعلق الأمر بإيجادها على جهة الوجوب أو الندب ـ ضرورة عدم الأمر به ، بل ظاهر‌ موثق إسحاق بن عمار كراهة إيقاعه ، قال : « قلت لأبي عبد الله (ع) : إني جعلت على نفسي شكراً لله تعالى ركعتين‌ .. إلى أن قال (ع) : إني

٢٩٧

وإنما تعتبر في متعلقه ، حيث أن اللازم كونه راجحاً شرعاً [١].

______________________________________________________

لأكره الإيجاب أن يوجب الرجل على نفسه .. (١).

[١] على المشهور ، والعمدة فيه : أن اللام في قول الناذر : « لله علي » ـ سواء كانت للملك والظرف مستقر ، أم للغاية والظرف لغو متعلق بالتزمت محذوفاً ـ تقتضي كونه محبوباً لله تعالى ـ ولو للعنوان التأخري ـ فان ما لا يكون محبوباً للمرء لا يكون مملوكاً له عند العقلاء ، ولا يصح الالتزام به لأجله. فيصح أن تقول : « زيد يملك على عمرو أن يكرمه » ، ولا يصح تقول : « يملك عليه أن يهينه ». كما لا يصح أن تقول : « التزمت لزيد أن أهينه » ، ويصح أن تقول : « التزمت لزيد إن أكرمه » ، وهو من الواضحات. مضافاً الى بعض النصوص ، مثل‌ صحيح الكناني : « سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل قال : علي نذر. قال (ع) : ليس النذر بشي‌ء حتى يسمى لله شيئاً ، صياماً ، أو صدقة ، أو هدياً ، أو حجاً » (٢). وقريب منه غيره.

ومن ذلك يشكل ما في الدروس : من جواز نذر المباح‌ « لرواية الحسن بن علي عن أبي الحسن (ع) : « في جارية حلف منها بيمين ، فقال : لله علي أن لا أبيعها. فقال (ع) : ف لله بنذرك ». وفيه دقيقة .. ». ويشير بذلك إلى ما‌ رواه البزنطي عن الحسن بن علي عن أبي الحسن (ع) : « قلت له : إن لي جارية ليس لها مني مكان ولا ناحية ، وهي تحتمل الثمن ، إلا أني كنت حلفت فيها بيمين ، فقلت : لله علي أن لا أبيعها أبداً ، ولي إلى ثمنها حاجة مع تخفيف المؤمنة. فقال (ع) :

__________________

(١) الوسائل باب : ٦ من أبواب النذر حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ١ من أبواب النذر حديث : ٢.

٢٩٨

وثانياً : أن متعلق اليمين أيضاً قد يكون من العبادات [١]. وثالثاً : أنه يمكن قصد القربة من الكافر أيضاً [٢]. ودعوى عدم إمكان إتيانه للعبادات لاشتراطها بالإسلام مدفوعة : بإمكان إسلامه ثمَّ إتيانه ، فهو مقدور لمقدورية مقدمته. فيجب عليه حال كفره كسائر الواجبات ، ويعاقب على مخالفته ، وترتب عليها وجوب الكفارة ، فيعاقب على تركها أيضاً. وإن أسلم صح إن أتى به ، ويجب عليه الكفارة لو خالف.

______________________________________________________

ف لله بقولك له » (١). لكن الظاهر من الرواية أن السؤال فيها عن جواز رفع اليد عن النذر الصحيح للطوارئ المذكورة ، لا عن صحة النذر في نفسه إذا لم يكن متعلقه راجحاً ، فلا تدل على خلاف ما ذكرناه مع أنها ضعيفة السند ، غير مجبورة بعمل. ومثله : خبر يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (ع) عن أبيه (ع) : « إن امرأة نذرت أن تقاد مزمومة بزمام في أنفها ، فوقع بعير فخرج أنفها ، فأتت علياً (ع) تخاصم فأبطله. فقال (ع) : إنما نذرت لله » (٢). فإنه ـ أيضاً ـ وارد في غير ما نحن فيه. فالبناء ما ذكرنا ـ من لزوم رجحان المنذور شرعاً ـ متعين.

[١] هذا الاشكال مع الإشكال الأول لا يتواردان على أمر واحد ، فإن الإشكال الأول مبني على أن مرادهم اعتبار القربة في نفس إيقاع النذر ، وهذا الاشكال مبني على اعتبارها في متعلقه.

[٢] هذا بناء على أن المراد قصده التقرب إلى الله تعالى. أما إذا كان المراد وقوعه على نحو يكون مقرباً فلا يتم ، لعدم صلاحية الكافر للتقرب بفعله ، كما ذكره في الجواهر وغيرها.

__________________

(١) الوسائل باب : ١٧ من أبواب النذر حديث : ١١.

(٢) الوسائل باب : ١٧ من أبواب النذر حديث : ٨.

٢٩٩

ولا يجري فيه قاعدة جب الإسلام ، لانصرافها عن المقام [١]. نعم لو خالف وهو كافر ، وتعلق به الكفارة فأسلم ، لا يبعد دعوى سقوطها عنه كما قيل [٢].

( مسألة ١ ) : ذهب جماعة [٣] إلى أنه يشترط في

______________________________________________________

[١] وقد ذكر في الشرائع : أنه لو نذر الكافر فأسلم استحب له الوفاء. ومثله في الدروس. وفي الجواهر : « كما صرح به غير واحد ». لكن هذا الكلام ـ من الشرائع والدروس ـ مبني على ما ذكراه ، من عدم صحته من الكافر ، لا بناء على صحته اعتماداً على حديث الجب‌ (١).

وكيف كان فدعوى الانصراف غير بعيدة ، فإن الذي ينسبق إلى الذهن إرادة الجب عن الأمور التي يقتضيها الكفر ، ولذلك لا يجري في الديون الراجعة إلى الناس. اللهم إلا أن يكون ذلك من جهة لزوم خلاف الامتنان في حق غيره ، والظاهر من الحديث أنه حديث امتناني ، فلا يجري إذا لزم منه خلاف الامتنان. اللهم إلا أن يقال : إنه امتناني بالإضافة إلى الكافر نفسه ، لا مطلقاً ، ولذلك ورد الحديث في القتل الذي صدر من المغيرة بن شعبة (٢). فلاحظ موارد الحديث. اللهم إلا أن يقال : القتل الصادر من المغيرة قتل المهدور الدم والمال.

والانصاف أن ظاهر الحديث الامتنان على الكافر بنحو لا يوجب خلاف الامتنان في حق المسلم ، وانصرافه إلى خصوص ما كان يقتضي الكفر ، فديون الناس لا يشملها من وجهين. وقد تعرضنا للكلام في الحديث في مبحث وجوب الزكاة على الكافر.

[٢] ذكر ذلك في الدروس ، لكن في كفارة اليمين ، ولا يبعد أن يستفاد منه كفارة النذر. فلاحظ.

[٣] حكاه في الرياض عن الإرشاد والمسالك ، واختاره.

__________________

(١) تقدم التعرض إليهما في صفحة : ٥٠ من الجزء السابع من هذا الشرح.

(٢) تقدم التعرض إليهما في صفحة : ٥٠ من الجزء السابع من هذا الشرح.

٣٠٠