مستمسك العروة الوثقى - ج ١٠

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٨٦

الأقوى عدم وجوب اعادتها. ودعوى : أن المستحب لا يجزي عن الواجب ممنوعة ، بعد اتحاد ماهية الواجب والمستحب. نعم لو ثبت تعدد ماهية حج المتسكع والمستطيع تمَّ ما ذكر ، لا لعدم إجزاء المستحب عن الواجب ، بل لتعدد الماهية. وإن حج مع عدم أمن الطريق ، أو مع عدم صحة البدن مع كونه حرجاً عليه ، أو مع ضيق الوقت كذلك ، فالمشهور بينهم عدم إجزائه عن الواجب [١]. وعن الدروس : الاجزاء.

______________________________________________________

[١] كما صرح به جماعة ، وحكي عن المشهور ، كذا في المستند. وقال في المنتهى : « مسألة : هذه الشروط التي ذكرناها ، منها : ما هو شرط في الصحة والوجوب ، وهو العقل. لعدم الوجوب على المجنون ، وعدم الصحة منه. ومنها : ما هو شرط في الصحة دون الوجوب ، وهو الإسلام ، على ما ذهبنا اليه من وجوب الحج على الكافر. ومنها : ما هو شرط في الوجوب دون الصحة ، وهو البلوغ ، والحرية ، والاستطاعة ، وإمكان المسير. لأن الصغير والمملوك ، ومن ليس له زاد ولا راحلة ، وليس بمخلى السرب ولا يمكنه المسير لو تكلف الحج يصح منهم وإن لم يكن واجباً عليهم ، ولا يجزيهم عن حج الإسلام على ما تقدم .. ». وفي المدارك حكى ذلك عن التذكرة ، ولم أجده في ما يحضرني من نسختها. وفي الدروس ـ بعد أن ذكر الشرائط ، وأنهاها إلى ثمانية ـ قال : « ولو حج فاقد هذه الشرائط لم يجزه. وعندي لو تكلف المريض ، والمعضوب والممنوع بالعدو ، وتضيق الوقت أجزأه ذلك ، لأن ذلك من باب تحصيل الشرط ، فإنه لا يجب ، ولو حصله وجب وأجزأ. نعم لو أدى ذلك إلى إضرار بالنفس يحرم إنزاله. ولو قارن بعض المناسك احتمل عدم‌

١٨١

إلا إذا كان إلى حد الإضرار بالنفس ، وقارن بعض المناسك فيحتمل عدم الاجزاء ، ففرق بين حج المتسكع وحج هؤلاء. وعلل الأجزاء : بأن ذلك من باب تحصيل الشرط ، فإنه لا يجب ، لكن إذا حصله وجب. وفيه : أن مجرد البناء على ذلك لا يكفي في حصول الشرط [١]. مع أن غاية الأمر‌

______________________________________________________

الاجزاء .. ». وقال بعد ذلك : « فانقسمت الشرائط إلى أربعة أقسام إلى أن قال : الرابع : ما هو شرط في الاجزاء ، وهو ما عدا الثلاثة الأخيرة. وفي ظاهر الفتاوي : كل شرط في الوجوب والصحة شرط في الاجزاء .. ». ويريد من الثلاثة الأخيرة : الصحة من المرض ، وتخلية السرب ، والتمكن من المسير.

[١] يمكن توجيه كلام الشهيد : بأن عدم الحرج والضرر ـ المأخوذ شرطاً في الاستطاعة ـ يراد به عدم الحرج والضرر الآتيين من قبل الشارع لا مطلقاً. فاذا تكلف المكلف الحرج والضرر ـ لا بداعي أمر الشارع بل بداع آخر ـ فعدم الحرج والضرر الآتيين من قبل الشارع حاصل ، لأن المفروض أن الحرج والضرر الحاصلين كانا بإقدام منه وبداع نفساني ، لا بداعي الأمر الشرعي ، فتكون الاستطاعة حينئذ حاصلة بتمام شروطها ، فيكون الحج حج الإسلام.

فإن قلت : إذا كان المكلف جاهلاً ، وأقدم على الحج بداعي اللزوم الشرعي ، يكون الحرج أو الضرر حينئذ مانعاً من الاستطاعة. ولازمه بطلان حجه ، مع أنه أطلق الشهيد (ره) القول بالصحة. قلت : في الفرض المذكور أيضاً لا يكون الحرج أو الضرر آتياً من قبل الشارع ، بل يكون ناشئاً من جهله بالحكم واعتقاده اللزوم غلطاً منه واشتباهاً ، فيكون الشرط ـ وهو عدم الحرج أو الضرر الآتي من قبل الشارع ـ حاصلاً أيضاً ، فيكون‌

١٨٢

حصول المقدمة ، التي هو المشي إلى مكة ومنى وعرفات. ومن المعلوم أن مجرد هذا لا يوجب حصول الشرط ، الذي هو عدم الضرر أو عدم الحرج [١]. نعم لو كان الحرج أو الضرر في المشي إلى الميقات فقط ، ولم يكونا حين الشروع في الأعمال تمَّ ما ذكره [٢] ، ولا قائل بعدم الاجزاء في هذه الصورة. هذا ومع ذلك فالأقوى ما ذكره في الدروس. لا لما ذكره ،

______________________________________________________

مستطيعاً ، ويجزيه عن حج الإسلام. وأما ما ذكره : من استثناء صورة ما إذا بلغ الضرر حد الإضرار بالنفس وقارن بعض المناسك ، فلأن الإضرار بالنفس حرام. ويحتمل حينئذ سراية الحرمة إلى المنسك الذي قارنه ذلك ، فيحرم ، ولا يصح التعبد به. لكن هذا التوجيه وإن كان يرفع استبشاع التفصيل المذكور. إلا أنه لا يرفع عنه الإشكال بالمرة ، لما عرفت آنفاً : من أن دليل نفي الضرر أو الحرج لا يصلح لرفع الملاك في حال الحرج والضرر ، فلا يدل على اشتراط عدم الحرج والضرر في الاستطاعة ، لا مطلقهما ولا خصوص ما كان آتياً من قبل الشارع. فلا بد في التفصيل المذكور من الرجوع الى ما ذكرناه في صدر المسألة ، في شرح قوله (ره) : « فالظاهر كفايته .. ». فراجع.

نعم قد يشكل الأمر في مثل صحة البدن التي دلت النصوص على اشتراط الاستطاعة بها في مقابل العذر. ولعل الشهيد فهم من النصوص : أن اعتبارها من باب العذر ، لا تعبداً كالزاد والراحلة. وهو غير بعيد.

[١] قد عرفت أنه يوجبه. إذ الحرج الذي وقع فيه ليس آتياً من قبل الشارع ، فالآتي من قبله معدوم ، وبعدمه تحصل الاستطاعة.

[٢] لكن لا مجال لاحتماله في كلامه ، إذ لا فرق في ذلك بين الشروط‌

١٨٣

بل لأن الضرر والحرج إذا لم يصلا الى حد الحرمة إنما يرفعان الوجوب والإلزام لا أصل الطلب [١] ، فاذا تحملهما وأتى بالمأمور به كفى.

______________________________________________________

الثلاثة الأخيرة وبين غيرها. كما أنه لا خلاف في ذلك بينه وبين غيره من الأصحاب. وقد تقدم في كلامه : التصريح بالفرق بين الشرائط الثلاثة وغيرها. كما أن ما تقدم في كلامه ، من قوله : « وعندي .. ». وقوله : « وظاهر الفتاوى .. » كالصريح في تحقق الخلاف بينه وبين غيره في الفتاوي. فلاحظ.

[١] قد أشرنا في بعض المواضع من هذا الشرح إلى أن الاختلاف بين فردي الطلب الوجوبي والاستحبابي ليس من قبيل الاختلاف بين فردي الكلي التشكيكي ، بأن يكون الطلب الوجوبي أكيداً والطلب الاستحبابي ضعيفاً ، ولا من قبيل الاختلاف بين فردي الطلب المتواطئ ، بأن يكون الطلب الوجوبي فرداً خاصاً والطلب الاستحبابي فرداً آخر ، نظير زيد وعمرو. بل الاختلاف بينهما ليس إلا في الترخيص في مخالفته في الطلب الاستحبابي وعدمه في الطلب الوجوبي. ولما كانت أدلة نفي الحرج والضرر ظاهرة في نفي المنشأ ـ وهو اللزوم ـ وكان اللزوم منزعاً من عدم الترخيص ، كانت أدلة نفي الحرج والضرر راجعة إلى الترخيص في مخالفة الطلب. فالطلب قبل أدلة نفي الحرج لا ترخيص في مخالفته ، وبعد أدلة نفي الحرج مرخص في مخالفته. فالطلب في الحالين لا تبدل فيه ، لا في ذاته ولا في صفته ، وإنما التبدل في انضمام الترخيص اليه بعد أن كان خالياً عنه ، فاذا كان باقياً بحاله كان كافياً في مشروعية المطلوب وجواز التعبد به. ولو سلم أن الاختلاف بين فردي الطلب من قبيل الاختلاف بين فردي الماهية التشكيكية ، فيكون الطلب الوجوبي شديداً والطلب الاستحبابي ضعيفاً ، فغاية ما يقتضي دليل نفي الحرج رفع الشدة‌

١٨٤

( مسألة ٦٦ ) : إذا حج مع استلزامه لترك واجب أو‌

______________________________________________________

الموجبة للزوم ، فيبقى أصل الطلب بحاله. ولو سلم أنه من قبيل الأفراد للكلي المتواطئ ، فاذا زال الطلب الوجوبي لا بد أن يخلفه الطلب الاستحبابي ، لأن الملاك بعد ما كان موجوداً كان موجباً لحدوث الإرادة الاستحبابية.

ومن ذلك تعرف الإشكال في حاشية بعض الأعاظم على المقام ، حيث قال فيها : « لم يعرف أن هذا الطلب المدعى ثبوته ـ بعد رفع الوجوب ـ استحبابي أو نوع آخر ، وكيف تولد من رفع الوجوب ما لم يكن له عين ولا أثر سابق؟ .. ». هذا مضافاً إلى ما عرفت في بعض مباحث الوضوء ، من أن الطلب بما هو ليس داعياً إلى الفعل العبادي ، بل بما هو طريق الى وجود الملاك الموجب للترجح النفساني عند الالتفات. وحينئذ لو فرض عدم حصول الطلب لمانع عنه ، أو لعدم الالتفات ـ كما في الموالي العرفية ـ كان ذلك الترجيح كافياً في الدعوة إلى الفعل ، وصدوره على وجه العبادة ، وعدم كونه تشريعاً. فلاحظ. نعم يشكل ما ذكره المصنف (ره) : بما عرفت الإشارة إليه سابقاً ، من أن دليل نفي الحرج لما لم يكن مانعاً عن وجود الملاك فقد استقر الحج في ذمة المكلف ، وإن كانت لا تجب المبادرة إليه لدليل نفي الحرج ، فاللازم ـ مع عدم الحرج ـ الإتيان به في السنة اللاحقة وان زالت الاستطاعة ، كما لو ترك الحج في السنة الأولى عمداً من غير عذر. وإن شئت قلت : بناء على ما ذكره المصنف لا يكون الحرج منافياً للاستطاعة ، ولا عدمه شرطاً فيها ، وإنما يكون رافعاً للزوم الحج ، وهو خلاف ما ذكره سابقاً ، من اشتراط الاستطاعة بأن لا يكون حرج. وعليه بناء الأصحاب ، كما سبق. وعلى هذا لا بد من الرجوع إلى ما ذكرناه في صدر المسألة في شرح قوله (ره) : « فالظاهر كفايته .. » ، كما تقدم في توجيه كلام الشهيد.

١٨٥

ارتكاب محرم لم يجزه عن حجة الإسلام ، وإن اجتمع سائر الشرائط. لا لأن الأمر بالشي‌ء نهي عن ضده ، لمنعه أولاً ، ومنع بطلان العمل بهذا النهي ثانياً. لأن النهي متعلق بأمر خارج [١]. بل لأن الأمر مشروط بعدم المانع ، ووجوب ذلك الواجب مانع [٢]. وكذا النهي المتعلق بذلك المحرم مانع‌

______________________________________________________

[١] لم يتضح وجه ما ذكره ، لأن القائلين بأن الأمر بالشي‌ء يقتضي النهي عن ضده ، منهم : من بناه على مقدمية أحد الضدين للضد الآخر ، فيكون النهي غيرياً. ومنهم : من بناه على أن المتلازمين في الخارج متلازمان في الحكم ، ولما كان عدم أحد الضدين ملازما للضد الآخر كان بحكمه ، وعلى كلا التقديرين فالنهي عن الضد نفسه لا عن أمر خارج. نعم استشكل بعضهم في اقتضاء النهي الغيري للفساد ، من أجل أنه كالوجوب الغيري لا يقتضي ثواباً ولا عقاباً ، ولا قرباً ولا بعداً. لكن الظاهر ضعف الاشكال المذكور ، كما حققناه في محله وعلى تقديره فهو إشكال آخر غير ما ذكره المصنف (ره).

ثمَّ إن ظاهر المصنف (ره) المفروغية عن أن المقام من صغريات مسألة الضد. وهو إنما يتم في ما إذا كان الواجب ـ الذي يلزم تركه من الحج ـ ضداً لنفس أفعال الحج ، أما إذا كان ضداً للسفر إلى الحج ، فلا يكون من صغريات تلك المسألة ، لأنه مقدمة غير عبادية ، وهي تختص بما إذا كان ضداً للواجب العبادي ، الذي يفسد بالنهي على تقدير القول به. نعم الوجه الذي سيذكره شامل للمقامين.

[٢] قد عرفت الاشكال فيما ذكره ، وأن ما كانت مانعيته مستفادة من دليل مانعية العذر تختص مانعيته بحال الترك ولا تعم حال الفعل. وإلا كان اللازم البناء على عدم الاجزاء في موارد الحرج ، لأنه أيضاً عذر مانع.

١٨٦

ومعه لا أمر بالحج. نعم لو كان الحج مستقراً عليه ، وتوقف الإتيان به على ترك واجب أو فعل حرام دخل في تلك المسألة [١] ، وأمكن أن يقال بالاجزاء ، لما ذكر : من منع اقتضاء الأمر بشي‌ء للنهي عن ضده ، ومنع كون النهي المتعلق بأمر خارج موجباً للبطلان.

( مسألة ٦٧ ) : إذا كان في الطريق عدو لا يندفع إلا بالمال ، فهل يجب بذله ويجب الحج أو لا؟ أقوال [٢] ، ثالثها : الفرق بين المضر بحاله وعدمه ، فيجب في الثاني دون الأول.

______________________________________________________

ودعوى : أن أدلة نفي الحرج لا ترفع الا اللزوم ـ كما تقدمت من المصنف ـ مسلمة. لكنها لا تجدي في البناء على الاجزاء إذا كان مقتضى الدليل عدم الاجزاء ، إذ لا منافاة بين كون نفي الحرج لا يقتضي نفي الاجزاء وكون مانعية العذر تقتضي نفي الاجزاء. إذ لا منافاة بين المقتضي واللامقتضي ، كما هو ظاهر.

وبالجملة : إن كان لدينا دليل يدل على مانعية العذر مطلقاً عن الاستطاعة كان اللازم البناء على مانعية الحرج عنها ، وإن لم يكن دليل على ذلك كان اللازم البناء على عدم مانعية ترك الواجب أو الوقوع في الحرام عنها ، فالتفكيك بين الحرج وغيره من الأعذار في المانعية عن الاستطاعة وعدمها غير ظاهر.

[١] قد عرفت أن دخوله في تلك المسألة يتوقف على كون ترك الواجب ملازماً لنفس أفعال الحج لا للسفر ، وإلا فلا يكون من تلك المسألة أيضاً. كما عرفت أن النهي ـ على تقديره ـ يتعلق بأمر داخل في العبادة لا بأمر خارج عنها.

[٢] أولها : عدم الوجوب ، كما في المدارك عن الشيخ (ره) وجماعة‌

١٨٧

( مسألة ٦٨ ) : لو توقف الحج على قتال للعدو لم‌

______________________________________________________

لانتفاء الشرط ، وهو تخلية السرب. ولأن المأخوذ على هذا الوجه ظلم لا تنبغي الإعانة عليه. وأن من خاف من أخذ المال قهراً لا يجب عليه الحج وإن قل المال ، وهذا في معناه. وهذه الوجوه ـ كما ترى ـ ضعيفة ، لتحقق التخلية بالقدرة على المال. وعدم حرمة الإعانة على مثل هذا الظلم. وللفرق بين المقام وبين أخذ المال قهراً. مع أن الحكم في المقيس عليه ممنوع. وثانيها : الوجوب مع الإمكان. قال في الشرائع : « ولو قيل يجب التحمل مع المكنة كان حسناً .. ». وفي المدارك : « والأصح : ما اختاره المصنف (ره) ، من وجوب بذل المال مع القدرة مطلقاً. لتوقف الواجب عليه ، فكان كأثمان الآلات .. ». ومثل ذلك : ما عن العلامة وغيره. وأما الثالث فاختاره في المعتبر ، قال : « والأقرب أنه إن كان المطلوب مجحفاً لم يجب ، وإن كان يسيراً وجب بذله ، وكان كأثمان الآلات .. ». وهذا هو المراد مما في المتن.

هذا وقد عرفت في شرح المسألة الرابعة والستين : أنه لا مجال للتمسك بقاعدة نفي الضرر في الباب ، لأن أدلة وجوب الحج من قبيل مخصص لها ، فيؤخذ بإطلاقه. ومن ذلك يظهر ضعف القول الأول. كما عرفت أن الحرج في المقام مانع عن الاستطاعة ، فيتعين لذلك التفصيل المذكور ، لأن المراد من أخذ المال المجحف ما يكون موجباً للحرج. ثمَّ إنه لم يظهر وجه توقف المصنف (ره) عن الفتوى في هذه المسألة ، وعن التمسك بقاعدة نفي الضرر والحرج ، مع أنه أفتى ـ في المسألة الرابعة والستين ، والخامسة والستين ـ بسقوط الحج مع لزوم. الضرر أو الحرج. والفرق بين المقامين غير ظاهر.

١٨٨

يجب ، حتى مع ظن الغلبة عليه والسلامة. وقد يقال بالوجوب في هذه الصورة [١].

( مسألة ٦٩ ) : لو انحصر الطريق في البحر وجب ركوبه [٢]. إلا مع خوف الغرق أو المرض خوفاً عقلائياً [٣] ، أو استلزامه الإخلال بصلاته [٤] ، أو إيجابه لأكل النجس أو شربه. ولو حج مع هذا صح حجة ، لأن ذلك في المقدمة ، وهي المشي إلى الميقات ، كما إذا ركب دابة غصبية إلى الميقات.

______________________________________________________

[١] قال في كشف اللثام : « الأقرب ـ وفاقاً للمبسوط والشرائع ـ سقوط الحج إن علم الافتقار إلى القتال ، مع ظن السلامة ـ أي العلم العادي بها وعدمه ـ كان العدو مسلمين أو كفاراً. للأصل. وصدق عدم تخلي السرب. وعدم وجوب قتال الكفار إلا للدفع أو للدعاء إلى الإسلام بإذن الإمام .. الى أن قال : وقطع في التحرير والمنتهى بعدم السقوط إذا لم يلحقه ضرر ولا خوف ، واحتمله في التذكرة. وكأنه : لصدق الاستطاعة ، ومنع عدم تخلية السرب حينئذ ، مع تضمن المسير أمراً بمعروف ونهياً عن منكر ، واقامة لركن من أركان الإسلام .. ».

أقول : إذا كان الضرر مأموناً ، وكان دفع العدو ميسوراً فالظاهر صدق تخلية السرب وثبوت الوجوب. وإذا كان الضرر مخوفاً ، أو كان الدفع حرجاً ومشقة لا يقدم عليها العقلاء لم يجب الحج ، كما عرفت الكلام في نظيره.

[٢] بلا إشكال ظاهر. وقد نص عليه جماعة كثيرة. ويقتضيه إطلاق دليل الوجوب.

[٣] تقدم الكلام في نظيره.

[٤] الواجب الذي يلزم تركه من السفر الى الحج على قسمين ،

١٨٩

( مسألة ٧٠ ) : إذا استقر عليه الحج ، وكان عليه خمس أو زكاة أو غيرهما من الحقوق الواجبة وجب عليه أداؤها ، ولا يجوز له المشي إلى الحج قبلها. ولو تركها عصى ، وأما حجة فصحيح إذا كانت الحقوق في ذمته لا في عين ماله. وكذا إذا كانت في عين ماله ولكن كان ما يصرفه في مئونته من المال الذي لا يكون فيه خمس أو زكاة أو غيرهما ، أو كان مما تعلق به الحقوق ولكن كان ثوب إحرامه ، وطوافه ، وسعيه ، وثمن هديه من المال الذي ليس فيه حق. بل وكذا إذا كانا مما تعلق به الحق من الخمس والزكاة ، إلا أنه بقي عنده مقدار ما فيه منهما. بناء على ما هو الأقوى ، من كونهما في‌

______________________________________________________

الأول : ما يكون له بدل ، كالصلاة بالطهارة المائية التي بدلها الصلاة بالطهارة الترابية ، والصلاة قائماً التي بدلها الصلاة جالساً ، ونحو ذلك. الثاني : ما لا يكون له بدل. وفي الأول إذا قلنا بجواز تعجيز النفس فيه فلا ينبغي الإشكال في عدم مزاحمته للحج ، فيجب الحج وإن لزم منه تركه ، لكون المفروض جواز تركه إلى البدل. وإن قلنا بعدم جواز تعجيز النفس فيه كان حاله حال ما إذا لم يكن له بدل ، وظاهر الفتاوى : عدم الفرق ـ في مزاحمته لوجوب الحج ، ومنافاته للاستطاعة ـ بين كونه أهم من الحج وعدمه. بل الظاهر أنه لا إشكال فيه عندهم ، كما يظهر بملاحظة كلماتهم ، فيما إذا نذر الحج في السنة المعينة فاستطاع فيها ، حيث لم يتعرضوا لذكر أهمية النذر في وجه المزاحمة. بل لا مجال لدعوى ذلك فيه ، فان أهمية حج الإسلام بالإضافة إلى حج النذر ليست موضعاً للإشكال.

والذي ينبغي أن يقال إنه لا عموم في النصوص ـ التي اعتمد عليها في مانعية‌

١٩٠

العين على نحو الكلي في المعين ، لا على وجه الإشاعة [١].

( مسألة ٧١ ) : يجب على المستطيع الحج مباشرة ، فلا يكفيه حج غيره عنه ـ تبرعاً أو بالإجارة ـ إذا كان متمكناً من المباشرة بنفسه.

( مسألة ٧٢ ) : إذا استقر الحج عليه ، ولم يتمكن من من المباشرة لمرض لم يرج زواله ، أو حصر كذلك ، أو هرم بحيث لا يقدر ، أو كان حرجاً عليه ـ فالمشهور وجوب الاستنابة عليه ، بل ربما يقال بعدم الخلاف فيه [٢]. وهو الأقوى ، وإن كان ربما يقال بعدم الوجوب. وذلك لظهور‌

______________________________________________________

ما ذكر عن الاستطاعة ـ لكل واجب ، بل يختص بالواجب الذي له نوع من الأهمية ، بحيث يصح أن يعتذر به في ترك الحج. فاذا علم المكلف أنه إذا حج يفوته رد السلام على من سلم عليه ، أو الإنفاق يوماً ما على من تجب نفقته عليه ، أو نحو ذلك من الواجبات التي ليس لها تلك الأهمية ، لا يجوز له ترك الحج فراراً من تركها ، فإنه لا يصح له الاعتذار بذلك. لا أقل من الشك الموجب للرجوع إلى عموم الوجوب على من استطاع. فاذا كان لزوم ترك الواجب أو الوقوع في الحرام عذراً في نظر المتشرعة ، ويصح الاعتذار به عندهم كان مانعاً من الاستطاعة ، وإلا فلا. وكذا لو شك في صحة الاعتذار ، لأن عموم الوجوب هو المرجع مع الشك في صدق عنوان المخصص. فلاحظ.

[١] تعرضنا في كتاب الزكاة والخمس لتحقيق ما هو مفاد الأدلة. فراجع.

[٢] حكى في المستند عن المسالك والروضة والمفاتيح وشرحه وشرح الشرائع للشيخ علي : الإجماع عليه.

١٩١

جملة من الأخبار [١]

______________________________________________________

[١] كصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) : « قال : إن أمير المؤمنين (ع) أمر شيخاً كبيراً لم يحج قط ، ولم يطق الحج لكبره أن يجهز رجلاً يحج عنه » (١) ‌، و‌مصحح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (ع) : « قال : إن علياً رأى شيخاً لم يحج قط ، ولم يطق الحج من كبره ، فأمره أن يجهز رجلاً فيحج عنه » (٢) ‌، و‌صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) : « قال كان علي (ع) يقول : لو أن رجلا أراد الحج ، فعرض له مرض أو خالطه سقم فلم يستطع الخروج ، فليجهز رجلا من ماله ثمَّ ليبعثه مكانه » (٣) ‌، و‌خبر عبد الله بن ميمون القداح عن أبي جعفر (ع) عن أبيه : « إن علياً (ع) قال لرجل كبير لم يحج قط ، قال إن شئت أن تجهز رجلا ثمَّ ابعثه يحج عنك » (٤) ‌، و‌مصحح الحلبي عن أبي عبد الله (ع) ـ في حديث ـ قال : « وإن كان موسراً وحال بينه وبين الحج مرض أو حصر أو أمر يعذره الله تعالى فيه ، فان عليه أن يحج من ماله صرورة لا مال له » (٥) ‌، و‌خبر علي بن أبي حمزة : « سألته عن رجل مسلم حال بينه وبين الحج مرض أو أمر يعذره الله تعالى فيه ، فقال (ع) : عليه أن يحج رجلا من ماله صرورة لا مال له » (٦) ‌، و‌خبر سلمة أبي حفص عن أبي عبد الله (ع) : « إن رجلا أتى علياً (ع) ولم يحج قط ، فقال :

__________________

(١) الوسائل باب : ٢٤ من أبواب وجوب الحج حديث : ٦.

(٢) الوسائل باب : ٢٤ من أبواب وجوب الحج حديث : ١.

(٣) الوسائل باب : ٢٤ من أبواب وجوب الحج حديث : ٥.

(٤) الوسائل باب : ٢٤ من أبواب وجوب الحج حديث : ٨.

(٥) الوسائل باب : ٢٤ من أبواب وجوب الحج حديث : ٢.

(٦) الوسائل باب : ٢٤ من أبواب وجوب الحج حديث : ٧.

١٩٢

______________________________________________________

إني كنت كثير المال ، وفرطت في الحج حتى كبرت سني ، فقال : تستطيع الحج؟ فقال : لا. فقال له علي (ع) : إن شئت فجهز رجلاً ثمَّ ابعثه يحج عنك » (١).

لكن الروايات الثلاث الأول غير ظاهرة في المستطيع. وحملها عليه ليس بأولى من حمل الأمر فيها بالاستنابة على مجرد بيان المشروعية. وخبر القداح‌ ظاهر في عدم الوجوب. ومن أجله يظهر إشكال آخر في النصوص السابقة ـ بناء على وحدة الواقعة ـ كما هو الظاهر ، فان ظاهر خبر القداح‌ : أن أمير المؤمنين (ع) أجاب باستحباب الاستنابة ، فيحمل غيره عليه ـ بناء على ظهوره في الوجوب ـ لأنه أقرب من حمله على الوجوب ، والأخذ بظاهر غيره. ونحوه خبر سلمة أبي حفص‌. وأما مصحح الحلبي‌ وخبر علي بن أبي حمزة‌ فلا يمكن الأخذ بظاهرهما ، من وجوب استنابة الصرورة. والتفكيك بين القيد والمقيد في الوجوب بعيد. ولأجل ما ذكرنا من المناقشات ونحوها جزم في المستند بعدم وجوب الاستنابة ، وحكى التردد من بعضهم في الوجوب في هذه الصورة ، واستظهره من الذخيرة ، بل من الشرائع والنافع والإرشاد. لترددهم في مسألة استنابة المعذور ، من غير تفصيل بين الاستقرار وعدمه. وأيده بعدم تعرض جماعة للوجوب في هذه الصورة.

لكن الإنصاف أن حمل النصوص الأول على مجرد تشريع الاستنابة بعيد جداً ، أولاً : من جهة أن ذكر القيود في المورد المحكي من الامام عن الامام يدل على دخلها في الحكم. والاستنابة في الحج الاستحبابي لا يختص بمجمع القيود. وثانياً : أن قوله (ع) في مقام الحكاية عن أمير المؤمنين : « أمر .. » ‌ظاهر في الوجوب ظهوراً قوياً ، لا يقوى على التصرف فيه ـ بالحمل على مجرد المشروعية ـ إطلاق مورد الجواب من حيث كونه مستطيعاً‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٢٤ من أبواب وجوب الحج حديث : ٣.

١٩٣

______________________________________________________

وغير مستطيع.

وأما الإشكال باختلاف النقل ـ من جهة إطلاق الأمر في النصوص الأول ، وتعليقه على المشيئة في رواية القداح‌ وخبر سلمة‌ ـ فلا يهم ، لأنه مع الاختلاف في النقل تجري أحكام التعارض ، وهي تقتضي الأخذ بالصحاح ، لأنها أصح سنداً ، وأكثر عدداً. مع قرب احتمال أن يكون المراد من‌ قوله (ع) : « إن شئت أن تجهز .. » ‌في خبر القداح : « إن شئت حججت بنفسك وتحملت الحرج ، وإن شئت استنبت » : نعم لا يجي‌ء ذلك في خبر سلمة‌ ، لأن المفروض فيه أنه لا يطبق الحج بنفسه. وبالجملة : النصوص الأول ظاهرة في الوجوب ، والخروج عنه بغيرها خلاف قواعد العمل بالأدلة.

وأما‌ خبر الخثعمية ، المروي عن الزهري ، عن سليمان بن يسار ، عن ابن عباس : « إن امرأة من خثعم سألت رسول الله (ص) : إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستمسك على راحلته ، فهل ترى أن أحج عنه؟ قال (ص) : نعم » (١). و‌في رواية عمر بن دينار زاد : « فقالت : يا رسول الله ، فهل ينفعه ذلك؟ فقال : نعم ، كما لو كان عليه دين تقضيه نفعه » (٢). فضعيف سنداً ، ودلالة لعدم ظهوره في الوجوب. ثمَّ إن المذكور في كلام الأصحاب : الهرم ، والمرض ، والضعف ونحو ذلك مما يرجع الى قصور الاستطاعة البدنية. ولم أقف عاجلا على من تعرض لغير ذلك من الموانع ـ من حبس ، أو صد ، أو نحوهما ـ مما يوجب فقد الاستطاعة السربية ، مع أن المذكور في مصحح الحلبي : أن موضوع الاستنابة مطلق العذر‌ (٣). ونحوه : خبر علي بن أبي حمزة‌ (٤). فالتعميم أوفق بالنصوص ، لو لا ما عرفت من ظهور كون المشهور خلافه.

__________________

(١) ، (٢) لاحظ الخلاف جزء : ١ صفحة : ١٥٦ المسألة : ٦ من كتاب الحج.

(٣) ، (٤) تقدما قريبا في أول المسألة.

١٩٤

في الوجوب. وأما ان كان موسراً من حيث المال ، ولم يتمكن من المباشرة مع عدم استقراره عليه ، ففي وجوب الاستنابة وعدمه قولان ، لا يخلو أولهما من قوة [١]. لإطلاق الأخبار‌

______________________________________________________

[١] وهو المحكي عن الشيخ وأبي الصلاح وابن البراج والعلامة في التحرير. اعتماداً على إطلاق النصوص المذكورة ، فإنه شامل لمن حدثت له الاستطاعة حال العذر لكن لا تبعد دعوى انصراف النصوص ـ بعد حملها على الوجوب ـ إلى خصوص من كان مستطيعاً قبل العذر. لا أقل من الجمع بينها وبين ما دل على اعتبار صحة البدن وإمكان المسير في الاستطاعة بذلك ، فان الجمع بينها كما يكون بتقييد إطلاق الحكم بغير الاستنابة ـ بأن تحمل الشرطية على الشرطية للوجوب بنحو المباشرة ـ يكون أيضاً بتقييد موضوع هذه النصوص بمن كان مستطيعاً. ولا ريب في كون التقييد الثاني أسهل. بل الأول بعيد جداً في نفسه ، وبملاحظة قرينة السياق ، فإن الصحة ذكرت في النصوص في سياق الزاد والراحلة‌ (١) ، اللذين هما شرط في الاستطاعة حتى بالإضافة إلى وجوب الاستنابة ، فتكون صحة البدن كذلك.

هذا مضافاً إلى ما في رواية سلمة أبي حفص ، من كون السائل لعلي (ع) كان مستطيعاً سابقاً‌ ـ بناء على وحدة الواقعة ، كما هو الظاهر ـ كما عرفت (٢). وحينئذ لا مجال للأخذ بإطلاق مورد السؤال فيها. ولذلك قيل بعدم الوجوب ، كما حكاه في الشرائع ، ونسب إلى الحلي وابن سعيد والمفيد في ظاهره. وفي القواعد : « الأقرب العدم » ، وتبعه في كشف اللثام. وحكى عن الخلاف : الإجماع على عدم وجوبها عليه ، لكني لم أجده فيه.

__________________

(١) راجع الوسائل باب : ٨ من أبواب وجوب الحج حديث : ٤ ، ٥ ، ٧.

(٢) تقدم ذكر ذلك في التعليقة السابقة.

١٩٥

المشار إليها. وهي وإن كانت مطلقة من حيث رجاء الزوال وعدمه ، لكن المنساق من بعضها ذلك [١]. مضافاً الى ظهور الإجماع على عدم الوجوب ، مع رجاء الزوال [٢].

______________________________________________________

[١] النصوص الواردة في الشيخ الكبير‌ (١) ظاهرة في خصوص المأيوس من زوال العذر. وأما صحيح ابن مسلم‌ (٢) بناء على ظهوره في المستطيع ـ فظاهر في المستطيع قبل العذر ، فلا يكون فيما نحن فيه. نعم إطلاقه يشمل كون استطاعته في سنة العذر. لكن الظاهر أن محل الكلام يشمل ذلك. ومثل الصحيح المذكور : صحيح الحلبي‌ (٣) ، وخبر علي بن أبي حمزة‌ (٤).

[٢] في الجواهر عن المنتهى : الإجماع على عدم وجوب الاستنابة مع رجاء زوال العذر. وربما يشهد له التتبع. وفي المدارك : « إجماعاً ، قاله في التذكرة والمنتهى .. ». لكن في الخلاف : « إذا كان به علة يرجى زوالها ـ مثل الحمى وغيرها ـ فأحج رجلا عن نفسه ثمَّ مات ، أجزأه عن حجة الإسلام. ثمَّ ادعى إجماع الفرقة والأخبار .. ». لكنه غير ظاهر في الوجوب ، ولا في الاجزاء على تقدير البرء. وفي الدروس : « الأقرب أن وجوب الاستنابة فوري إن يئس من البرء ، وإلا استحب الفور ». وظاهره الوجوب مع عدم اليأس. لكن قوله بعد ذلك : « لو استناب المعضوب فشفي انفسخت النيابة .. » ظاهر في كون الوجوب تابعاً لبقاء العذر واقعاً ، فاذا زال انكشف عدم الوجوب. إلا أن يقال : إن كلامه الأخير يختص بما إذا كان زوال العذر في تلك السنة ، فلا يشمل ما لو استمر في تلك السنة وزال بعد ذلك. وعن الحدائق : اختيار الوجوب مع الرجاء واليأس ، تمسكاً بظاهر الأخبار. وهو قريب بناء على الوجوب. لكن العمل بها ـ بعد إعراض الأصحاب عنها ـ كما ترى. إلا أن يحتمل بناؤهم على‌

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) ، (٤) تقدم ذكر ذلك كله في التعليقة السابقة.

١٩٦

______________________________________________________

ظهورها في المأيوس ـ كما في المدارك الجزم به ـ فاذا تبين ظهورها في غير المأيوس لم يكن إعراضهم موهناً.

وبالجملة : ظهور بعض النصوص في الأعم من صورتي اليأس والرجاء غير بعيد ، فاذا اختصت بمن استقر الحج في ذمته فقد دلت على وجوب الاستنابة في الصورتين فيه ، وإن عمت من لم يستقر الحج في ذمته فقد دلت على وجوبها في الصورتين أيضاً. والإجماع على اختصاص الاستنابة بصورة اليأس لم يثبت على نحو ترفع به اليد عن إطلاق الأدلة وإن كان محتملا ، إذ لم يعثر على مصرح بخلافه. فلاحظ.

والذي ينبغي أن يقال : إن اليأس والرجاء مما لم يتعرض لموضوعيتهما للبدلية في النصوص المتقدمة ، وليس فيها إشارة إلى ذلك ولا تلويح ، وإنما المذكور فيها نفس العذر. نعم نصوص الشيخ الكبير‌ ظاهرة ـ بملاحظة موردها ـ في العذر المستمر (١). وصحيح الحلبي‌ وخبر علي بن أبي حمزة‌ ظاهران في العذر المانع عن الحج (٢) ، فان كان إطلاقهما شاملا للعذر في السنة كان مقتضاهما مشروعية الاستنابة والنيابة ولو مع العلم بارتفاع العذر ، وإن كانا مختصين بالعذر المستمر كان حالهما حال نصوص الشيخ الكبير. وعلى كل حال فليس في شي‌ء من النصوص تعرض للرجاء ولا لليأس من حيث موضوعيتهما للنيابة والاستنابة. وعليه فالمدار ـ في مشروعية النيابة وعدمها ـ وجود العذر وعدمه واقعاً.

نعم الإشكال في الاكتفاء بالعذر في السنة ، كما قد يظهر بدواً من صحيح الحلبي‌ ونحوه. لكن يشكل ذلك أولا : بأن لازمه وجوب الاستنابة مع العلم بزوال العذر في السنة اللاحقة ، ولا يظن من أحد التزام ذلك ، إذ قد عرفت أن اعتبار اليأس مظنة الإجماع. وإذا أمكن التنازل عن ذلك‌

__________________

(١) ، (٢) تقدم ذكر الروايات في أول المسألة. فلاحظ.

١٩٧

______________________________________________________

ألحق الرجاء باليأس ، كما تقدم عن الدروس والحدائق. أما مع العلم بالارتفاع فشي‌ء لم يحتمله أحد. وثانياً : بأن المقام من قبيل سائر موارد جعل البدل الاضطراري.

والتحقيق : أن إطلاق دليل البدلية الاضطرارية وان كان يقتضي ثبوت البدلية بمجرد تحقق الاضطرار وقتاً ما ، لكن مناسبة الحكم والموضوع والارتكاز العقلائي في باب الضرورات يقتضي حمله على الاضطرار الى ترك الواجب بجميع أفراده التدريجية ، فيختص بالعذر المستمر. فيكون المراد من‌ قوله (ع) : « حال بينه وبين الحج مرض .. » (١) ‌أنه حال على نحو لم يتمكن من الحج إلى آخر عمره ، لا أنه لم يتمكن منه في سنة من السنين. كل ذلك للارتكاز العرفي في باب الضرورات ، كما أشرنا إلى ذلك في موارد كثيرة من هذا الشرح. وعليه تكون الروايتان ـ كغيرهما من روايات الشيخ ـ ظاهرة في العذر المستمر المانع من أداء الفرض في جميع الأوقات. مضافاً إلى أن الروايتين قد اشتملتا على ما لم يقل أحد بوجوبه ، من استنابة الصرورة ، الموجب لحملها على الاستحباب. فيحتمل أن يكون المراد منهما : استحباب إحجاج غيره عن نفسه لا بعنوان النيابة ، كما احتمله في الجواهر. وكيف كان لا مجال للبناء على وجوب الاستنابة مع العذر في السنة إذا كان يرتفع بعدها.

ومن ذلك يظهر : أن دعوى ظهور الأخبار في اليأس ـ كما في المدارك حيث قال : « وإنما تجب الاستنابة مع اليأس من البرء. ولو رجا البرء لم يجب عليه الاستنابة إجماعاً ، قاله في التذكرة والمنتهى. تمسكاً بمقتضى الأصل ، السالم من معارضة الأخبار المتقدمة ، إذ المتبادر منها تعلق الوجوب بمن حصل له اليأس من زوال المانع .. » ـ أو في اليأس والرجاء ـ كما عن الحدائق ، كما تقدم ـ ليس كما ينبغي. لقصور الأخبار عن التعرض لهذه الجهة ، لأنها‌

__________________

(١) كما في صحيح الحلبي وخبر علي بن أبي حمزة.

١٩٨

______________________________________________________

واردة في مقام بيان حكم العذر الواقعي ، واليأس من ارتفاعه ورجاء ارتفاعه أمران آخران أجنبيان عنه ، كما عرفت. نعم الظاهر أنه لا إشكال في كون اليأس طريقاً إلى استمرار العذر ، ولا يعتبر العلم باستمراره. وفي كون الرجاء طريقاً إليه إشكال ، وإن كان قد يحتمل ذلك ، اعتماداً على استصحاب بقاء العذر واستمراره ، أو استصحاب بقاء العجز. إلا أن يقوم إجماع على خلافه ، كما عرفت. والظاهر أن ذكر اليأس والرجاء في كلام الفقهاء ( رض ) في مقام بيان الحكم الظاهري لا الواقعي ، بل لا ينبغي التأمل فيه. كما عرفت من أن الحكم الواقعي موضوعه العذر الواقعي ـ الذي هو موضوع اليأس والرجاء ـ لا نفسهما. فلاحظ وتأمل.

والذي يتحصل مما ذكرنا أمور : الأول : أنه لا إشكال في أن العذر المستمر موضوع لوجوب الاستنابة. الثاني : أنه لا ينبغي الإشكال في أن العذر غير المستمر ليس موضوعاً لوجوب الاستنابة عند الفقهاء. والروايتان قد عرفت معناهما. الثالث : أن اليأس أو مع الرجاء ليس موضوعاً لوجوب الاستنابة واقعاً. والنصوص خالية عن التعرض لدخلهما في موضوع الحكم الواقعي المذكور ، لا تصريحاً ولا تلويحاً. الرابع : أنه لا إشكال في وجوب الاستنابة مع اليأس على نحو يكون الوجوب ظاهرياً لا واقعياً. ودليله : الإجماع. ولعله مقتضى إطلاق النصوص المقامي ، إذ لو انحصر الطريق بالعلم باستمرار العذر لم يبق مورد للعمل بالنصوص المذكورة إلا نادراً ، وحمل النصوص المذكورة على ذلك بعيد جداً. وأما الرجاء فمقتضى الاستصحاب طريقيته غالباً للحكم الظاهري. لكن يشكل العمل به ، لما عرفت من أنه خلاف مظنة الإجماع. نعم لو استناب مع الرجاء ثمَّ مات قبل الشفاء أجزأ ، كما عرفت دعوى الإجماع عليه في الخلاف.

١٩٩

والظاهر فورية الوجوب ، كما في صورة المباشرة [١]. ومع بقاء العذر الى أن مات يجزيه حج النائب ، فلا يجب القضاء عنه وان كان مستقراً عليه. وان اتفق ارتفاع العذر بعد ذلك ، فالمشهور أنه يجب عليه مباشرة وإن كان بعد إتيان النائب ، بل ربما يدعى عدم الخلاف فيه [٢]. لكن الأقوى عدم الوجوب ، لأن ظاهر الأخبار : أن حج النائب هو الذي كان واجباً على المنوب عنه [٣] ، فاذا أتى به فقد حصل ما كان واجباً عليه ، ولا دليل على وجوبه مرة أخرى. بل لو قلنا باستحباب الاستنابة ، فالظاهر كفاية فعل النائب [٤] بعد‌

______________________________________________________

[١] لأن دليل النيابة يقتضي تنزيل عمل النائب منزلة عمل المنوب عنه وكونه فرداً له تنزيلا ، فاذا وجب على المنوب عنه فوراً فقد وجب على النائب كذلك.

[٢] قال في المستند : « من غير خلاف صريح منهم أجده ، بل قيل : كاد أن يكون إجماعاً. وعن التذكرة : أنه لا خلاف فيه بين علمائنا .. ».

[٣] هذا مما لا إشكال فيه لو ثبتت البدلية. لكنها ـ بعد انكشاف عدم استمرار العذر ـ ممنوعة ، كما عرفت. وموافقة الأمر الظاهري لا تقتضي الاجزاء ، كما تحقق في محله. وبالجملة : بعد انكشاف غلط الطريق وخطئه انكشف عدم ثبوت مشروعية الاستنابة واقعاً ، فلا يكون فعل النائب غير المشروع مجزياً.

[٤] كما اختاره جماعة في من لم يستقر الحج في ذمته ، ومنهم صاحب الجواهر. وقد تقدم الكلام فيه.

٢٠٠